بين الجهوزية والمفاجأة: الاستعدادات الفلسطينية لحرب 1982
كلمات مفتاحية: 
الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982
المقاومة الفلسطينية
لبنان
منظمة التحرير الفلسطينية
مخيمات اللاجئين في لبنان
تقييم الوضع الاستراتيجي
الكفاح المسلح
نبذة مختصرة: 

تستند الدراسة، جزئياً، إلى كتاب لكاتبها عن الكفاح المسلح الفلسطيني منذ سنة 1949. وهي تتناول الاستعدادات الفلسطينية لحرب العام 1982 من خلال السعي إلى الإجابة عن عدد من الأسئلة مثل: إلى أي حد كانت القيادة اللبنانية الفلسطينية المشتركة وقيادة منظمة التحرير جاهزة يوم اندلعت الحرب؟ وإلى أي مدى يمكن لانهيار الدفاعات في معظم أنحاء الجنوب اللبناني أن يعزى إلى سوء التخطيط ؟ وإلى أي مدى كانت المقاومة في عين الحلوة وخلدة مثلاً نتيجة لحسن التخطيط وبعد النظر؟ وهل كان من الممكن تحسين الوضع وقتها، وهل كان ذلك سيغير شيئاً في ما انجلت الحرب عنه؟ تتفحص هذه الدراسة تقلبات مناخ الحرب والطريقة التي تركت فيها التطورات السياسية والمعلومات المتواردة آثاراً في النظرة الفلسطينية إلى الأوضاع، ثم تعرض السجال الفلسطيني الداخلي في شأن سيناريوهات الغزو الإسرائيلي الممكنة، لتنتقل إلى إلقاء نظرة على الاستعدادات الفعلية والخطط ثم تخلص إلى تقويم أثر هذه المعطيات في الجهوزية الفلسطينية عشية الحرب وفي الأداء القتالي الفعلي.

النص الكامل: 

وضعت حرب 1982 في لبنان أقوى جيش في المنطقة ضد جيش آخر من أضعف جيوشها، عنيت القوات اللبنانية – الفلسطينية المشتركة.[1]   لذلك كان مآل الحرب نتيجة مفروغاً منها، وخصوصاً عندما تلاشت العوامل السياسية والاستراتيجية التي ربما كان من شأنها أن تقيِّد إسرائيل، أو تحدّ من خياراتها. مع ذلك، فقد كان لسرعة انهيار الدفاعات في الجنوب اللبناني، وتفكك الوحدات العسكرية شبه التقليدية التي أقامتها فصائل المقاومة الفلسطينية، وقع الصدمة. كما كان من شأن ذلك تسعير حمّى الاتهامات المتبادلة التي أدّت لاحقاً إلى التمرد داخل فتح في ربيع سنة 1983.

إلى أي حدّ كانت القيادة اللبنانية – الفلسطينية المشتركة، وقيادة منظمة التحرير تحديداً، جاهزة يوم اندلعت الحرب؟ إلى أي مدى يمكن لانهيار الدفاعات في معظم أنحاء الجنوب أن يُعزى إلى سوء التخطيط، وإلى أي مدى كانت المقاومة التي أُبديت في مناطق أُخرى – مثل مخيم عين الحلوة أو مثلث خلدة أو بيروت نفسها – نتيجة لحسن التخطيط وبُعد النظر؟ هل كان من الممكن تحسين الوضع يومها، وهل كان ذلك سيغيّر شيئاً ذا شأن في ما انجلت الحرب عنه؟

تحاول هذه الدراسة الإجابة عن هذه الأسئلة، وذلك بإعادة تركيب أهم الحوادث والاستعدادات التي قادت إلى حرب 1982. لذلك، فالدراسة تتفحّص أولاً تقلّبات مناخ الحرب والطريقة التي تركت فيها التطورات السياسية والمعلومات المتواردة آثاراً في النظرة الفلسطينية إلى الأوضاع. ثم تعرض السجال الفلسطيني الداخلي في شأن سيناريوهات الغزو الإسرائيلي الممكنة، وذلك قبل إلقاء نظرة على الاستعدادات الفعلية والخطط. ثم تخلص إلى تقويم وقع هذه المعطيات على الجهوزية الفلسطينية عشية الحرب، وعلى الأداء القتالي الفعلي.

الانزلاق نحو الحرب

              يمكن القول إن الطلقات الافتتاحية للحرب على لبنان قد أُطلقت في تموز/ يوليو 1981، يوم شنّ الطيران والمدفعية الإسرائيليان هجوماً خاطفاً لمدة أسبوعين على مواقع المقاومة الفلسطينية ومكاتبها في بيروت والجنوب. وقد أسفرت المواجهة عن اتفاق لوقف إطلاق النار، لم يتح لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تعيد تسليح قواتها وتدرِّبها بأمان فحسب، بل حقق لها أيضاً "الاعتراف غير المباشر من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل كلتيهما."[2]

              كانت الحكومة الإسرائيلية، برئاسة مناحم بيغن، تنظر إلى هذا الوضع بعين القلق الشديد. ففي رأيها أن الحوار الأميركي – الفلسطيني المستجد كان يعني أن على "إسرائيل مواصلة البحث عن تسوية مع منظمة التحرير الفلسطينية، أو استعمال قوتها كلها لتنزل بها ضربة هائلة... ذلك بأنه إذا قُيِّض لمنظمة التحرير الفلسطينية 'أن تصبح سياسية'، وأن تتخلّى بالتدريج عن العمل العسكري والإرهابي، فمن شأن ذلك أن يضاعف (من وجهة نظر إسرائيل) المخاطر السياسية المتمثلة في قيام دولة فلسطينية. وللفرار من هذا الفخ... لم يكن في وسع إسرائيل إلا أن تفعل شيئاً واحداً: أن تشنّ الحرب."[3]

              ما أن قررت القيادة الإسرائيلية عدم الاكتفاء بتحاشي التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية، بل الحؤول دون إمكان قيام أية مفاوضات مستقبلية بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير، حتى بات الانزلاق نحو الحرب أمراً محتوماً. فخلال الأشهر العشرة التي عقبت تموز/ يوليو 1981، تركزت جهود إسرائيل على الإعداد للمعركة المقبلة؛[4]  وَضعت خطط عدة من قبل فرق وزارة الدفاع ورئاسة هيئة أركان الجيش من أجل ذلك، ورُتِّبت على سلّم  متصاعد من حيث المدى والطموحات. وهكذا كان لدى الجيش الإسرائيلي، منذ كانون الأول/ ديسمبر 1981، خطة عملية للقتال.

أمّا منظمة التحرير الفلسطينية فقد وقعت في مأزق. ذلك بأن استراتيجيتها الدبلوماسية كانت قد أحرزت نجاحات ذات شأن إلى حد أنها باتت عرضة لهجمة إسرائيلية. ومن أجل كسب المزيد من الصدقية، وتعزيز قدرتها على الضغط، كانت تحتاج إلى تقوية دفاعاتها العسكرية في لبنان. لكن زيادة التسليح، تعزيزاً لقدرتها على الردع، ربما أدت عملياً إلى مضاعفة احتمالات لجوء إسرائيل إلى الخيار العسكري.

وكان أن شرعت منظمة التحرير الفلسطينية في مسعى واسع النطاق للحصول على الأسلحة، في الأشهر التي عقبت تموز/ يوليو 1981. فخلال زيارات لأربعة عشر بلداً عربياً واشتراكياً، حاول قادة المنظمة العسكريون الكبار – ياسر عرفات، وخليل الوزير، ورئيس الأركان سعد صايل – شراء صواريخ أرض – أرض من طراز فروغ – 7، وصواريخ سام – 6 المضادة للطائرات،[5]   لكنهم أخفقوا في ذلك. غير أن منظمة التحرير وبعضاً من فصائلها استطاعت الحصول على مدافع ذاتية الحركة مضادة للطائرات من طراز ز. س. يو. – 4، وراجمات صواريخ متحركة ومقطورة من طراز ب. م. – 21 من عياري ملم و107 ملم، ومدافع هاوتزر من عيرا 122 ملم، ومدافع من عيار 130 ملم، ومدافع هاون من عياري 120 ملم و 160 ملم، ومعدات خفيفة أُخرى.

لكن، على الرغم من هذه المساعي كلها، لم يكن في وسع مجهود التسلّح الفلسطيني أن يجاري الدلائل المتزايدة على أن إسرائيل تعدّ لهجوم واسع النطاق ضد المقاومة الفلسطينية في لبنان. وقد قرع رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي، رفائيل إيتان، ناقوس الخطر في شأن التسلّح الفلسطيني، وذلك أمام لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست منذ 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1981. وقد تزامن ذلك مع نشر سيناريوهات غير رسمية عن هجوم إسرائيلي في وسائل الإعلام العسكرية الغربية.

ردات فعل منظمة التحرير الفلسطينية

              حملت منظمة التحرير هذه المعلومات على محمل الجد، وشرعت تنفِّذ مزيجاً من دبلوماسية عرض القوة والإجراءات الملموسة. فكُثِّفت احتفارت تخريج دفعات جديدة من المقاتلين، وسُلّطت الأضواء الإعلامية عليها، ومثلها زيارات عرفات لمراكز التجنيد والقواعد القتالية. وما لوحظ بصورة واضحة في إسرائيل، ثلاث مناورات شاملة نفّذتها قوات فتح بين 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 1981 و3 كانون الثاني/ يناير 1982.[6]   وقد سنحت فرصة لعرض قوة آخر في الأول من كانون الثاني/ يناير 1982، يوم احتفلت فتح بالذكرى السابعة عشرة لتأسيسها، وذلك بعرض عسكري ضخم في بيروت ظهرت فيه دبابات ت – 34، ومدافع ز. س. يز. – 23 – 4، وراجمات م. ب. – 21، ومدافع مقطورة، ومدافع مضادة للطائرات من كل العيارات، وتشكيلة من الأسلحة المضادة للدبابات والصواريخ الموجهة المحمولة (صواريخ سام – 7 وصواريخ ساغر الموجهة المضادة للدبابات)، وتجهيزات واقية من أسلحة الدمار الشامل.[7]

أمّا من جهة الخطوات المحسوسة، فقد نشّطت منظمة التحرير مجهود التعبئة في أواخر نسة 1981. فخُرِّجت دفعة جديدة من الطلاّب المجنّدين، ترافقت مع تدريب إلزامي لكل موظفي مكاتب المنظمة في لبنان والخارج. وبُثَّت دعوة إلى جميع الذكور الفلسطينيين السليمي البنية في ليبيا من أجل التطوُّع لخدمة قصيرة الأجل. غير أن  ما نجم عن ذلك من توافد المتطوعين كان موقتاً فحسب. ذلك بأن جميع الطلاب الذين كان في مستطاع منظمة التحرير أن تجنِّدهم – نحو 25,000 طالب – كانوا عملياً قد أدّوا نوبة من الخدمة حتى ذلك التاريخ، ولم يكن من المعقول أن يدعوا إلى نوبة ثانية بعد مرور فترة على هذا القدر من القِصَر.[8]

لذلك أمرت منظمة التحرير الفلسطينية، في أوائل كانون الأول/ ديسمبر 1981، باستدعاء جزء من "احتياطيّها الاستراتيجي"، أي الفلسطينيين الذكور، في لبنان. وقد طبق هذا الإجراء أساساً في مخيمات اللاجئين، أو على الأشخاص الحاملين وثائق لاجئين تثبت أنهم فلسطينيون. لكن ذلم ووجه بمقاومة من قبل أُسَر هؤلاء الذكور، ومن قبل الشبان الذين ليس في وسعهم تحمل إضاعة مزيد من الوقت من دراستهم أو عملهم. وعارضت ذلك عدة فصائل مقاتلة (مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) واعتبرته غير ضروري، وإن كانت فصائل أُخرى (كالجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) قد سعت لتطبيق هذه الإجراءات بصورة مستقلة، ولزيادة صفوف مقاتليها بذلك.[9]   ثم إن الفكرة استُبعدت بعد أن استُدعي عدة مئات من الشبان، وعاد آخر واحد منهم إلى داره في آذار/ مارس 1982.

التصعيد الإسرائيلي

              في هذه الأثناء، صارت التهديدات الإسرائيلية بمهاجمة منظمة التحرير الفلسطينية متزايدة الصراحة. ففي 22 شباط/فبراير 1982، حذّر مناحم بيغن، رئيس مجلس الوزراء الإسرائيلي، صراحة من احتمال القيام بعمل عسكري في الجنوب اللبناني.[10]  ومرة أُخرى، تزامنت هذه التصريحات مع نشر وسائل الإعلام الغربية ما فحواه أنه تفصيلات خطة هجومية إسرائيلية. وبحسب ما زعمت التقارير الصحافية، فإن هذه الخطة لم تنفذ في شباط/ فبراير، كما كان مقرّراً، بسبب رداءة الجو فقط.[11]  وقد كذَّب وزير الخارجية يتسحاق شمير تلك الأنباء فوراً، لكن سفير إسرائيل في واشنطن موشيه آرنس أكّدها في 27 شباط/ فبراير.[12]

              وقد نُشرت، منذ ذلك التاريخ، تقارير مفصَّلة عما جرة في مجلس الوزراء  الإسرائيلي ورئاسة هيئة الأركان بين تموز/يوليو 1981 وحزيران/ يونيو 1982، لكن منظمة التحرير الفلسطينية لم يكن في وسعها الاطلاع على ذلك في حينه، بل كان عليها أن تستند إلى التصريحات العلنية. وقد أضيف إلى هذه الأخيرة سيل من التقارير من مصادر أجنبية ظل يتنامى باطراد – مصادر دبلوماسية واستخباراتية – وكانت تُجمع كلها على تعزيز أسوأ مخاوف منظمة التحرير.

              والصورة التي أخذت تتضح بالتدريج هي أن العملية الإسرائيلية ستتعدى حدود عملية الليطاني في آذار/مارس 1978، وأنها ربما بلغت بيروت. ولمّا كان عرفات مدركاً أن الهجوم بات وشيكاً، ولمّا كان وصلته أنباء عن زيارة شارون ثم إيتان لقيادة أركان الكتائب في بيروت، فقد أمر باستنفار كامل للقوات الفلسطينية في أواسط شباط/ فبراير. ومعلوم أن إسرائيل قد أجَّلت عمليتها، كما أن منظمة التحرير الفلسطينية خفَّفت استنفارها.

              في هذه الأثناء، صار عرفات يتكلم بصورة منتظمة عن "خطة الأكورديون" الإسرائيلية – اليمينية، التي سيندفع الإسرائيليون بموجبها على الساحل اللبناني صعوداً حتى ضواحي بيروت، بينما يهجم اليمينيون على بيروت الغربية. وكان يشدِّد على احتمال قيام إسرائيل بعمليات إنزال بحري "شمالي الدامور، أو في الدامور، أو جنوبي الدامور." كما كان يحذِّر من أن الإسرائيليين قد يندفعون حتى خلده. غير أنه لم يكن يتوقع منهم، على ما أقرَّ بذلك بعد الحرب، أن يصلوا إلى "تلال [مطار]*  بيروت التي كان يفترض في قوات الردع العربية [السورية]*  أن تحميها. أي أنني لم أكن أتوقع بيروت نفسها."[13]

              وقد جعل عرفات من اقتراب موعد الهجوم الإسرائيلي، ومن الاستعدادات الفلسطينية لمواجهته، موضوعاً لجلسات متكررة عقدتها قيادة القوات المشتركة، والمجلس الأعلى للقيادة، والمجلس العسكري الموسَّع، في إطار فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. وقد ترأس أربعاً، على الأقل، من هذه الجلسات بين كانون الأول/ ديسمبر 1981 وحزيران/ يونيو 1982، وضرب رقماً قياسياً إذ عقد سبعاً منها في شباط/ فبراير. وقد عبَّر عن قلقه أيضاً خلال زيارات متكررة للقواعد القتالية ومعسكرات التدريب، غَطَّت القطاع الممتد من مخيم الرشيدية على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى العرقوب شرقاً مروراً بقلعة الشقيف، في نيسان/ أبريل. فتفقَّد خلال هذه الزيارات مواقع الأسلحة الثقيلة والخنادق، وناقش المهمات والخطط المفصلة لكل وحدة من تلك الوحدات.

ومع تزايد حديث إسرائيل عن الحرب خلال ربيع سنة 1982، تزايد بحثها عن سبب حرب ملائم. وتحقيقاً لهذا الهدف، عمد القادة الإسرائيليون إلى إعادة تفسير اتفاق وقف إطلاق النار الذي عُقد مع منظمة التحرير الفلسطينية في تموز/ يوليو 1981. فقد كانت بنوده تتعلق، في الأساس، بوقف تبادل إطلاق النار عبر الحدود اللبنانية، وإعادة الوضع إلى حاله السابقة فقط. ولم يقتصر أثر ذلك عملياً على السماح لمنظمة التحرير بأن تعيد تسليح قواتها وتعيد نشرها، وبأن تقوم بأعمال التحصينات في الجنوب اللبناني فحسب، بل إن الاتفاق لم يأت إلى ذكر قيام الفلسطينيين بأعمال عسكرية عبر جبهات أُخرى، أو داخل الأراضي المحتلة.[14]

وقضى التفسير الإسرائيلي الجديد لاتفاق وقف إطلاق النار، ذلك التفسير الذي أعرب الوزراء عنه فردياً ولكنه لم يقرّ رسمياً في الحكومة، بأن أي اعتداء على أهداف إسرائيلية أو يهودية، أينما كان، هو بمثابة إعلان حرب.[15]   وقد استُجِرَّت الإدارة الأميركية نفسها إلى اللعبة، وذلك من خلال تكرار الناطق بلسان وزارة الخارجية، دين فيشر، للتفسير الإسرائيلي الجديد في 3 آذار/ مارس وفي 19 منه.[16]

مع ذلك، لم تتمكن إسرائيل من العثور على ذريعة مقنعة للشروع في غزوها، وذلك ما حمل رفائيل إيتان إلى موقف يائس عدَّ فيه رمي الحجارة من قبل المتظاهرين في الضفة الغربية بمثابة انتهاك من جانب منظمة التحرير الفلسطينية لاتفاق وقف إطلاق النار.[17]   في مقابل ذلك، عدّد قائد قوات حفظ السلام الدولية، الجنرال كالاهان، انتهاكات إسرائيل للاتفاق في الجنوب اللبناني بين تموز/ يوليو 1981 و 20 آذار/ مارس 1982؛ فكانت 193 عملية انتهاك بين تحليق للطيران، ودخول المياه الإقليمية اللبنانية، وقصف مدفعي، وإطلاق نار الرشاشات، وهدم المنازل، وبناء الاستحكامات على الأراضي اللبنانية.[18]

في انتظار الذريعة

              ابتداء من آذار/مارس 1982، بات الهجوم الإسرائيلي مسألة توقيت فحسب. وقد حمل إدراك هذا الأمر منظمة التحرير على كبح ردودها العسكرية على الغارات، الإسرائيلية، مرفقة ذلك مواصلة الاتصالات الدبلوماسية من أجل تفادي الهجوم الضاري. في 21 نيسان/ أبريل، أغارت الطائرات الإسرائيلية على مرابض المدفعية الفلسطينية في جوار الدوحة والسعديات ومزبود وصيدا، فقتلت 17 شخصاً وجرحت 20 شخصاً، لكنها أخطأت المدافع. وفي غارة ثانية شُنَّت في 9 أيار/ مايو، واستهدفت القواعد الفلسطينية حول الزهراني وصيدا والدلهمية، قُتل 12 شخصاً وجرح 20 شخصاً، معظمهم من المدنيين.

وقد وُصفت هذه الغارات بأنها انتقام لمقتل جنود إسرائيليين بانفجار ألغام أرضية، على الرغم من أن هؤلاء الجنود كانوا على الأراضي اللبنانية عندما كانوا يُقتَلون. وردَّت منظمة التحرير بحذر أول مرة: فأطلقت بضعة صواريخ على مناطق خالية منا لسكان في شمال إسرائيل، وفعلت ذلك عمداً للتدليل على عزمها وضبطها للنفس في الوقت ذاته. أما في أيار/مايو، فقد جاء ردُّها أعنف من المرة السابقة إذ أطلقت 150 صاروخاً، لكنها وجّهت الصواريخ – مرة أُخرى – إلى مناطق غير آهلة.

أدى قصف منظمة التحرير الفلسطينية المعتدل إلى إطلاق موجة من الاحتجاجات في إسرائيل ضد الغارات الجوية وسياسة الحكومة المتّبعة في الجنوب اللبناني. فقد اقدم المواطنون ومسؤولو البلديات في المستوطنات الشمالية – فضلاً عن أعضاء الكنيست والمعارضين، وبينهم شمعون بيرس – على إلقاء اللوم على الحكومة الإسرائيلية لما تسبَّبت به من تصعيد التوتر على الحدود، ودعوها إلى التقيد بوقف إطلاق النار، مشيرين إلى أن أي صاروخ فلسطيني لم يطلق منذ 24 تموز/ يوليو 1981.[19]  وقد ذهب بعض الإسرائيليين أيضاً إلى أن الهجوم بالقنابل داخل إسرائيل، أو في الأراضي المحتلة، أو عبر حدود أُخرى غير الحدود اللبنانية (كالعملية المزدوجة التي نفذتها قوات فتح بالقرب من ميحولا في غور الأردن في 29 و31 كانون الثاني/ يناير 1982)، لم تكن بالضرورة انتهاكات لاتفاق وقف إطلاق النار الذي عُقد في تموز/ يوليو 1981.[20]

ومهما تكن الأسباب لدى إسرائيل، فإنها قد امتنعت من الرد على الصواريخ الانتقامية التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية في نيسان/ أبريل وأيار/ مايو. وكان هذا الإحجام أمراً غير متوقع، ولعلّه شجّع القيادة الفلسطينية على إساءة تقويم الوضع؛ فلقد استخلصت من ذلك، فيما يبدو، أن العوامل الدولية التي ارغمت إسرائيل على وقف إطلاق النار في تموز/ يوليو 1981 لم تزل فعّالة أو، على الأقل، أن الضغوط الخارجية والخوف من هجر المستوطنات الشمالية هجراً جماعياً، قد وضعت سقفاً لمدى العمل العسكري الإسرائيلي.[21]

ولئن كانت قيادة منظمة التحرير قد ارتكبت هذا الخطأ في الحسبان، فإن ذلك قد عزز المطالبة الداخلية بردّ أقوى على الهجمات الإسرائيلية. فكان من جرَّاء ذلك تحوُّل في السياسة، تمثّل في الردّ المدفعي الثقيل الذي وُجِّه إلى المستوطنات الحدودية ومعسكرات الجيش، عقب الغارات الجوية الإسرائيلية الكثيفة في 4 و 5 حزيران/ يونيو 1982. يومها، كان عرفات في الخارج، لكن من غير المؤكد أن حضوره كان سيؤدي إلى موقف مختلف. والأهم أن الغارات الجوية كانت الطلقات الافتتاحية للغزو الإسرائيلي الذي طال انتظاره، وأن العملية الإسرائيلية كان من المقرر لها – على الأرجح – أن تمضي قُدماً متى انطلقت، بصرف النظر عن ردّ منظمة التحرير الفلسطينية أو عدم ردّها.

تقويم الفلسطينيين للأوضاع

              كان في وسع منظمة التحرير الفلسطينية أن تراقب، ابتداء من آذار/ مارس 1982، الاستعدادات الإسرائيلية للحرب. فمن العلامات المبكرة التدريبات العملية التي قام الجيش الإسرائيلي والدفاع المدني ورجال الإطفال بها في عكا ونهاريا ومعالوت، في 4 آذار/ مارس. وبعد خمسة أيام، قام الجيش بتمارين قتالية في أراض جبلية، مستعملاً قطاع مرجعيون – بلاط لهذه الغاية. وقد عقب ذلك، في السابع عشر من آذار/ مارس، تمارين ليلية بالذخيرة الحيّة أُجريت في مرتفعات الجولان المحتلة، وشهدها شارون وإيتان.

              رافقت هذه الخطوات إشاراتٌ مبالغ فيها إلى قوة منظمة التحرير الفلسطينية في الجنوب اللبناني؛ إذ قدر وزير الخارجية شمير عديدها بعشرين ألف رجل، وقدر وزير الدفاع شارون ترسانتها تقديراً مدهشاً: بثلاثة آلاف مدفع ومئتي راجمة صواريخ.[22]   مرة أُخرى، كمّل المسؤولون الأميركيون المقاربة الإسرائيلية؛ إذ كرّر وزير الخارجية الأميركية يومها، ألكسندر هيغ، التقديرات الإسرائيلية للتسلح الفلسطينية في 2 آذار/مارس.[23]  وفي الوقت نفسه، ظهر المزيد من التقارير المفصلة عن خطة الهجوم المتوقع في الصحافة الغربية.

              وفي نيسان/أبريل وأيار/مايو، حلّت عمليات إعداد المواقع ونشر وحدات المساندة داخل الجنوب اللبناني محلّ المناورات الإسرائيلية: شُقَّت الطرق على سفوح جبل الشيخ فوق راشيا الفخار وشبعا، ووجِّهت صوب راشيا الوادي وعين عطا إلى الشمال، متجاوزة العرقوب. وحُفرت مرابض للمدفعية والدبابات على التلال المواجهة لقلعة الشقيف وجبل الريحان. ثم رُكِّزت وحدات المدفعية المتحركة، والرادارات، والتجهيزات الإلكترونية، وبطاريات صواريخ أرض – جو، في مواضع عدة من القطاعين الشرقي والأوسط. وفي 3 أيار/ مايو، جيء بجسور متحركة إلى منطقة مرجعيون المشرفة على وادي نهر الليطاني وجسر الخردلي.

اشتعال السجال الفلسطيني

أوردت مراكز الرصد المتقدمة ودوريات الاستطلاع التابعة للمقاومة الفلسطينية أنباء هذا النشاط، مشيرة إلى أن الغزو بات وشيكاً. لكن النقاش استمر داخل القيادة الفلسطينية في شأن أهداف الهجوم الإسرائيلي المقبل ومداه. واعتُبرت الخيارات الإسرائيلية محصورة في إثنين: هجوم محدود حتى نهر اليطاني (الاستيلاء على جيب صور) – وهذا كان أقل احتمالاً؛ وهجوم شامل حتى ضواحي بيروت.[24]   وتضمنت التنويعات داخل السيناريو الأول احتلال قلعة الشقيف، أو سهل النبطية، من أجل إبعاد المدفعية الفلسطينية عن شمال إسرائيل، مع هجمات حتى نهر الزهراني وضواحي صيدا. أما السيناريو الثاني الموسَّع، فقد ذهب إلى أن الإسرائيليين سيتوقفون عند الدامور، أو شمالي صيدا مباشرة.

لم تكن القيادة الفلسطينية مخطئة في تمييزها خطتين ممكنتين للغزو: فقد كان لدى الجيش الإسرائيلي فعلاً خطتان عملانيتان، يرمز إليهما بالصنوبرات الصغرى والصنوبرات الكبرى، تتضمنان احتلال منطقة عرضها 40 كلم من الحدود (بما فيها صيدا)، أو اندفاعاً كاملاً إلى الشمال حتى طريق بيروت – دمشق الدولية.

لكنْ، على الرغم من اقتناع عرفات ونفر من زملائه بالعكس، فقد ذهب عدد كبير من أعضاء القيادة الفلسطينية إما إلى الزعم أن إسرائيل لن تصل إلى بيروت، وإما إلى أنها لن تشن الحرب أصلاً. فمن ذلك أن لجنة تقويم الوضع القائم كانت على يقين من أن الإسرائيليين لن يتخطوا "أكتاف صيدا [التلال المشرفة عليها من الشرق]، أو أنهم لن يتخطوا صيدا نفسها، وأنهم حتماً لن يندفعوا حتى حدود بيروت أو خلده."[25]  وقد أقرّت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بعد ذلك، بأن "القيادة المشتركة لم تكن تتوقع وصول العدو إلى بيروت، بل إلى الزهراني أو صيدا فحسب، وذلك على الرغم من المعلومات المتواردة إليها."[26]  وفي حال الجبهة الشعبية نفسها، فإنها حتى لمّا نظرت في إمكان القتال حول بيروت، توقعت أن تكون القوة المهاجمة من رجال الجيش اللبناني في معظمها، لا من الجيش الإسرائيلي.

عشية الحرب، كان نفر غير قليل من مستشاري عرفات لا يزال مقتنعاً بأن إسرائيل لن تشن هجومها.[27]  والاقتناع المشترك بين المسؤولين الذين قالوا بهذه التقديرات هو أن الضغوط الدولية ستعمل إما على منع العملية الإسرائيلية، وإما على حصرها ضمن حدود جغرافية معينة على الأقل. لكنْ، كما لاحظت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لاحقاً في تحليلها للحرب، "لم تدرك قيادة الثورة الفلسطينية التوجهات الجديدة في سياسة الولايات المتحدة التي اتتخذتها الإدارة الجديدة (إدارة ريغان."[28]

ربما بدا هذا مثيراً للدهشة، نظراً إلى وفرة المعلومات التي كانت في تصرف منظمة التحرير الفلسطينية، وإلى انحياز الولايات المتحدة الواضح إلى جانب إسرائيل. لكن هذا الموقف كان يعكس الميل الطبيعي إلى إلباس الواقع ثوب الأماني، إضافة إلى الاعتياد. فمن ذلك أن أحمد اليماني (أبو ماهر)، مندوب الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، عارض اسدعاء الشبان الفلسطينيين في لبنان إلى الخدمة، في أوائل سنة 1982، لأنه كان يعتقد أن عرفات يبالغ في تقويم خطر الاجتياح.[29]   وواقع أن إسرائيل كادت تشن هجومها في شباط/ فبراير، لم يكن من الوقائع المعروفة لدى الجمهور آنئذ، طبعاً، لذلك بدا عرفات الذي أمر الاستنفار الكامل أنه يصيح "جاء الذئب" أكثر مما تدعو الحاجة.

وفضلاً عن تشجيع قدر معين من عدم التصديق، فقد ولّدت حال الاستنفار القصوى، التي تطاولت حتى حزيران/ يونيو، شيئاً من الضجر المتعب، وتراخياً في اليقظة والتنبُّه في صفوف الوحدات الفلسطينية المقاتلة. وكان من شأن الشعور بأن كل إنذار سيظهر كذبه أَنْ تضافَرَ مع سيل المعلومات الذي كان يتدفق على منظمة التحرير ويرهق قدرتها على غربلته، ويخدِّر إحساسها بالمؤشرات ذات الأهمية والدلالة. وعلة المستويات الأدنى، ساد شعور بالقدرية، على الرغم من أن قادة الوحدات كانوا مقتنعين بأن الهجوم الإسرائيلي بات وشيكاً.

ومن العوامل التي زادت في الإرباك والتشوّش، في تلك الفترة، ما اندلع في الأراضي المحتلة من انتفاضة بدأت في تشرين الثاني/ نوفمبر 1981، واستمرت على نحو شبه متواصل حتى حزيران/ يونيو 1982. وقد عملت الصدامات، التي خلَّفت 28 قتيلاً من المتظاهرين و500 جريح و1000 معتقل، على صرف انتباه القيادة الفلسطينية عن الجنوب اللبناني بعض الشيء. وفي هذا ما فيه من السهو، لأن من شأن عجز إسرائيل عن معالجة تلك الانتفاضة أن يزيد في احتمالات قيامها بعمل عسكري ضد المنظمة.[30]

الحسبان العسكري

              وقدعَقَّدت مشكلاتٌ مماثلة قراءة الفلسطينيين للأهداف العسكرية التي يستهدفها الهجوم، وللوسائل التي ستلجأ إسرائيل إليها لبلوغ هذه الأهداف. في أيلول/ سبتمبر 1981، وقبل تسرُّب أية معلومات من إسرائيل، تحدّث رئيس أركان المقاومة الفلسطينية، اللواء سعد صايل، فركّز على إمكانين: هجوم برّي من الثغر المتروك في بقعة انتشار قوات الأمم المتحدة بين مرجعيون وقلعة الشقيف؛ وعمليات إنزال برمائية على طول الساحل في القطاع الغربي.[31]  لكن توقّعاته، في ذلك الوقت، كانت تنحصر في احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني فحسب.

وفي فترة أقرب إلى اندلاع الحرب، توقعت منظمة التحرير هجمات مدرَّعة عبر النبطية وصور، تلتقي لاحقاً رَأْسَ جسر بحري في القاسمية (شمالي صور)، أو في الزهراني (جنوبي صيدا). وكان من المتوقع أيضاً أن تقوم القوات الإسرائيلية بعمليات إنزال من البحر ومن الطوافات، وهجوم في اتجاه حاصبيا في القطاع الشرقي. ومن الإمكانات المضافة إلى ذلك، أيضاً، قيام القوات البرية بالتقدم ملتفة حول صيدا للاتصال برأس جسر عند الأولي، وربما تقدمت من هناك لدعم رأس جسر آخر عند الدامور.

كانت هذه التوقعات مبنية على افتراضين أساسيين: أن السوريين سيصمدون في منطقة الشوف الجبلية؛ وأن منطقة انتشار قوات الأمم المتحدة تشكل عقبة كبرى في وجه هجوم بري إسرائيلي. لم يكن أمام منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت قلقة جداً من جراء عدم سيطرتها على الجبال [جبال الشوف] المشرفة على كل الساحل الممتد من صيدا حتى بيروت، إلا أن تتكل على السوريين في هذه المهمة. وقد عقد خليل الوزير وسعد صايل اجتماعات عدَّة مع القياد السورية العامة في دمشق، كان آخرها قبل أسبوع واحد فحسب من بداية الحرب، لكنهما عجزا عن إقناع نظيريهما بأن الخطر الإسرائيلي كان واقعياً ووشيكاً.[32]

وكان الافتراض بأن قوات الأمم المتحدة ستعوق تقدم القوات الإسرائيلية أقل واقعية من الافتراض الأول، ولا سيما متى نظر إليه على هدي رأي سعد صايل السابق  بأن وجود قوات الأمم المتحدة غير كاف كعقبة، ولا كرادع.[33]  ومع ذلك، فقد طوّرت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بالتدريج، اقتناعاً لا أساس له في شأن فعالية دور القوات الدولية وقدراتها، ولم تفرز بناء على هذا الاقتناع أيو وحدات قتالية ذات شأن لسد طرق الهجوم المحتملة عبر خطوط القوات الدولية. وعلى حد قول أحد نوّاب سعد صايل، العقيد سعيد مراعه (أبو موسى): "لقد قدرنا – خطأً – أن وجود قوات الطوارىء الدولية في محور

القعقعية سيمنع العدو من جعله محوراً رئيسياً."[34]   أما إلى أي مدى ذهبت منظمة التحرير في تضليل ذاتها إلى حد الشعور بالأمان من هذه الجهة، فيتضح من إعراب عرفات عن دهشته من كون الإسرائيليين قد اندفعوا عبر خطوط قوات الأمم المتحدة، وذهابه إلى حد اتهام تلك القوات بـ"التواطؤ" معهم.[35]

الاستعدادات الفلسطينية

              تنازعت استعدادات الفلسطينيين للحرب قبل حزيران/ يونيو 1982، نزعتان متضادتان. إحداهما اعتقاد عرفات ونفر من زملائه أن بيروت، أو ضواحيها، ستكون الهدف الأول. وهذا ما قادهم إلى التشديد على أهمية الدفاع عن الشريط الساحلي بدفاعات متزايدة القوة، من نهر الأولي وصيدا شمالاً نحو بيروت. وقد عُمِّم هذا التوقع على قادة الوحدات كافة، مشفوعاً بأوامر تقضي بإعداد خطط قتال محلية. لكنْ كان من العسير مغالبة الاسترخاء واللامبالاة. وعلى الرغم من جهود عرفات كلها فقد بقيت هناك "ثغرة بين التوقعات والإجراءات المتخذة"، على ما قرّرته بحزن دراسة فلسطينية أُعدت بعد الحرب.[36]

              على الضد من ذلك، ظل نفر غير قليل من القيادة الفلسطينية غير مقتنع بأن الإسرائيليين سيقتربون من بيروت، حتى بعد اندلاع الحرب. فمن ذلك أن عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عبد الرحيم ملُّوح، قد أقر لاحقاً "بأننا لم نكن نتوقع أن يحاصر العدو بيروت مع أننا توقعنا عملية كبرى."[37]   أما قائد قوات الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ممدوح نوفل، فقد اضاف أن المجلس العسكري الأعلى لمنظمة التحرير الفلسطينية لم يسلِّم بأن بيروت كانت هدفاً إلاّ "بعد تجاوز العدو بإنزالاته وتقدمه على الأرض منطقة صيدا – جسر الأولي... وهذا لم يكن موضوعاً في الاعتبار عند اللحظة الأولى لبدء الحرب، وإنما اتضح لنا ذلك في حوالي اليوم الرابع للهجوم."[38]

الاستعداد للحرب

              أتاح هذا القدر من الاتفاق لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تشرع في أربعة تدابير ضرورية، بل جوهرية مثلما تبين فيما بعد: حماية القيادة المركزية وشبكة اتصالاتها في بيروت؛ تخزين العتاد العسكرية والأغذية في القطاعات جميعاً؛ إعادة انتشار الوحدات المقاتلة والأسلحة الثقيلة؛ إعداد خطط القتال التكتية.

هدفت عملية إنشاء عدة مواقع قيادة في بيروت إلى تحاشي تكرار الوضع الذي نشأ في تموز/ يوليو 1981، يوم دمَّر الطيران الإسرائيلي غرفة العمليات المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وتجاهل عرفات الاعتراضات القائلة إن في هذا مضيعة للجهد؛ لذلك أُقيمت غرف العمليات رقم 3 و4 و 5 و35 و61 في مواقع عدة تحت الأرض، في الشطر الغربي من بيروت.[39]   وقد ربط ما بين كل من هذه الغرف وبين تشكيلة واسعة من المواقع الإدارية واللوجستية والقتالية، حول بيروت ومخيمات اللاجئين فيها وفي ضواحيها، شبكة هاتف ميدانية. وأُضيف إلى ذلك شبكة لاسلكية موسعة جعلت غرف العمليات المركزية على اتصال مباشر بقيادات الأركان المحلية الأساسية في أنحاء لبنان كافة. وقد أُقيمت شبكات مماثلة في صيدا وصور، وإنْ كانت أضيق نطاقاً. ووُزِّعت أجهزة لاسلكية وفيرة على معظم الوحدات القتالية، نزولاً حتى مستوى الفصيلة، أو حتى مستوى الجماعة.

هدف تكديس كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر والوقود والغذاء والأدوية، في كل قطاع من القطاعات، إلى تمكين رجاله من القتال في حال تم تجاوزهم أو تطويقهم. وهذا أيضاً كان من عِبر اشتباك 1981، يوم سعت إسرائيل لقطع طرق إمداد المقاومة الفلسطينية وذلك بشن الغارات الجوية عليها. ولعل العبرة الكبرى استُمدت من تجربة الحرب الأهلية اللبنانية سنة 1976، إذ عُزلت المدن الرئيسية التي كانت واقعة تحت سيطرة المقاومة وقوى اليسار في جيوب منفصلة، وأُخضعت لحصار كامل. أما امتداد عملية التكديس لتشمل بيروت، التي كان لكل حي أو مخيم فيها مخازنه الخاصة – فضلاً عن المخازن المركزية – فأمر كان قد أصبح إلى حد ما جزءاً من وقائع الحياة اليومية نتيجة الحرب الأهلية المتواصلة فيها؛ ولكنه كان أيضاً تعبيراً عن توقع عزل العاصمة نفسها ومحاصرتها من قبل الإسرائيليين، أو حلفائهم اليمينيين.[40]

ومن أجل صد تكتيكات "قفزة الضفدعة" على القطاع الساحلي شمالي صيدا، سحبت منظمة التحرير القوة 17 من قوات فتح، وكذلك كتيبة رأس العين (من لواء أجنادين الاحتياطي التابع لفتح)، فضلاً عن مفرزتين – واحدة مضادة للطائرات وأُخرى مضادة للدبابات – وبطاريات مدفعية من حامية بيروت، وذلك من أجل تعزيز منطقة الدوحة – الناعمة جنوبي بيروت، ومنطقة الجيِّة – الرميلة بين الدامور وصيدا. وأُعيد نشر بطاريات الكتيبتين المدفعيتين الثالثة والسادسة، المتمركزتين عادة في جنوب لبنان وشرقه، على امتداد الساحل بين صيدا والدامور، من أجل تعزيز القوة النارية، وإتاحة شبه دفاع ساحلي. وقد وزَّعت الجماعات المسلّحة الصغرى أعداداً إضافية من الأسلحة، مثل مدافع 160 ملم التي وصلت حديثاً وراجمات صواريخ من عيار 107 ملم ذات 12 سبطانة.

التخطيط: موطن ضعف الفلسطينيين

              التدبير الرابع الذي اقدمت منظمة التحرير عليه، كان الشروع في الخطط المفصَّلة. وقد توصلت، في هذا المجال، إلى نتائج متفاوتة. فعلى المستوى الاستراتجي، كان من شأن أوامر عرفات ببناء مراكز قيادة بديلة، وتكديس المؤن، وإعادة نشر الوحدات المقاتلة، أن تنظم الموارد المتاحة على نحو يحدِّد المهمات والتوقعات تحديداً معقولاً. ويساوي ذلك أهمية أن هذه التدابير قد احتوت قدراً كبيراً من خطط الطوارىء، إذ إن هذه الاستعدادات في بيروت وضواحيها لن تكون ذات شأن إلا في المراحل اللاحقة من الحرب، أي بعد أن تكون خطوط الدفاع الأول والثاني والثالث قد سقطت.

              كانت أوجه القصور الحقيقية كامنة في الخطط التكتية القتالية. وهذا مستغرب؛ إذ إن كبار القادة العسكريين في فصائل المقاومة الفلسطينية كانوا يجتمعون مرة كل شهر على الأقل، بين كانون الثاني/ يناير وحزيران/ يونيو 1982 (أركاناً وضباط ميدان على مستوى الكتيبة فما فوق). وكان عرفات يرئس معظم الجلسات، مصحوباً بخليل الوزير وسعد صايل عادة، وكان يصدر التوجيهات من أجل الدفاع الفلسطيني. ول يكن عرفات يقنع بذلك، بل كان يتابع تنفيذها بزيارات متلاحقة لقيادات الألوية والكتائب في الميدان.

وقد أصدرت القيادة الفلسطينية المركزية أيضاً تعليمات إلى قادة الألوية للاجتماع غلى كبار الضباط المؤتمرين بأمرهم في كل لواء. وكان المفترَض في قادة الألوية ان يتابعوا تنفيذ التعليمات بزيارة قطاع كل كتيبة، والتحقق من إتمام الاستعدادات. أخيراً، كان يفترض في كل كتيبة أن تعدّ خططها التكتية الخاصة بها؛ ولهذه الغاية كانت تعقد اجتماعات بين قادة السرايا بين الحين والحين.

ظاهرياً، كانت منظمة التحرير تعمل كل ما في وسعها تخطيطاً للحرب. كانت الاجتماعات تعقد مثلما هو مقرر لها داخل القوى النظامية (ولو أنها قلّما عُقدت داخل الميليشيا وجهاز الأمن)، وإنْ اختلفت وتيرتها من وحدة إلى وحدة ومن فصيل من فصائل المقاومة إلى فصيل آخر. كانت الخيارات الإسرائيلية تناقش على أساس التحليلات أو المعلومات، ومثلها نوقشت خيارات الدفاع. ومع ذلك، فقد جاءت النتائج متفاوتة جداً.

ويمكن الاستشهاد هنا بتجربة لواء الكرامة التابع لفتح في القطاع الشرقي. فقبل ثلاثة أسابيع من الحرب، جمع قائده العقيد أو هاجم قادة كتائبه للتناقش في توقعاتهم وتوصياتهم. وأطلعهم على أن الإسرائيليين سيحاولون الوصول إلى طريق بيروت – دمشق الدولية، من بيروت إلى نقطة المصنع الحدودية بين لبنان وسوريا. فاقترح بعض الضباط تجميع الأسلحة الثقيلة وإعداد التحصينات، بينما فضَّل آخرون تكتيكات حرب العصابات المتحركة. وكان جلُّ ما اتُّفق عليه في ختام الاجتماع إعداد ثمانية أفخاخ للمركبات على طريق حاصبيا.[41]  وكان ذلك آخر اجتماع قبل الحرب، وآخر ما توصل تخطيط لواء الكرامة إليه.

كان الوضع مختلفاً في القطاع الغربي؛ ذلك بأن وجود مدن كبرة ومخيمات للاجئين ومعظم قوات الفلسطينيين ومراكزها – قاعدة منظمة التحرير الفلسطينية المستقلة – كان يعني أن من غير الممكن التخلي عن الدفاع الثابت واعتماد التكتيكات المتحركة. هنا أصدر لواء القسطل التابع لفتح، وجيش التحرير الفلسطيني (الموالي لمنظمة التحرير الفلسطينية)، خطتين منفصلتين. ولم تدعُ هاتان الخطتان – المعروفتان بالأمر العملاني رقم 4 والأمر العملاني رقم 5، على التوالي – إلى أي تنسيق بين قوات التشكيلين، مع العلم أن هذين التشكيلين كانا يشتركان في الدفاع عن القطاع نفسه. وقد كان التشويش في سلسلة الآمرين والمأمورية سبب الإخفاق الذريع في التعامل مع عملية الإنزال البحري الإسرائيلي عند مصب نهر الأولي؛ ذلك الإنزال الذي قرّر مصير صيدا نهائياً، وفتح الطريق أمام تقدّم الإسرائيليين نحو بيروت.

عشية الحرب

              مع اقتراب يوم الهجوم وطَّنت منظمة التحرير نفسها على انتظار الضربة التي كان قادتها يعلمون، شعورياً أو غريزياً، بأنها باتت لا مفرّ منها. لكنْ، في هذه المرحلة، سيطر خليط من المواقف على التفكير الفلسطيني.

              فمن جهة، صار في حيازة قيادة منظمة التحرير الفلسطينية معلومات عن الخطط الإسرائيلية لا مثيل لها حجماً وتفصيلاً، وذلك بفضل مصادر الاستخبارات الفلسطينية في إسرائيل وفي الأراضي المحتلة، وبفضل الدوائر الدبلوماسية العربية والغربية والسوفياتية. والحقّ أن منظمة التحرير الفلسطينية ربما كانت قادرة على معرفة يوم الهجوم بالتحديد قبل أسبوع من بداية الحرب؛ أي قبل أيام عدة من وقوع الهجوم على السفير الإسرائيلي في لندن، ذلك الهجوم الذي عدّته الحكومة الإسرائيلية ذريعة لها لشن هجومها. كان الغزو العتيد موضع نقاش موسع في وسائل الإعلام الغربية، وكان أمام منظمة التحرير الفلسطينية (ككل من عداها) متسع من الوقت لأخذ العلم والحذر والإعداد له. لذلك كان يجب ألا يعدَّ وقوع الغزو مفاجأة يوم وقع.

              من ناحية أُخرى، انزلق عامة مقاتلي المقاومة الفلسطينية، في سوادهم الأعظم، إلى حال مستغربة من الانتظار المتواني، أو حتى إلى حال من السُّبات مع انقلاب الربيع إلى صيف. كانت التحذيرات المتكررة والاستنهاض الدائم من قبل القيادة قد ولَّدا شعوراً باعتياد على مدة الأشهر. يضاف، إلى ذلك، المفعول المخدَّر لحال الاستنفار المتواصلة. والأنكى أن كثيرين من الضباط قد انساقوا، في أثناء محاولة الإعداد لهجوم تشنّه قوات فائقة القوة، والنظر في عدم تكافؤ الفرص، إلى الاستسلام للقدر. جاءت ذروة التخطيط، وغير ذلك من الاستعدادات، في منتصف الربيع. ولم تعد الجهود التي بذلتها القيادة المركزية لتعبئة وحداتها وأفرادها تؤتى شيئاً إلا نتائج متناقصة. ويبدو من مراجعة الحوادث أن الغارات الجوية الإسرائيلية، في 21 نيسان/أبريل و9 أيار/مايو، قد ساهمت – على الأرجح – في عملية التراخي هذه، وذلك بتشجيعها الوهم بأن الضغوط الدولية لم تزل تحدّ من خيارات إسرائيل.

              كانت الشواهد على الاستسلام للقدر عديدة. فمن ذلك أن أحد قادة الكتائب التابعة لفتح لمّت سئل قبل الحرب عما إذا كان يعتقد أن من الممكن أن يتقدّم الإسرائيليون في اتجاه قطاع النبطية عبر منطقة القوات الدولية، فوق جسر القعقعية (مثلما حدث فعلاً)، أجاب بالإيجاب وبأنه يفتقر إلى العدد الكافي من الرجال لتغطية المحور المذكور؛ لذلك، استسلم لتمنّي ألا تَؤُول الأمور إلى الأسوأ.[42]   وقد لاحظ لواء القسطل الثغرة في القعقعية وأرسل سرية للمنطقة، إلا أنه أخفق في إرسال حامية جديدة بعد أن استُدعيت تلك السرية إلى بيروت قبل أسابيع عدة من بداية الحرب.

              وقد أصدر اللواء نفسه تعليمات إلى مقاتليه لينسحبوا إلى خط الدفاع الثاني إذا لم تعد لهم طاقة على الصمود، لكنه قصَّر في إصدار توجيهات إضافية عما يجب فعله في حال نشوء أوضاع أُخرى، منها سقوط خط الدفاع الثاني، أو سقوط صيدا. والوضع نفسه ينطبق على جيب صور ذي الدفاعات الكثيفة، حيث كان الكثيرون من المقاتلين غير النظاميين والضباط يدركون إدراكاً جيداً أن الهجوم آت، إلا إنهم لم يفعلوا شيئاً ذا شأن لتحصين مواقعهم، أو لوضع خطط مرنة لمواجهة احتمالات متعددة والتدرُّب عليها.[43]   وإن المرء ليجد الافتقار نفسه إلى التفكير في بدائل متنوعة في الأمر العملاني رقم 4 لدى لواء القسطل، الذي كان على درجة فائقة من التفصيل والشمول في التعامل مع بداية المواجهة، لكنه لم يقصّر في النظر في المراحل اللاحقة من الهجوم فحسب، بل قصّر أيضاً في النظر في كيف ستؤثر الاشتباكات – في كل قطاع – في الأوضاع في القطاعات الأُخرى.

              لا يفهمنّ من ذلك أنه كان لدى منظمة التحرير مجال كبير لأداء أفضل، إذ كانت إمكانات وضعها لخطط بديلة مقيَّدة بقيود كبرى عديدة. فقد بنت القيادة الفلسطينية حساباتها على أساس وجود القوات السورية في منطقتي جزين والشوف الجبليتين، ولم يكن يُسمح لها بالانتشار هناك احترازاً من هجوم إسرائيلي جانبي. ولو أن الإسرائيليين أخفقوا في التقدم في سلسلة جبال لبنان الغربية الوسطى لكانوا، ربما، ترددوا في الاندفاع شمالاً حتى بيروت، أو ربما كانوا امتنعوا من القيام بذلك أصلاً. ولا كان في مستطاع منظمة التحرير الفلسطينية أن تحتاط احتياطاً كاملاً للاختراق الإسرائيلي لمنطقة انتشار قوات الأمم المتحدة، ولا سيما في منطقة صور حيث كان ثمة عدة طرق محتملة للهجوم. يضاف إلى ذلك، أنه لم يكن من الممكن تنظيم القوات الفلسطينية ونشرها لمواجهة الخطر الإسرائيلي وحده، بل كان عليها أن تكون جاهزة دوماً من أجل التدخل في أي فوران للصراع الأهلي مع اليمينيين اللبنانيين في بيروت، أو في شرق لبنان وشماله.[44]

كانت أمثال هذه القيود تتعدى قدرة منظمة التحرير على التحكم في مجرى الحرب. لكنْ تقع على كاهل المنظمة مسؤولية أكبر لعدم تحسين دفاعاتها في الجنوب. كان من العسير، حتى في أفضل الأوضاع، تحصين الجنوب اللبناني تحصيناً جيداً بزرع الألغام وسدّ الطرق وغيرها من المنافذ؛ ذلك أن المنطقة كانت منطقة زراعية، يستعملها السكان المدنيون يومياً. لكنْ، في أواسط سنة 1982، كانت العلاقات بالجماعات اللبنانية المحلية (وحتى بالحركة الوطنية) قد بلغت درجة من الرداءة بات من المستحيل معها القيام باستعدادات من هذا القبيل. كان جزء من قوى منظمة التحرير الفلسطينية البشرية مقيَّداً بمهمات حفظ السلام بين الميليشيات المحلية في قرى لبنانية عدّة. فقد كانت من شأن الصدامات العنيفة التي اندلعت في صيدا قبيل الحرب بأسابيع قليلة، والتي تبيَّن لاحقاً أن المحرّض عليها ضابط في فتح يعمل لمصلحة الاستخبارات الإسرائيلية، كان من شأن تلك الصدامات أن تقضي على ما تبقى من أمل بإعداد المدينة للمقاومة على نحو ما أُعدت بيروت له.

والقيادة المركزية للمقاومة الفلسطينية في بيروت، وإنْ كانت قد أعدت خطط طوارىء عدة من أجل الدفاع عن المدينة في حال الحصار، فقد كانت مقصّرة في هذا المجال. من ذلك أنها كانت تتوقع أن يتقدّم الإسرائيليون شمالاً حتى صيدا، إلا إن خط الدفاع الثالث والأخير الذي رسمته في الجنوب اللبناني كان يقف قبل المدينة، عند عربصاليم: ولم توضع أية حسابات لأي تطور يحدث بعد سقوط تلك القرية.[45]  ففي هذا، وفي غيره من الأوجه، كان للغزو المتوقع معظم آثار الهجوم المفاجىء الكلاسي.

خاتمة

              يجب القول، إنصافاً، أنه لم يكن في وسع منظمة التحرير الفلسطينية أن تعوض من عدم التوازن المذهل مع إسرائيل، مهما بلغ تخطيطها من الدفة، ومهما بلغت استعداداتها من الفعالية. كان عليها أن تعمل تحت وطأة قيود سياسية شديدة، تفرضها عليها علاقاتها بالجماعات والأحزاب اللبنانية، وبسوريا. لذلك، يبقى السؤال هل فعلت منظمة التحرير كل ما كان في طاقتها واقعياً أن تفعله؟

الجواب البسيط هو أن منظمة التحرير الفلسطينية ربما كان في استطاعتها أن تبلي بلاء أحسن، وإنْ لم يكن ليغير شيئاً في النتيجة النهائية. فكما يلاحظ المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي، "كان من شأن الاستعدادات العسكرية الأفضل في الجنوب، لو حدثت، أن توفر بعض الوحدات الفلسطينية القليلة التي تخطاها تقدم الجيش الإسرائيلي وعزلها، وأن تتيح فرصاً أفضل لشن حرب عصابات على الجيش الإسرائيلي، أفعلَ وأفضلَ تنسيقاً، بعد احتلاله."[46]   لكنه يرى، أيضاً، "أن من العسير أن نعرف ما كان في وسع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تفعل في باب الاستعدادات"، ولا سيما أن العيوب العسكرية كانت "بنيوية وقديمة في معظمها."

في النهاية، كان تضافر عوامل عدة – استعدادات ما قبل الحرب، والمقاومة في بعض المواقع الحساسة، وشجاعة وحزم ألوف من المقاتلين والمدنيين الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين – هو السبب الذي مكّن منظمة التحرير الفلسطينية من إعادة تنظيم دفاعاتها لمواجهة حصار بيروت. ومثال المدافعين عن خلده خير مثال: فهؤلاء المقاتلون الذين لم يتجاوز عددهم المئة في أي وقت من الأوقات، والذين جُلبوا من أحزاب ووحدات متباينة مختلفة، وجُمِعُوا هناك بعضهم مع بعض بإمرة ضابط ماهر شجاع لم يعرفون من قبل (القيد عبد الله صيام)، قد تمكّنوا من صدّ القسم الأكبر من لواء إسرائيلي لمدة خمسة أيام، بينما كانت بيروت تتهيأ للهجوم الضاري. إن الروح القتالية هذه هي التي أطلق عليها الكاتب العسكري زئيف شيف، معلِّقاً على ملحمة عين الحلوة، وصف "أكبر مفاجأة صادفتها إسرائيل في حرب لبنان."[47]

إن القرار النهائي بالجلاء عن بيروت يظل محط سجال عنيف في نظر البعض. لكنْ، في غياب أي نشاط دعم دبلوماسي عربي مكثف، كان الخيار الوحيد أمام منظمة التحرير الفلسطينية ضمان بقاء المؤسسة الوطنية التي باتت تمثل الكيان الفلسطيني وهويته. كان علة المنظمة ورجالها وحلفائها أن يدفعوا ثمن هذا القرار غالياً، لكن ذاك كان السبيل إلى صون جوهر التضحيات التي بذلها الشعب الفلسطيني والمكاسب التي حققها.  

*    تستند هذه الدراسة، جزئياً، إلى كتاب لكاتبها يصدر قريباً تحت عنوان:

The Palestinian Armed Struggle Since 1949.

[1]   من أجل مناقشة موجزة للدور الفلسطيني في حرب 1982، أنظر: يزيد صايغ، "التجربة العسكرية الفلسطينية المعاصرة" (بيروت ودمشق: هيئة الموسوعة الفلسطينية، 1990)، ص 445 – 454. ومن أجل تفصيلات موجزة إضافية تضم الدور الإسرائيلي أيضاً، أنظر:

 Yezid Sayigh, “Israel’s Military Performance in Lebanon, June 1982,” Journal of     Palestine Studies, Vol. XIII, No. 1, Fall 1983. 

[2]   Avner Yaniv, Dilemmas of Security: Politics, Strategy, and the Israeli Experience in Lebanon (Oxford: Oxford University Press, 1987), p. 89.                                        

[3]   Ibid.

[4]   تجد رصيداً وافراً من الوقائع والتحليلات في:

 Ibid.; Ze’ev Schiff and Ehud Ya`ari, Israel’s Lebanon War (New York: Simon &  Schuster, 1984). 

[5]   مقابلة أُجريت مع خليل الوزير في عمان، آذار/ مارس 1984.

[6]   أنظر: International Herald Tribune, November 16, 1981;

وانظر ذكر المناورة الثانية في:

Schiff and Ya`ari, op.cit.; Yaniv, op.cit.

وقد أشارت الإذاعة الإسرائيلية إلى المناورة الأخيرة تخصيصاً، في نشرة أُذيعت في 7 شباط/ فبراير، "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 8 شباط/ فبراير 1982.

[7]   تجد تفصيلات التسلّح الفلسطيني في: يزيد صايغ، "منظمة التحرير الفلسطينية قوة عسكرية متنامية"، "الفكر الاستراتيجي العربي"، العدد الرابع، نيسان/أبريل 1982، ص 295 – 300.

[8]    أعطى هذا الرقم مسؤول كبير في الاتحاد العام لطلبة فلسطين في مقابلة أُجريت في تونس، آب/ أغسطس 1989.

[9]   عن سياسة الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، مقابلة مع سهيل ناطور عضو اللجنة المركزية للجبهة أُجريت في نيقوسيا، كانون الثاني/ يناير 1992.

[10]   "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 23 شباط/ فبراير 1982.

[11]   أنظر مثلاً:

Financial Times, February 11, 1982.

[12]   "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 28 شباط/ فبراير 1982.

*   هكذا في الأصل.

[13]  مقابلة أجرت ها سلوى العمد في "شؤون فلسطينية"، العدد 136 – 137، آذار/ مارس – نيسان/ أبريل 1983، ص 22.

[14]   يؤكد شيف ويعري عدم وجود أية شروط على النشاط الفلسطيني في مقابل وقف إطلاق النار الإسرائيلي، أنظر:

Schiff and Ya`ari, op.cit., p. 37. 

[15]   أنظر، مثلاً، تصريح إيتان في 7 أيار/ مايو، وتصريح شارون في 10 أيار/ مايو 1982، في: "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 8 و12 أيار/ مايو 1982.

[16]   "السفير" (بيروت)، 4 و20/3/1982.

[17]   "رصد الإذاعة الإسرائيلية، 8 و12 أيار/ مايو 1982.

[18]   "السفير"، (بيروت)، 21/3/1982.

[19]   "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 28 نيسان/ أبريل و 11 أيار/ مايو 1982.

[20]   أنظر، مثلاً، النقاشات الإذاعية في 24 نيسان/ أبريل و2 أيار/ مايو 1982، في: "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 25 نيسان/ أبريل 1982 و 13 أيار/ مايو 1982. وفي تعليق لنائب رئيس حزب العمل، يتسحاق رابين، على حوادث ميحولا قال في 3 شباط/ فبراير 1982 إنها لا تشكل ذريعة كافية للقيام بعمل انتقامي في لبنان، أنظر: "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 4 شباط/ فبراير 1982.

[21]   يمكن العثور على هذا التفسير في التقويمات الصحافية في ذلك الوقت، أنظر، مثلاً: يزيد خلف، "المقاومة الفلسطينية عسكرياً"، "شؤون فلسطينية"، العدد 127، حزيران/ يونيو 1982، ص 190.

[22]   شمير في 15 آذار/ مارس، "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 16 آذار/ مارس 1982؛ شارون في 19 شباط/ فبراير، "رصد الإذاعة الإسرائيلية"، 20 شباط/ فبراير 1982.

[23]   "السفير" (بيروت)، 3/3/1982.

[24]   كانت هذه نظرة استرجاعية بعد الحرب، "الحرب الفلسطينية – الإسرائيلية"، "فلسطين المحتلة"، آب/أغسطس 1983، ص 49.

[25]   بحسب ما قال عضو في اللجنة في مقابلة أُجريت معه في تونس، آب/ أغسطس 1987.

[26]   ورد ذكر الزهراني وصيدا في: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، "التقرير العسكري"، ص 17.

[27]   بحسب قول مستشار تقدم برأي مخالف استناداً إلى اطلاعه الواسع على المواد العبرية، في مقابلة أُجريت معه في تونس، آب/ أغسطس 1989.

[28]   وقد اعترفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بأنها انضمت إلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية في "المبالغة في قوة الثورة الفلسطينية [السياسية والعسكرية]"، أنظر: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مصدر سبق ذكره، ص 17 – 18.

[29]   بحسب قول خليل الوزير في مقابلة أُجريت معه في عمان، آذار/مارس 1984.

[30]   هذا ما لُمِّح إليه، مثلاً في:

   Aby Iyad with Eric Rouleau, My Home, My Country: A Narrative of the Palestinian  Struggle (New York: Times Books, 1981), p. 186. 

[31]   في مقابل مع "شؤون فلسطينية"، العدد 119، تشرين الأول/ أكتوبر 1981، ص 114.

[32]   خليل الوزير في مقابلة أُجريت معه في تونس، آب/ أغسطس 1987.

[33]   سعد صايل، مصدر سبق ذكره، ص 144.

[34]   هاشم علي محسن، "العقيد أبو موسى يتكلم" (دمشق، 1984)، ص 48. ومع ذلك، فإن احتمال تقدم الإسرائيليين عبر خطوط القوات الدولية في القعقعية أمر لمّح إليه كاتب واحد منذ أيلول/ سبتمبر 1981. أنظر: يزيد خلف، "قراءة عسكرية في حرب تموز"، "شؤون فلسطينية"، العدد 119، تشرين الأول/ أكتوبر 1981، ص 107.

[35]   مقابلة أجرتها سلوى العمد في "شؤون فلسطينية"، مصدر سبق ذكره، ص 21 – 22.

[36]   "الحرية"، تعليق، 12 حزيران/ يونيو 1983، ص 38.

[37]   مقابلة أجرتها "الحرية"، 15 حزيران/ يونيو 1982، ص 29. أكدت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أنها والقيادة المشتركة لم تتوقعا الهجوم على بيروت، وذلك في وثيقة رسمية نُشرت بعد الحرب. أنظر: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، "التقرير العسكري"، مصدر سبق ذكره، ص 17.

[38]   مقابلة مع ممدوح نوفل في: "شؤون فلسطينية"، العدد 135، ص 29.

[39]   أشار عرفات إلى الاعتراضات في مقابلة أُجريت معه بعد الحرب، مصدر سبق ذكره، ص 20.

[40]   ذكر العقيد أبو الطيب، قائد القوة 17، أن مستوعبات معدنية كبيرة طُمرت في مواضع من الأرض خالية، واستعلمت مخازن مطمورة للأسلحة والذخائر. أنظر: "القاطع الثالث من زلزال بيروت" (عمان: لا ناشر، 1984)، ص 54.

[41]   بحسب ما قال ضابط عمليات أحد الألوية ممن حضروا الاجتماع، في مقابلة أُجريت معه في عمان، أيار/ مايو 1985.

[42]   في مقابلة أُجريت معه قبيل حرب 1982.

[43]   تجد نقداً لعيوب الأداء الفلسطيني قبل الحرب في: يزيد خلف، "حول التفكير العسكري الفلسطيني"، "شؤون فلسطينية"، العدد 150 – 151، أيلول/ سبتمبر – تشرين الأول/ أكتوبر 1985.

[44]   تجد مناقشة لبعض آثار هذه المهمة المزدوجة في المقالة التالي: يزيد صايغ، "الأداء العسكري الفلسطيني في حرب سنة 1982"، في كتاب "الاجتياح الإسرائيلي للبنان – 1982: دراسات سياسية وعسكرية" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1984)، ص 87 – 119.

[45]   بحسب ما قال عضو المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ملُّوح، مستشهداً بكلام اللواء سعد صايل. أنظر: "الحرية"، 5 حزيران/ يونيو 1983، ص 30.

[46]   Rashid Khalidi, Under Siege: PLO Decisionmaking During the 1982 War (New York: Columbia University Press, 1986), p. 59.                                                                 

[47]   “The Palestinian Surprise,” Armed Force Journal International, February 1984, p. 42.

السيرة الشخصية: 

يزيد صايغ: باحث في كلية "سانت أنطوني" في جامعة أوكسفورد (بريطانيا)، ويتركز عمله على العلاقات الدولية والأمن في العالم الثالث.