A New Vision of Palestinian Political and Governance Systems
Full text: 

 قلّما نسمع عن انفراجات سياسية في الساحة الفلسطينية، إذ تصرّ القيادات الفلسطينية على الانتقال من انسداد سياسي إلى آخر لا يزيد الأزمات السياسية إلاّ تعقيداً. فجملة المناورات السياسية على مدار العام الماضي، من تدوير لكراسي اللجان القيادية لمنظمة التحرير، إلى حل المجلس التشريعي الفلسطيني، إلى العبث المستمر لحركتَي "فتح" و"حماس" في المشروع الوطني التحرري الفلسطيني، تؤشر إلى فقدان النظام السياسي الفلسطيني أهليته وشرعيته، وتُظهر بشكل جلي عقم هذا النظام في توفير الحد الأدنى من تطلعات الشعب الفلسطيني ومتطلباته.

غير أن هذا النظام مفيد لقيادته التي لا تدّخر جهداً في تطويعه لمصالحها وبرامجها وتعزيز تفردها وسلطويتها. ولذا نرى تلذذ القيادات الفلسطينية بالإتيان بمناورة سياسية داخلية تلو الأُخرى من أجل تعزيز قبضتها على هذا النظام المهترىء؛ فمسؤولي النظام هذا هم بمثابة أرباب أعمال يصرّون على صلابة عود أعمالهم التي أفلست في حقيقة الأمر. هذه المكابرة السياسية مدمرة، إلاّ إنها تصبح أكثر ضرراً عندما "يتشخصن" القائد الواحد الأوحد، ويصبح مرادفاً للنظام السياسي؛ عندها يتمحور النقاش حول الشخص / القائد نفسه وخليفته، وليس حول شكل الحوكمة والنظم السياسية والأجسام الممثلة.

حالة الشخصنة هذه لم تحدث في الحالة الفلسطينية اعتباطاً، وإنما كانت وما زالت جزءاً مركزياً من منظومة أوسلو التي بموجبها يسهل احتواء نظام الحوكمة الشخصاني وتسييره، وخصوصاً في ظل غياب أسس المحاسبة والمساءلة والتشارك في عمليات صنع القرار. ولهذا، ما برحت الأوساط السياسية والمؤسسات الأمنية الإسرائيلية والأميركية منشغلة بهوية مَن سيخلف محمود عباس في رئاسة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولا تتوقف تلك الأوساط والمؤسسات ومراكزها البحثية والفكرية عن مناقشة أسماء المرشحين لخلافته، فتعرض سجلاتهم، وتتأمل في شكل العملية الانتقالية إن وُجدت أصلاً، وتتمادى في وضع ترتيب للمرشحين، أو مَن ينبغي له أن يحكم الشعب الفلسطيني بصفته الرئيس المقبل. وبالنظر إلى نهج هذه الأوساط والمؤسسات الإسرائيلية والأميركية، والمتمثل في نهج "الاستقرار أولاً"، فإن المسؤولين الأمنيين الفلسطينيين يتصدرون تلك القائمة.

غير أن هذه العملية الانتقالية المرتقبة يجب أن تثير نقاشاً جاداً وملحّاً، من وجهة نظر فلسطينية، بهدف وضع تصور جديد لنظم السياسة والحكم الفلسطينية القائمة، ولمسألة القيادة السياسية برمّتها. فأكثر ما يزعج الأوساط والمؤسسات الإسرائيلية والأميركية هو تبنّي الفلسطينيين فكراً استراتيجياً استشرافياً يخلخل النظم السائدة، ويؤسس لنظم جديدة بعيدة كل البعد عن الشخصنة كأساس للحكم والحوكمة. وفيما يلي ثلاث أفكار مقترحة للمساهمة في بناء هذا الفكر الاستراتيجي الاستشرافي، والتي تهدف في صلبها إلى بناء نظام سياسي تشاركي وشامل يمكِّن الشعب الفلسطيني في مسعاه نحو تحقيق تقرير المصير وإقامة الدولة وإرساء ديمقراطية حقة.

أولاً: القضاء نهائياً على نموذج القائد الواحد الأوحد، واستحداث نموذج القيادة الجمعية. فنموذج "القائد الخارق" بات بالياً وعاجزاً ومنافياً للديمقراطية، وصار يضر بالنضال الفلسطيني ومشروع التحرير الوطني. لقد عانى الفلسطينيون في مسعاهم لتحقيق تقرير المصير تداعيات سلبية كبرى بسبب اختلاف أنماط الحكم باختلاف الأشخاص (مثل العرفاتية، والفياضية، والعباسية)، ونماذج سلطة الرجل الواحد التي جرى تبنّيها. لذا، آن الأوان لإنهاء نموذج الحكم هذا، وتصور نموذج قيادة جمعية قادرة على تنفيذ استراتيجيا فلسطينية ممثلة للجميع تضع في صلبها جوهر المطلب الفلسطيني (الحرية)، ولا تكترث لاشتراطات ومطالب الفاعلين الخارجيين والقوة المحتلة. فالحوكمة الجيدة وبناء الدولة وإصلاح المؤسسات وإعادة بناء المؤسسة والعقيدة الأمنية، يجب أن تنسجم كلها مع مطلب الحرية الذي لا يتحقق إلاّ بالاشتباك مع القوة المحتلة والمستعمِرة، وعدا ذلك سيكون مضيعة لوقت الفلسطينيين وجهدهم وتضحياتهم وعذاباتهم.

ومع أن نموذج القيادة في منظمة التحرير الفلسطينية هو نظام ذو طبيعة جمعية من الناحية النظرية، إلاّ إنه ليس كذلك البتة في الواقع. ولهذا السبب استطاعت السلطة الفلسطينية أن تحتوي منظمة التحرير، قبل أن تحتويها إسرائيل بدورها ـ السلطة القائمة بالاحتلال ـ ولهذا السبب سُلبت قدرة الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة على التحول والتطور الإيجابي والانعتاق. ولهذا السبب أيضاً يظل الشعب الفلسطيني بعيداً ومبعداً عن جوهر النظام السياسي الفلسطيني، ولا يزال يئنّ تحت وطأة الاحتلال الإسرائيلي والسلطوية الفلسطينية التي تستمر في التجذر والتصلب يوماً بعد يوم. فنموذج القائد الواحد الأوحد خذل الشعب الفلسطيني (أكان نموذج أبو الأمة، أبو عمار؛ أم نموذج شريك السلام، محمود عباس؛ أم نموذج التكنوقراط المدعوم دولياً، سلام فياض)، وقد سئم الفلسطينيون حالة الخذلان المستمرة.

وهكذا، فإن الوقت حان لإعادة النظر تحديداً في المناصب والألقاب التي يتقلدها رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس فلسطين ورئيس السلطة الفلسطينية، وما ترمز إليه من بهارج الدولة، والتخلص منها جميعاً. والأحرى، وخصوصاً في ظل العيش تحت شرط استعماري، أن ينتخب الشعب الفلسطيني لجنة صغيرة من القادة تشكل مكتباً سياسياً قيادياً فلسطينياً، على أن تضم أربعة أشخاص / قادة، وأن يكون بينهم امرأتان أو على الأقل واحدة، فيضطلع كل عضو قيادي فيه بمسؤوليات متنوعة لكن تكاملية، ويكون لكل منهم وزن سياسي مماثل: واحد مسؤول عن الشؤون الداخلية والمجتمعية، وآخر عن الشؤون الخارجية والدولية، وواحد عن الشؤون الاقتصادية والتنموية، وآخر عن شؤون التعليم والشباب. إن تقسيم الأعمال على المستوى القيادي على هذا النحو يكفل ألاّ يقوم قائد واحد وحزبه السياسي باختطاف المشروع الوطني وفرض رؤيتهما وبرنامجهما السياسي، ويكفل مستوى أفضل من المساءلة والشفافية، ويُسفر عن آثار إيجابية ملموسة تنعكس على حياة الفلسطينيين اليومية.

ثانياً: لن يعمل المكتب السياسي هذا في الفراغ، بل سيتلقى الدعم من مجلسَين إشرافيين مختلفين يكون مسؤولاً أمامهما أيضاً. يتألف أحد المجلسين من "الحكماء" بينما يتألف الآخر من "الشباب" (تقل أعمارهم عن 35 عاماً)، ويضم كل مجلس خمسة عشر عضواً على الأكثر، وتكون مدة الدورة ثلاثة أعوام. ويوازن المجلس في تركيبته بين الرجال والنساء، ويكون ممثلاً لمختلف أصحاب المصلحة والطبقات الاجتماعية والمناطق، ويضطلع بدور حيوي في صوغ الاستراتيجيات ومتابعة تنفيذها ودعم ومحاسبة الفاعلين السياسيين.

لكن ماذا عن المجلس التشريعي الفلسطيني والمجلس الوطني الفلسطيني؟

قد يتساءل أحدهم: لماذا نضيف بيروقراطية جديدة إلى الهياكل والبيروقراطيات المعقدة في ظاهرها والقائمة أصلاً؟ هذه أسئلة وجيهة. غير أن الغياب الفعلي للمجلسين، التشريعي والوطني، يسلبهما الفاعلية والكفاءة والتمثيل وحتى الشرعية. فضلاً عن أن السياسة الفصائلية وأنماط الحكم المشخصنة تمكنت من الهيمنة على المجلسين بسهولة. أمّا مجلسا الشباب والحكماء المقترحان، فيهدفان في المقام الأول إلى ترسيخ أركان المساءلة داخل النظام السياسي الفلسطيني، واستحداث مؤسسات ضرورية لاستدامة الضوابط والموازين بعد الآثار الوبيلة المترتبة على غيابها لعقود. وستكون تلك المؤسسات استشرافية وإشرافية ورقابية بطبيعتها، ولن تكون تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، وستستمد قوتها من قدرتها على تعرية القيادات عند الحاجة ومحاسبتها، ودعم الرؤى الوطنية وتفعيلها، وإرساء نهج "المحاسبة والشفافية أولاً".

ثالثاً: الهيئات المتعددة المبيّنة أعلاه ستعيّن رئيس الوزراء لتشكيل حكومة، ونائباً له، على أن تتولى امرأة أحد هذين المنصبين. وبينما يسمّي رئيس الوزراء حكومته للبرلمان / المجلس التشريعي والوطني ودوائر القيادة الأُخرى، يجب في المقابل أن تتشكل حكومة ظل موازية تضم في صفوفها المعارضة السياسية في البرلمان والمجتمع المدني الفلسطيني، وأن يتولى كل وزارة وزير ظل. ولا يُتوقع من حكومة الظل هذه أن تكون مكتملة الأركان مثلما نجد في الديمقراطيات الراسخة، بل أن تكون مصممة بما يلائم الواقع الفلسطيني المتواضع، ولا سيما أنها ستتطلب موارد مالية معتبرة قد لا تكون متاحة. فالهدف من حكومة الظل هو أن تضمن مساءلة أفضل وشمولاً أكثر في الهياكل السياسية الفلسطينية، وأن تؤسس لثقافة تشاركية سياسية تضع الشعب في صلب النظام السياسي. وستقتضي حكومة الظل أيضاً مشاركة المجتمع المدني الفلسطيني في إصلاح مؤسساته وتصويب الأضرار الهيكلية التي لحقت بها طوال أعوام إطار عمل اتفاق أوسلو.

قد يرى البعض أن هذه الثلاثية (القيادة الجمعية، ومجلسا الشباب والحكماء، وحكومة الظل) غير قابلة للتحقيق نظراً إلى واقع الاحتلال الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني الداخلي، والتشتت والتشرذم الأفقي والعمودي، وحالة الوهن العامة، وإطار عمل اتفاق أوسلو، وحل الدولتين المنشود. قطعاً ثمة قدر من الصواب يدفع المرء إلى الاعتقاد بعدم واقعية الأفكار الثلاث المقترحة أعلاه، وبأنها تنافي واقعنا الراهن، وربما حتى إنها ساذجة وليبرالية إلى حد كبير. غير أن من الواضح تماماً أن نموذج حكم منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية، وإطار عمل اتفاق أوسلو، لم يحققا مصلحة الشعب الفلسطيني قط، فَلِمَ نستمر إذاً في العمل ضمن هذين الإطارين محاولين إصلاح ما يتعذر إصلاحه؟ ألم يحن الوقت للتفكير في أساليب جديدة للفعل السياسي، وفي نُظم حكم وحوكمة غير تقليدية وبأشكال قيادية مغايرة؟

إن أُطر العمل السياسية القائمة وما تستند إليه من أُسس منطقية هي معيبة أساساً، ولذا لا يمكن التعويل على قدرة التدابير التصحيحية على إصلاح المشكلات. فقد آن الأوان لاستحداث نماذج جديدة وغير تقليدية للسياسة والقيادة الفلسطينية، حتى إن كانت تبدو غير واقعية في الوقت الراهن. إن ما يحتاج إليه الفلسطينيون هو رؤيةٌ وآفاق مستقبلية لقدرتهم على العمل جماعياً نحو الإنجاز والانعتاق، بدلاً من العمل ضمن إطار قيادي وحاكمي عفا عليه الزمان، ويسير بهم من معضلة ومشكلة إلى أُخرى، ومن ضعف إلى هوان فانكسار، ولا يوفر حلولاً ناجعة أو مستديمة.

ثمة أسئلة عديدة يمكن طرحها بالتأكيد فيما يتعلق بالأفكار والمقترحات الثلاثة المذكورة أعلاه، ومنها: ما هي المتطلبات السابقة لضمان تحقيق هذه الأفكار على الأرض؟ وما هي الخطوات المطلوبة من الفلسطينيين؟ وكيف يمكن تنفيذ هذه الأفكار الثلاث بواسطة خطط عمل محددة وواضحة؟ وما هي الجهات الفاعلة التي ستقود عملية التغيير هذه؟ وهل ستنجح تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي ورغماً عنه، وهل ستكون أداة للمقاومة السياسية؟ هل ستصمَّم لتلائم سكان الضفة الغربية وقطاع غزة أكثر من غيرهم؟ وكيف يمكن أن تطال الفلسطينيين الآخرين داخل إسرائيل، واللاجئين في الشتات؟

قائمة الأسئلة تطول، ولهذا السبب تحديداً نحتاج إلى نقاش وجدل جدّيين وضرورين لإعادة تصور نظام السياسة والحكم الفلسطيني، فثقافة الجدل هي جزء لا يتجزأ من التجديد، وإحدى الأدوات المهمة للخروج من الأزمات والانسدادات. وعليه، فإن تجديد الفكر السياسي الفلسطيني يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتحقيق الحرية وتقرير المصير، ولن نقترب من تحقيق هذين الهدفين إلاّ عندما نتصور هياكل سياسية ونُظماً مغايرة، ونوحّد جهودنا في سعينا لترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس.

Author biography: 

علاء الترتير: مستشار البرامج في "الشبكة: شبكة السياسات الفلسطينية"، وباحث مشارك في مركز دراسات الصراع والتنمية وبناء السلام (CCDP) في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية (IHEID) في جنيف، سويسرا.