Palestinian Refugees in Lebanon between past and Present Legal and Living Reality
Date: 
May 09 2013

I. مقدمة

تجمع معظم الدراسات المتعلقة  باللاجئين الفلسطينيين عامة على أن اللاجئين الفلسطينيين في لبنان هم الأسوأ حظاً من بين أقرانهم في الدول العربية المضيفة الأخرى. فمنذ نحو ستة عقود يعيش هؤلاء، وخاصة سكان المخيمات منهم، أوضاعاً معيشية بالغة الصعوبة تتنافى مع أبسط معايير الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان الأساسية. ويبلغ معدل الفقر في المجتمع الفلسطيني في لبنان 66% بحسب آخر مسح أجرته وكالة الأونروا بالتعاون مع الجامعة الأميركية في بيروت.[1]

وبصورة عامة يتعرض الفلسطينيون في لبنان إلى أشكال عدة من التهميش: التهميش المكاني (Spatial Marginalization) الذي حول المخيمات الفلسطينية إلى جزر شبه معزولة عن محيطها السكاني وظيفتها احتواء اللاجئين بوصفهم مصدر خطر وتهديد محتملين للمجتمع المضيف. وقد ساهم بعض وسائل الإعلام في ترويج هذه النظرة إلى المخيم وتغذيتها باستمرار. وذلك إضافة إلى التهميش الاقتصادي (Economic Marginalization) الذي يستبعد الفلسطينيين من سوق العمل اللبناني وكذلك التهميش المؤسساتي (Institutional Marginalization) الذي يستثني الفلسطينيين من مؤسسات الحياة الاجتماعية والثقافية.

غالباً ما ارتبط تهميش المجتمع الفلسطيني هذا بتاريخ من العنف والتهجير. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن المجتمع الفلسطيني في لبنان قد تعرض إلى تهجير داخلي متواصل بسبب الاعتداءات الإسرائيلية المتعاقبة (1978، 1982، 1993، 1996، 2006) على لبنان، وأيضاً بسبب الحروب الداخلية كالحرب الأهلية (1975 - 1991) وحرب المخيمات (1985 - 1989). وأخيراً مأساة تهجير أهالي مخيم نهر البارد (2007). 

II. الوضع الديموغرافي 

تراوح عدد الفلسطينيين الذين نزحوا إلى لبنان قبيل العام 1948 وحتى العام 1950 بحسب معظم التقديرات من 110 إلى 130 ألف لاجئ. ولا توجد أرقام دقيقة وموثوقة عن أعداد الفلسطينيين في لبنان في الوقت الحاضر، فضلاً عن أن الأرقام المتداولة تكتسب دلالات سياسية نظراً إلى دقة المعادلة الطائفية اللبنانية وحساسيتها المفرطة تجاه الوجود الديموغرافي الفلسطيني في البلد.

وبحسب إحصاءات الأونروا بلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في سجلاتها 436,154 شخصاً (حتى 1 كانون الثاني/يناير 2012) يعيش 233,509 منهم (أي نحو53,5%) في المخيمات، ويتوزعون على 12 مخيماً، بينما تعيش البقية (46.5%) في المدن وبعض التجمعات التي لا تعترف بها الأونروا. ويشكل هذا العدد ما نسبته 9,1% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في مناطق عمل الأونروا الخمس.[2]

ومن جهة أخرى، يزيد عدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لدى المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين، التابعة لوزارة الداخلية اللبنانية على أعداد الأونروا بنحو 35,000 بحسب التقديرات المتداولة. ويشير هذا الرقم إلى وجود فئة ثانية من اللاجئين مسجلين في قيود المديرية من دون أن يكونوا مسجلين في سجلات الأونروا لأسباب متباينة منها: رفض الأونروا تسجيلهم لعدم استيفائهم شروط التسجيل أو بسبب تسجيلهم في مناطق عمليات الأونروا الأخرى قبل قدومهم إلى لبنان، وأحياناً بسبب عدم تقدمهم للتسجيل على الرغم من انطباق شروط التسجيل عليهم. وهناك فئة ثالثة من اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان يقدر عددهم ببضعة آلاف (3500-4000)، أفراد هذه الفئة غير مسجلين في الأونروا ولا لدى الدولة اللبنانية. وتعرف هذه الفئة باسم "فاقدي الأوراق الثبوتية".

وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد الفلسطينيين المقيمين فعلياً على الأراضي اللبنانية من بين مجموع اللاجئين الفلسطينيين المسجلين لا يتجاوز 280,000، ولكن ينبغي التعامل مع هذا الرقم ودلالاته القانونية والسياسية بحذر شديد، حيث أنه يمكن أن يستخدم كذريعة لتجريد اللاجئين المسجلين (الأونروا، المديرية) من غير المقيمين حالياً في لبنان من وضعهم القانوني كلاجئين، وبالتالي إعفاء الدولة اللبنانية من المسؤولية عنهم. كما يمكن أن يتم توظيفه في البازار السياسي اللبناني المرتبط بهاجس التوطين.  

III. الوضع القانوني

يلفت بعض القانونيين النظر إلى الهوة الشاسعة بين الأعراف والمواثيق المتبعة بشأن اللاجئين في القانون الدولي وتلك المعمول بها في القانون اللبناني. فالتشريعات اللبنانية لا تمنح اللاجئين عامة وضعاً قانونياً يميزهم عن الأجانب ولا تعرف حتى مصطلح اللاجئ. وتتعامل التشريعات اللبنانية مع اللاجئين الفلسطينيين بوصفهم أجانب على الرغم من إقامتهم الممتدة في لبنان. وأحياناً يطبق القانون عليهم بشكل عشوائي وانتقائي بوصفهم "فئة خاصة" من الأجانب فيجردهم حتى من بعض الحقوق الممنوحة للأجانب الآخرين، كما هو الحال بالنسبة إلى حق الملكية بعد أن عدّل البرلمان اللبناني بتاريخ 3/4/2001 قانون "اكتساب غير اللبنانيين الحقوق العينية العقارية" المنفذ بموجب المرسوم (11,614) للعام 1969 وأصدر قانون تملك الأجانب الجديد رقم (296)، الذي حرم الفلسطيني من مجرد امتلاك شقة سكنية.

وهذا الوضع القانوني الملتبس (Ambiguous Status) الذي يعامل الفلسطينيين كـ"فئة خاصة" من الأجانب ولا يعترف بوضعهم القانوني كلاجئين وفق المعايير الدولية، لا يحرم اللاجئين الفلسطينيين من الحقوق الأساسية التي يتمتع بها سائر المواطنين اللبنانيين والأجانب فحسب، بل يكرس التمييز ضدهم على أساس أصلهم الوطني، كما يحرمهم من الحقوق المعترف بها للاجئين في العهود والمعاهدات الدولية المتعلقة بالقانون الدولي للاجئين.

نعرض فيما يلي وبإيجاز شديد حيثيات هذا الوضع القانوني وانعكاساته على الحقوق الأساسية للفلسطينيين في لبنان، مع التركيز على حق العمل والضمان الاجتماعي وحق التملك والاشارة إلى بعض الحقوق الأخرى (التعليم والصحة وتأسيس الجمعيات الأهلية):

  • حق العمل والضمان الاجتماعي: بوصفهم أجانب بموجب القانون اللبناني يخضع حق الفلسطينيين في العمل والضمان الاجتماعي للمرسوم رقم (17,561) بتاريخ 18/9/1964، الذي ينظم عمل الأجانب في لبنان. ويتضمن هذا المرسوم ثلاثة شروط يشكل كل منها قيداً على حق الفلسطينيين في العمل والضمان الاجتماعي: شرط الحصول على إجازة عمل؛ الأفضلية الوطنية؛ والمعاملة بالمثل (معاملة الدولة التي ينتمي اليها العامل الأجنبي للرعايا اللبنانيين).

ووفق المادة (9) من المرسوم المذكور، يصدر وزير العمل اللبناني في مطلع كل عام قراراً وزارياً يتضمن لائحة الأعمال والمهن التي ترى الوزارة ضرورة حصرها باللبنانيين فقط. لذلك يختلف عدد المهن المحظورة على الأجانب، ومنهم الفلسطينيون من قائمة إلى أخرى ومن سنة إلى أخرى، لكنها تتراوح ما بين 50 و 70 مهنة. وتخول المادة (8) من المرسوم نفسه وزير العمل استثناء بعض الأجانب من هذا القرار، مع مراعاة مبدأ الأفضلية الوطنية، إذا كان الأجنبي: مقيماً في لبنان منذ الولادة؛ من أصل لبناني؛ متأهلاً من لبنانية منذ أكثر من سنة.

ومما يجدر ذكره هنا أن لائحة الأعمال والمهن المذكورة سابقاً تشمل فقط المهن اليدوية والمكتبية ولا تتضمن المهن الحرة (الطب والهندسة والمحاماة وغيرها) المنظمة بقوانين النقابات والتي لا تزال ممارستها محظورة على الفلسطينيين.

وبخصوص حق العامل الفلسطيني في الاستفادة من تقديمات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، يدفع العامل الفلسطيني المسجل في الصندوق مساهمته في فروع الصندوق الثلاث: تعويض نهاية الخدمة، فرع المرض والأمومة، وفرع التعويضات العائلية، من دون أن يكون له حق الاستفادة سوى من تعويضات نهاية الخدمة.

ولكن ينبغي التذكير هنا بأن مجلس النواب اللبناني قد عدّل في آب / أغسطس من العام 2010 قانون العمل اللبناني وقانون الضمان الاجتماعي فيما يتعلق بتنظيم عمل الفلسسطينيين وحقهم في الاستفادة من تقديمات صندوق الضمان الاجتماعي وأصدر في هذا الخصوص القانونين رقم (128 و 129)، من دون أن يغير ذلك كثيراً من واقع عمل الفلسطينيين في لبنان (راجع القسم بعنوان المشهد الحالي من هذا التقرير).

  • حق التملك: تضع التشريعات اللبنانية بعض القيود على حرية تملك الأجانب في لبنان ومن ضمنهم الفلسطينيون. ويستند اكتساب غير اللبنانيين الحقوق العينية العقارية إلى مشروع القانون الموضوع موضع التنفيذ بموجب المرسوم (11,614) بتاريخ 14/1/1969. وتنص مادته الأولى على عدم جواز تملك غير اللبنانيين للعقارات والحقوق العقارية من دون الحصول على ترخيص خاص يعطى بمرسوم يصدر عن مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير المالية. ولكن المادة الثالثة من المرسوم نفسه استثنت رعايا الدول العربية بمن فيهم الفلسطينيون من شرط الترخيص. وهكذا كان من حق الفلسطيني المقيم في لبنان تملك عقار أو شقة سكنية من دون ترخيص مسبق وضمن الحدود المسموح بها للرعايا العرب (5000 متر مربع في جميع الأراضي اللبنانية شرط ألاّ يزيد ذلك عن 3000 متر مربع في بيروت.

وظل هذا الوضع سارياً حتى العام 2001 عندما تقدمت حكومة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في مجلس النواب بقانون تعديل بعض مواد القانون المنفذ بالمرسوم 11641/1969. ووفق التعديلات المقترحة أُدخلت فقرة جديدة على المادة الأولى من المرسوم ـنصت على ما يلي:  "لا يجوز منح تملك أي حق عيني من أي نوع كان لأي شخص لا يحمل جنسية صادرة عن دولة غير معترف بها أو لأي شخص إذا كان الترخيص يتعارض مع أحكام الدستور لجهة رفض التوطين."

وإثر ذلك وافق مجلس النواب اللبناني على قانون تملك الأجانب الجديد رقم (296) بتاريخ 3/4/2001، ونشر القانون حسب الأصول في الجريدة الرسمية عدد (15) بتاريخ 5/4/2001. وبهذا استثنى المشرع اللبناني الفلسطينيين في لبنان دون غيرهم من الأجانب، وحتى من دون أن يتحمل مشقة تسميتهم، من حق تملك ولو شقة سكنية.

ولا يزال هذا القانون سارياً حتى يومنا هذا، إذ تجنب البرلمان اللبناني في جلسته بتاريخ 14/8/2010 مناقشة اقتراحات القوانين المقدمة من بعض الأحزاب اللبنانية لتعديل قانون التملك الجديد، بما يسمح بالعودة إلى القانون القديم ما قبل العام 2001 الذي كان يساوي الفلسطينيين بالرعايا العرب فيما يتعلق بحق الملكية العقارية.

والسؤال الآن: ماذا عن مفعول القانون 2001 من الناحية القانونية، بعد أن قبلت فلسطين في أيلول/سبتمبر 2012 "دولة غير عضو" (Non-member State) في الأمم المتحدة وبعد أن إعترفت الدول العربية بما في ذلك لبنان بقرار الأمم المتحدة هذا؟ سؤال يبقى برسم النقاش القانوني، مع أن المسألة ليست قانونية بقدر ما هي مسألة تتعلق بتوفر الإرادة السياسية من عدمها في منح الفلسطينيين في لبنان حقوق الإنسان الأساسية.

  • حقوق أخرى (الصحة والتعليم وحق تأسيس الجمعيات الأهلية): لا يحق للفلسطينيين الاستفادة من خدمات المستشفيات الحكومية ولا من الخدمات الصحية التي تقدمها وزارة الصحة، باستثناء تلك المستشفيات التي تتعاقد معها الأونروا في نطاق برنامجها الاستشفائي، حيث تمكنت الأونروا نتيجة جهود التنسيق القائمة بينها وبين وزارة الصحة اللبنانية من الحصول على أسعار تفضيلية فيما يتعلق بالاستشفاء في المستشفيات الحكومية. وخلافاً للخدمات الصحية لا يمنع القانون اللبناني الفلسطينيين من دخول المدارس الحكومية وبعض كليات الجامعة اللبنانية وليس كلها، ولكن يبقى الأمر استنسابياً ويخضع للأفضلية الوطنية.

أما فيما يتعلق بحق الفلسطينيين في تأسيس جمعيات أهلية خاصة بهم، يخضع هذا الحق بالنسبة إلى الأجانب ومنهم الفلسطينيون لمبدأ المعاملة بالمثل، الأمر الذي لا يستفيد منه الفلسطينيون، نظراً إلى عدم وجود الدولة الفلسطينية ذات الشخصية القانونية التي تستطيع معاملة الرعايا اللبنانيين بالمثل. ولتجاوز هذه العقبة القانونية يلجأ الفلسطينيون إلى تأسيس جمعيات لبنانية تتكون هيئاتها العامة والإدارية من أشخاص يحملون الجنسية اللبنانية وفق القانون، بينما يتشكل جسمها التنفيذي في غالبيته من ناشطين فلسطينيين على صلة وثيقة بواقع المجتمع الأهلي الفلسطيني ومشكلاته.

IV. الفلسطينيون والدولة اللبنانبة: لمحة تاريخية (1948-2010)

هناك من يعتقد أن الدولة اللبنانية بسياستها هذه تجاه الفلسطينيين قد نجحت في لفت انتباه المجتمع الدولي وكسب تفهمه لمخاوف لبنان من توطين اللاجئين الفلسطينيين والإخلال بالتوازن الطائفي الدقيق وصيغة العيش المشترك التي أعاد اللبنانيون تأكيدها في اتفاق الطائف. وبغض النظر عن مدى صحة هذا الاعتقاد إلا أنه بات من المؤكد أن سياسة الدولة اللبنانية تجاه الوجود المدني الفلسطيني في لبنان قد أساءت على نحو بالغ إلى صورة لبنان على الصعيد الدولي فيما يتعلق بموقفه من حقوق الإنسان،  وخاصة أن لبنان كان في طليعة الدول التي ساهمت في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومما يجدر ذكره في هذا السياق أن البرلمان اللبناني قد أقرّ يوم العاشر من كانون الأول/ ديسمبر الماضي (2012)، الذي يصادف ذكرى صدور الإعلان العالمي، الخطة الوطنية لحقوق الإنسان التي باتت تلزم لبنان باحترام حقوق الإنسان الأساسية لكافة المقيمين على أراضيه، بمن فيهم اللاجئون الفلسطينيون.

 وأكثر من ذلك، فقد طغت سلبيات هذه السياسة على الجوانب الإيجابية في علاقة الدولة اللبنانية بالفلسطينيين في بعض المراحل التاريخية السابقة، كما طمست التضحيات الكبيرة التي قدمها لبنان من أجل القضية الفلسطينية.

 وعلى الرغم من الاختلاف، فإن للبنانيين والفلسطينيين "رواية مشتركة"، كما يقول مايكل هدسن: "بالإضافة إلى التماثل الاجتماعي والثقافي والإثني وتجربة العيش المشترك وقع الشعبان ضحية الخصم نفسه وعانوا المحنة عينها، ولكن يبدو أن كل تجربة مشتركة تنطوي على تناقضها الخاص."[3]

 وقد مرّ الوجود الفلسطيني والعلاقات اللبنانية / الفلسطينية منذ العام 1948 بمراحل تاريخية متفاوتة تراوحت بين صعود وهبوط وراكمت بعض الإيجابيات كما أفرزت بعضاً من السلبيات والهواجس المتبادلة.

هذا ويمكن تقسيم تاريخ هذا الوجود إلى المراحل التالية:

  • مرحلة التكيف والأمل (1948-1958):

بدأت هذه المرحلة بنزوح الفلسطينيين إلى لبنان وانتهت باندلاع ثورة عام 1958. وتميزت بداياتها بترحيب لبناني رسمي وشعبي بلجوء الفلسطينيين إلى لبنان عكسه آنذلك موقف رئيس الحكومة اللبناني رياض الصلح وعبر عنه بشكل واضح وصريح وزير الخارجية حميد فرنجية الذي قال في ذلك الحين: "سنستقبل في لبنان اللاجئين الفلسطينيين مهما كان عددهم ومهما طالت إقامتهم. ولا يمكننا أن نحجز شيئاً عنهم، ولا نتسامح بأقل امتهان يلحقهم دوننا... وسنقتسم فيما بيننا وبينهم آخر لقمة من "الخبز" (من محضر الجلسة السابعة لمجلس النواب اللبناني، 2115/1948).

وقد تميزت هذه المرحلة بقدر نسبي مقبول من حرية التعبير السياسي والتنظيمي وبتوفير فرص العمل للاجئين الفلسطينيين في مرحلة الفورة الاقتصادية التي شهدها لبنان في عقد الخمسينيات.

  • مرحلة القمع والتهميش (1958-1969):

بدأت هذه المرحلة بعد ثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون التي جاءت بالجنرال فؤاد

شهاب إلى السلطة، وانتهت بما سمي "انتفاضة المخيمات" عام 1969 ضد إجراءات القمع العسكري التي فرضها "المكتب الثاني" -جهاز أمن تابع للجيش اللبناني- وبتوقيع اتفاقية القاهرة (3 تشرين الثاني / نوفمبر 1969) بضغط من مصر عبد الناصر آنذلك. وقد شرّعت هذه الاتفاقية، بل نظمت العمل الفدائي الفلسطيني من لبنان ضد إسرائيل، كما نصت مادتها الأولى على ضرورة منح الفلسطينيين حقوقاً أساسية فيما يتعلق بالعمل وحرية الحركة والتعبير السياسي والتنظيمي.

وتميزت نظرة العهد الشهابي للفلسطينيين بالريبة والشك. واتخذت محاولات تنظيم الوجود الفلسطيني وضبطه طابع التهميش والإكراه والقمع من خلال حظر النشاطات السياسية والإعلامية والنقابية في المخيمات ومطاردة القائمين بها وزجهم في السجون.

  • مرحلة الازدهار وبناء المؤسسات (1969-1982):

وفرت اتفاقية القاهرة للفلسطينيين في لبنان حرية ممارسة النشاط العسكري والسياسي

والتنظيمي، فضلاً عن النشاط النقابي وحرية تشكيل الاتحادات المهنية وإنشاء المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

وعلى الرغم من أن اتفاقية القاهرة قد نصت في مادتها الأولى على حق العمل والإقامة والتنقل بالنسبة إلى الفلسطينيين المقيمين في لبنان، إلا أنها كانت في جوهرها اتفاقية أمنية / عسكرية، شرعت الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان وممارسة الكفاح المسلح ضد إسرائيل. وكانت نتيجتها الخالصة أن تمتعت المخيمات الفلسطينية للمرة الأولى منذ إنشائها بإدارة ذاتية.

وشهدت هذه المرحلة اندلاع الحرب الأهلية عام 1975 وتراجع "القوة الإكراهية" للدولة وتقلص سلطاتها لصالح الميليشيات المتحاربة من كل الأطراف. ومنذ اندلاع الحرب الأهلية وحتى العام 1982 نما الوجود الفلسطيني في لبنان على كل المستويات وإلى حد كبير. وبلغ هذا النمو ذروته قبيل خروج منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف) من لبنان عام 1982، حيث تحولت المنظمة في المناطق التي تواجدت فيها إلى ما يشبه "الدولة" ضمن الدولة. ولكن ما يجدر ذكره هنا أن (م.ت.ف) لم تستثمر نفوذها القوي في تلك المرحلة من أجل تفعيل المادة الأولى من اتفاقية القاهرة من خلال الضغط على الدولة اللبنانية والمشرع اللبناني لاستصدار تشريعات تمنح الفلسطينيين في لبنان طيفاً أوسع من حقوق الإنسان الأساسية.

وقد تمتع الفلسطينيون في تلك الفترة، بحكم الأمر الواقع (de facto) وليس بحكم القانون (de joure) بطيف واسع من تلك الحقوق، فضلاً عما وفرته مختلف مؤسسات منظمة التحرير والفصائل الفلسطينية من فرص عمل وتعليم وخدمات صحية واجتماعية وثقافية للفلسطينيين واللبنانيين المنخرطين فيها من دون تمييز.  

  • مرحلة الانحسار وانهيار المؤسسات (1982-1989):

بدأت هذه المرحلة بخروج (م.ت.ف) من لبنان إثر الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 وانتهت بتوقيع اتفاق الطائف (30 أيلول / سبتمبر 1989) وعودة السلم الأهلي إلى لبنان. وقد تميزت هذه المرحلة بانهيار مؤسسات (م.ت.ف) التشغيلية وبتراجع الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية التي كانت توفرها مؤسسات (م.ت.ف) والفصائل للشعب الفلسطيني، مما زاد من حدة الأزمة المعيشية لسكان المخيمات خاصة. وقد أدى هذا إلى بروز دور منظمات المجتمع الأهلي الفلسطيني وتعاظمه من أجل سد النقص والتعويض عن دور مؤسسات المنظمة في تقديم مختلف الخدمات. لكن حجم الحاجات كان أكبر بكثير من الإمكانات المحدودة لمنظمات المجتمع الأهلي. وشهدت هذه المرحلة أيضاً حدثين مأساويين، بل جريمتين ارتكبتا بحق سكان المخيمات وهما: مجزرة صبرا وشاتيلا (أيلول / سبتمبر 1982)، وحرب المخيمات التي اندلعت في منتصف أيار / مايو 1985 واستمرت حتى كانون الأول / ديسمبر 1988، والتي كان من نتيجتها تدمير أقسام واسعة من بعض المخيمات وقتل المئات من سكانها العزل. وقد رفع الحصار عن المخيمات بفضل اندلاع الانتفاضة الأولى في فلسطين أواخر العام 1987.

  • مرحلة الإهمال المتعمد (1989-2005):

بدأت هذه المرحلة بتوقيع اتفاق الطائف وامتدت إلى ما بعد توقيع اتفاق أوسلو 1992 وصولاً إلى تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري (شباط / فبراير 2005)، هذا الحدث الذي دشن مرحلة جديدة في تاريخ لبنان المعاصر لا نزال نعيش تداعياتها على الصعد كافة. وقد شهدت هذه المرحلة استئناف الحوار المقطوع بين الدولة اللبنانية و(م.ت.ف) منذ إغلاق مكتبها في بيروت عام 1982 وإلغاء اتفاقية القاهرة عام 1987 من جانب واحد هو الجانب اللبناني، ولهذا الغرض تشكلت لجنة وزارية لبنانية من وزير العمل والشؤون الاجتماعية عبد الله الأمين ووزير الزراعة شوقي فاخوري. وفي المقابل تشكل وفد فلسطيني موحد يمثل (م.ت.ف) وفصائل المعارضة. وقد قدم الوفد الفلسطيني الموحد إلى اللجنة الوزارية اللبنانية في لقائهما الأول (أيلول / سبتمبر 1991) مذكرة بعنوان "الحقوق المدنية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان". وعلى الإثر طلب الجانب اللبناني مهلة زمنية لدراسة المذكرة، لكنه لم يرد على المذكرة أبداً. وهكذا علق الحوار اللبناني - الفلسطيني الذي لم يكد يبدأ بعد. وهناك تفسير لهذا الموقف يقول إن الجانب اللبناني لم يشأ تقديم أية تعهدات أو تنازلات بشأن الحقوق المدنية قبل اتضاح نتائج التسوية الإقليمية في إطار مؤتمر مدريد (تشرين الثاني/نوفمبر 1991)، الذي تشكلت في سياقه "مجموعة عمل اللاجئين" -Refugee Working Group  - بيد أن الحوار قد استؤنف مرة أخرى في عهد الرئيس إميل لحود، حيث قام عضو اللجنة التنفيذية لـ (م.ت.ف) الدكتور أسعد عبد الرحمن بزيارة إلى لبنان في أبريل / نيسان 1999 التقى خلالها الرؤساء الثلاثة وقدم مذكرة إلى نظيره اللبناني، المكلف باستئناف الحوار الدكتور عصام نعمان.

طالبت المذكرة الموقعة بتاريخ 25/4/1999 الدولة اللبنانية بإصدار تشريعات تمنح الفلسطينيين حقوقاً مدنية واجتماعية. وقد بدا للوهلة الأولى أن هذه الخطوة تشكل انفتاحاً جدياً من قبل الدولة اللبنانية باتجاه الحوار حول حقوق الفلسطينيين الأساسية، إلا أنها كسابقتها انتهت بخيبة أمل فلسطينية، إذ لم تستجب الدولة اللبنانية لأي من المطالب الواردة في المذكرة، نظراً إلى غياب الإرادة السياسية لمعالجة هذا الملف. وهكذا علق الحوار مرة أخرى. وعلى العكس من ذلك، شهدت هذه المرحلة تراجعاً في الحقوق الممنوحة للفلسطينيين حتى ذلك الحين، بل انتهاكاً صارخاً لهذه الحقوق. وتمثل ذلك في صدور المرسوم رقم  478 في العام 1995 الذي فرض على الفلسطينيين من المقيمين في لبنان الراغبين في المغادرة والعودة إليه الحصول على تأشيرة دخول من إحدى القنصليات اللبنانية في الخارج. كما صدر القانون 296 في العام 2001 الذي عدل قانون تملك الأجانب، بحيث حرم الفلسطينيين المقيمين في لبنان حتى من مجرد امتلاك شقة سكنية بذريعة محاربة التوطين. واستمرت مرحلة الإهمال المتعمد هذه إلى العام 2005 الذي تم في بدايته اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

وقد شهدت هذه المرحلة تدهوراً ملحوظاً في الأوضاع المعيشية للفلسطينيين فسجلت إزدياداً مطرداً في معدلات البطالة والفقر. وتميزت بتدهور شروط الصحة البيئية في المخيمات، بسبب هشاشة هياكل البنى التحتية وبفعل الاكتظاظ السكاني، الذي فاقم من حدته الحظر الذي فرضه الجيش اللبناني على دخول مواد البناء اللازمة لتحسين شروط المساكن أو توسيعها، في ظل حرمان الفلسطينيين من تملك ولو شقة سكنية خارج المخيم.

كما شهدت تراجعاً كبيراً في مستويات التعليم كافة من خلال تدني نسب النجاح في امتحان الشهادة الرسمية "البريفيه" وارتفاع نسبة التسرب من المرحلة التكميلية قبل الوصول إلى مرحلة التعليم الثانوي، فضلاً عن تقلص فرص التعليم الجامعي.

وقد ترافق ذلك كله باستمرار العجز في موازنة الأونروا السنوية وتراجع مختلف خدماتها بسبب عدم مجاراة الزيادة في الموازنة للزيادة السكانية وازدياد الطلب على تلك الخدمات.

  • مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس الحريري (2005)

شهدت مرحلة ما بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، انفتاحاً كبيراً على منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية وفصائل العمل الوطني الفلسطيني بشكل عام. وقد توج هذا الانفتاح بعدد من الخطوات الملموسة أهمها: زيادة كثافة الاتصالات بين الدولة اللبنانية من جهة والمنظمة والسلطة والفصائل من جهة أخرى؛ إنشاء لجنة خاصة تابعة مباشرة لمكتب رئيس مجلس الوزراء اللبناني الأستاذ فؤاد السنيورة، مهمتها إجراء الحوار مع الجانب الفلسطيني، سميت "لجنة الحوار اللبناني - الفلسطيني" (تشرين الأول / أكتوبر 2005)؛ إعادة فتح مكتب منظمة التحرير في بيروت (أيار / مايو 2006). وبذلك، بدا أن الدولة اللبنانية باتت مستعدة لمناقشة ملف الوجود الفلسطيني في لبنان بطريقة أكثر عقلانية وتفهماً لظروف المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون في لبنان.

وجاءت الحرب على الإرهاب الذي كان قد تسلل إلى مخيم نهر البارد (أيار / مايو 2007) ممثلاً بحركة فتح الإسلام لتوجه ضربة قاصمة إلى مبادرة الحوار هذه، إذ تسببت هذه الحرب في تدمير المخيم بالكامل وتشريد سكانه كافة. وحتى اليوم وبعد مرور أكثر من ست سنوات على انتهاء تلك الحرب لم يتم إعمار نهر البارد بالكامل ولم تتم عودة سكانه إليه، على الرغم من الجهود الحثيثة التي بذلتها الأونروا والمجتمع الدولي، بذريعة عدم توافر الأموال الكافية لإتمام عملية الإعمار. وفي واقع الحال إن النظرة الأمنية للمخيمات من قبل الدولة اللبنانية بما في ذلك مخيم نهر البارد شكلت وتشكل العقبة الأساسية أمام إتمام إعمار المخيم وعودة سكانه إليه، حيث لا يزال موقع المخيم الأصلي ومحيطه منطقة أمنية يفرض عليها الجيش اللبناني قيوداً صارمة فيما يتعلق بحرية حركة السكان منها وإليها.

ولم توقف حرب نهر البارد وتداعياتها جهود المجتمعين الأهليين الفلسطيني واللبناني ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى من أجل مناصرة الحقوق الأساسية للفلسطينيين في لبنان والضغط على الدولة اللبنانية من أجل إحقاق هذه الحقوق، بل على العكس من ذلك تكثفت هذه الجهود بشكل ملموس ونجحت في إيجاد مناخات عامة في أوساط النخبة اللبنانية لتقبل مناقشة هذه المسألة بعقل منفتح. وكانت مسيرة 17 حزيران/يونيو 2010 لدعم حقوق الفلسطينيين التي توجهت إلى البرلمان اللبناني من جميع المخيمات والتجمعات الفلسطينية والتي شارك فيها أكثر من مئة جمعية أهلية لبنانية وفلسطينية مثالاً ساطعاً على حيوية المجتمعين الأهليين اللبناني والفلسطيني في دعم حقوق الفلسطينيين.

V. المشهد الحالي (ما بعد التشريعات البرلمانية الجديدة في آب/أغسطس 2010)

وفي ظل المناخات السياسية التي أعقبت تشكيل حكومة الوحدة الوطنية برئاسة سعد الحريري وإعلان بيانها الوزاري (2/12/2009) الذي أكد ضرورة تحسين الظروف المعيشية للاجئين الفلسطينيين في لبنان والتخفيف من معاناتهم إلى حين التوصل إلى حل عادل ودائم لمشكلة اللاجئين على أساس تطبيق حق العودة وفقاً للقرار 194، طرح أكثر من حزب لبناني اقتراحات قوانين على البرلمان لمعالجة مسألة الحقوق الفلسطينية بالتركيز على حقي العمل والتملك. وهذه الأحزاب هي: الحزب التقدمي الاشتراكي؛ الحزب السوري القومي الاجتماعي؛ تكتل 14 آذار ممثلاً بتيار المستقبل والقوات اللبنانية. وفي جلسته العامة بتاريخ 17/8/2010 ناقش البرلمان اللبناني اقتراح القانون المقدم من الحزب التقدمي الاشتراكي في شقه المتعلق بحق العمل وأجل النقاش في الشق الآخر المتعلق بحق التملك إلى أجل غير مسمى لارتباط حق التملك في نظر بعض المشرعين اللبنانيين بملف التوطين. وكانت نتائج الجلسة مخيبة لآمال اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين الداعمين لحقوق الإنسان الفلسطيني في لبنان، فضلاً عن تطلعات نشطاء منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية، إذ أقرّ البرلمان القانون رقم 129 الذي عدّل الفقرة الثالثة من المادة (59) من قانون العمل اللبناني، وكذلك القانون رقم 128 الذي عدّل الفقرة الثالثة من المادة (9) من قانون الضمان الاجتماعي. وجاءت القوانين الجديدة ملتبسة ولم تلبِّ الحد الأدنى المطروح في اقتراحات القوانين الثلاثة المذكورة وحتى أدناها سقفاً:

  1. أعفت التعديلات على قانون العمل العامل الفلسطيني من شرط المعاملة بالمثل، لكنها أبقت على شرط حصوله على إجازة العمل بوصفه أجنبياً في نظر القانون اللبناني، كما أعفته من رسوم إجازة العمل، علماً بأن العامل الفلسطيني وفقاً لقرارات وزارية سابقة كان يدفع 25% فقط من قيمة هذه الرسوم. أبقت التعديلات على شرط تقديم المستندات الواجب تقديمها إلى وزارة العمل للحصول على الإجازة وخاصة عقد العمل، أي أنها حافظت على الآلية السابقة التي تجعل العامل الفلسطيني يدور في حلقة مفرغة بين وزارة العمل ورب العمل والتي تعرضه لابتزاز أرباب العمل واستغلالهم. في حين كان المطلوب إلغاء إجازة العمل بالنسبة إلى الفلسطيني أو على الأقل إعفاؤه من تقديم المستندات اللازمة للحصول عليها. 
  2. أبقت تلك التعديلات على الحظر المفروض على مزاولة الفلسطينيين للمهن الحرة مثل الطب والمحاماة والهندسة وغيرها، حيث أنها لم تلغِ شرط المعاملة بالمثل الذي لا يمكن تطبيقه في الحالة الفلسطينية بسبب عدم وجود دولة فلسطينية تطبق هذا المبدأ بالنسبة إلى الرعايا اللبنانيين. وبهذا لم يترك للفلسطينيين سوى مزاولة المهن اليدوية والمكتبية بشرط الحصول على إجازة العمل، علماً بأن السماح بمزاولة هذه المهن بالنسبة إلى الأجانب بمن فيهم الفلسطينيون هي من صلاحيات وزراء العمل نفسها ولا تحتاج إلى تشريع من المجلس النيابي. 
  3. بالنسبة إلى الضمان الاجتماعي سمحت تلك التعديلات للعامل الفلسطيني المنتسب إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي الاستفادة من فرع تعويضات نهاية الخدمة التي يساهم فيها العامل نفسه ورب العمل، بعدما كان العامل الفلسطيني يدفع مساهمته في فروع الصندوق الثلاث (23,5%): تعويض نهاية الخدمة (8,5%)، فرع المرض والأمومة (9%) وفرع التعويضات العائلية (6%) من دون أن يكون له حق الاستفادة سوى من تعويضات نهاية الخدمة. وهكذا أخضعت تلك التعديلات العامل الفلسطيني المنتسب إلى صندوق الضمان الاجتماعي لدفع ما نسبته (23,5%) والاستفادة من (8,5%) فقط. حيث لم تسمح له بالاستفادة من فرعي الصندوق المتعلقين بالتعويض العائلي والأمومة والمرض.

والأهم من ذلك أن هذين القانونين (128 و 129) ظلا حبراً على ورق ولم يدخلا حيز التنفيذ العملي حتى الآن، وبالتالي فهما لم يغيرا من الواقع المزري لعمل الفلسطينيين في لبنان وحقوقهم في العمل والضمان الاجتماعي. كيف؟ ولماذا؟ : من المعلوم أن القوانين تحتاج إلى مراسيم تطبيقية صادرة عن السلطة التشريعية لكي تدخل حيز التنفيذ. وهذه المراسيم لم تصدر حتى الآن على الرغم من مرور حوالي ثلاث سنوات على إقرار القانونين المذكورين. ما حصل على وجه التحديد أن وزير العمل السابق في حكومة تصريف الأعمال بطرس حرب أصدر في شباط / فبراير 2011 قراراً وزارياً يتعلق بتنظيم عمل اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، وبهدف جلاء جوانب الغموض التي تكتنف تطبيق القانون رقم 129 وأحاله إلى مجلس شورى الدولة لإقراره. لكن المجلس ردّ قرار الوزير لأسباب منها كونه صادر عن وزير في حكومة تصريف أعمال تنحصر صلاحياتها في التعامل مع الأمور الطارئة فحسب. وفي خطوة أخرى أصدر وزير العمل في الحكومة اللاحقة شربل نحاس (22/2/2012) قبيل أيام فقط من تقديم استقالته القرار رقم 26 وحدّد بموحبه آلية منح إجازة العمل للأجراء الفلسطينيين في لبنان والمستندات الواجب تقديمها مع طلب إجازة العمل. غير أن وزير العمل الحالي سليم جريصاتي ألغى هذا القرار. وهكذا ظل القانون رقم 129 على علّاته أسير التجاذبات في بازار السياسة اللبنانية.

ومن جهة أخرى، أصدر المدير العام للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي بتاريخ 22/5/2011 المذكرة الإعلامية رقم 437 حدّد فيها الأصول الواجب اعتمادها في تطبيق القانون رقم 128. وجاء في الفقرة السادسة من المذكرة:  "تبقى الأحكام القانونية والنظامية النافذة حالياً في كل ما يتعلق بخضوع العمال اللاجئين الفلسطينيين لفرعي ضمان المرض والأمومة والتقديمات العائلية دون أي تعديل".

وخلاصة الأمر، تبيّن أن القانونين 128 و 129 وما تبعهما من إجراءات إدارية لم يقدما تسهيلات جديدة بخصوص حصول الفلسطينيين على حقهم في العمل والضمان الاجتماعي، كما تبين لغة الأرقام: بحسب مصادر وزارة العمل لم يتقدم في العام 2009 أي عامل فلسطيني بطلب جديد للحصول على إجازة عمل، ولكن كان هناك 66 طلب تجديد إجازة عمل تقدم بها عمال فلسطينيون. وهذا الواقع لم يتغير كثيراً بعد العام 2010. ومن جهة أخرى تشير بيانات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي إلى أنه حتى شباط / فبراير 2012 بلغ عدد العمال الفلسطينيين المسجلين في الصندوق 2375 عاملاً وأن 44 عاملاً منهم فقط يستفيدون من أحكام القانون الجديد.

وبالعودة إلى مداولات البرلمان اللبناني يمكن القول أن المشرع اللبناني قد التفّ على حقوق الفلسطينيين الأساسية وتمكن من إفراغ اقتراحات القوانين المقدمة إلى البرلمان من مضمونها الفعلي ليس فقط فيما يتعلق بحق العمل، بل فيما يتعلق بحق التملك الذي أرجئت مناقشته إلى أجل غير مسمى حيث جرى ربطه على نحو مضلل بفزاعة التوطين وإدخاله في سوق المزايدات اللبنانية والبازار السياسي اللبناني.

وإزاء هذا الواقع يرى نشطاء المجتمع الأهلي الفلسطيني وأقرانهم من نشطاء المجتمع الأهلي اللبناني الداعمين لحقوق الفلسطينيين أن هناك ضرورة ملحّة لإعادة تفسير التشريعات اللبنانية ومواءمتها مع المعايير الدولية من أجل تأسيس معيار أكثر صلابة لحقوق اللاجئين الفلسطينيين يستند إلى واقع إقامتهم الطويلة في لبنان وإلى المعايير والأعراف المتبعة في معاملة اللاجئين في العالم. ويلفت هؤلاء النشطاء نظر المشرع اللبناني إلى أهمية إدراك أن الإقامة الطويلة وليس التمتع بالجنسية هو المعيار المعتمد لحصول اللاجئين والمهجرين على حقوق الإنسان الأساسية في البلدان التي تلتزم المواثيق والمعايير الخاصة بحقوق الإنسان. وهذا ما ينبغي أن ينطبق على اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في لبنان إلى حين عودتهم. ويرى بعض القانونيين اللبنانيبن والفلسطينيين، إضافة إلى نشطاء المجتمع الأهلي الفلسطينيي أن الخطوة الأولى والأساسية على هذا الطريق يجب أن تبدأ بتأسيس وضع خاص للاجئين الفلسطينيين في لبنان (Separate Legal Status) يميزهم عن الأجانب. 

VI. خاتمة

يناضل الفلسطينيون في لبنان من أجل نيل طيف أوسع من حقوق الإنسان الأساسية، ويربطون نضالهم هذا بشكل وثيق مع حقوقهم الوطنية غير القابلة للتصرف، وفي المقدمة منها حق  العودة وحق تقرير المصير. وعلى هذا الأساس فهم ينظرون إلى مسألة التمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بوصفها وسيلة لتخفيف معاناتهم اليومية واستراتيجية للبقاء و"رصيد" مهم في نضالهم الطويل من أجل العودة. ولا يعتبرون أن الحصول على تلك الحقوق يمكن أن ينتقص، بأي حال من الأحوال، من حقهم في العودة أو يمكن أن يؤدي إلى التوطين، كما يروج لذلك خطاب بعض النخب اللبنانية. بل على العكس من ذلك يرى الفلسطينيون في لبنان أن أي خطاب لبناني رسمي أو غير رسمي يدعو إلى دعم حق العودة ورفض التوطين، من دون أن يرتبط بموقف واضح وصريح بمنح الفلسطينيين أوسع طيف ممكن من حقوق الإنسان الأساسية، هو خطاب فارغ من المضمون ومعادل لتهجيرهم من لبنان. وعليه يدعون الدولة اللبنانية إلى العمل معاً من أجل رفض التوطين الذي يشكل ثابتة وطنية فلسطينية - لبنانية مشتركة، وذلك عبر بوابة الحقوق، التي من شأنها تمكين الفلسطينيين من رفض أية مخططات للتوطين قد تملى من الخارج على الفلسطينيين واللبنانيين على حدّ سواء. 

وقد عبر الفلسطينيون عن جدلية "الحقوق / العودة" هذه بشكل لا يقبل الالتباس في أكثر من مناسية: نذكر منها مسيرة 17 حزيران/يونيو 2010 التي توجهت إلى البرلمان اللبناني من كافة المخيمات والتجمعات الفلسطينية وشارك فيها أكثر من مئة جمعية أهلية لبنانية وفلسطينية والتي رفعت شعار "بدنا نعيش بكرامة إلى حين العودة". وكذلك أيضاً "مسيرة العودة" بمناسبة الذكرى الثالثة والستين للنكبة (15 أيار/مايو 2011) التي شارك فيها أكثر من 70 ألف فلسطيني جلّهم من أبناء الجيل الثالث للنكبة الذين ولدوا في الشتات. توجهت المسيرة إلى الحدود اللبنانية - الفلسطينية وكان المشهد مهيباً بحق، حيث حمل العديد من أبناء هذا الجيل أجدادهم وجداتهم على ظهورهم صعوداً إلى تلّة مارون الراس المطلة على فلسطين. اقتحم الشبان الأسلاك الشائكة التي تفصلهم عن أرض وطنهم، مقدمين ستة من الشهداء سقطوا على السياج مباشرة. وقد نظم الفلسطينيون مسيرات مماثلة إلى الحدود السورية والأردنية مع فلسطين. مسيرات العودة هذه إلى الحدود مع فلسطين نجحت في أن تبعث للعموم برسالة غاية في الوضوح تتعلق بتمسك اللاجئين الفلسطينيين، وخاصة في لبنان بحق العودة، جيلاً بعد جيل، في الوقت الذي يناضلون فيه من أجل حياة كريمة ولائقة يتمتعون فيها بحقوق الإنسان الأساسية.

 

[1] أنظر: شعبان وآخرون (2010)، مسح اجتماعي واقتصادي للاجئين الفلسطينيين في لبنان. الجامعة الأمريكية/بيروت ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين في الشرق الأدنى( أونروا)، بيروت ، لبنان.

[2]    Fact & Figures Sheet, Communications Office, UNRWA Headquarters ( Gaza), January 2012

[3]  أنظر:

Michael C. Hudson, "Palestinians and Lebanon: the Common Story",  Journal of Refugee Studies, vol.10, no.3 (September 1997) p.245.

Read more