The Palestinian Authority and the Clans: Who Rules Who?
Full text: 

باتت العشائر جهة مقررة في المجتمع الفلسطيني، وكابحاً للتطور الاجتماعي في كثير من المواقع، بعدما أتاح لها ذلك التفاف فصائل إسلامية حولها، وحتى فصائل وطنية مثل حركة "فتح"، الأمر الذي أضعف المشروع الوطني الفلسطيني الذي يعاني أصلاً ضعفاً جرّاء التنازلات الكبرى التي قدمها الجانب الفلسطيني في العملية السياسية.

 لم تكن فلسطين يوماً بهذا المستوى من تغول العشيرة[1] في الشأن العام، فهذه الأخيرة تكتسب يومياً أرضاً جديدة في معركتها مع قيم الحداثة. وبعد سيطرتها النسبية على القضاء، أو إيجادها قضاء موازياً، نجدها تشق منافذ سلطتها الرمزية في مجال التعليم من خلال مجالس الإباء، وعبر نفوذها القوي على مدراء المدارس ومديريات التربية والتعليم، فضلاً عن اختراقها إلى حد ما الأحزاب السياسية وتحقيقها مكاسب إضافية، بحيث يبدو من الصعب على المراقب أو الدارس أحياناً التمييز بين بعض التنظيمات والعشائر، مثلما هي الحال مع حزب التحرير في مدينة الخليل حصراً، علماً بأن التنافذ والتجاذب ما بين العشيرة والحزب لا يقتصر على حزب التحرير، بل مارسته أيضاً حركتا "فتح" و"حماس" منذ ثلاثة عقود تقريباً، ولم تنجُ منه أحزاب يسارية. ويشتد هذا التنافذ في الانتخابات، لكن ما يميز حزب التحرير وعلاقته بالعشيرة هو تحالفه الاستراتيجي مع العشائر الكبيرة واستقطاب زعاماتها إلى قيادة الحزب.

يمكن أن نفهم ارتباط العشيرة بالأرياف والقرى الزراعية حيث ساهم نمط الإنتاج وأدواته الفلاحية وملكية الأراضي في وجود هذا النمط الاجتماعي، لكن ما بال المدن الفلسطينية كالخليل ونابلس وجنين وغيرها تتغلغل فيها بنى عشائرية؟ فما إن تُذكر مدينة الخليل حتى تقفز إلى الذهن عائلات كبرى كالتميمي والجعبري والقواسمي، وفي نابلس تتصدر المشهد عائلات المصري والنابلسي والشكعة وطوقان وغيرها، وهكذا في بقية المدن الفلسطينية، فكيف يمكن تفسير عشائرية المدن؟

يُذكر أن المدن الفلسطينية الحقيقية التي كانت تشكل الحواضر المدينية الكبرى وتتصف بالحالة المدينية كحيفا ويافا وعكا، فُكّكت عشية النكبة وهُجّر سكانها إلى دول الشتات، أمّا مدن الضفة الغربية كالخليل ونابلس فكانت في أحسن أحوالها بلدات كبيرة تسكنها عائلات إقطاعية وأصحاب تجارة، لكنها تضخمت عمرانياً بعد النكبة وزاد عدد السكان فيها من دون أن يوازي ذلك تطور في الحالة المدينية، كتطور الصناعة والسوق المحلية وظهور الطبقات وتمايزها وما يرافق ذلك من مظاهر التمدن كالسينما والمسرح والصحافة –فقد بقيت كلها محدودة ثم اندثرت لاحقاً – وكذلك المتاحف والمكتبات، أمّا تطور الجامعات كمظهر مديني فجاء نتيجة الحصار الإسرائيلي وحالة الانعزال عن المحيط العربي. فعلى سبيل المثال، تُعتبر مدينة الخليل أكبر مدن الضفة الغربية في عدد السكان والمساحة،[2] ومع ذلك لم تعرف هذه المدينة السينما والمسرح.[3]

بعد النكبة عززت الأردن علاقاتها مع العائلات الكبيرة في الضفة الغربية، ومنحت أبناءها مواقع وظيفية في مؤسساتها. ولاحقاً منح الاحتلال الإسرائيلي بعد سنة 1967 المخاتير وأعيان العشائر والعائلات بعض الامتيازات وتعامل معهم كوسطاء بين المجتمع وسلطة الاحتلال، وتمخضت العلاقة مع العشائر والحمائل في الريف في ثمانينيات القرن العشرين عن مشروع روابط القرى، كبديل سياسي من منظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن جاءت الانتفاضة الوطنية الكبرى (1987 – 1993) وأفشلت هذا المشروع، وخنقت صوت العشائر والعائلات موقتاً.

 تحالف العشائر مع الإسلام السياسي

خاض التحالف الديني العشائري في الأعوام الأخيرة ثلاثة حراكات كبيرة ضد المجتمع المدني ومؤسسات السلطة في الضفة الغربية، وهذه الحراكات وما واكبها من ردات أفعال وتصريحات وبيانات ومواقف أثارت تساؤلات مقلقة بشأن "مَن يحكمُ مَن في القضايا الاجتماعية في هذا البلد؟" وبلغ الأمر بقادة بعض عشائر مدينة الخليل إلى توجيه تحذير[4] شديد اللهجة إلى السلطة الفلسطينية يطالبونها فيه بالتراجع عن "اتفاقية القضاء على جميع أنواع التمييز ضد المرأة" (سيداو)، كما حذروا[5] قضاة المحاكم الشرعية من مغبة الالتزام ببنود الاتفاقية، وخصوصاً المرسوم الرئاسي الذي يحظر الزواج دون سن الـ 18 عاماً. وفي السياق نفسه دعا بيان صادر عن العشائر إلى حل المؤسسات النسوية، مهدداً أصحاب العقارات بفك عقود الإيجار، ومعتبراً كل مَن يؤجر منظمة نسوية شريكاً في الجريمة. وحذّر البيان أيضاً وسائل الأعلام من تغطية فاعليات وأنشطة هذه المؤسسات، وفي ضوء ذلك قام صاحب العقار المؤجر "لمسرح نعم" في مدينة الخليل بطرد العاملين والموظفين وأعضاء الفرقة المسرحية، وأمهلهم عدة أيام لإخلاء معداتهم.[6]

وشهدت مدينة الخليل حراكاً أُطلق عليه اسم "وقف تميم الداري"،[7] وهي قطعة أرض مساحتها 71 دونماً تعود ملكيتها إلى عائلة التميمي، أقيمت عليها الكنيسة الروسية المسماة المسكوبية. الهدف المعلن لهذا الحراك هو وقف تجديد عقد الإيجار مع الكنيسة الروسية المبرم منذ سنة 1871 في إبان الحكم العثماني لفلسطين. وهذا الحراك لايزال مستمراً، باعتباره ورقة ضاغطة بيد قادة الحراك يتم التلويح بها من وقت إلى آخر من أجل تحقيق مكاسب وامتيازات لمصلحة الجهات التي يمثلها قادة الحراك، والذين بدورهم يتغلغلون في مؤسسات كبيرة في محافظة الخليل كجامعة بوليتكنيك فلسطين وجامعة الخليل ومؤسسات أُخرى عديدة. ومن حين إلى آخر ينشط قادة الحراك في حزب التحرير فيحشدون عشيرة التميمي ومَن ينضوي تحت عباءتها من عشائر الخليل الأُخرى تحت شعار استعادة أراضي الوقف، ثم يجري من تحت الطاولة مقايضات وتفاهمات تهدىء من الحراك أو توقفه. وعلى سبيل المثال لا الحصر في آخر حراك بشأن "أراضي المسكوبية" تداول الشارع تسريبات فحواها أنه تم إسكات آل التميمي عن المطالبة بأراضي الوقف في مقابل موافقة وزارة التربية والتعليم العالي على منح جامعة بوليتكنيك فلسطين امتياز تأسيس كلية الطب، باعتبار أن جامعة بوليتكنيك فلسطين هي مركز ثقل لكل من حزب التحرير وعشيرة التميمي، في مقابل إغلاق ملف المسكوبية الذي يحرج الحكومة الفلسطينية التي يبدو أنها وقّعت عقد تمليك أراضي المسكوبية للكنيسة الروسية في إبان حكومة الحمد الله.[8]

قرار وزارة التربية والتعليم العالي بمنح جامعة بوليتكنيك فلسطين امتياز كلية الطب أغضب إدارة جامعة الخليل التي تُعتبر مركز ثقل لحركة "فتح" وعائلة الجعبري، لأن جامعة الخليل كانت قد حصلت على هذا الامتياز قبل بداية الحراك بقرار موقّع من الدكتورة خولة الشخشير وزيرة التربية والتعليم العالي في حينه.[9] هذا التضارب أدى إلى نشوب خلاف حاد وعميق بين مركزَي القوى في الخليل: جامعة الخليل ومن خلفها عشيرة الجعبري و"فتح"، في مقابل جامعة البوليتكنيك ومن خلفها عائلة التميمي وحزب التحرير، بشأن مَن يحظى بكلية الطب. وفي النهاية جاءت التسوية بين الطرفين توفيقية بامتياز، وهو أن تكون كلية الطب مشتركة[10] بين كل من البوليتكنيك وجامعة الخليل، فتوقَّع شهادة الطالب الخريج من الجامعتين معاً، وهذه سابقة لم تحدث في تاريخ المؤسسات التعليمية الفلسطينية، لقد بدا الأمر كأنه "عطية عشائرية".

الحراك الثاني جاء لإسقاط قانون الضمان الاجتماعي الذي أُقرّ ونُشر في الجريدة الرسمية في آذار / مارس 2016. فبينما كان حراك "وقف تميم الداري" محصوراً جغرافياً في مدينة الخليل وتنظيمياً في عشيرة التميمي وحزب التحرير، امتد حراك الضمان الاجتماعي إلى عدد من محافظات فلسطين وشمل قوى وتجمعات عديدة، أبرزها أصحاب رؤوس الأموال والمشغِّلين،[11] كما شمل الطبقة الوسطى من موظفي القطاع الخاص ونسبة من العمال خلف الخط الاخضر، وعمال القطاع الخاص. وفي هذا الحراك اجتمعت مصالح أطراف الحراك الأربعة على النحو التالي:

أصحاب العمل المطالَبون بدفع الأموال إلى صندوق الضمان الاجتماعي والالتزام بالحد الأدنى للأجور، إذ يوجد آلاف العمال لا يقبضون الحد الادنى للأجور وهو ما يعادل 414 دولار شهرياً.

العمال ضُلّلوا من طرف المشغّلين، وتم إقناعهم بأن هذه المدخرات – في نهاية الخدمة - سيبتلعها المتنفذون في السلطة، وبالتالي خافوا على مدخراتهم في ظل ما يوصف بالفساد المالي والإداري في أجهزة السلطة ومؤسساتها.

أمّا العشائر فهي الحاضنة والسياق الجاهز للاستخدام، عدا كون بعض رموز العشائر هم أصلاً من طبقة المشغلين الرأسماليين.

وخاض حزب التحرير المسألة على أنها المعركة الوحيدة التي يستطيع من خلالها إبراز صوته والعمل مع الجماهير، بصفته حزباً لا يعتبر القضية الوطنية والتحرر من الاحتلال من اهتماماته، وإنما ينصبّ جهده على استئناف الحياة الإسلامية، وعلى الأعمال الدعوية والحراكات الجماهيرية الساعية لتقويض مشاريع التحديث بصفتها معارضة لمشروعهم الأساسي الرامي إلى أسلمه الحياة تمهيداً لإعادة دولة الخلافة الإسلامية.

وكانت نتيجة هذا الحراك خطرة وغريبة وفي غير مصلحة أكثرية العاملين، وتمثلت في السقوط المدوّي لقانون الضمان الاجتماعي الذي ربح فيه القطاع الخاص، وخسر العمال جرّاءه. ومن المفارقات أن فلسطين تنفرد في رفض الضمان الاجتماعي. ولوحظ أن انعدام ثقة العمال والعاملين بالسلطة وبتجربتها الموسومة بالفساد كان سبباً رئيسياً في نجاح الحراك في إسقاط الضمان، إذ إن معظم استطلاعات الرأي يُظهر أن ما ينوف على 80% يعتقدون بوجود فساد في مؤسسات السلطة. هذا فضلاً عن هشاشة دور النقابات والأحزاب المسيطرة عليها التي لم تدافع عن الضمان في مواجهة تحالف العشائر مع القطاع الخاص والإسلام السياسي، وفي مواجهة محاولات استئثار السلطة بمؤسسة وصندوق الضمان.

الحراك الثالث جاء ضد اتفاقية "سيداو" التي وقّعتها السلطة الفلسطينية في سنة 2014. وقد انبثق هذا الحراك في الأشهر الأخيرة من سنة 2019، وخَفَت بعد إعلان صفقة القرن. مركز الحراك هو مدينة الخليل، أمّا القوى المحركة له فهي نفسها تقريباً، مع غياب دور ملموس للقطاع الخاص، فالأمر هذه المرة لا يعنيه ما دام لا يتعلق بالمال. لكن على الرغم من تركز الحراك في الخليل، فإن زخمه وتأثيره امتد إلى القدس ومدن الضفة الغربية من دون أن يتحولا إلى حراك جماهيري، فالناس يرفضون اتفاقية سيداو لاعتقادهم أنها ضد الدين وأخلاقيات المجتمع، وهو ما تبثّه دعاية رجال الدين الرسميين وقوى الإسلام السياسي. غير أن السبب الحقيقي غير المعلن لرفض سيداو هو خشية هؤلاء من انفكاك سيطرة السلطة الذكورية على النساء، وتحسّن مكانتهن داخل المجتمع وتحوّلهن إلى طرف مستقل، وما يعنيه هذا من رفض الذكور المتعصبين لإزالة التمييز وتحقيق المساواة. ثمة خشية من تغيير موازين القوى في مجتمع أبوي ذكوري ربما يكسر الأنماط الاجتماعية والتراتبيات السائدة في المجتمع، ذلك بأن هذه الاتفاقية تعلّي من صوت المرأة وقوة حضورها ومشاركتها في التحرر والانعتاق.

 المدينة التي تشكل مركزاً للتحولات

في ضوء ما سبق ينبثق السؤال: لماذا اتخذ الحراك ضد سيداو في مدينة الخليل زخماً كبيراً في حين اختفى أو كاد في سائر محافظات الوطن؟ ثمة أسباب عديدة تفسر تعاظم زخم الحراك في الخليل، يأتي في مقدمها قوة حضور حزب التحرير الإسلامي في هذه المدينة، باعتباره أول مَن قدح شرارة الحراك وروّج له وحشد له الحشود، فهذه المدينة أكبر معاقل حزب التحرير الإسلامي في فلسطين، وهي على المستوى الرمزي تُعتبر مسقط رأس اثنين من أصل ثلاثة من أمراء حزب التحرير الإسلامي هما: الأمير عبد القديم زلوم، والأمير الحالي عطا أبو الرشتة، كما أن الأمير المؤسس تقي الدين النبهاني كان على تماسٍ مباشر مع تلك المدينة حين كان قاضياً في محكمة الاستئناف في خمسينيات القرن العشرين في مدينة القدس التي تضم عائلات عديدة من الخليل.

وتبقى الخليل علامة فارقة في القوة الرمزية لحزب التحرير الإسلامي، مع أن أفكاره ومعتقداته الدينية حاضرة في المتخيل الشعبي، فالناس الذين لا علاقة لهم به، ولا بأحزاب الإسلام السياسي الأُخرى، لا يؤيدون سيداو على الأغلب، بسبب تغلغل الفكر الديني المحافظ في الوجدان الشعبي، إلى درجة أن بعض العلمانيين واليساريين وقفوا مع أحزابهم ومؤسساتهم على الحياد السلبي، ولم يجرؤوا على إعلان موقفهم الحقيقي في القضايا الاجتماعية، إلّا إن حزب الشعب (الشيوعي سابقاً) أصدر بياناً دافع فيه عن اتفاقية سيداو، كما أصدر الاتحاد الديمقراطي (فدا) بياناً مدافعاً عن سيداو، كذلك دافع اتحاد المرأة ومنظمات نسوية وأهلية عديدة عن سيداو. وفي مقابل ذلك، أعلنت قوى أُخرى موقفها الصريح ضد اتفاقية سيداو، فعلى سبيل المثال أصدر تنظيم "فتح" في إقليم وسط الخليل بياناً[12] طالب فيه السلطة الفلسطينية بالعدول عن البنود المتعارضة مع الشريعة الإسلامية، والبيان لغة وخطاباً لا يختلف كثيراً عن بيانات حزب التحرير أو بيانات مجلس العشائر الخليلية، كما تبنّى مجلس نقابة المحامين موقف العشيرة وسانده، وبطريقة أكثر دبلوماسية أعلنت الحكومة الفلسطينية على لسان رئيس حكومتها الدكتور محمد اشتية، أن حكومته لن تمارس ما يتعارض مع القيم الدينية والوطنية.[13] ودافع قاضي القضاة بدوره عن الشريعة ورفض كل ما يتعارض معها من دون أن يحدد البنود المتعارضة.

وفي مقابل قوة حضور الإسلام السياسي تنظيمياً ورمزياً، تسجل القوى العلمانية واليسارية الحضور الأضعف في مدينة الخليل، فعلمانيو الخليل كثر، لكنهم لا يتأطرون ضمن قوى وأحزاب مثلما يفعل مؤيدو أحزاب الإسلام السياسي، فقد فشل اليسار منذ مطلع التسعينيات في أن يكون قوة مؤثرة ومحركة للجماهير، فخلت الساحة لمَن كانوا على أهبة الاستعداد من الجماعات الدينية الذين بدوا أكثر تنظيماً وتأثيراً. السبب الثالث يتعلق بالعشيرة الخليلية، إذ بينما يتعارض الإسلام السياسي مع القوى العلمانية جملة وتفصيلاً، فإنه يأتلف تماماً مع الكيانات العشائرية ويعززها، فمنذ اللحظة الأولى لانطلاق برامج عمل أحزاب الإسلام السياسي عقدت هذه الأحزاب تحالفاتها مع العشائر الكبرى وطوّعتها لخدمتها.

يمكن الادعاء بكثير من الدقة أن مدينة الخليل هي الأقل تنوعاً بين مدن الضفة الغربية، "فالخليل للخلايلة" مثلما يقال. وهي ربما المدينة الوحيدة التي لا يوجد فيها مسيحيون، باستثناء خمسة رهبان روس يتناوبون على كنيسة المسكوبية، فضلاً عن أن تركيبتها العشائرية وتوازناتها شبه ثابتة، فهي لا تستقبل عائلات جديدة، وإذا حدث في ظروف اضطرارية أن استقبلت أفراداً فإنهم يكتسبون اسماً جديداً يشير إلى أصولهم غير الخليلية، كعائلة الفلاح مثلاً، التي هي عائلة من أصول قروية لجأت اضطرارياً إلى مدينة الخليل على خلفية الثارات العشائرية.

 بين التحديث والانغلاق

تمتاز الكيانات العشائرية بنفس طويل وقدرة على البقاء، على عكس الأحزاب السياسية والمؤسسات التي تتأثر بعوامل خارجية وداخلية وإقليمية، فتموت أو تتلاشى أو تضعف، مثلما تضعضعت القوى والأحزاب اليسارية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إلى درجة أن الحزب الشيوعي الفلسطيني غيّر اسمه كي يتماهى مع الواقع الجديد، كما أن جزءاً مهماً من كوادر الأحزاب اليسارية غادر كوادره وعمل في منظمات غير حكومية، علاوة على أن مؤسسات السلطة والبعض الآخر دارا في فلك الإسلام السياسي. لقد اختفى بعض الأحزاب عملياً، لكنه بقي اسمياً. وفي مقابل هذا التفكك ازدهرت تيارات الإسلام السياسي ومعها العشائر بفضل البترو دولار، وكانت دولة الاحتلال سباقة إلى التعامل مع العشائر والحمائل والمخاتير والعائلات. فبعد أن تلقت العشيرة ضربة موجعة في الانتفاضة الأولى ودخلت في طور الكمون، جاءت السلطة الفلسطينية لتحييها من جديد، وذلك حين أسس الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات هيئة شؤون العشائر.

في ضوء هذه التغيرات والمستجدات أبدت الحمائل والعائلات براغماتية لافتة للنظر، فلم تعد كياناً اجتماعياً منعزلاً، ولم يعد مختار العائلة ذلك الشخص التقليدي الملفع بالعباءة والكوفية، وإنما صار شخصية جذابة يلبس بدلة وربطة عنق. وصارت العائلات تختار مخاتيرها من الشخصيات الاعتبارية ممّن يحملون شهادات عليا، والذين غالباً ما يحيطون أنفسهم بمجلس عشائري على صلة بمصادر النفوذ المالية والسياسية، الأمر الذي حوّل العشائر إلى قوة اجتماعية وكيان قادر على التحالف والتموضع مع كيانات سياسية كالأحزاب والجمعيات التعاونية والمؤسسات والجامعات، ومع مؤسسات السلطة. فعلى سبيل المثال صار معروفاً لدى العامة والخاصة على حد سواء أن عشائر الخليل الكبرى تتغلغل في الجامعات وتفرض عليها قوتها الرمزية والفعلية، وبات معروفاً أيضاً أن مَن له درب إلى رموز العائلة وقياداتها يستطيع أن يدخل هذه الجامعة أو تلك من أوسع الأبواب، فضلاً عن أن الوصول إلى رئاسة البلدية ومجلسها القيادي في محافظة الخليل لا يمكن إلّا أن يمر عبر المحاصصة العشائرية.

لقد استفادت العشيرة من مظاهر التحديث والتكنولوجيا، فعندما نقول كيان عشائري فهذا لا يعني أن هذا الكيان هو رابطة اجتماعية فحسب، بل إن العشيرة أصبحت أيضاً مظلة لرؤوس الأموال والكوادر والنخب الأكاديمية. وفي ضوء هذه المعطيات الجديدة طورت العشائر بنيتها التنظيمية من خلال تدشين دواوين عائلية كبيرة تتميز بطرز معمارية لافتة بحيث يبدو الديوان أشبه بكلية جامعية تتضمن أنظمة خدمية من قبيل الضيافة وقاعة للاجتماعات ومكاتب مزودة بخدمات الإنترنت، كما طورت العشائر من بنيتها التنظيمية بتأسيس مجلس للعشيرة مع مسميات ومناصب حديثة كسكرتير العائلة وأمين للصندوق، ولمثل هذه العائلات صفحات في مواقع التواصل الاجتماعي ومجموعات اتصال سريع من خلال برامج الهواتف الذكية. وبهذا المعنى دخلت الحداثة إلى العشائر في الشكل، لكنها بقيت تتبنّى علاقات ما قبل الحداثة في المضمون (كالواسطة والمحسوبية والتعصب الديني والذكورية والخضوع للعادات والتقاليد البالية والنظرة الدونية إلى المرأة والثأر وقتل النساء على خلفية ما يسمى شرف العائلة، إلخ).

 ماذا بعد؟

هذا واقع العشيرة الآن وهنا، لكن ماذا عن الغد؟ ماذا يمكن أن نستشرف عن المستقبل السياسي للبلد في ضوء هذه المعطيات؟ وهل العشيرة مرشحة لأداء دور سياسي ضمن هذه المعطيات؟

منذ سنة 2007 دفعت إسرائيل بقوة في اتجاه استقلال قطاع غزة عن الضفة الغربية عشية الانقلاب الذي قادته حركة "حماس"، وقد ساعدت ممارسات الطرفين في الضفة الغربية وقطاع غزة على تعميق هذا الخلاف من خلال مراكمة نتائج الفصل واستثمارها من جانب الطرفين كل لمصلحته، من أجل دفع الأمور إلى نقطة اللاعودة.

وتعمل إسرائيل ضمن خطة مرحلية على إضعاف السلطة الفلسطينية في محافظات الضفة الغربية من خلال التحكّم في مواردها المالية والخدمية وقطاعات الإنتاج والمواد الخام، ففي أي أزمه بينهما تعمد إسرائيل إلى حجز أموال المقاصة أو قطع الكهرباء أو الماء أو الاتصالات. وفي الوقت نفسه تزداد قوة حضور العشائر ومنعتها في مستويات الحياة كلها، فالقضاء العشائري ما زال فاعلاً ومؤثراً ويحول دون فاعلية القضاء القانوني، ولا ننسى طبعاً تحالفات العشائر مع كبرى الأحزاب الدينية وقطاع المال والأعمال والوسط الأكاديمي.

فماذا بعد؟ ليس ثمة أمان للعشيرة، هكذا يقول التاريخ، فالعشائر جاهزة للتعاون مع الوسيط الأقوى بصرف النظر عن هويته، وقد أصبح الوضع مواتياً لها لتوسيع نفوذها داخل المجتمع، وهي تملك في يديها أوراق قوة عديدة. وإذا لم يتم تفعيل قوى المجتمع المدني، وخصوصاً الأحزاب السياسية، فقد يتحقق ما ذهب إليه المؤرخ الإسرائيلي "مردخاي كيدار"[14] من أن ثمة إمكاناً لتأسيس إمارات عشائرية في محافظات الضفة الغربية كمرجعية سياسية جنباً إلى جنب مع البلديات التي تقدم الخدمات الأُخرى إلى السكان.

 

[1] تستخدم المقالة مفهومَي العشيرة والعائلة كمترادفين يحملان الدلالة نفسها.

[2] للمزيد، انظر جدول "عدد السكان المقدر في منتصف العام لمحافظة الخليل حسب التجمع 2017 - 2021"، في سياق تقرير للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، في الرابط الإلكتروني التالي.

[3] في سنة 2008 تأسس لأول مرة "مسرح نعم" كمبادرة مسرحية في مدينة الخليل، وهو مؤسسة صغيرة ومحاصرة اجتماعياً لا تلاقي ترحيباً أو اهتماماً في فضاء اجتماعي لا يقيم وزناً للسينما والمسرح.

[4] انظر بيان عشائر الخليل في موقع "دوز"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[5] انظر البيان الختامي لمؤتمر عشائر الخليل بشأن سيداو في موقع "وكالة وطن للأنباء"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[6] انظر "إخلاء 'مسرح نعم' في الخليل"، موقع "ألترا – فلسطين"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[7] "تفاصيل جديدة في قضية وقف تميم الداري"، موقع "الحدث"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[8] "الرئاسة وهبت أرض 'المسكوبية' للبعثة الروسية"، موقع "ألترا – فلسطين"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[9] "جامعة الخليل: لا نعترف بهيئة الجودة.. والتربية تردّ"، موقع "وكالة معاً الاخبارية"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[10] "توضيح 'مهم' من وزارة 'التعليم العالي' بخصوص كلية الطب الحكومية في الخليل"، موقع "دنيا الوطن"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[11] يسود الاقتصاد نمط وعلاقات إنتاج عائلية، فمراكز الإنتاج كالمصانع والورش يديرها أصحابها ويعمل فيها أبناؤهم وتتحدد مواقعهم الوظيفية بحسب درجة القربى العائلية. ولذلك تسمى المصانع في مدينة الخليل بأسماء العائلات (مصنع قفيشة، ورشة الهيموني، إلخ).

[12] انظر بيان حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) إقليم وسط الخليل، موقع "شبكة راية الإعلامية"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[13] "موقف الحكومة من الجدل بشأن سيداو"، موقع "دوز"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[14] "الضفة الغربية بين السيادة الإسرائيلية والمواطنة الأردنية والترانسفير"، موقع "عرب 48"، في الرابط الإلكتروني التالي.

Author biography: 

مشهور البطران: كاتب فلسطيني