"You Are Not Alone: A Memory of Flowing Freedom": Evoking the Prison Experience from Ali Jaradat’s Memory
Date: 
March 11 2020

يشكل الكتاب خلاصة عميقة ونافذة لرجل عاش تجربة الأسر بكل أبعادها: التحقيق أربع مرات، والاعتقال الإداري، والإقامة الجبرية، والمطاردة.

وصف الكاتب، بمشاعر ملتهبة، مشاهد الاعتقال وأهوالها المريعة، ورسم لنا، بلغة واضحة البيان، مشاهد التعذيب الإسرائيلية بكل تجلياتها المريعة:

" يكابد الشَبح وهو مكبل اليدين إلى الوراء مغطى الرأس بكيس شادري سميك، بعد أن يملّ منه الكرسي الصغير المائل المسند الى الأمام ليضغط العمود الفقري، أو وأنت معلق كالذبيحة أو تصلب على ماسورة ومعك بقية المشبوحين لا تراهم ولا يرونك، وإذ يهز عنقك وجذعك وصدرك ويدق رأسك بالحائط حينا وتلطم وتركل وتضرب بالهراوة، وتفرك أعقاب السجائر في وجهك، وتغطّس في حوض ماء وإذ تهزّ جسدك اللسعات الكهربائية وتصم أذنيك موسيقى صاخبة ... إلخ"

ومع كل أشكال التعذيب الجسدي تتمازج أشكال التعذيب النفسي، اذ يعمل السجان على ضرب الكرامة الوطنية والشخصية والإنسانية: "تهدّد بالاغتصاب والقتل والابعاد والمنع من السفر وهدم البيت واعتقال الأقارب وتشويه السمعة واطالة أمد التحقيق. وإذ يقف سجان فوق رأسك ليركلك كلما داهم النوم جفنتيك، فيمنعك من أية غفوة لتدخل في حالة الهلوسة، فيها ترى ما لا يخطر على بال من الكوابيس وما لا يوصف من الصور المرعبة ".  

يتضمن الكتاب صفحات من الألم النازف في جسم الحياة الفلسطينية التي شقّ فيها الاحتلال أخاديده وزرع القهر بكل أشكاله المقيتة، فمن لحظة الاعتقال التي ينتزع فيها المعتقل من بيته، الذي لم يعد  آمنا بوجود هذه الاحتلال الذي يعكّر صفوه وقت ما أملت عليه أحقاده، الى أن يجد نفسه في قاع جيب عسكري تتقاذفه بساطير الجنود وتدق عظامه اعقاب بنادقهم، الى حيث التحقيق والوجبات الساخنة من العذاب، ثم السجن ومعامل الضغط على كل شيء في حياة المعتقل؛ الغرف المضغوطة، فاقدة التهوية مثخنة الرطوبة، ثم البوسطة الحديدية الصماء، والمحاكم فاقدة البصر والبصيرة، التي لا ترى ولا تسمع الا الظلم وما يطيل أمد السجن.

نجح علي جرادات في رسم الصورة البشعة كما هي للمحتل، سواء كان ذلك جنديا في الجيش أو محققاً في المخابرات أو شرطياً سجاناً أو قاضياً في محكمة عسكرية أو قائداً سياسياً: بمبضع نطاس بارع شرّح لنا شخصية هذا الساديّ الذي يقف خلف أقبية التحقيق، يتفنّن في دروب القهر وأساليب التعذيب، ويخطط لقهر هذا الزيتون الفلسطيني العريق، يصبّ عليه أحقاده صبّاً كما يصبّ الماء المثلج في زمهرير الشتاء على رأس ذاك المصلوب في شجرة في فناء السجن، لتبقى شاهدة على هذا العذاب.

"شدّ قيد اليدين وكبل القدمين ووضع الكيس على الرأس، وجرني إلى مكتب آخر حيث بدأت جولة طويلة وقاسية من التنكيل، تخللها الركل واللطم وفرك الخصيتين، والضغط على العينين والقيد وشد اليدين المكبلتين الى الخلف وإلى أعلى حتى أوشكت أنسجة الكتفين أن تتشقق من صنوف التعذيب.

رفع الكيس عن رأسي وقال: نظف البلاط بلسانك".

كان جرادات بارعاً في وصف شخصية هذا الجلاد الساديّة، التي لا تدع صنفاً من صنوف العذاب إلا وعملت به، ولا طريقاً ملتوية خبيثة إلا وسلكتها، لا حدود لبشاعة هذه الشخصية إلا ورسمها جرادات في هذا المختصر المفيد.

أبدع جرادات، في المقابل، في رسم صورة إنسان من لحم ودم ومشاعر، متألق الروح والفؤاد، يمثّل  الرد الأمثل على ذاك الهمجي الذي يريد أن يصور الفلسطيني، الذي يقاوم المحتل، بأنه إرهابي فاقد شرعية المواجهة والاشتباك مع من يغتصب حياته. أظهر الفلسطيني الحر القوي، الذي يصنع انتصاره في ظل ظروف قاسية تكاد تكون مستحيلة، وفي ظل الاختلال الهائل في موازين القوى لصالح "الآخر"، وسلط الضوء على إرادة الفلسطيني التي تحتمل ويلات العذاب، دون أن تذل أو أن تشعر ولو لحظة واحدة أنها ليست الأعلى شاناً وقدراً من ذاك الغراب المأفون، وهو ما تجلّى في شخصية هذا الكتاب الفذّة من خلال مشاهد كثيرة .

فمن هول العذاب تتعملق شخصية هذا الفلسطيني، الذي يلخّص ردّه على إمعانهم الساديّ، ببصقة أو ركلة أو شتيمة. وهو ما يتجلّى في حوارات كثيرة شملها هذا الكتاب، لخّصت هذه الروح الفلسطينية الكبيرة، برؤيتها الفلسفية والفكرية والسياسية والإنسانية الأخلاقية، ومنها الحوار الآتي:

-"ألا يثبت ذلك أن النيابة بمثابة واجهة علنية لكم، وأن قضاءكم وقضاتكم مجرد ديكور لتبييض صفحتكم السوداء وتزيين فظاعاتكم وجرائمكم؟

-"هل تستطيع قول ذلك لمحققين في دولة عربية؟

-"دعك من المقارنة، أنتم دولة احتلال ولا يوجد احتلال ديمقراطي، ولا يجوز مقارنته بدول أخرى، فما بالك وانتم آخر وأطول وأبشع احتلال معاصر، أنتم تشيعون أكاذيب كثيرة أكبرها كذبة أن دولتكم واحة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأنها أفضل دول العالم في تطبيق سيادة القانون والفصل بين السلطات.

-"أنت حاقد وقاتل.

-بل أنتم الحاقدون والقتلة".

هذا هو الفلسطيني الذي يعبّر، وهو مكبل في أقسى الأحوال التي يحشر فيها البشر، عن روحه العالية، واعتزازه العظيم بكبريائه، وحضور قضيته العظيمة التي تسكنه في أعماقه ويسكنها في أعماقها.

هذه الشخصية الفلسطينية العظيمة تستحق أن تدرّس وأن يعظّم شأنها، خصوصاً أمام من يحاول الانتقاص منها وإظهارها بالصورة المبتذلة التي ترضى بالفتات على طاولة اللئام، كالتي أظهرها  أوري سفير في مذكراته عن المفاوضات عندما ذكر أنه كان يتخيّل الفلسطيني عملاقاً فإذا به قزماً على طاولة المفاوضات. وها هو علي جرادات يعيد الاعتبار لهذه الشخصية العملاقة في هذا الكتاب القيم.

أرّخ هذا الكتاب الفذّ لمفاصل مهمة من حياة الحركة الأسيرة، كي لا تضيع تلك الآلام التي يكابدها الفلسطينيون الأسرى، والتي لا تقل هولاً عن تاريخ محارقهم مع النازيّة. هم عرفوا كيف يؤرخون مأساتهم، وعرفوا كيف يستثمرونها أبشع استثمار، وهذا الكتاب وأمثاله مما صدر عن الحركة الأسيرة يشكل بداية هذا التوثيق، ومدماكاً جديداً في بنيان المأساة الفلسطينية.

وبلغة سهلة ممتنعة شيّقة عميقة وقوية، ترخي بظلالها على المضمون المرّ فتضفي عليه جمالاً وروعة وألقاً فريداً، عرض لنا علي جرادات شذرات من حياته، وحياة الحركة الأسيرة وحياة المجتمع الفلسطيني، الذي داهمه هذا الاحتلال الأسود. عرض لنا مشاهد حيّة صاخبة، فيها قوة وحضور وشهود، ما يبقيها خالدة ببطولة أصحابها، وباللعنة التي تلاحق هذا المجرم إلى أن نقول له وداعاً، كما كانت خاتمة رواية "صمت البحر" للكاتب الفرنسي جان بروليه، الذي لم يترك للمحتلّ النازي استحقاقاً إلا أن يقال له وداعاً. 

Read more