الحسن. "البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي - الصهيوني" (بالعربية)
النص الكامل: 

البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي - الصهيوني

بقلم د. يوسف الحسن. بيروت:

مركز دراسات الوحدة العربية، 1990.

يبحث هذا الكتاب في البعد الديني لسياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه العرب عامة، والصراع العربي – الصهيوني خاصة. وذلك من خلال عرض وتحليل للاتجاهات الصهيونية في الحركة المسيحية الأصولية الأميركية، التي تشكل عنصراً أساسياً في توفير بيئة ملائمة للنفوذ الصهيوني اليهودي، وترسيخ مجموعة من الآراء المتحاملة على العرب في شعور الرأي العام الأميركي وثقافته وفي سياسات الولايات المتحدة الشرق – الأوسطية، الأمر الذي أدى بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى الانحياز إلى إسرائيل وحركتها الصهيونية.

ويرى المؤلف أن الاتجاهات الصهيونية شكلت عنصراً مهماً في الحياة الثقافية والسياسية الأميركية منذ البداية الأولى لاستيطان الأوروبيين العالم الجديد خلال النصف الثاني من القرن السابع عشر. فالمهاجرون الأوائل كانوا من البيوريتانيين (التطهيريين) الذين حملوا معهم التقاليد، والقناعات التوراتية، وتفسيرات العهد القديم، التي انتشرت في إنكلترا ودول أوروبا منذ القرن التاسع عشر. وحمل البيوريتانيون معهم اللغة العبرية ودخلت، ومعها الدراسات اليهودية، في برامج جامعة هارفارد التي أُنشئت سنة 1936. وكانت العبرية من الموضوعات الإجبارية في الجامعة التي لا يمكن قبول الطالب فيها إلا إذا كان قادراً على ترجمة نص التوراة العبري الأصلي إلى اللاتينية. ولم تتوقف الصهيونية غير اليهودية عند حدود الدعوات والمواعظ والتبشير بعودة اليهود إلى فلسطين وإقامة وطن قومي لهم فيها، بل شاركت في تأسيس المستعمرات اليهودية الأولى في فلسطين.

وكانت مطاردة مهاجري أوروبا للهنود الحمر في العالم الجديد الأميركي، مشابهة لمطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين. وقد خلق التشابه في هذه التجربة قناعة ووجداناً مشتركين بين أميركا وإسرائيل في العصر الحديث (ص 41).

وقد برزت في النصف الأول من هذا القرن عدة منظمات ولجان مسيحية تستخدم اسم فلسطين، وتهدف إلى تعبئة الرأي العام وممارسة الضغط على الجهات الأميركية الرسمية لمصلحة الصهيونية السياسية، وشارك في عضويتها قيادات دينية بروتستانتية إضافة إلى مسؤولين حكوميين وسياسيين وصحافيين ورجال أعمال. ويُعتبر الرئيس الأميركي ولسون أحد الرؤساء الأكثر تأثراً بالصهيونية منذ طفولته. فقد نشأ في بيئة دينية، إذ كان ابن أحد رجال الكنيسة الإنجيلية المسيحية، وبدأ يرى نفسه أنه قد أُعطي الفرصة التاريخية لخدمة رغبة الرب بتحقيقه البرنامج الصهيوني، من دون النظر في نتائجه السياسية والخلقية. ومما لا شك فيه أن استجابة ولسون، بحكم ثقافته التوراتية، للدعاوى الصهيونية اليهودية السياسية كانت طبيعية، فأيد مقترحاتها وخصوصاً تغييره لاصطلاح "الوطن القومي" لليهود الوارد في وعد بلفور إلى الوطن القومي للشعب اليهودي. وكان إيمان الصهيونية المسيحية قبل تأسيس دول إسرائيل ينصب على عودة اليهود كشعب إلى أرضه الموعودة في فلسطين، وإقامة كيانه الوطني فيها، تمهيداً للعودة الثانية للمسيح وتأسيسه مملكة الألف عام السعيد، وبعد قيام الدولة، أخذت الصهيونية المسيحية تنظر إلى إسرائيل كحدث، وإشارة تؤكد معتقداتها اللاهوتية. وصار المؤمن بهذه المعتقدات يرى في دعم دولة إسرائيل وتثبيتها تعجيلاً ليوم الخلاص بعودة المسيح (ص 25).

ويشير الكاتب إلى أن الأصل في المسيحية، على المستوى العقيدي، هو مبدأ الفصل بين الدين والدنيا. وعلى الرغم من الاعتراف بمبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، فإن هذا الفصل لم يؤد إلى فصل الدين عن السياسة. كما أن تأثير الدين في الحياة الأميركية امتد ليمتزج بالتعليم والطب والأعمال والفنون والسياسة. ويعد الموقف الأميركي من إسرائيل النموذج الواضح لاختلاط الدين بالسياسة. وقد أدى هذا الخلط إلى وجود نوع من الانفعالية الدينية الباطنة التي تدخل في صلب البيانات والتصريحات التي يلقيها القادة السياسيون والزعماء المدنيون. فقد درجوا على استخدام رسوم خطابية تستقى عادة من العهد القديم الذي يدور، في أغلبيته، حول تاريخ إسرائيل ومستقبلها.

وتُعد سنة 1976 بداية نهوض الحركة الصهيونية المسيحية كعلامة فاصلة في تزايد قوة هذه الحركة وتأثيرها وإمكاناتها في الولايات المتحدة. وأطلقت صحف كثيرة على هذه السنة تسمية "سنة الإنجيليين الأصوليين"، وذلك لما يلي: 1- تأثير الاحتلال الإسرائيلي للقدس سنة 1967 وانعكاس ذلك على أوساط الكنيسة الإنجيلية والأصولية، وبروز قيادات مسيحية صهيونية، ونشر كتب وإخراج أفلام سينمائية متعاطفة مع إسرائيل؛ 2- وصول كارتر إلى البيت الأبيض والدور المتزايد للدين في نجاحه، وإعلانه أن تأسيس إسرائيل المعاصرة هو تحقيق للنبوءة التوراتية؛ 3- تولي بيغن رئاسة حكومة العدو سنة 1977، مما أعطى المشروعية للتطرف الديني ولاستخدام الإشارات التوراتية لتبرير استراتيجيات الصهيونية؛ 4- تحوّل في علاقات المنظمات الصهيونية اليهودية بالحركة المسيحية الأصولية لتصبح حلفاً طبيعياً؛ 5- وصول اليمين السياسي إلى الحكم في الولايات المتحدة مع مجيء ريغان الذي بنى برامجه السياسية والاقتصادية على مبادئ دينية؛ 6- ظهور وانتشار الكنيسة المرئية وقادتها من نجوم البرامج الدينية والتلفزية ممن يسمون "إنجيليو  التلفزيون"، وتشكل الشؤون السياسية المادة الرئيسية لهذه البرامج، وهي مملوءة بالاتجاهات الصهيونية. كما تساهم مواردها المالية في دعم منظمة النداء اليهودي المتحد وسندات إسرائيل (ص 87).

ويعدد الكاتب عدداً من الشخصيات المهمة في الكنيسة المرئية، مثل جيري فولويل صاحب برنامج ساعة من إنجيل الزمن، والذي يقف إلى جوار إسرائيل باعتبار أن معارضتها معارضة لله. وهو زعيم منظمة الأغلبية الأخلاقية التي تستخدم أكثر من ألف محطة إذاعية لمناصرة إسرائيل ودعم أهدافها التوسعية. ثم باتْ روبرتسون الذي يمتلك شبكة الإذاعة المسيحية والعديد من الجامعات، وهو ينظر إلى العرب على أنهم أعداء الله لأن صراعهم ضد إسرائيل تحد للإرادة الإلهية. كما تبرز أهمية روبرتسون ومؤسساته المنظمة في طموحاته السياسية للوصول إلى رئاسة الجمهورية في انتخابات سنة 1988، وخصوصاً أن أكثر من 22 مليون مسيحي أصولي أصبحوا أعضاء في الحزب الجمهوري بفعل نشاطه.

وهناك أيضاً القس جورج أوتيس زعيم منظمة رعوية المغامرة الكبرى، والذي يؤيد إسرائيل بقوة. وقد افتتح محطة إذاعية في الجنوب اللبناني بعد الغزو الإسرائيلي سنة 1982، كما قام بأعمال اجتماعية عديدة بعد ذلك.

ويعتبر مايك إيفانز من أكثر الأصوليين إعلاناً فيما يخص علاقاته بإسرائيل، وهو صاحب برنامج استعراضي مرئي شهير "إسرائيل: مفتاح أميركا للبقاء". ويناشد إيفانز الشعب الأميركي التقدم لتأييد أفضل صديق لأميركا، وذلك بتوقيع إعلان البركة لإسرائيل، لأن الرب أمره بوضوح بإنتاج هذا البرنامج الخاص بإسرائيل. وينشر إيفانز إعلاناته بشأن برامجه باللغة العبرية، ويصف نفسه فيها بأنه رئيس جماعة عشاق إسرائيل (ص 122).

وقد شكلت الحركة المسيحية الأصولية العديد من جماعات الضغط، وتعاونت مع جماعات أُخرى في حركة اليمين المحافظ في عهد ريغان. وأهم تلك الجماعات:

  • السفارة المسيحية الدولية – القدس. وتأسست هذه الجماعة بعد قرار حكومة العدو باعتبار القدس عاصمة أبدية أزلية لإسرائيل سنة 1980. وتنفذ السفارة برنامجاً صهيونياً بإقامة الصلوات من أجل إسرائيل. وأنشأت شبكة من أجهزة النشر والمعلومات لنشر سياساتها المؤيدة لإسرائيل. كما نظمت التظاهرات والمسيرات، وعقدت المؤتمرات الصحافية، وقدمت العرائض، ونظمت الرحلات السياسية إلى إسرائيل، بالإضافة إلى قيامها بتسويق السندات والمنتوجات الإسرائيلية بين الكنائس المسيحية وبين أعضائها في أميركا.
  • المائدة المستديرة الدينية. وتأسست في أيلول/سبتمبر 1979لدعوة أميركا إلى التعاون الاستراتيجي مع إسرائيل، وإلى نقل سفارتها إلى القدس طبقاً لتعاليم التوراة. ويشكل الحديث عن دعم إسرائيل وأمنها وعاصمتها الموحدة محور منشورات المنظمة ونشاطها.
  • مؤسسة جبل المعبد. وتركز هدفها على إنشاء المعبد في القدس باعتباره واحدة من آخر الإشارات التي تسبق العودة الثانية للمسيح، ولذلك فهي تجمع الأموال وتمارس الضغوط لإقامة المعبد مكان المسجد، وتدفع أنصارها إلى هدمه.
  • مؤتمر القيادة المسيحية الوطنية من أجل إسرائيل. وأُنشىء سنة 1980 بائتلاف عدة جماعات ومنظمات وقيادات صهيونية غير يهودية، لتطوير جبهة موحدة من أجل دعم إسرائيل داخل أميركا.
  • المسيحيون المتحدون من أجل إسرائيل. وتأسست هذه المنظمة سنة 1975 بهدف تعزيز الموقف الصهيوني المسيحي بإصدار نشرات إخبارية شهرية لتأييد الحكومة الإسرائيلية ودعم أطماعها التوسعية، بالإضافة إلى تنظيم الرحلات إلى إسرائيل والمشاركة في احتفالاتها الدينية.
  • المصرف المسيحي الأميركي من أجل إسرائيل. وتكرس هذه المنظمة نفسها لخدمة إسرائيل وسياساتها التهويدية والتوسعية وخصوصاً شراء الأراضي العربية، وبناء المستعمرات، وتوفير فرص التدريب العسكري المتقدم للإسرائيليين في أميركا (ص 147).

ويؤكد مؤلف الكتاب أن مستقبل الحركة المسيحية الأصولية الأميركية سيشهد توثقاً للعلاقة بإسرائيل لعدة  اعتبارات أهمها: 1- رؤية الصهاينة لأهمية الحركة وفائدتها الاستراتيجية واستبعاد القضايا الخلافية، كتحريم الإجهاض والقضايا الاجتماعية بوجه عام؛ 2- أهمية الحركة في توفير رأي عام أميركي مناصر ومتواصل وبصورة مؤثرة في صنع القرار الأميركي، وخصوصاً في مجال المعونات والدعم اللامحدود؛ 3-  وجود قاسم مشترك بين الفكر الصهيوني والفكر المسيحي الأصولي من حيث الاعتقاد بالقوة واعتبارها الطريق الصحيح لتحقيق الأهداف السياسية. فإسرائيل والقوى المسيحية الأصولية تعتقد بصنع الأسلحة الذرية وبالتسليح الأميركي لإسرائيل من أجل هزيمة العرب والسوفيات معاً (ص 167).

هذا، إضافة إلى عوامل أخرى عديدة مثل استقرار فكر الحركة المسيحية الأصولية في نسيج المجتمع الأميركي، وضعف المعارضة الداخلية. ولذلك، فإن مواجهته تكون من خلال إقامة جسر دائم ومتواصل بين المفكرين العرب وتلك الحركة، وتنظيم حملات لتوضيح مدى ابتعاد تلك الحركة عن الديانة المسيحية، وإيضاح الصورة الحقيقية للإسلام والقضية الفلسطينية، وخصوصاً فيما يتعلق بحقوق الإنسان. ويتم ذلك باستخدام وسائل التقنية الحديثة التي تستخدمها الحركة، بالإضافة إلى دور الكنائس العربية في علاقاتها بالكنائس الأميركية والحوار المسيحي – الإسلامي – اليهودي بصورة عامة.

ولعل أبرز الأخطاء التي تقع فيها مؤسسات سياسية ودينية عربية في اتصالها بالهيئات الدولية المماثلة، هو تركيزها على قضية أحادية تخص الجانب العربي. لكن النظرة المتعددة والشمولية في التعاون والحوار تؤدي، في أغلب الأحيان، إلى تقدير أفضل للقضايا ذات الاهتمام الخاص (ص 205).