Post-Corona Humanism
Date: 
May 22 2020
Author: 

تقدر ذخيرة الإنسان للقتل بـ 15 مليار طلقة، 5 ملايين صاروخ باليستي، و16 ألف رأس نووي. أضف إلى ذلك نفس القدر من الكراهية مع كل إطلاق للقتل. لدينا أكثر من طلقة لكل إنسان، وأكثر من صاروخ لكل مدينة وعشرات القذائف لكل قرية في ”العالم القرية“. بينما تمتلك الإنسانية أقل من مليون جهاز تنفس. أعدت الإنسانية 750 مليون جندي للقتل، مقابل 10 ملايين طبيب؛ جندي واحد لكل 8 أفراد، وأقل من طبيب واحد لكل 1000 فرد. فضحيتنا أمام أنفسنا تجلت مؤخراً ببعدين: الأول، أن آلة قتلنا الفتاكة مخصصة لقتلنا نحن فقط، وهي متعطلة تماماً أمام كائن متعلق برذاذ مخاطنا. والثاني، معرفتنا أن لدينا سريرا واحدا فقط برعاية مكثفة لكل 10 آلاف فرد. أهي فضيحة إنسانية حقاً! ليست كذلك بالفعل. روافد الخوف روافدنا للنجاة. في رحم الخوف، تنمو الإنسانية وتعيش لنحيا. شهية القتل هذه مبررة إنسانياً، ومدفوعة برغبة الإنسان القاتل بطبعه بحماية الإنسان المحب للحياة بطبعه.

ما لا يُحصى من شواهد التاريخ الإنساني والأنثروبولوجي، وكذلك مختلف نظريات العقد الاجتماعي ومفاخر الفلسفة الإنسانية، أفادت وقالت بأن نُسلم أنفسنا ومجتمعاتنا لحكومة تحمينا من شهوة القتل الخالدة، وإلا فسيفني الإنسانُ الإنسانَ في أقل من جيل واحد، وبوحشية تتفوق على أي جائحة وبائية. لا يمكن لأي جائحة وبائية أن تتفوق على قدرة الإنسان للفتك. نظرية الأربع دقائق لاستئصال حياة الكوكب ما زالت قائمة، ويمكن أن يتكفل بذلك ليس بضعة آلاف ممن يخرقون حجراً صحياً؛ بل بضعة حمقى مع بضعة أزرار يمكن أن يفعلوا ذلك. ومع تلطفنا والقوانين الدولية الحمائية، وتقديرنا العظيم للحياة البرية، فقد تمكنا من إفناء 83 % من الثدييات على الكوكب، ونصف المملكة النباتية. ورغم ذلك، يبقى مفهوم الإنسانوية وتذويتها بثلاثية: ”العقل والعلم والدين“، باختلاف تراتيبتها من سياق حضاري لآخر، أهم مفاعيل وأدوات القيمية الإنسانية، وبما يتجاوز هذا العالم المنطوية على قيمية أخلاقية.

أنيابنا أولاً من ثم أسّرة الشفاء. وها هو الكوكب يعاقبنا بطريقته، ويؤدبنا بازدراء. تحت غيمة الوباء الداكنة، تتعافى أكثر المدن تلوثاً من سموم انبعاثاتها. وكأن الأرض تقول: صحتي أولاً، ولتذهبوا إلى الجحيم لسنا وحدنا بجينات أنانية. ومع ذلك، لدينا من منطق الوقاحة وبراغماتية التوحش للتبرير. أما عن الفرق بين أن تعيش وأن تحيا، فهذه مسألة أخرى مؤجلة.

الإنسانية متمرسة منذ الأزل بالتكيف مع منسوب الخوف السائل مختلف الكثافة والشدة. ويأتي الخوف في أفظع صوره عندما يتغلف بالغموض. غريزة البقاء خلاقة ومُبدعة بما يبعث على الدهشة، إدهاش هذه الغريزة لا يموت، يتقادم لكنه لا يفنى. ثقوا بها. في جعبتها في عوالم الظل في زواريبنا الداخلية وتحت طبقات وعينا ما يفوق قدرتنا على التصديق. شاهدت تقريراً من جنوب أفريقيا يتحدث عن إنشاء فرقة متطوعين باسم ”صيادو كورونا“، وهم متطوعون يصطادون الناس المشتبه باعتلالهم. وحشية الصياد المحترف فينا يمكن أن تستيقظ في طرفة عين. جميلٌ أن معظمها مدفون فينا لا يتمظهر. ما أريد قوله هنا إنه ليس علينا أن نخاف من الفناء، بل من الإفراط في التكيف.
حسناً، ماذا لو اضطرت الإنسانية للتعايش مع فايروس كوفيد-١٩ لسنوات قادمة! وكيف ستكون تداعيات ذلك النفسية والاجتماعية والسلوكية على المجتمعات المصابة بشدة؟ إيطاليا وإسبانيا وفرنسا وإيران وبريطانيا وأميركا والصين وغيرها، تعد يومياً وفياتها برقم من أربع خانات، دون مراسم تشييع ودون طقوس إنسانية لائقة تليق بموتنا. الموت أكبر فرصة تمنحها الحياة. الموت، مفهوم الحياة المُعجز بغموضه وشدة وطأته، قيوم القيمية الإنسانوية. اعتيادية الموت هذه -إذا ما استمرت- ستُميت فينا كل دهشة ممكنة. هذه فاتورة بقاء البقية ”الأذكى“ حسب داروين، أولئك القادرون على التكيف في ظروف الحجر والأكثر مناعة وشباباً من عوام القطيع. شئنا أم أبينا، هناك إجماع إنسانوي باطني على ذلك لا نجرؤ على إشهاره لئلا نُتهم بالأنانية، معظمنا يخفي حرجه خلف قناع مَنْطَقة البقاء. ها نحن نعطي أولوية سرير الإنعاش للشابة قبل أمها وللفتى قبل جده وللسليم قبل مصاب متلازمة داون. هذا يجري في عواصم ديمقراطيات العالم دون بلا ضجيج. وصلنا إلى هنا ”بالحتمية الذكائية“ والرقص مع الشيطان. هذا لأن الفيروس خارج حدود الأيديولوجيا، فوحدنا ضده ووحدنا ضدنا في آن معاً، فيما نسميها حالة نضج العقل الجمعي للصالح العام. فعل كما التكنولوجيا، عندما تكون غير مؤدلجة، فإنها تُهيمن لتصبح أيديولوجيا بحد ذاتها، وتوحدنا خلفها.
الوضعية الطارئة -فيما تبدو أزمة إنسانية عابرة- تمجد أكثر من أي شيء آخر ”التباعد الاجتماعي“ تحت رعاية سلطة القتل المهيمنة بتسخير كل طاقتها لحثنا على أمرٍ واحد: تباعدوا. ظهر الأرض للمنعزلين، والاجتماعيون في بطنها. نشهد إجماعاً إنسانياً غير مسبوق في وحدة حدة تضاد مكثفة: المؤمنون والكافرون، الشرق والغرب، الملحدون والأصوليون، المثليون وغير المثليين، فتح وحماس، الفاجر والمتقي، البنوك والجمعيات الخيرية، عصابات الإجرام المنظم وقوى الأمن، السفلة والأنقياء، أجمع كل هؤلاء من رأسهم إلى أخمصهم على شعار واحد ”تباعدوا“. هاشتاج #StayTheFuckHome ترند جارف. ”المشكلة“، أننا اجتماعيون بطبعنا، الـ DNA خاصتنا اجتماعي، الاجتماعية من مكونات الإنسانوية الرئيسية، تغيير هذا السلوك وعلى نطاق ”العالم القرية“ احتاج لإعمال القوة الغاشمة للمباعدة بين الناس. هذا الإجماع محفوف بالمخاطر البَعدية التي لا نعلم مآلاتها. أقرب المقربين داخل العائلة وداخل القرية وداخل الحي وداخل البناية السكنية الواحدة مطالب أخلاقياً وإنسانياً وبقوة القانون بتوبيخ وعزل من يجرؤ على كسر طوق العزلة. فضيلة صلاة الجماعة الكتف بالكتف و"تراصوا يرحمكم الله" صارت خطيئة موجبة للقَصاص. هكذا يقول العلم، ويسانده العقل الجمعي، ويباركه الدين. عما قريب، سيصلي المؤمنون جماعة في المساجد والكنائس أونلاين. محظوظون أولئك العشاق العاملون في قطاعات الأمن والصحة والإعلام. البقية تتلظى على الشاشات اللعينة.
ماذا لو تطور جينوم كوفيد-١٩بنسخة أخطر؟ تذكروا أن نتائج معركة الإنسانية ضد فيروس الإيدز منذ عقود مثيرة للشفقة. تمخضت ملياراتنا وجهودنا البحثية وأدوات مقاومتنا العتيدة عن كوندوم للايدز، وقفازات اللاتيكس والكمامات لكوفيد-١٩. هذه أدوات تباعد وعزل للتعايش وليست طلقات حاسمة. الكوندوم وقفازات اللاتيكس والكمامة بالكاد تقتل ذبابة. آلة قتلنا لقتلنا وأنيابنا للحمنا، أما الأوبئة القاتلة، فسنتكيف للتعايش معها مرغمين.

حسناً، ماذا لو اضطررنا مُكرهين للتعايش طويل الأمد مع الفايروس لسنوات قادمة؟ ماذا لو أصبحت الفيروسات التاجية موسمية؟ هذا ما تقوله معظم الشواهد.

  • كنا نُعلم أطفالنا أن يخافوا من الغرباء، الآن سنعلمهم الخوف من الأقرباء أكثر. وكنا نُعلِمهم أن الأصل هو الخيرية في الناس، الآن علينا أن نعلمهم أن أمك وأباك وأخاك قتلة محتملون. كنا نعلمهم أن التدخين يدمر الرئتين، الآن أصدقاؤك المقربون قد يسلبونك أنفاسك وخطرهم على رئتيك أشد.
  • كان العالم حتى وقت قريب قلقا على تأثير الرقمنة والذكاء الصناعي وويب-3 على تفكير ووعي وثقافة وهوية وسلوك الأطفال واليافعين. كنا نحذرهم من خطورة وميض الشاشات المسطحة والمجتمعات الافتراضية والألعاب الرقمية والمنصات التفاعلية ومواقع التواصل الانغماسية. الآن، نحثهم حثاً ليبقوا محدّقين في أجهزتهم اللوحية وهواتفهم الذكية ومنغمسين في عوالمهم الرقمية لمستقبل أفضل، وللتعليم.
  • العناق والتقبيل والشم والتلامس بطقوسها المتنوعة حاجات إنسانية، وبعضها غرائزية أكثر منها عادات موغلة في القدم. اللمس والشم حواس بدائية واجتماعية، مجسات البقاء والنجاة والحميمية. شبكية التواصل العاطفي المجتمعي والإنساني، وتتسم بعمق التأثير والتلقائية. اللمس للحميمية والدفء، العناق للوفاء والاشتياق، الشم للسكينة والطمأنينة، والقبل للحب والشوق، وهذه معاً بطبيعتها أعمق وأبلغ وسائل وقنوات التواصل الإنساني. الآن، يتوجب إجراء الحسابات والإطلاع على تاريخ سجل خطوات الشريك وعدّ أنفاسه قبل أية ملامسة أو عِناق.
  • هذه الجائحة ”المؤقتة“ شرعنت هيمنة السلطات والحكومات على معلوماتنا الشخصية وسجل خطواتنا وعلاقاتنا، وأدق دقائق تفاصيلنا الشخصية المتدفقة داخل العوالم الرقمية والانفوسفير، بحجة تغذية بيانات النظام الصحي العالمي الحريص على سلامة العالم بتقديس ”الصنمية التكنولوجية“ والاعتماد المفرط على حصد واسترجاع وتحليل بيانات الجهاز العصبي العالمي، الويب الذي هو معلوماتنا الشخصية، هذا أكثر ما يهم السلطات والشركات. وكذلك إنترنت الأشياء وكل أشيائنا مرتبطة بالويب. الآن، يتم إخضاع كل بياناتنا ومخلفاتنا الرقمية لتقنيات معالجة البيانات الضخمة big data، والتعدين (التنقيب) المعلوماتي data mining وخرائط البيانات التفاعلية interactive maps لتحديد مسارات التفشي ومحاصرة ناقليه ومحاربة الوبائية المعلوماتية infodemic. الويب يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا، و"هم" سيعرفون ما يعرف الويب. هذه خدمة جليلة تقدمها تكنولوجيا الويب لنظم الهيمنة والمراقبة، ما سيجعلنا أقل حرية وأكثر انكشافاً وأسهل تعقباً ومتابعة وتنبؤاً، هذا سيجعل مساحاتنا البياناتية وسلاسل المعلومات المتعلقة بنا مستباحة تماماً أمام القوة الغاشمة المقوننة والمؤنسنة لمعالِجات البيانات الضخمة المرتبطة بالويب، حتى أن دولاً عظمى مطالبة بالشفافية وعدم التستر على ما لديها من معلومات. صحيح أن الويب في جوهره يعتمد على اللامركزية، وهو ملك للكل ولا يملكه أحد، غير أن زبدة معالجة البيانات الضخمة على مستوى الفرد والمجموعة ستكون في بطن الحكومة. وما يبدو ثقة في الحكومات الآن حالة مؤقتة. غير أن الاعتراض هنا سيكون ترفاً يستوجب العقوبة. سيتم نشر وتركيب المزيد من كاميرات المراقبة المزودة بخوارزميات التعرف على الملامح وقياس درجات الحرارة والانفعالات ومختلف معلوماتنا البيومترية التي ستعرف موضع خطوتك القادمة ونشوتك الأولى وعدد حبات البن في قهوتك الصباحية. من يعرف عنك كل هذا يمكن أن يتلاعب بك إلى أقصى درجة ممكنة، وسيصبح عشرات آلاف المُخبرين وعناصر المخابرات في العالم عاطلين عن العمل مثيرين للشفقة، أصغر مجسّ أو جهاز استشعار سيتفوق على كتيبة مخبرين مخضرمة. التخلص من نير عبودية السيطرة على بياناتنا ومخلفاتنا الرقمية سيتطلب ثورة حقيقية، وقد تكون دموية لاستعادة حق الفرد وحقوق المواطنة الرقمية للحد من انتهاك حقوقنا الرقمية.
  • العالم عن بكرة أبيه اليوم مُكممٌ طوعاً، وادعٌ كحمل. لم تطع الإنسانية الله مرة كما تفعل اليوم. العقل والعلم والحكومات والدين على قول واحد. هذا لم يحدث قبلاً. وقد يتم سحب هذه التجربة عند إعلان أية إجراءات طارئة ومتقشفة وتعبوية وتجييشية يتم اعتمادها بسرعة وتهور ولمصالح ضيقة بعيداً عن رأي الشعب والبرلمانات والمجتمعات المدنية، وقد تقتصر عملية ”الديمقراطية“ على انتخابات شكلية تشرعن الهيمنة. هذا سيؤدي لتآكل ”الديمقراطية“ كفهوم وكممارسة و”يبشر“ بشمولية حديثة بحريات أقل طالما أن سلامة العامة مرهونة بالأداء الأمني والصحي للحكومات. الصحة والبقاء أولاً، والديمقراطية عاشراً.
  • في ”عصر الهَلَع البارد“، تحیا المجتمعات على الدوام وبأقصى سرعة في انتظار "الحادث الكلّي" بحسب بول فيليريو، هذا ما يحدث الآن. إذا كان الفيروس مصنعاً كأداة تهديد لإعادة تشكيل العالم بتضخيم ميديوم الخوف العالمي، فقد نجح فعلاً بخلط كثير من الأشياء في العالم؛ من أهمية أوراق التواليت وقص الشعر إلى الصحة والتعليم والأمن والسياسة والرياضة والثقافة وأسلوب الحياة وحقوق الحريات والأقليات وإعادة ترتيب الأولويات. نحن نشكل أدواتنا، لتعيد أدواتنا تشكيلنا. كورونا يضرب الآن وبقوة فكرة العولمة كما نعرفها -أحب أن أسميها الأمركة- كأيديولوجيا زمنية، وكذلك فكرة "شرعية الرأسمالية" والنيوليبرالية، ولربما أن العالم المتأمرِك كان بانتظار هذه المحنة لتدشين عالم ما بعد- العولمة أو المابعديات، وذاك قد يجعل العالم قرية أصغر، والقرية الأصغر تعني ثقافة وعقلية قبلية وقطرية وعرقية ويمين أكثر بما يمثل نكوصاً حضارياً وإنسانياً. مع ذلك، خطأ مقصود أو غير مقصود في مختبر صغير في أية قرية نائية قد يفتك بالكوكب. والمقلق في هذه الأزمة أنها لن تحد من ظلم وتغول الشركات المعولمة. الفيروس ليس عادلاً كما يظن كثيرون. أزمة الفيروس ستطحن كبار السن والفقراء وعمال المياومة والعاملين "باقتصاد الجيج gig economy"، ويشكل هؤلاء أكثر من 35% من سكان العالم، إنقاذهم بات متأخراً، وسيرزحون تحت سقف خوفهم وفقرهم طويلاً.
  • سنكون أكثر قسوة وأقل حساسية في تنميط مجتمعات الأقليات والعشوائيات والمخيمات والمسحوقين، الذين قد يتعرضون لتنمر طبقي واجتماعي أفظع، باعتباهم ناقلين للوباء أكثر من غيرهم، لعدم تمكنهم من المحافظة على المعايير الصحية المطلوبة (والمبالغ فيها في كثير من الأحيان) من نظافة وتعقيم وتباعد والحجر الاحتياطي الذي يتطلب مساحات سكنية أوسع، ومواصلات أقل ازدحاماً، وإسرافاً في استخدام المعقمات ومستلزمات الوقاية، وكل ذلك يتطلب إنفاقاً إضافياً غير ممكن لكثيرين.
  • الإعلام كما لم يكن من قبل، على قول واحد. كافة وسائل الإعلام العالمية والمحلية تبث تعليمات التباعد وإجراءات الوقاية بشكل مبالغ فيه وفي كل الأوقات وفي كافة النشرات. هذا سيساعد أكثر في تغذية مشاعر الخوف، واستعداء أي كائن بشري قد يقترب منك باعتباره ناقلاً محتملاً للوباء. استمرار ذلك في وسائل الإعلام لفترة طويلة سيغير عقولنا، ويدجن حواسنا، ويقتل روح الانتقاد والاعتراض ويحد من سلطة السؤال لصالح البيانات الصحفية للسطات.
  • رقمنة التعليم بالتعليم عن بُعد والتعليم الإلكتروني باستخدام منصات coursera وzoom وLynda والتعليم بالمراسلة والتواصل عن بعد ستحد من مهارات التواصل الاجتماعي للأطفال واليافعين، وستعزز الوحدة والفردية والموثوقية بعوالمنا الرقمية الصغيرة والمراهقة، تأثير كل ذلك على الذكاء الاجتماعي والذكاء العاطفي بحاجة إلى مزيد من الدراسات للوقوف على تداعيات تحويل جزء رئيسي من التعليم بمختلف المستويات.
  • التدين أيضاً سلوك إنساني طقسي مرتبط بأداء شعائر ضمن جماعات. المبالغة في الإجراءات المادية في مواسم الحج والطواف والصلوات والاحتفالات قد تجعل هذا النشاط أقل روحانية لانشغالنا بالماديات وتوافه الأشياء.
  • الترفيه حاجة إنسانية أساسية، التجمعات البشرية تجعل للترفيه مذاقاً خاصاً ومناسبة تمدنا بالطاقة، نكرس لها الاهتمام وأثمن الأوقات. تغليف هذه التجمعات بالخوف سيحد من الفرح والبهجة والإثارة والأريحية في المهرجانات والمدرجات الرياضية والألعاب الجماعية والأعراس والدبكات والرقص والمآتم واستقبال العائدين والمظاهرات والاستجمام واللعب والسهر والعبادة. مفهوم المجتمع من الجماعة المختلطة والاحتكاك والتواصل اللصيق. الخوف والحذر والوساوس القهرية إذا غلفت تجمعاتنا هذه، فسنكون أقل سعادة، وستنزع منها لذة البهجة. هذا ينطبق أيضاً على الفنون والعروض الموسيقية ودور السينما ومختلف نشاطاتنا الترفيهية.

كل ما سبق، يحتم علينا ابتكار طرق وقائية واجتماعية وإنسانية مدركة لمخاطر التكيف المفرط للتعايش مع الأوبئة الفيروسية ووسواس الخوف القهري بما لا يُفقد مفهوم الإنسانوية إنسانيته، وبما لا يُضعف روابط المجتمع الاجتماعية والتضامنية في ظل أزمة اقتصادية ستطحن عظام الفقراء وعمال المياومة وأعمال "الجيج". في أقل من شهر، اعتاد العالم مشاهدة صعود عداد الوفيات والإصابات الذي أصبح من سبع خانات مرعبة في كافة نشرات الأخبار ومواقع التواصل، حساسيتنا للفواجع أصبحت أقل، بعد قليل، ستصبح مشاهد الانهيارات النفسية والاجتماعية والاقتصادية كمشاهدة حالة الطقس، وسنتجنب سماع صوت الآلام وسنكتفي بالإيجازات الصحفية وشاشات أرقام الوفيات والبورصات. رعب الأرقام ينال من إنسانيتنا. بضع خانات على أقصى يمين الرقم الكبير ذي السبع خانات لا تعني شيئاً. يتوقع خبراء الصحة وصول الرقم لثماني خانات مرعبة. صنمية التكنولوجيا وحتميتها مضافٌ إليها تباعد اجتماعي وقائي لفترات طويلة، ستجعلنا أقل إنسانية وأقل حساسية وأقل اهتماماً بمن نحب. سنقدم العزاء للأصدقاء بانحناءة باردة من بعيد، ونستقبل الأعزاء بباقة ورد بلاستيكية معقمة بالديتول، أو بعلبة شوكولاتة أفسدت طعمها رائحة الكحول 70%. وإن وجدت كهلاً ملقىً في الشارع، فستفر مبتعداً بدل مد يد العون. استمرار هذا الخوف المستجد وتكريس مسلكيات التباعد الاجتماعي بشكل مبالغ فيه لفترات طويلة قد يُلحق أذى اجتماعياً بأطفالنا وبالجيل القادم. سيصنع مجتمعاً متوثباً، أكثر فردية، أكثر حذراً وعنفاً، ينجو بالهرب والعزلة بدلاً من المواجهة وخلق البدائل والابتكار. هذا سيعزز ثقافة انتهاك ولي عنق حقوقنا الرقمية وسفك حقوقنا بالخصوصية والحق في النسيان الرقمي، ويغذي مزيداً من الهيمنة الحكومية والمعلوماتية ووحش الآلة والذكاء الصناعي والانكشاف التام أمام السلطات الرقمية. باعتياد كل ذلك سنفقد شيئاً فشيئاً عاديتنا، وسنتخلى عن خصوصيتنا، وستتآكل قيمنا الاجتماعية والإنسانية.

التكيف والتعايش والبقاء لا يعني الاستسلام. مناعتان يجب توريثهما؛ أجسام مضادة للوباء وإبداع إنساني مضاد للتكيف المخل. هذا المشهد الذي تتجلى فيه هشاشة العالم قد يكون فرصة لتطوير وتطويع الأدوات المستجدة والخوف المستجد وكورونا المستجد ليتفوق المحتوى على السياق، والجوهر على العارض، والرعاية على القتل. يجب علينا التفكير جيداً بسبل التكيف للتعايش غير الوبائي مع الوباء، طويلة الأمد منها أو الموسمية بما لا يخل بإنسانيتنا ولا يحط من رتبتها، أو على الأقل ما بقي منها.

المصادر:

Carrington, 2018 | WHO | Forbes | Jstore | WorldForce | World bank | ACM

From the same blog series: What World After Corona?
Maher Charif

Read more