كلمة رئيس الوفد الفلسطيني حيدر عبد الشافي، مدريد،1/11/1991
النص الكامل: 

معالي وزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر؛ معالي وزير الخارجية السوفياتي بوريس بانكين؛ أصحاب السعادة؛ سيداتي وسادتي:

نودُّ، بادئ ذي بدء، أن نتقدم بالتهنئة إلى الدولتين الراعيتين لهذا المؤتمر، على النجاح الذي حققتاه بإخراج هذا المؤتمر إلى حيز الوجود، خاصة وأن الكثيرين قد أخفقوا في ذلك قبلهما. إن انعقاد المؤتمر، في حد ذاته، مأثرة لا يمكن تجاهلها، فهي تجسيد للمثابرة الحقة والثبات والعمل الجاد.. ولأجل هذا فإننا نعبّر عن تقديرنا.

سيداتي وسادتي:

إن هناك حاجة ملحة إلى "التوقف طواعية عن التشكك"، كما تقول العبارة الأدبية، إذا أُريد النجاح لهذا المؤتمر التاريخي. كما أن هناك حاجة إلى الاستعداد، والمقدرة على ارتياد آفاق غير مطروقة من قبل، واستكشاف مجاهلها، وطبوغرافيتها غير المألوفة. تتطلب منا، هذه المحاولة الجادة التي نخوض غمارها الآن في مدريد، حداً أدنى من الفهم المتبادل، وذلك للشروع في عملية التفاعل والتفاهم. حيث إن هذا العصر، الذي يتميز بالترابط الدولي، هو في أمسّ الحاجة إلى تطوير سريع للحوار المشترك، القادر على خلق مفاهيم ملائمة، من الممكن أن تُبنى على أساسها مواقف تتميز بالتطلع إلى الأمام، وترسم استناداً إليها مسالك واضحة.

وإذا ما أخفقنا في ذلك، فلن يرحمنا الزمن، وستحملنا شعوبنا مسؤولية هذا الفشل. ولذا فإن أمامنا مهمة، بل واجب تجاوز المفاهيم الجامدة والمتعنتة، وكذلك نبذ الجدل الذي لا جدوى من ورائه، والأيديولوجيات البالية، والتخلي عن المواقف ضيقة الأفق. إن مثل ذلك إنما يؤدي إلى تمسك المتحدثين بمواقف متعنتة تثير العداء لدى الحضور.

ولا بد من الإقرار بأن انتزاع ردود فعل فورية، من خلال الاستفزاز والعداء، قد يؤدي إلى توليد طاقة، إلا إن مثل هذه الطاقة سرعان ما تتلاشى، وتكون نتائجها مدمرة في نهاية الأمر. إن الطاقة الموجهة التي تتميز بقوة دفع حقيقية، إنما تنبثق من تفاعل مسؤول وإيجابي بين فرقاء متساوين باللجوء إلى معايير رجعية معترف بها، بغض النظر عن مدى عدم الاتفاق.

لقد جئنا هنا ـ نحن الوفد الفلسطيني ـ لنطرح أمامكم، بكل أمانة، تحدياً؛ ألا وهو: أنْ نثبت لكم إنسانيتنا، وأن نعترف بإنسانيتكم، وأن نتجاوز قيود الماضي، ونُرسي أسس عملية السلام، في إطار التبادلية والشمولية والاعتراف. لقد رفضنا، عن عمد، التقيد بخيار واحد، أو الوقوع في شرك التمترس خلف موقف متصلب، فالسلام ـ أيها السيدات والسادة ـ يتطلب شجاعة في العمل، ومثابرة في السعي.

لقد وجه الرئيس بوش، في كلمته الافتتاحية، رسالة قوية، لا للمشاركين فقط بل للعالم أجمع، تتضمن تعهداً بإقامة سلام مستند إلى "العدالة والشرعية". بوصفهما مرتكزين أساسيين. لقد شعرنا بالامتنان، حيث إن مبادرة السلام الفلسطينية مبنية بشكل ثابت على هذين المبدأين. وقد أعادت معظم الكلمات، التي تلت ذلك، التأكيد عليهما، كما سعت أيضاً إلى إبراز جدية القصد. إلا إن كلمة الوفد الإسرائيلي كانت الاستثناء الوحيد، حيث ظلت حبيسة بلاغتها العدائية، غير قادرة على الاستجابة لمتطلبات المناسبة. لقد ولّت أيام السيطرة وسياسة الهيمنة، وتؤكد الحقائق المستجدة لعالمنا المعاصر مبادئ السياسات الأخلاقية، والوفاق الدولي، بوصفها المعايير والمقاييس ذات القيمة الفعلية.

إضافة إلى ذلك، فإنه من غير المفهوم لدينا كيف تتمكن إسرائيل من انتهاك سلامة العملية، وإجماع المشاركين دون عقاب. إن قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، ومبدأ الأرض مقابل السلام، إنما يشكلان أساساً مرجعياً، ومصدراً للسلطة القانونية للمؤتمر والمفاوضات، كما هو مذكور في كتب الدعوة لهذا المؤتمر. إن رد الشعب الفلسطيني الإيجابي كان، في الأساس، إقراراً بهذا الالتزام وتقديراً له. إن جوهر 242، كما ورد في ديباجته، هو "عدم جواز الاستيلاء على الأرض عن طريق الحرب"؛ ولهذا يشمل، في ثناياه، تعريفاً داخلياً وملزماً، مما يجعله غير قابل لتأويلات، أو تطبيقات، غير موضوعية. لقد جئنا هنا لتطبيق هذا القرار، لا للخوض في مهاترات لغوية، ولا لنكون طرفاً في تغييبه، أو حذفه، من جدول السلام، ولا يشكل هذا مطلباً عربياً وفلسطينياً وحسب، إنما هو، أيضاً، مطلب المجتمع الدولي، كما أنه اختبار لمصداقية العهد الجديد في السياسة الدولية.

كذلك، فإن البنود الواردة في القرار 242 تنطبق على القدس الشرقية، والتي لا تعتبر أرضاً محتلة، فقط، بل تشكل، كذلك رمزاً عالمياً، ومصدراً للإبداع الثقافي، والإغناء الروحي، والتسامح الديني.

ولعله مما يثير الألم، والاستفزاز، أن نرى إجراءات شبيهة بإجراءات "الأبارتهايد" يُمنع الفلسطينيون، اليوم، بموجبها من دخول المدينة المقدسة. يجب أن تكون بوابات القدس مفتوحة. إن القدس الفلسطينية هي رمز هويتنا، وتأكيد وجودنا الأزلي على أرض وطننا.

أيها السيدات والسادة:

إن القضية، هنا، قضية أرض، وإن بقاء الشعب الفلسطيني على ما تبقى من كروم الزيتون، والتلال، والوديان الآمنة، وبيوت، وقرى، ومدن أجدادنا، هو الذي يتعرض للتهديد والخطر. وتقضي الشرعية الدولية بإعادة الأراضي العربية والفلسطينية التي احتلت، بغير وجه حق، إلى أصحابها الشرعيين. إن على إسرائيل أن تقر بمبدأ الحدود، سواء أكانت تلك الحدود سياسية، أو قانونية، أو أخلاقية، أو جغرافية، وعليها أن تقرر الانضمام إلى المجموعة الدولية، من خلال قبولها لمبادئ القانون الدولي، وإرادة المجتمع الدولي. ولن تتمكن المراوغة، وخداع النفس، مهما عظما، من تغيير تلك الحقيقة.

لا يمكن الحصول على الأمن من خلال الاستيلاء على أراضي شعب آخر. كما أن الجغرافية ليست معياراً للأمن. بل إن عكس ذلك هو الصحيح. إن الاحتفاظ بالأراضي المحتلة، وتوسيع رقعتها، هي الطريقة المؤكدة لتكريس العداء. إننا نقدم للشعب الإسرائيلي فرصة نادرة لتحقيق أمن حقيقي من خلال السلام. إن الاستقرار والأمن الحقيقيين والدائمين، لا يتحققان إلا من خلال إيجاد حل للمظالم الحقيقية، والأسباب الكامنة وراء الصراع، وعدم الاستقرار.

إننا ـ شعب فلسطين ـ نُقدّم للإسرائيليين، هنا، طريقة بديلة لتحقيق السلام والأمن: تخلوا عن المخاوف والشكوك، وتعاملوا معنا على قدم المساواة ضمن حل "دولتين لشعبين"، ودعونا نعمل من أجل تطور وازدهار منطقتنا، على أساس المنفعة والرخاء المتبادلين. فقد أهدرنا ما فيه الكفاية من الوقت، والطاقات، والموارد في هذا التدمير المتبادل. إننا نستحثكم على اغتنام هذه الفرصة، وأن تكونوا على مستوى تحدي السلام.

إن إقامة المستوطنات على الأرض الفلسطينية المصادرة، ونهب مواردنا، سيؤدي، بالتأكيد، إلى تقويض العملية التي أطلقها هذا المؤتمر. إن هذه المستوطنات هي عقبة رئيسية في طريق السلام. كما أنها تشكل انتهاكاً صارخاً للحقوق الفلسطينية، ولمعاهدة جنيف الرابعة، فلتتوقف النشاطات الاستيطانية كافة، ومصادرة الأراضي الفلسطينية، لأن هذه الإجراءات تشكل نهباً منظماً لتراث شعبنا ومستقبله.

إن الفلسطينيين هم شعب له حقوق وطنية مشروعة. لسنا "سكان المناطق" أو حدثاً عارضاً في التاريخ، أو مجرد عائق في وجه مخططات إسرائيل التوسعية، ولا مشكلة سكانية مجردة. قد تُفضل إغلاق عينيك عن هذه الحقيقة يا سيد شمير؛ إلا إننا، هنا، أمام أنظار العالم أجمع، وأمامك أنت بالذات، ولن يستطيع أحد إنكار وجودنا. إننا شعب واحد متحد رغم محنتنا سواء أكنا في المنافي، أو تحت الاحتلال، مصممون على ممارسة حقنا في تقرير المصير، وإقامة دولتنا المستقلة تحت لواء قيادتنا الشرعية والمعترف بها. وستتم معالجة قضية لاجئينا، جميعاً، خلال المفاوضات حول الوضع النهائي، بمقتضى قرار هيئة الأمم المتحدة رقم 194.

لقد أعلنا قبولنا للمراحل الانتقالية، بوصفها جزءاً من هذه العملية، بشرط أن تتمتع بمنطق الترابط الداخلي، ضمن مدة زمنية محددة، وبدون أن يمس ذلك بالوضع النهائي. يجب أن تكون للفلسطينيين، خلال المرحلة الانتقالية، سيطرة ذات معنى على القرارات المتعلقة بحياتهم ومصيرهم. وخلال هذه المرحلة، يمكن البدء بإعادة التوطين الفوري للذين طردوا من أراضيهم سنة 1967 ولمّ شمل العائلات المشتتة.

كما عبّرنا، أيضاً، عن الحاجة إلى الحماية، وإلى تدخل طرف ثالث في أثناء التوصل إلى تسوية، في ظل عدم التوازن بين المحتل والذين تحت الاحتلال، وحيث إن السلام هو وضع حضاري بين المجتمع، فإنه لا يمكن للسلام الحقيقي، بين الشعوب، أن يسبق حل المشاكل الواقعة في صلب الصراع؛ إنه الحل الذي يفتح الباب أمام السلام، وليس العكس من ذلك.

بناء على هذه المرتكزات، فإننا ندعو، بقوة، وبجدية، الدولتين الراعيتين للمؤتمر، أن تقوما بوضع الأراضي الفلسطينية المحتلة تحت وصايتهما، مباشرة أو من خلال الأمم المتحدة، إلى حين التوصل إلى تسوية نهائية. إن الشعب الفلسطيني على استعداد لأن يعهد إليكم بحماية أرواح أبنائه، وحماية أراضيه، إلى حين تحقيق سلام عادل وشرعي.

إن شعبنا الفلسطيني هو نفس الشعب الذي احتفل، بمناسبة افتتاح هذا المؤتمر، بتقديم أغصان الزيتون لجنود الاحتلال الإسرائيلي، وهو الشعب الذي قام أطفاله بتزيين الدبابات الإسرائيلية برمز السلام هذا. لقد كان شعبنا الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال، وفي المنافي، حاضراً في أذهاننا وقلوبنا خلال الأيام الثلاثة الماضية؛ وإن الصوت الذي استمعتم إليه كان صوته هو.

ونقول للدولتين الراعيتين للمؤتمر، وإلى المجتمع الدولي، الذي ينشد تحقيق سلام عادل في الشرق الأوسط: لقد منحتمونا فرصة عادلة للاستماع إلينا، وإننا نشكركم على اهتمامكم بالإصغاء إلى صوتنا.

 

المصدر: "فلسطين الثورة" (نيقوسيا)، العدد 868، 17/11/1991، ص 18-19.