"حماس" مدخل الإخوان المسلمين إلى الشرعية السياسية
كلمات مفتاحية: 
حركة المقاومة الإسلامية
حماس
المقاومة الفلسطينية
الإخوان المسلمون
الإسلام السياسي
الاحتلال الإسرائيلي
الانتفاضة 1987
نبذة مختصرة: 

خلال الانتفاضة الأولى في العام 1987 أعلنت حركة حماس عن انطلاقتها، فكان ذلك إيذاناً بدخول الإسلام السياسي إلى ميدان العمل السياسي على الساحة الفلسطينية. وتتناول هذه المقالة صعود حركة حماس في الأراضي الفلسطينية المحتلة وعلاقة "حماس" بالحركة التي انبثقت منها أي حركة الإخوان المسلمين، إضافة إلى الظروف الفلسطينية والعربية والإقليمية التي ساهمت في نجاح "حماس" كحركة مقاومة فلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي.

النص الكامل: 

تخصص "مجلة الدراسات الفلسطينية" ملف هذا العدد لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، القوة الصاعدة في المناطق المحتلة، والتي أثار إبعاد المئات من قادتها ومناضليها إلى لبنان، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، غضباً فلسطينياً وعربياً عارماً، واستنكاراً عالمياً. ويلقي الملف، من خلال مساهمات متعددة، ضوءاً على: أسباب تعاظم قوة حماس في المناطق المحتلة؛ خلفية تاريخية سياسية للحركة؛ قوتها العددية في الهيئات التمثيلية المنتخبة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وما يمكن استخلاصه من نتائج بناء على ذلك؛ علاقتها بمنظمة التحرير الفلسطينية، والمفاوضات المتعثرة بين الطرفين لإيجاد صيغة تعاون تكفل انضمام حماس إلى المنظمة ومنع الاحتكاكات بين كوادرهما المناضلة في الساحة. كما يشتمل الملف على محضر الاجتماعات التي جرت بين ممثلين عن حماس وفتح في الخرطوم، في أوائل كانون الثاني/ يناير الماضي، والبيان المشترك الصادر في نهاية الاجتماعات، ومقتطفات من ميثاق حماس. ونلفت النظر إلى المادة الإضافية المتعلقة بحماس في باب "الوثائق"، وإلى مقالة فيليتسيا لانغر في باب "مقالات". 

                               "حماس": مدخل الإخوان المسلمين إلى الشرعية السياسية  

حتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في كانون الأول/ ديسمبر 1987 كانت شرعية العمل السياسي الفلسطيني لا تزال، بالنسبة إلى الأغلبية العظمى من فلسطينيي الأرض المحتلة، حكراً على القوى الوطنية المنضوية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت الحياة والنشاطات السياسية، بما تتضمن من تنسيق وائتلافات واختلافات، تتم في أغلبيتها بين هذه القوى وتحت مظلة المنظمة، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني (يأتي تأليف القيادة الوطنية الموحدة بعد اندلاع الانتفاضة من ممثلي القوى الفلسطينية الأربع الفاعلة على الساحة الداخلية مُعبّراً عن هذا التوجه العام). مع ذلك، ومنذ نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات، بدأت الساحة السياسية الفلسطينية داخل الأرض المحتلة تشهد انبثاقاً وتصاعداً سياسياً للحركة الإسلامية الممثِّلة للإخوان المسلمين، والتي انطلقت لتعزيز بنيتها المؤسسية في قطاع غزة، ووجدت لنفسها في الجامعات والمعاهد العليا بؤراً فعالة للنشاط السياسي على ساحة الضفة.

جاء الانبثاق والتصاعد السياسي للحركة الإسلامية داخل الأرض المحتلة نتيجة مؤثرات  وعوامل مركبة. وكان من أهم الأسباب نجاح الثورة الإسلامية في إيران، وتصاعد تأثير الحركات الإسلامية في مصر، وذلك في الوقت الذي شهدت الساحة العربية انحساراً شديداً للحركة القومية، في حين عانت الساحة الفلسطينية تضعضع مكانة منظمة التحرير بعد خسارة الساحة اللبنانية سنة 1982.[1]  ويجب أن لا يغيب التنويه بالمساعدات المالية التي تلقتها هذه الحركة من مصادر تمويل عربية محافظة، كانت تهتم بإيجاد توازنات سياسية داخل الساحة العربية والفلسطينية، ولا بغضِّ الطرْف الإسرائيلي عن نشاطاتها، في محاولة إسرائيلية مكشوفة لتطبيق نظرية "فرِّق تسُد" على الفلسطينيين.[2]

وعلى الرغم من العمل الدؤوب والمنظم لإرساء دعائم البنية المؤسسية للحركة الإسلامية داخل الأرض المحتلة خلال الثمانينات، وبروز كتل إسلامية خاضت الانتخابات منافسة تآلف القوى الوطنية في أكثر من موقع، ولا سيما الجامعات والمعاهد العليا، فإن هذه الحركة لم تحظ حينئذ بشرعية القبول من أغلبية فلسطينية عريضة. ومن أهم الأسباب لذلك أن القوى الوطنية كانت، إضافة إلى قوة التنظيم والتمويل داخل الأرض المحتلة التي تحولت إلى ساحة رئيسية عقب الخروج الفلسطيني من لبنان سنة 1982، تحظى بتأييد فلسطيني عريض لسجلها النضالي العريق والحافل في مجال مقاومة الاحتلال. فبالنسبة إلى أهل الأرض المحتلة لم يكن الكفاح المسلح شعاراً فحسب، بل كان أيضاً واقعاً يتجلى باستمرار بسقوط القذائف على شمال فلسطين المحتلة والقيام بالعمليات العسكرية الفدائية. أما داخل الأرض المحتلة، فقد كان واضحاً ان القوى الوطنية أخذت على عاتقها القيام بالكثير من المهمات الوطنية الأساسية والضرورية لمقاومة الاحتلال، ومن أجل شعب يرزح تحت نير الاحتلال؛ وخلال مرحلة النضال في سبيل التحرر الوطني، فإن مقاومة الاحتلال تمثل المدخل الوحيد لإضفاء الشرعية على أي فصيل أو تيار سياسي.

في المقابل، لم تنظر الحركة الإسلامية الممثِّلة للإخوان المسلمين بإيجابية إلى مقاومة الاحتلال في ظل الأوضاع السائدة حينئذ، ولم يكن ذلك المجال في واقع الأمر على رأس سلم أولوياتها. فهذا السلم كان مرتباً بحسب أولويات انصبت على إصلاح الفرد وإيجاد المجتمع الإسلامي القادر على إقامة الدولة الإسلامية. وبهذا التسلسل تنضج الأوضاع لفتح سجل مقاومة الاحتلال، وهي المقاومة التي ستبقى عدمية إن هي تمت من دون توفر شروطها الإسلامية. وبالإضافة إلى العزوف عن الانخراط في مقاومة الاحتلال، والنظرة السلبية إلى ما تقوم القوى الوطنية به في هذا المجال، لم تنجح الحركة الإسلامية في الحصول على تأييد قطاعات فلسطينية عريضة بسبب خطابها وممارستها السياسية المناوئة لمنظمة التحرير والمنافِسة للقوى الوطنية داخل الأرض المحتلة. فقد رأى الكثير من الفلسطينيين الحركة الإسلامية منافساً بديلاً يزاحم المنظمة، في وقت كانت الأخيرة تمثل الرمز الحيّ للعنفوان والمقاومة والتمسك بالحقوق الوطنية الكاملة والثابتة للشعب الفلسطيني. ويجب أن لا يغيب عن البال أن النظرية والدعوة والممارسة الاجتماعية المحافِظة للحركة الإسلامية ساهمت بتقييداتها في تقليص هامش شرعية الحركة قبل اندلاع الانتفاضة. ففي حين غابت عن هذه الحركة سمة مقاومة الاحتلال، قامت بفرض قيود انضافت إلى قيود الاحتلال على الناس، وبذلك فقد القدرة على إقامة العلاقة الإيجابية بقطاعات واسعة منهم. وانحصرت جراء ذلك شرعيتها في الكوادر الإسلامية الملتزمة فكرياً، وفي الشرائح المجتمعية التقليدية الإسلام.[3]

واندلعت الانتفاضة الفلسطينية، وتعرضت الحركة الإسلامية لأزمة ذاتية في سلم الأولويات؛ فقد ثبت علمياً إمكان – ناهيك بضرورة – استنهاض الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة في مقاومة شاملة للاحتلال، وذلك قبل أن يتم تحويله إلى المجتمع الإسلامي الصالح. وبدأت هذه الحركة تواجه ضغوطاً عملية من داخلها، ليس فقط بسبب أداء القوى الوطنية، بل ايضاً جراء أداء حركة الجهاد الإسلامي في مطلع الانتفاضة. وبدأت الحركة الإسلامية توائم نفسها سريعاً مع التطور المفاجئ. ونتيجة لعوامل كثيرة ومركّبة ليس هنا المجال لشرحها، برزت على الساحة الميدانية حركة المقاومة الإسلامية التي أصبحت تعرف باسم "حماس".[4] وفي آب/ أغسطس 1988 صدر ميثاق "حماس" الذي أوضح أنها "فرع من أفرع حركة الإخوان المسلمين"، وبيّن أهدافها وبرنامجها، وخصوصاً فيما يتعلق بالعلاقة بمنظمة التحرير الفلسطينية من جهة، وبالحق الإسلامي في فلسطين الكاملة، مبيّناً طبيعة الحل التاريخي المرتقب للصراع مع اليهود في فلسطين، من جهة أخرى.[5]

وعلاوة على أن نوعية العلاقة الترابطية بين "حماس" والإخوان المسلمين سمحت بتوسيع دائرة الفاعلية السياسية لجسم انقسم تكتياً إلى طرفين، فإنها أدّت أيضاً إلى إحداث تغيير نوعي ومتدرِّج في الصورة المختزنة عن الحركة الإسلامية لدى قطاعات فلسطينية عريضة داخل الأرض المحتلة؛ فتشكيل "حماس" كحركة مقاومة للاحتلال، وانخراط كوادرها في فعّاليات الانتفاضة الميدانية بصورة واضحة وفعّالة، كانا أهم خطوة اتخذتها جماعة الإخوان المسلمين على طريق اكتساب الشرعية السياسية داخل الساحة الفلسطينية. فبهذا التوجه وهذه الممارسة سقط الفارق الأساسي فيما يتعلق بمسألة الحصول على الشرعية السياسية بين "حماس" والقوى الوطنية (مقاومة الاحتلال)، وزال الحاجز الذي حدّ في السابق مستوى التأييد الجماهيري لجماعة الإخوان المسلمين فلسطينياً. وحصلت حركة المقاومة الإسلامية بهذا التحول، على صعيد السياسات، ومن خلال الممارسة الميدانية الانتفاضية، على موطئ قدم فسيح في الخريطة السياسية الفلسطينية. وأصبح الفارق الآن بين القوى الوطنية من جهة، وحماس من جهة أخرى، لا يتمثل في نوعية الأداء، بل إنه اقتصر على فعاليته ومستواه؛ إذ كان المهم بالنسبة إلى الجماهير الفلسطينية في هذه المرحلة الاستنهاضية هو مقاومة الاحتلال؛ والتأييد تحدّد لاحقاً بمقدار الممارسة.

لم يتوقف التنافس السياسي بين القوى الوطنية و"حماس" نتيجة لذلك، بل على العكس تصاعدت حدته في المرحلة اللاحقة. فعلى الرغم من انخراط كوادر "حماس" في مقاومة الاحتلال، وما تمخض عن ذلك من شهداء وجرحى ومعتقلين في سجون الاحتلال، وهو ما أدى إلى توفر قاسم مشترك ميداني بين هذه الحركة والقوى الوطنية في أكثر من مجال، فإن العلاقة التنافسية استمرت في التحكم في المجال السياسي بينهما.[6]  وسعت "حماس" جاهدة لزيادة قوتها السياسية من أجل الحصول على أكبر قدر من الفاعلية التأثيرية على القرار الفلسطيني، وذلك من خلال الاستفادة من ثغرة الشرعية التي فتحتها لنفسها في حائط الحياة السياسية الفلسطينية. وأرادت استثمار نجاحها في إحداث تحوُّل في النظرة الجماهيرية إليها لكسب المزيد من المؤيدين، كي تتمكن من منافسة القوى الوطنية وإحداث التغيير اللازم بحسب نظرها في الطبيعة العلمانية لمنظمة التحرير، أي إن "حماس" أرادت لنفسها موقعاً متميزاً ومؤثراً داخل خريطة القوى السياسية الفلسطينية. وفي حين أن القوى الوطنية وجدت في "حماس" منافساً غير مرغوب فيه لأنه يقتطع من قوتها ونفوذها ويحدّد المجال السياسي عليها، وجدت أعداد متزايدة من الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة أن التنافس بين الطرفين آخذ في التحول إيجابياً ما دام التركيز منصباً على مقاومة الاحتلال. وبدأت "حماس" تقطف ثمار مواقفها الميدانية والسياسية تأييداً شعبياً متنامياً.

بعد ان نجحت "حماس" ميدانياً في تثبيت نفسها أمام فلسطينيي الأرض المحتلة كقوة موازية، وإلى حد ما متكافئة، للقوى الوطنية، وذلك عن طريق إصدار بياناتها الخاصة وفرض الالتزام بمواعيد الإضرابات المعيِّنة من قِبلها، بدأت في تثبيت المنافسة السياسية للقوى الوطنية عملياً، وذلك بمواجهتها انتخابياً في مواقع قطاعية مختلفة، كالانتخابات المهنية والنقابية والطلابية.[7]  وساعدها في هذه المنافسة عدد من العوامل المركَّبة.

على الصعيد المحلي، استفادت "حماس" من الدعم المادي المقدَّم من مصادر عربية متنوعة، رسمية وغير رسمية، في بناء شبكة مؤسساتية خدمية متشعبة ومتنوعة في مجالات متعددة، كالصحة والتعليم ورياض الأطفال ومراكز الدراسات والأبحاث. ووفّرت هذه البنية بدائل عالية التنظيم والفاعلية لمثيلاتها "الوطنية"، وتمايزت عن معظمها في نوعية الخدمة المقدَّمة، والمتسمة بقلة التكاليف المطلوبة من المواطن من جهة، والممزوجة بدماثة في خُلق العاملين وحُسن معاملتهم للمواطن من جهة أخرى. وابتدأ الكثير من الفلسطينيين، ولا سيما من عامة الشعب، يجد في مؤسسات "حماس" متنفساً للحصول على الخدمة والرعاية غير الممزوجة بالفئوية والتناحر السياسي أو الاستعلاء العقائدي، أو التكسب والارتزاق المستشري في الظاهرة "الدكاكينية" الملازمة للكثير من المؤسسات "الوطنية" وباختصار، أعطت "حماس" بمؤسساتها الخدمية مثالاً حياً على ترجمة الفكر إلى وعي وعمل ملتزم، واستطاعت بذلك اختراق المجتمع الفلسطيني والتأثير في أعرض قطاعاته (الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى وما دون)، في حين ظهر انفلاش الكثير من المؤسسات الخدمية التابعة للقوى الوطنية، وشاع بين الناس التندّر باستخدامها واجهات للتكسب الشخصي والثراء غير المشروع.[8]

وعلى الصعيد الإقليمي، استفادت "حماس" من تزايد تأثير الصحوة الإسلامية في العالم العربي تحديداً، والعالم الإسلامي عامة. فمع هذه الصحوة بدأ المجتمع الفلسطيني تحت الاحتلال يميل نحو المحافظة تلقائياً، فهو مجتمع أغلبيته العظمى إسلامية، ويتأثر بالمناخ الإسلامي العام المحيط به. ومن المؤشرات المرافقة لهذا التحول المتدرج، لكن المستمر، ازدياد عدد المساجد والمصلّين ازدياداً ملحوظاً منذ مطلع الثمانينات، وازدياد التزام المظاهر الإسلامية، كارتداء الزي الإسلامي من قِبل عدد متصاعد من النساء وإطلاق اللحى من قِبل الرجال.

كما استفادت "حماس" من التحولات الديمقراطية في الأردن، والتي كان من نتائجها مجلس نواب يضم اثنين وثلاثين نائباً إسلامياً من مجموع ثمانين نائباً. فبالإضافة إلى التسهيلات والمساعدات التي تلقتها "حماس" عبر حركة الإخوان المسلمين في الأردن، فإن التجربة النيابية أدت إلى تزايد القبول الفلسطيني في الأرض المحتلة لشرعية "حماس". فالتزام النواب الإسلاميين مبادئ العمل النيابي الديمقراطي في الأردن (كان من الممكن لكثير من فلسطينيي الأرض المحتلة مراقبة ذلك من خلال متابعة نشرات الأخبار والندوات السياسية الأردنية المتلفزة)، أعطى مثالاً حياً ومستمراً على إمكان تحقق ذلك على الساحة الفلسطينية. وفي الواقع، أصبحت التساؤلات داخل هذه الساحة تزداد بشأن جدوى وفاعلية استثناء "حماس" من العمل الفلسطيني المشترك، ولا سيما أن القيادة الوطنية الموحدة دعت في كثير من البيانات إلى ضرورة التنسيق والعمل المشترك، وأشادت في بيانات أخرى بمواقف الحركة الإسلامية. وباختصار، ألغى العامل الإقليمي، وخصوصاً التطورات التي شهدتها الساحة السياسية الأردنية، الكثير من التخوفات والتحفظات المسبقة حيال "حماس" من قِبل أعداد متزايدة من فلسطينيي الأرض المحتلة.

أما على الصعيد الدولي، فقد شهدت فترة الثمانينات تحولات أيديولوجية وعملية عميقة عصفت بالكتلة الشرقية وأدت في نهاية المطاف إلى انهيارها سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وتبع ذلك تفكك الاتحاد السوفياتي وتفسّخه إلى دول عدة. ولم يقتصر أثر هذه التحولات على تحول النظام الدولي من مرحلة ثنائية القطبية إلى مرحلة تفرد الولايات المتحدة بمقدّراته السياسية والعسكرية، وما نجم عن ذلك من تحولات جذرية في السياسة والعلاقات الدولية، بل إن هذه التحولات أدت أصلاً إلى تسديد ضربة قاصمة إلى المنطلقات الأيديولوجية الماركسية التي تمثلت في أنماط الحكم في الكتلة الشرقية. وكان لهذه الضربة الأيديولوجية آثارها السلبية والموجعة على مختلف الحركات الماركسية والحركات ذات التوجه الماركسي في شتى أرجاء العالم، وعلى الساحة الفلسطينية بالتأكيد. إذ إنه نتيجة للتطورات الدولية، فقدت هذه الحركات بريق أيديولوجيتها و"أمثولتها" العملية الناجحة، التي كانت عامل استقطاب أساسياً لكوادرها ومناصريها. وبينما بدأت الحركات الماركسية اليسارية تمرّ في المحنة الأيديولوجية، وأصبحت تعاني آثارها السلبية، أصبح لدى الإسلاميين متنفس أوسع للضغط الأيديولوجي، وأصبحت عملية إقناع أعداد متزايدة من الفلسطينيين بصحة الدعوة والحجّة الإسلامية أسهل كثيراً مما سبق.

ومما سهَّل هذه المهمة على "حماس" تحديداً، وعلى الحركات الإسلامية في العالم العربي عامة، أن الغرب لم يكن الأمثولة البديلة التي يمكن أن تُحتذى عربياً، وبالتأكيد فلسطينياً. فمظاهر العداء الغربي للإسلام والعروبة والقضية الفلسطينية كانت ماثلة للعيان وبصورة متصاعدة؛ فتحْت شعار "الأصولية" أصبح الإسلام مستهدفاً من الدول الغربية بوضوح شديد. أما العداء للعرب والقضايا العربية فقد ظهر بجلاء في الحرب المدمّرة التي شنّها "التحالف" بقيادة الولايات المتحدة على العراق، والإصرار اللاحق على ممارسة العقاب المستمر على شعب العراق. وكانت الازدواجية الغربية في التعامل في أعلى درجات جلائها باستمرار الدعم الغربي لإسرائيل والتنكّر للحقوق الوطنية الشرعية للشعب الفلسطيني، وهو أمر لم يكن بحاجة إلى برهان.[9]

أدى مجمل هذه العوامل المحلية والإقليمية والدولية إلى تسهيل مهمة "حماس" في الحصول على شرعية للوجود السياسي لجماعة الإخوان المسلمين على الساحة الفلسطينية من جهة، وإلى أن تصبح قوة سياسية ذات وزن وفاعلية داخل الأرض المحتلة من جهة أخرى. وفي الانتخابات القطاعية المختلفة في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين، وهي انتخابات محدودة ومحصورة العضوية، أصبحت "حماس" تستحوذ على نسبة من الأصوات تتراوح بين ثلث عدد الناخبين ونصْفه. وذلك في مقابل مجمل القوى الوطنية.[10]  وبعد أن أثبتت قوتها الانتخابية على هذا الصعيد من الانتخابات القطاعية، أصبحت "حماس" بناء على ذلك تطالب، كشرط لدخولها منظمة التحرير الفلسطينية، الحصول على 40% من مقاعد المجلس الوطني الفلسطيني، إضافة إلى تغيير التوجهات والسياسات الفلسطينية. ولم تجد القوى الوطنية في مجابهة هذا المطلب حينئذ سوى طرح التساؤلات بشأن مدى تمثيل هذه الانتخابات القطاعية المتفرقة والمحدودة للرأي العام الفلسطيني، ومدى تعبيرها عن قوة "حماس" الحقيقية في الشارع الفلسطيني. وعلى الرغم من مشروعية التساؤلات من الناحية النظرية، فقد وقعت القوى الوطنية في مأزق الازدواجية، إذ كانت هي ذاتها تقرّ قبل دخول "حماس" ساحة التنافس الانتخابي بتمثيلية هذه الانتخابات، وتعتمد عليها مؤشِّراً لقوتها على الساحة الفلسطينية، وخصوصاً عند غياب التنسيق واحتدام التنافس الانتخابي على التوزيع الفئوي بينها. وجاء ردّ "حماس" على هذه التساؤلات سريعاً، وواضحاً، وحاسماً، وتمثّل في المطالبة العلنية بإجراء انتخابات بلدية أو انتخابات عامة.[11]

وخلال استمرار "حماس" في خوض غمار عملية بناء شرعيتها السياسية، وفي أثناء احتدام التنافس مع القوى الوطنية في مسألة التمثيل والنسَب، واجه الفلسطينيون جميعاً مفترقاً حاسماً في عملية "السلام" الموجَّهة أميركياً. فبعد حرب الخليج، ونتيجة مباشرة لها، هندست الإدارة الأميركية في عهد الرئيس بوش مبادرة بإشراف الوزير بيكر، لإيجاد تسوية للصراع الفلسطيني/ العربي – الإسرائيلي. وفي حين وافقت أطراف فلسطينية وطنية على دخول عملية التسوية السياسية، أبدت "حماس"، بالاشتراك مع قوى وطنية فلسطينية أُخرى، معارضتها الفورية لهذه العملية. وبينما كانت معارضة "حماس" عقائدية ملتزمة رفض مبدأ التفاوض مع اليهود، اقتصرت المعارضة الوطنية على رفض الشروط والآلية – لا المبدأ ذاته – التي تمت العملية التفاوضية وفقها وبموجبها.

نالت العملية التفاوضية في مطلعها تأييداً واسعاً من قِبل الشعب الفلسطيني، ولا سيما داخل الأرض المحتلة. وعلى الرغم من التحذيرات القوية والمستمرة من قِبل الأطراف المعارضة، استبشرت أغلبية عريضة داخل الأرض المحتلة بالوعود المنثورة بقرب انتهاء محنتها مع الاحتلال الإسرائيلي، وبالنجاح الإعلامي المشهود للوفد الفلسطيني المفاوض، ولا سيما خلال "مؤتمر مدريد" وفي الفترة التي تلت ذلك مباشرة. وكان الانطباع السائد أن الوضع الدولي والإقليمي قد نضج لإيجاد تسوية للصراع الذي استمر طويلاً، وأن الإدارة الأميركية معنية بهذه التسوية بصورة مباشرة، ولذلك فإن العملية التفاوضية ستستمر بيسر وستؤدي بسرعة إلى اتفاقات تتضمن استحقاقات وطنية طال انتظارها.

طبعاً، لم يَرْقَ واقع العملية التفاوضية إلى مستوى التمنيات والتطلعات الفلسطينية، وتحديداً داخل الأرض المحتلة – محور التفاوض للمرحلة الانتقالية؛ فقد تعثرت المفاوضات جولة بعد أُخرى، وبقيت مأزقاً خانقاً بسبب التعنت الإسرائيلي من جهة، وعدمية المساهمة الأميركية من جهة أخرى. ورافق هذا التعثر تصاعُد الممارسات القمعية الإسرائيلية داخل الأرض المحتلة، والتي تزايدت حدّتها مع تطبيق إجراءات "القبضة الحديدية" من قِبل حكومة رابين التي كان من المنتظر أن تكسر حلقة التعثر التفاوضي أصلاً. وتكشّف بصورة متسارعة لكثير من الفلسطينيين في الأرض المحتلة أن إسرائيل تستخدم العملية التفاوضية غطاء لتثبيت وقائع مادية على الأرض، بهدف تحديد نتائج التفاوض مسبقاً، ولمصلحتها. فعمليات الاستيطان وشق الطرق الاستيطانية ومصادرة الأراضي وتحجيم التوسع العمراني العربي بقيت مستمرة على الرغم من الادعاءات الإسرائيلية النافية لهذه العمليات.

نتيجة لواقع العملية التفاوضية والوقائع الملموسة على الأرض، ومع مرور الوقت، بدأ المناخ السياسي داخل الأرض المحتلة يتحول بالتدريج. وانحسر التفاؤل والاستبشار ليحل مكانهما شعور بالعبثية الممزوجة بالإحباط. ومع ازدياد الشك في فاعلية العملية التفاوضية وإمكان تحقيقها أدنى مربوط الحقوق الوطنية الفلسطينية، جرى تحول متدرج، لكن مطّرد في مجرة النفوذ السياسي داخل الأرض المحتلة، فبدلاً من أن يستمر موقف المعارضة محصوراً في تشكيل الهامش السياسي في الضفة والقطاع، أخذت رقعة تأثيره تتسع وتمارس ضغطاً متزايداً على مركز الأحداث. وراح الموقف المؤيد للمفاوضات يفقد قوة الدفع ويتراجع أمام تصاعد حدة نقد المعارضة الذي أخذ صداه يتسع بين الناس.

في ظل هذا التطور، وجدت "حماس" لنفسها مجالاً جديداً لزيادة تأثيرها السياسي بين فلسطينيي الأرض المحتلة، إذ أصبحت معارضتها للعملية التفاوضية مصدراً إضافياً لتثبيت الشرعية وتوسيع النفوذ؛ فالتشدد في المواقف، حتى لو لم يكن مبدئياً أو واقعياً، ولا سيما حين يثبت أن التنازل عن حقوق لا يقدّم نتائج ملموسة، بات يجد استحساناً وقبولاً واسعين. وإلى جانب توظيفها لبنيتها التنظيمية والمؤسسية بفاعلية في هذا المضمار، وخصوصاً من خلال الوعظ والإرشاد في شبكة واسعة من المساجد، استفادت "حماس" من الشرخ الذي أحدثته "المسيرة السلمية" في بنيان القوى الوطنية. فانقسام هذه القوى في هذه المسألة بين مؤيد ومعارض (الذي جاء مُركّباً على انقسامات داخلية وتفسخات عاناها بعض الفصائل الوطنية)، وتراشق التُّهم ووقوع صراعات واقتتال بينها وضمنها، علاوة على بروز ترهّل البنى التنظيمية والمؤسسية التابعة لها، وشُح الدعم المالي المقدم لها ومن خلالها، كل ذلك أدى إجمالاً إلى تصدع "الهالة" المحيطة بالقوى الوطنية محلياً. ونتيجة للمهاترات والمزايدات وتوزع الولاءات، التي رافقت مرحلة انحدار الانتفاضة، إلى جانب تزايد عمليات التكسب والارتزاق بين صفوف القوى الوطنية، تقلص هامش احترام الناس للشخصيات "الوطنية"، وأصبحت النفعية تشكل الأساس الغالب للعلاقة الارتباطية بين الطرفين.

وفي الواقع، كانت أزمة القوى الوطنية متشعبة ومعقدة، وهي لم تقتصر على مأزق المفاوضات المتعثرة الذي أصاب القوى الوطنية المشاركة في "المسيرة السلمية"، بل شملت أيضاً القوى الوطنية المعارضة، لكن بصورة مختلفة. فبدلاً من معاناة مأزق المفاوضات، عانت هذه القوى المعارضة مأزق الازدواجية الظاهرية في الموقف السياسي. فمن ناحية، عارضت هذه القوى العملية التفاوضية منذ البداية، واتخذت موقفاً سياسياً ناقداً، ولاذعاً في الكثير من الأحيان، تجاه الأطراف والأشخاص الفلسطينيين المشاركين في هذه العملية. وفي هذا الموقف، وعلى الرغم من اختلاف المنطلقات، تلاقت القوى الوطنية المعارضة مع "حماس"، وتُرجم ذلك عملياً بإيجاد جبهة معارضة موحدة وإصدار بيانات سياسية مشتركة.[12]  ولا شك في أن هذا التطور عزَّز شرعية حركة المقاومة الإسلامية، التي أصبحت عنصراً رئيسياً في التشكيلة المعارضة.[13]

لكن، من الناحية الأخرى، وما عدا الموقف من العملية التفاوضية، بقيت القوى الوطنية المعارضة تعمل بتعاون وثيق مع القوى الوطنية المشاركة في هذه العملية. وبسبب اقتصار اتفاقها مع "حماس" على الموقف السياسي لا على الطروحات المتعلقة تحديداً بإعادة تنظيم المجتمع إسلامياً، دخلت القوى الوطنية المعارضة – وهي يسارية التوجُّه – تحالفات تكتّلية مع القوى المشاركة في عملية المفاوضات، وخاضت معها الكثير من الانتخابات القطاعية ضد "حماس". وعلى الرغم من مختلف التبريرات "الوطنية" المقدَّمة من هذه القوى، فإن أعداداً متزايدة من أهل الأرض المحتلة أخذت عليها ازدواجيتها؛ ففي حين أن هذه القوى تنتقد موقف المشاركين في المفاوضات، تقوم بتذييل نفسها بالمشاركة في قوائم انتخابية قطاعية يسيطر المشاركون في المفاوضات عليها.[14]  وكان لانتشار هذه النظرة آثار سلبية على نفوذ هذه القوى داخل الأرض المحتلة؛ فزاد انحسار ما تتمتع به من تأييد، كان أصلاً قد تضعضع بعد انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي.

على الرغم من الموقف السياسي البراغماتي الذي اتخذته "حماس" والذي تجلّى في تحالفها مع القوى اليسارية الماركسية المعارضة للمفاوضات، وهو موقف يمكن أن يؤخذ عليها باعتباره مناقضاَ لمنطلقاتها العقائدية، فقد ظهرت – بالنسبة إلى أعداد متزايدة – بصفتها أكثر قوة سياسية حافظت على التواؤم بين المنطلقات والممارسات. فقد تفرّدت بموقف سياسي معارض، استمر واضحاً و"نقياً" وخالياً من "شوائب" تعثر المفاوضات من جهة، وتبعية المعارضة الوطنية "الموالية" من جهة أخرى. وبمزج المعارضة، على الصعيد السياسي، بالعمل العسكري النوعي ضد سلطات الاحتلال، استحوذت "حماس" على إعجاب قطاعات واسعة من الفلسطينيين، مخترقة المجتمع حالياً، بدءاً بطبقته الوسطى باتجاه الأعلى، مروراً بحاجز المثقفين من ذوي الاتجاهات العلمانية. فقد استطاعت "حماس" نحت معادلة سياسية – نضالية كان الشارع الفلسطيني يتوق إليها في هذه المرحلة بالذات، وخصوصاً أن المشاركة في العملية التفاوضية ضمن الشروط والآلية "المجحفة" قد مسّت، بالنسبة إلى آراء ومشاعر الكثر من الناس (ولا سيما على مستوى العادة)، لا الخطوط الوطنية الحُمر فحسب، بل الكرامة الفلسطينية أيضاً.

لقد بدت "حماس" أنها تتسلَّم "الشعلة" في وقت تعب فيه الآخرون أو أصيبوا بالتشوش. فبينما بدأت قوى وطنية فلسطينية تبحث عن حل سياسي وهي في أضعف وضع ضمن المعادلة الدولية وضمن ميزان قوى غير مؤاتٍ لها (والنتيجة في هذه الحال معروفة)، وبينما قامت قوى وطنية أخرى بمعارضة ذلك لكن ضمن إجراءات  مشوشة ومزدوجة أثرت تأثيراً سلبياً في صدقية موقفها، أخذت "حماس" على عاتقها، ومن منظور إسلامي، رفع شعار حتمية الحل التاريخي الذي يبدأ بالمقاومة الفورية على الصعد كافة. ولم يتوقف الأمر عند طرح الشعار بل بوشر بترجمته عملياً، وبفاعلية استحوذت على الانتباه.

إن المؤثرات والتطورات التي مرّت "حماس" بها، مترافقة مع تغيّر واضح في الخطاب السياسي استبدل التركيز السابق على مجرد الوعظ لإصلاح الفرد والمجتمع بالتشديد على "النضال" و"مقاومة الاحتلال" في سبيل تحرير "الوطن" وتخليص "الشعب"،[15]  قد أدت إلى إبراز صورة مختلفة عن جماعة الإخوان من ناحية دعوتها إلى إعادة المجتمع إسلامياً في أذهان الناس. ويبدو أن الأطراف كلها، وعلى رأسها "حماس" نفسها، قررت ضمنياً تجاوز موضوع إعادة تنظيم المجتمع مرحلياً، لكونه ولّد إشكالية في مجال بناء الثقة بين الحركة الإسلامية الممثلة بجماعة الإخوان المسلمين وبين قطاعات عريضة من الفلسطينيين في الأرض المحتلة. وبهذا التجاوز من جهة، وبممارسة نضالية فعّالة من جهة أخرى، استطاعت "حماس" في الفترة التي تلت بداية المفاوضات تحويل النظام السياسي الفلسطيني من نظام "متعدد الأحزاب" لكن أحادي القطبية (فتح)، إلى نظام "متعدد الأحزاب" لكن ثنائي القطبية (فتح – حماس).

لم تكن سلطات الاحتلال غافلة عن الأمر؛ إذ كانت تراقب تطور الأوضاع السياسية في الأرض المحتلة، وتشنّ في الوقت ذاته حرباً ضروساً على المقاومة الفلسطينية. ونالت "حماس"، التي تم حظرها بقرار إسرائيلي سابق، نصيباً وافراً من المتابعة والملاحقة لتجميع صورة متكاملة عن بنيتها التنظيمية ونشاطاتها. وبسبب تعثر عملية المفاوضات على صعيد المسار الفلسطيني من جهة، وتزايد التذمر المعارض لاستمرار العملية التفاوضية على المنوال ذاته من جهة ثانية، وتطور البنية التنظيمية والمؤسسية لحركة "حماس" المعارضة وتصاعد نسبة تأييدها من جهة ثالثة، وازدياد عملياتها العسكرية الناجحة من جهة رابعة، قررت السلطة الإسرائيلية أن توجِّه إليها ضربة تفكيكية.

استغلت حكومة رابين حادث اختطاف وقتل جندي حر الحدود الإسرائيلي، نسيم طوليدانو، وقامت بتنفيذ عملية إبعاد جماعي في حق 415 فلسطينياً، تنتمي أغلبيتهم العظمى إلى حركة "حماس".[16]  وإضافة إلى ادعائها توجيه "عقاب صارم ورادع" رداً على مقتل طوليدانو وأربعة جنود آخرين في فترة زمنية قصيرة جداً، علّلت الحكومة الإسرائيلية قرار الإبعاد بأنه ضروري لتفكيك بنية "حماس" التنظيمية والسياسية والعسكرية من جهة، ولدفع عملية المفاوضات عن طريق إضعاف معارضتها داخل الساحة الفلسطينية من جهة أخرى.

بسبب ثبات المبعدين في موقع إبعادهم على الأرض اللبنانية من ناحية، وتوافق المصالح الفلسطينية واللبنانية والسورية مرحلياً، كل لأسبابه الخاصة، من ناحية ثانية، واستمرار اهتمام الساحة الدولية بهذه المسألة من ناحية ثالثة، فشلت الحكومة الإسرائيلية في تحقيق هدفها من إبعاد "سريع وناجع"، يلازم ذهن العالم لفترة محدودة ثم تطويه أحداث دولية جديدة. وبرهن المبعدون المنتمون إلى حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" مرة جديدة على تواؤم بين المبدأ والممارسة، فكان "الثبات" و"المرابطة" في موقع الإبعاد نفسه إلى حين زوال المحنة.

قد تكون الحكومة الإسرائيلية نجحت بواسطة الإبعاد الجماعي في ضرب البنية التنظيمي السياسية لحركة "حماس" ، محدثة فيها إرباكاً موقتاً، لكنها بالتأكيد فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الأهداف المتوقعة الأخرى؛ فقد أدى قرار الإبعاد الإسرائيلي إلى اتخاذ قرار فلسطيني مقابل بتعليق المشاركة في عملية المفاوضات، وربْط العودة إليها بإيجاد حل يضمن إعادة المبعدين إلى البلاد. وعلى الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية تراهن على أن يؤدي عامل الزمن واستمرار المشاركة العربية في عملية المفاوضات إلى عودة الفلسطينيين إليها في نهاية المطاف، فإن هذه المراهنة لم تأخذ في الحسبان تأثير التحول الجذري في المناخ السياسي داخل الأرض المحتلة بعد عملية الإبعاد، والذي أدى إلى قيام رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض أولاً، ثم الوفد بكامل هيئته، باتخاذ موقف حازم من مسألة ربط العودة إلى المفاوضات بإعادة المبعدين. ويبدو أن "حماس" استطاعت، ولو بصورة مقلوبة وعبر قرار إسرائيلي، أن تخترق المفاوضات وتعطِّلها.

كما أدى القرار الإسرائيلي بالإبعاد، وما تبعه من موقف متميز للمبعدين في "مرج الزهور"، إلى تتويج رحلة الإخوان المسلمين عبر "حماس" لتحقيق الشرعية السياسية الكاملة على الساحة الفلسطينية بنجاح تام. فبعد الإبعاد و"الثبات"، ازداد تعاطف الشارع الفلسطيني مع حركة "حماس" بصورة ملحوظة. ومن خلال المبعدين، وعبر الصُور المتلفزة التي بثَّت ليلاً المحنة والمعاناة والثبات، زال جميع ما كان قد بقي في أذهان الفلسطينيين من هواجس وتحفظات إزاء "حماس". وقد يكون هذا الزوال عاطفياً وآنياً، إلى حين عودة بروز مسألة إعادة تنظيم المجتمع إسلامياً على السطح، إلا إنه أصبح جليّاً من جهة أن استثناء "حماس" لم يعد وارداً على جدول أعمال أية قوة سياسية أخرى موجودة في الساحة الفلسطينية، وأن "حماس" من جهة أخرى لن تتوانى إطلاقاً عن استثمار مكاسبها السياسية في البحث عن صيغة تؤمِّن لها المشاركة الدائمة، ووفق معادلة مقبولة ومؤثرة، في صنع القرار السياسي الفلسطيني تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. وعوضاً من البحث في أهليتها لهذه المشاركة، والتي حكمت موقف القوى الوطنية خلال فترة سابقة، أصبح موضوع البحث يتمحور الآن حول الصيغة والمعادلة الملائمتين لهذه المشاركة، وهذا ما كان موضوع النقاش في اللقاءات الأخيرة التي جمعت حول طرفي طاولة المباحثات قطبي المعادلة السياسية الفلسطينية.[17]

لقد أثبتت جماعة الإخوان المسلمين، عبر "حماس"، وخلال خمسة أعوام من العمل، الحنكة السياسية والقدرة على إجراء التحولات التكتية اللازمة في ضوء المتغيرات والمستجدات في الساحة الفلسطينية. وأصبح جلياً، من خلال الممارسة، أن المنطلقات العقائدية للجماعة لا تتعارض مع براغماتيتها السياسية.[18]  ومن خلال الجمع المدروس لطرفي هذه المعادلة، حققت "حماس" لجماعة الإخوان المسلمين الحصول على الشرعية السياسية الكاملة في الساحة الفلسطينية، وشرّعت لها الأبواب العريضة كي تتبوأ موقعاً أساسياً ومؤثراً على الخريطة السياسية الفلسطينية.

 

المصادر: 

[1]  زياد أبو عمرو، "الحركة الإسلامية في الضفة الغربية وقطاع غزة" (عكا: دار الأسوار، 1989)، ص 28 – 42.

[2]  إياد برغوثي، "الأسلمة والسياسة في الأراضي الفلسطينية المحتلة" (القدس: مركز الزهراء للدراسات والأبحاث، 1990)، ص 42، 46.

[3]  زياد أبو عمرو، مصدر سبق ذكره، ص 67 – 69، 92.

[4]   في العوامل التي أدت إلى بروز حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، راجع:

علي الجرباوي، "الانتفاضة والقيادات السياسية في الضفة الغربية وقطاع غزة" (بيروت: دار الطليعة، 1989)، ص 102-120.

[5]  "ميثاق حركة المقاومة الإسلامية – حماس"، 18 آب/ أغسطس 1988، ص 29 – 30، 11.

[6]  اياد البرغوثي، "الحركة الإسلامية الفلسطينية والنظام العالمي الجديد" (القدس: الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية، 1992)، ص 33.

[7]  منذ بداية الانتفاضة دار بين القوى الوطنية و"حماس" جدل حول مسألة تفجير الانتفاضة، إذ أصرّ كل طرف على ادعاء شرف ذلك. واستُخدمت البيانات دليلاً على ذلك. وجرى تسابق في عملية ترقيمها، واستخدمت "حماس" مسألة الترقيم لتظهر أن بياناتها سابقة لبيانات القيادة الموحدة، وأنها بذلك هي المبادرة إلى تفجير الانتفاضة. أما بالنسبة إلى الإضرابات الشاملة، فقد أخذت عملية تثبيت الإضرابات بدعوة من "حماس" وقتاً، وأدت إلى صراع ومصادمات مع القوى الوطنية، التي حاولت جاهدة منع ذلك. ويجدر التنويه بأن تنفيذ أول إضراب شامل بدعوة من "حماس" (21/8/1988) رافقته مظاهر عنف متبادلة مع القوى الوطنية، وأدى إلى إصدار بيان شجب من القيادة الوطنية الموحدة (نداء رقم 25، 6/9/1988).

[8]  منذ مطلع التسعينات، تتعرض البنية المؤسسية للقوى الوطنية داخل الأرض المحتلة لانتقادات واسعة تأخذ عليها تفشي الفئوية والمعانات من سوء الإدارة والترهل الوظيفي والنفعية. راجع في هذا الخصوص:

علي الجرباوي، وقفة نقدية مع تجربة التنمية الفلسطينية" (رام الله: مشروع الدراسات الفلسطينية، 1991).

[9]  بقيت مسألة "الازدواجية في المعايير" الغربية تثير حفيظة الشعب الفلسطيني، وحفيظة العرب عامة، ولا سيما فيما يتعلق بالممارسات الأميركية ضد العراق، في الوقت الذي كانت إسرائيل تستند إلى "الحماية" الأميركية في المحافل الدولية. وقد عكست صحف الأرض المحتلة هذه الحفيظة وعززتها بعدد كبير من الافتتاحيات والمقالات السياسية.

[10]  في مقالة مطوّلة في صحيفة "القدس" بيّن محمود الزهّار، أحد قياديي حركة "حماس"، ومن خلال متابعته مختلف الانتخابات القطاعية التي أُجريت في الأرض المحتلة منذ مطلع سنة 1991، قوة "حماس" الانتخابية. وعلى الرغم من أن طريقة احتسابه لعدد مجاميع الأصوات الانتخابية تخرج على المألوف، فإن النتائج الواردة تبقى سليمة. راجع:

محمود الزهار، "الحركة الإسلامية... حقائق وأرقام، بين الحقيقة والوهم"، "القدس"، 10/11/1992، ص 10.

[11]  على الرغم من رفض حركة "حماس" دعوة رابين في مطلع سنة 1989 إلى إجراء انتخابات في الأرض المحتلة [بيان 35 (20/1/1989) وبيان 36 (25/2/1989)]، ورفض دعوة شمير المماثلة في نيسان/ أبريل 1989 [بيان 40 (17/4/1989)]، فقد اتخذت هذه الحركة مجال علاقتها التنافسية بالقوى الوطنية موقفاً مؤيداً لإجراء انتخابات فلسطينية. ففي مقابلة مع التلفزة الإسرائيلية (30/1/1989) صرح الشيخ أحمد ياسين أن "الانتخابات هي الطريقة الوحيدة لمعرفة الممثل الحقيقي للشعب." ومنذئذ، بقي إجراء انتخابات فلسطينية عامة مطلباً مستمراً لحركة "حماس". راجع مطالبة الناطق الرسمي باسمها، إبراهيم غوشة، في هذا الصدد في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة "الدستور" الأردنية (25/1/1993)، ونقلتها صحيفة "القدس" المقدسية في اليوم التالي.

[12]  قامت "حماس" والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية (نايف حواتمه) بإصدار أول بيان مشترك قبل بداية عملية المفاوضات، وخلال زيارات بيكر المكوكية الأولى. وحذّر البيان من مخاطر الانخراط في العملية التفاوضية تحت الرعاية الأميركية والشروط الإسرائيلية. وتمّ إصدار بيانين آخرين بتواقيع الحركات الثلاث، ثم وزّع بيان بتوقيع عشرة فصائل معارضة بتاريخ 17/9/1992.

[13]  المقصود "جبهة العشرة" التي طالبت ونفذت في 23 أيلول/ سبتمبر 1992 أول إضراب شامل في الأرض المحتلة ضد العملية التفاوضية.

[14]  في مقابلات خاصة أجراها الباحث مع نشطاء من القوى الوطنية المعارضة للعملية التفاوضية ومع مرشحين عنهم في قوائم مشتركة ضمت ممثلين عن القوى الوطنية المشاركة فيهذه العملية (وبالتحديد انتخابات الغرفة التجارية لمدينة رام الله وانتخابات مجلس طلبة جامعة بير زيت)، تمّت الإشارة باستمرار إلى الإشكالية التي تعترض تفسير الاختلاف الظاهر بين الموقف السياسي والنقابي للقوى المعارضة. فقد كان الكثير من الناس يأخذ على هذه القوى "ازدواجية" موقفها.

[15]  يجدر الإشارة إلى أن التحول في الخطاب السياسي للحركة الإسلامية الممثِّلة للإخوان المسلمين بدأ قبل اندلاع الانتفاضة وظهور حركة "حماس". ومن الأدلة المهمة على ذلك الحملة الانتخابية للكتلة الإسلامية في انتخابات مجلس طلبة الجامعة بير زيت في كانون الثاني/ يناير 1987، والتي تم التركيز فيها على الطرح الوطني، ورفع الأعلام الفلسطينية أول مرة، وارتداء الكوفيات. واستمر هذا التحول ليبلغ ذروته في المهرجانات الخطابية لحركة "حماس" خلال الحملة الانتخابية لمجلس طلبة جامعة بيرزيت، مؤخراً، والتي جرت في النصف الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 1992. ويجدر الإشارة أيضاً إلى أن الخطاب السياسي للقوى الوطنية، وحركة فتح تحديداً، بدأ يتأثر إسلامياً. وقد ظهر ذلك بوضوح في الأرض المحتلة خلال الفترة الأخيرة.

[16]  تضمنت قائمة المبعَدين وفقاً للمصادر الإسرائيلية، ثمانية عشر نشيطاً من حركة "الجهاد الإسلامي".

[17]  بعد عملية الإبعاد جرى في مقر منظمة التحرير الفلسطينية في تونس لقاء رسمي مع حركة "حماس"، ممثلة بأربعة من قادتها. وجرت جولة مباحثات ثانية في مطلع كانون الثاني/ يناير 1993 في الخرطوم بين حركتي فتح و"حماس"، برعاية الزعيم الإسلامي السوداني حسن الترابي وبحضور ياسر عرفات.

[18]  من الأدلة الواضحة على هذه البراغماتية السياسية ما ورد في تصريح إبراهيم غوشة، الناطق الرسمي باسم حركة "حماس"، لصحيفة "الدستور" الأردنية 25/1/1993 (ونقلته صحيفة "القدس" المقدسية في 26/1/1993) والذي يتضمن: "لا نريد أن نغرّد خارج السرب ونريد أن نكون بين إخوتنا في كافة الفصائل الفلسطينية بغض النظر عن الاختلافات الأيديولوجية أو حتى السياسية لأننا نعتقد بأن الديمقراطية والأغلبية في المجلس الوطني الفلسطيني هي التي تحسم الاختلافات..."

السيرة الشخصية: 

علي الجرباوي: أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة بير زيت.