مخططات "التنظيم" الإسرائيلية: الأداة الكامنة لدمج الأراضي الفلسطينية المحتلة في إسرائيل
كلمات مفتاحية: 
الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967
تهويد
النزاع العربي - الإسرائيلي
الانتفاضة 1987
نبذة مختصرة: 

يهدف هذا البحث إلى إبراز ملامح سياسة "التنظيم" الإسرائيلية الإستعمارية في الضفة المحتلة، وطرائف تنفيذها، وآثارها السلبية في حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله، وفي إمكانيات التوصّل إلى تسوية سياسية مقبولة للقضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي. ولهذا الغرض تمّ إبراز الهدف الإستراتيجي لعملية إستيعاب إسرائيل للضفة المحتلة عملياً، وعرض "نشاطات" جهاز التنظيم الإسرائيلي المكملّة لممارسات السلطة العسكرية المحتلة والموجهة لتحقيق هدف استيعاب الضفة إسرائيلياً. كما تمّ، في هذا السياق، التعرّض للكيفية التي تستغل إسرائيل بها أوضاع الإنتفاضة الفلسطينية وآثارها، تسريعاً في تنفيذ مخططاتها التهويدية للأراضي الفلسطينية المحتلة. يستخلص هذا البحث أن جهاز التنظيم الإسرائيلي عمل منذ بداية الإحتلال، وبشكل مبرمج ومتدرّج، على إسناد مهمّة السلطات العسكرية المحتلة الموجهة نحو خلق واقع "جديد" من الأراضي الفلسطينية المحتلة، يهوّدها ويدمجها فعلياً في إسرائيل، ويصعّب إمكانات إستعادة هويّتها الفلسطينية في المستقبل.

النص الكامل: 

في الوقت الذي تتواصل المساعي الحثيثة، على مختلف الصعد، لإحداث تحرك في المسيرة السياسية من أجل إيجاد حل للقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي، خرج شمير على العالم بتصريح مقتضب، لكن واضح وصريح، يتناقض تماماً مع الجوهر المأمول من هذه المسيرة، ويؤكد النيات المبيتة للحكومة الإسرائيلية الحالية تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967. إذ شدد شمير، في أثناء لقائه مجموعة من اليهود حديثي الهجرة من الاتحاد السوفياتي، على ضرورة وجود "إسرائيل كبرى وقوية" كي تتمكن من استيعاب موجة الهجرة اليهودية الجديدة من الاتحاد السوفياتي، والتي من المتوقع أن تضخ إلى إسرائيل نحواً من 700 ألف يهودي خلال السنوات القليلة المقبلة.(1) وطبعاً، كان المعنى المتضمن في التصريح الشميري واضحاً من دون لبس، وهو ضرورة التمسك بالضفة الفلسطينية وقطاع غزة المحتلين والاحتفاظ بهما، واستخدامهما مجالاً رحباً للتوسع الاستعماري الصهيوني.

لم يأت تصريح شمير من فراغ، ولم يكن يمثل نزعة ليكودية يمينية متطرفة فقط، بل جاء امتداداً طبيعياً للأسس والمرتكزات العقائدية والممارسات التطبيقية للحركة الصهيونية منذ نهاية القرن الماضي. فمن الناحية العقائدية، قامت الحركة الصهيونية على مخطط يهدف إلى إقامة دولة يهودية نقية العرق "... في أرض إسرائيل التي لا يعرف حدودها أحد، إنما كانت الحدود التي أعلنتها المنظمة الصهيونية في مؤتمر السلام في عام 1919 تشمل فلسطين الانتدابية، وجنوب لبنان حتى منابع الليطاني، وشرقي الأردن على خط سكة حديد الحجاز."(2) وبناء على الهدف المنشود بالاستعمار الزاحف لفلسطين، قامت الحركة الصهيونية على المحورية العقائدية لمرتكزين أساسيين: ضرورة الاستيلاء المبرمج على الأرض وإفراغها من أهلها الفلسطينيين، وضرورة إحلال اليهود مكان الفلسطينيين عن طريق الهجرة الاستيطانية والزاحفة.

أما من الناحية التطبيقية، فقد اتبعت الحركة الصهيونية سياسة التدرج في إيجاد أمر واقع تلو الآخر بما يتوافق مع أهدافها.(3) فبعد استصدار وعد بلفور، قامت الحركة الصهيونية بتثبيت الشرعية السياسية للوكالة اليهودية في صك الانتداب. وفي أثناء الفترة الانتدابية، ركزت هذه الحركة جهودها على الاستيلاء على الأرض بمختلف الوسائل، واستجلاب المهاجرين اليهود بشتى الطرائق، وإقامة البنية المؤسساتية للدولة المستقبلية، ومد خطوط الاستيطان اليهودي على أكبر رقعة ممكنة. ويجدر الانتباه في هذه السياق، إلى أن الأيديولوجيا الصهيونية تعتبر الدولة اليهودية تخومية، بمعنى أن النقاط الاستيطانية هي التي تحدد مجالها، وبذلك فإن الامتداد الاستيطاني هو الوسيلة المتبعة لتوسيع عمق هذه الدولة الجغرافي.(4)

عندما وقعت الحرب، في أعقاب قرار التقسيم سنة 1947، استطاعت الحركة الصهيونية إقامة دولة إسرائيل بالاستلاء على ما يقارب 80% من مساحة فلسطين، وطرد ما يزيد على 800 ألف فلسطيني من مواطنهم. وفي الفترة بين سنة 1948 وسنة 1967، عملت الحركة الصهيونية على تدعيم بنيان الدولة الوليدة، وتوطيد بنيتها اليهودية، وتهيئتها للقيام بحملة توسعية مستقبلية. وكان ضمن الأهداف الصهيونية في تلك الحقبة، خنق ما تبقى من وجود  فلسطيني داخل إسرائيل، فتم استصدار ما يلزم من قوانين عنصرية ضد الأقلية الفلسطينية من جهة، وتوظيف المؤسسات الحكومية لتنفيذ سياسة مبرمجة ضدها.(5) وكانت سياسة التخطيط الإسرائيلية إحدى أهم الوسائل التي استخدمت لا لحصر نمو التجمعات السكانية الفلسطينية داخل إسرائيل فحسب، وإنما لتفتيتها أيضاً.(6)

وأتاحت حرب 1967 للحركة الصهيونية الفرصة لتنفيذ جزء آخر من مخططها الأصلي، فكان أن احتلت بقية فلسطين، إضافة إلى الجولان وسيناء، وحاولت طرد ما أمكن من المواطنين العرب من هذه المناطق واستيعابها إسرائيلياً. لكن، بما أن الكثافة السكانية الفلسطينية في الضفة والقطاع بقيت مرتفعة بعد استنفاد جميع محاولات الطرد الجماعي للفلسطينيين منها، فإن إسرائيل لم تتمكن من ضم هذه المناطق رسمياً إليها (باستثناء منطقة القدس)، لأن ذلك كان سينسف مبدأ "النقاء العرقي" الذي تعمل الحركة الصهيونية جاهدة لتحقيقه. وبما أن الحركة الصهيونية لم تكن أيضاً على استعداد للتخلي عن المناطق التي احتلتها سنة 1967، وتقع ضمن مخططها الأصلي للدولة اليهودية، فقد كان عليها اللجوء إلى العمل بوسائل أخرى لتحقيق استيعاب الضفة والقطاع إسرائيلياً. وانطلقت الحركة الصهيونية، هذه المرة أيضاً، من سياسة فرض الأمر الواقع التي تضمن ضم الأرض فعلياً إلى إسرائيل وتحويل أهلها الفلسطينيين إلى مجرد سكان من دون أدنى حقوق المواطنة التي منحت كاملة، طبعاً، للمستوطنين اليهود(7) (تم ضم الجولان رسمياً إلى إسرائيل لمحدودية  سكانه العرب). ولتحقيق سياسة فرض الأمر الواقع، شجعت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ومولت، إلى جانب جهات يهودية رسمية وغير رسمية، الاستيطان اليهودي للضفة والقطاع. وانبرى العديد من الهيئات والأشخاص لتقديم مشاريع خطط استيطانية لتهويد هذه المناطق المحتلة.(8)

وكان لا بد، لإحكام طوق سياسة فرض الأمر الواقع، من أن تقوم السلطة الإسرائيلية المحتلة، كما فعلت سابقاً مع الفلسطينيين داخل إسرائيل في الفترة الواقعة بين سنة 1948 وسنة 1967، باتباع سياسة خنق منهجية للفلسطينيين في الضفة والقطاع، وذلك بقصد التضييق والتعجيز للتسريع في عملية التفريغ النازف للأراضي المحتلة من أهلها. وضمن هذه السياسة، قامت إسرائيل بإصدار أوامر عسكرية عديدة ومتنوعة مكّنتها من إحكام سيطرتها على جوانب عديدة من حياة الفلسطينيين في المناطق المحتلة من جهة، وفرض استيلائها على مساحات شاسعة من أراضيها من جهة أخرى.(9) ولضمان استكمال عملية الخنق المنهجي للفلسطينيين في ظل الاحتلال، اعتمدت السلطة المحتلة على تنفيذ سياسة تخطيط وتنظيم محكمة لتجريدهم من المزيد من الأراضي، وتحديد استخداماتهم للفضلة المتبقية منها بين أيديهم.

يهدف هذا البحث إلى وصف السياسات التخطيطية وإجراءات وممارسات سلطة التنظيم الإسرائيلية في الضفة الفلسطينية منذ احتلالها سنة 1967، وتقويم دور هذه السلطة في عملية استعمار الأراضي الفلسطينية المحتلة وتهويدها. في الجزء الأول من البحث، نتطرق إلى الجوانب القانونية لعملية التخطيط، بما في ذلك إلقاء الضوء على التغييرات والتعديلات التي أدخلتها السلطة المحتلة بواسطة أوامرها العسكرية على القوانين والإجراءات التي كانت سارية وقت الاحتلال. أما الجزء الثاني فيصف خطط التنظيم الإقليمية في الضفة الفلسطينية المحتلة، ويسعى لتحليل أهدافها وعلاقتها بسياسة الاستيطان اليهودي، ويوضح طرائق ووسائل تنفيذها. وفي الجزء الثالث يتم التعرض لتأثيرات فترة الانتفاضة في عملية تنفيذ سياسات ومخططات التنظيم الإسرائيلي المختلفة، مع إيراد مثال لتوضيح الآثار والانعكاسات السلبية على فلسطينيي الضفة المحتلة من جراء هذا التنفيذ.

 سياسة التخطيط الإسرائيلية

والتلاعب بقانون التنظيم

 تهدف السياسة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بصورة أساسية، إلى إحكام السيطرة على الأرض واستيعابها إسرائيلياً من ناحية، وتطويق الفلسطينيين وحصر نموهم وخنق سبل التنمية أمامهم للتسريع في عملية تهجيرهم من البلد من ناحية أخرى. وانطلاقاً من هذه السياسة قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بتوظيف مختلف الوسائل منذ بداية الاحتلال لوضع اليد مباشرة على أكبر رقعة ممكنة من أراضي الضفة والقطاع المحتلين. أما بقية الأراضي التي لم يتم التمكن من اغتصابها المباشر حتى الآن، فأُخضعت لتقييدات منهجية وفقاً لسياسة تخطيط مبرمجة تنفذها سلطة التنظيم الإسرائيلية، وتهدف إلى الحد قدر المستطاع من إمكانات تطوير هذه الأراضي فلسطينياً، وتكبيل قدرة الفلسطينيين على التطور عليها.(10)

تشكل "اعتبارات الأمن" أهم وسيلة للاغتصاب المباشر للأراضي الفلسطينية من أصحابها، إذ تتم مصادرتها وإغلاقها على اعتبار أنها "مناطق عسكرية". أما وسائل الاستيلاء الأخرى، فتتضمن اعتبار الأرض ضمن "ملكية الدولة"، أو تصنيفها أرض "بور متروكة"، أو مصادرتها بحجة "المنفعة العامة". وبغض النظر عن الوسيلة المستخدمة للاستيلاء، كانت الأراضي الفلسطينية المصادرة غالباً ما تؤول، في نهاية المطاف، مواقع لبناء المستعمرات الإسرائيلية. ويجدر التنويه، في هذا السياق، بأن نسبة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بعملية "الشراء" ما زالت محدودة جداً قياساً بالحجم الإجمالي للأراضي المصادرة، مع العلم بأن انتقال الملكية بالشراء تم في معظمه بواسطة صفقات مريبة، كان أساسها المراوغة والتزويرات. وفي أية حال، أدت وسائل الاغتصاب المباشر المختلفة إلى إحكام السيطرة الإسرائيلية على أكثر من نصف مساحة الضفة الغربية وثلث مساحة قطاع غزة بحلول مطلع سنة 1987.(11)

أما بالنسبة إلى الأراضي المتبقية، والتي لم يتم اغتصابها المباشر بعد، فقد شكل إحداث تغييرات في البنية القانونية التي تحكم عملية تنظيم استعمالات الأراضي، وتصديق المخططات الهيكلية للمدن والقرى الفلسطينية، وإصدار تراخيص البناء، المدخل الأساسي لخنق إمكانات النمو الفلسطيني. وكانت الوسيلة "القانونية" الملائمة لفتح هذا المدخل إصدار أوامر عسكرية ملائمة، واستغلال الفجوات التطبيقية التي كانت قائمة بين القانون والممارسة في الأراضي المحتلة قبل وقوع الاحتلال، لتنفيذ سياسات عملية تحقق لإسرائيل الهدف الاستراتيجي المنشود.

لم تتميز الضفة الغربية قبل وقوع الاحتلال الإسرائيلي بنشاط تخطيط وتنظيم عصري وعلمي مبرمج. فعلى الرغم من تطور البنية القانونية لعملية التخطيط والتنظيم من قانون تنظيم المدن الفلسطيني رقم 28 لعام 1936، والصادر عن السلطة البريطانية الانتدابية، إلى القانون الأردني لتنظيم المدن والقرى والأبنية رقم 31 لعام 1955، ثم إلى القانون الأردني لتنظيم المدن والقرى والأبنية رقم 79 لعام 1966، فإن الوضع الحقيقي على أرض الواقع كان لا يزال ينبع، في جله، من أنظمة القانون البريطاني الانتدابي وأحكامه وتعليماته.

قُسّمت فلسطين، بمقتضى قانون التنظيم البريطاني الانتدابي، إلى ستة ألوية. وبموجبه قام هنري كاندل، المستشار البريطاني  في شؤون التنظيم، بإعداد مخططات إقليمية تضمنت تحديد أنظمة البناء في مناطق الأراضي المختلفة. وقد وضعت هذه المخططات موضع التنفيذ بعد المصادقة عليها تباعاً بين سنة 1942 وسنة 1945.(12)

لم يتم إعداد مخططات إقليمية جديدة تنسخ المخططات الانتدابية في منطقة الضفة الغربية (للواءي القدس ونابلس) خلال فترة الحكم الأردني، حتى بعد أن صدر قانون تنظيم المدن والقرى والأبنية رقم 31 لعام 1955. أما بالنسبة إلى المخططات الهيكلية للمدن، فقد استمر في إعدادها حتى سنة 1967 وفقاً لأحكام القانونين الأردني والبريطاني معاً، إذ بقيت مجموعة أنظمة وتعليمات انتدابية سارية المفعول بعد صدور قانون التنظيم الأردني لعام 1955. ويجب ملاحظة أن المخططات الهيكلية التي تم إعدادها لعدد من مدن الضفة الغربية، في أثناء فترة الحكم الأردني، لم تكن ناجمة عن تخطيط عصري يأخذ في الحسبان التطورات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية المستقبلية للسكان.(13) بل على العكس، كانت هذه المخططات تقليدية ومحدودة في توجهاتها التخطيطية المستقبلية، الأمر الذي لم يفسح المجال أمام المدن لتوسيع حدودها بما يضمن تخصيص مساحات ملائمة لتوقعات نموها المستقبلي. أما بالنسبة إلى قرى الضفة الغربية، فلم يتم إعداد مخططات هيكلية حتى سنة 1967، سوى لقرية واحدة كانت تعد العدة لاستيفاء متطلبات الانتقال إلى مكانة مدينة، وهي قرية الطيبة في لواء رام الله.

بناء على ما تقدم، كان البناء يتم في مدن الضفة الغربية خلال الحقبة الأردنية بموجب التراخيص الممنوحة من قبل لجان التنظيم المحلية (المجالس البلدية) داخل الحدود التنظيمية المرسومة في المخططات الهيكلية، أو ضمن حدود البلدية لتلك المدن التي افتقرت إلى مخطط هيكلي مصدَّق. وفي القرى، كانت تراخيص البناء تمنح بموجب المخططات الإقليمية المصدقة في فترة الانتداب، والتي كانت الحدود التنظيمية للقرى فيها لا تزيد، في الغالب، على جذر القرية. أما التوسع العمراني خارج الحدود التنظيمية للمدن والقرى، خلال الحقبة الأردنية، فكان يتم إما عن طريق تساهل دوائر التنظيم الأردنية في شروط منح تراخيص البناء على الأراضي الزراعية المحيطة بالمدن والقرى، وإما عن طريق البناء من دون الحصول على تراخيص مسبقة، اعتماداً أيضاً على تساهل السلطات الأردنية تجاه مسألة البناء غير المرخص. فقد كانت السلطات حينئذ تعي غياب مخططات التنظيم الإقليمية والهيكلية التي تتجاوب مع الحاجة الحقيقية إلى نمو السكان وتطور أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، ولم تكن تحملهم تبعية هذا الغياب السلبية.

وهكذا، عندما وقع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية سنة 1967، كانت الضفة الغربية "مكشوفة" من ناحية تنظيم المدن والقرى والأبنية، إذ لم يؤد إصدار قانون التنظيم الأردني الجديد رقم 79 لعام 1966 إلى إحداث تغييرات جوهرية في الوضع القائم سابقاً. وكان في قدرة إسرائيل أن تبدأ فوراً بتعديل القانون لخدمة أغراضها، واستغلال الثغرات وكوامن الضعف في نواحي التنظيم التطبيقية الموجودة، مداخل للتضييق على الفلسطينيين وحصر وجودهم.

تضمن قانون تنظيم المدن والقرى والأبنية الأردني رقم 79 لعام 1966، وهو القانون الذي تفترض الأحكام الدولية وقواعد القانون الدولي المتضمنة باتفاقية لاهاي لعام 1907 ومعاهدة جنيف لعام 1949، الاستمرار في تطبيقه في الضفة الغربية بعد احتلالها، تقسيم مسؤولية التخطيط العام في المنطقة وفقاً لمستويات تنظيم مراتبية، محلية ولوائية ومركزية، وتحديد تشكيلة وصلاحيات لجان ودوائر التنظيم في كل من هذه المستويات وتوضيح علاقة بعضها ببعض.(14) واحتوى القانون أحكاماً تضمن مشاركة مندوبي هيئات ومؤسسات متعددة في عمل لجان التنظيم على مختلف مستوياتها.(15) كما حدد الأسس التي يجب اتباعها في إعداد مخططات التنظيم الهيكلية والتفصيلية على المستويين الإقليمي والمحلي، والشروط والإجراءات اللازمة لمنح رخص البناء في مناطق التنظيم المختلفة. ويلاحظ المراجع لبنود هذا القانون وإحكامه، أنه يعطي صلاحيات واسعة للجان التنظيم المحلية في البلديات والمجالس القروية لإصدار رخص البناء داخل حدود التنظيم المحلي.(16)

ومن أجل إضفاء "الشرعية القانونية" على تنفيذ المخططات التهويدية في الضفة المحتلة، قامت السلطة الإسرائيلية المحتلة سنة 1971 بـ "تعديل" نسف بصورة فعلية قانون التنظيم الأردني رقم 79 لعام 1966. ففي الثالث والعشرين من آذار/ مارس 1971، أصدر القائد الإسرائيلي لمنطقة الضفة الغربية الأمر العسكري رقم 418 ليصبح الركيزة "القانونية" لعملية التنظيم الشاملة في المنطقة. وبموجب هذا الأمر، تم تخويل المسؤول المعين من قبل القائد العسكري للضفة الغربية، جميع الصلاحيات المخولة للوزير الذي يترأس كامل جهاز التنظيم وفقاً للقانون الأردني آنف الذكر. وبمقتضى التخويل أصبح "المسؤول" الإسرائيلي يتمتع بصلاحيات واسعة، تشمل متابعة تنظيم استعمال جميع الأراضي بما يكفل تحقيق "المصلحة العامة"، ومراقبة لجان التنظيم المختلفة والإشراف على عملها، وإعلان مناطق تنظيم وتوسيعها وإلغائها بتوصية من مجلس التنظيم الأعلى.(17)

كذلك، منح القائد الإسرائيلي نفسه في الأمر العسكري رقم 418 صلاحية تعيين مجلس التنظيم الأعلى، وهو أعلى سلطة تنظيم وفقاً للقانون الأردني. وبينما يتشكل المجلس، بمقتضى قانون التنظيم الأردني رقم 79 لعام 1966، من الوزير (رئيس مجلس الوزراء لشؤون أمانة العاصمة، ووزير الشؤون البلدية والقروية لباقي مناطق المملكة) رئيساً، وعضوية ثمانية أعضاء يمثلون هيئات ومؤسسات مختلفة،(18) فإن المجلس في ظل السلطة المحتلة أصبح يتشكل من ضباط عسكريين إسرائيليين فقط. وقد فتح هذا التشكيل، بما ينطوي عليه من انضباطية العسكر، المجال أمام "المسؤول" الذي يتولى رئاسة المجلس للسيطرة الشاملة على جهاز التنظيم بأسره.(19) فصلاحية هذا المجلس كما حددها القانون الأردني شاملة، وتتضمن إعلان مناطق تنظيم المدن، وإقرار مخططات التنظيم الإقليمية والهيكلية، وإصدار أوامر تعديل أو إلغاء تراخيص البناء وتعمير الأراضي، والنظر في الاستئنافات المقدمة ضد قرارات لجان الألوية.(20)

وبالإضافة إلى تغيير تركيبة مجلس التنظيم الأعلى، فإن الأمر العسكري رقم 418، والتعديلات التي أُدخلت عليه بأوامر عسكرية لاحقة، وسّعت من صلاحيات المجلس.(21) فقد أصبح ضمن صلاحياته تعديل أو تعطيل كل تصميم أو رخصة للفترة التي يجدها ملائمة، وتقلد أية صلاحيات، وإصدار أية رخصة مخولة بإصدارها لجنة من لجان التنظيم اللوائية أو المحلية، وإعفاء أي شخص من واجب الحصول على رخصة يتطلبها القانون.(22) وكان مما زاد في سيطرة المجلس الفعلية على عملية التنظيم، تشديد الأمر العسكري رقم 418 على ضرورة اتباع المركزية في عمل جهاز التنظيم. وبمقتضى هذا التوجه، تم توسيع صلاحيات دائرة التنظيم المركزية التي تمثل الذراع التنفيذية لمجلس التنظيم الأعلى، بينما تم إلغاء اللجان اللوائية التي تضمنها القانون الأردني، على أساس أن الضفة المحتلة تشكل لواء تنظيمياً واحداً فقط. وبدلاً من هذه اللجان التي تتمتع باعتبارية قانونية ذاتية كفلها قانون التنظيم الأردني رقم 79 لعام 1966، أقر الأمر العسكري رقم 418 لمجلس التنظيم الأعلى أن يؤلف لجاناً منبثقة منه عند الحاجة، تعمل بتوجيهاته وتمتثل لتعليماته. واستكمالاً لتوسيع صلاحيات المستوى المركزي للتنظيم، وإلغاء المستوى اللوائي، تم الاحتفاظ بالمستوى المحلي عن طريق تأليف ست لجان محلية مسلوبة الصلاحيات لتقوم بتنفيذ قرارات دائرة التنظيم المركزية.(23) (أنظر اللوحة رقم 1)

وباختصار يمكن القول ان الأمر العسكري رقم 418 لم يصدر لـ "يعدل" قانون التنظيم الأردني رقم 79 لعام 1966، وإنما جاء في الواقع لينقضه ويستبدله. وبواسطة أحكام هذا الأمر، الذي أصبح "القانون" الفعلي الساري، والتعديلات التي أُدخلت عليه تباعاً، تمكنت السلطة المحتلة من التضييق على الفلسطينيين وكبح النمو الفلسطيني في الضفة المحتلة من جانب، وتهيئة الأوضاع الملائمة لدفع عملية التهويد والاستيطان فيها من جانب آخر. فبمقتضى هذا الأمر العسكري، تم وضع مجمل عملية التنظيم – بما تشتمل عليه من تحديد استعمالات الأراضي، وإقرار المخططات الإقليمية والهيكلية، وإصدار تراخيص البناء في الضفة المحتلة – في أيدي ضباط عسكريين هدفهم الأساسي وشغلهم الشاغل تنفيذ سياسة التخطيط الإسرائيلية القائمة على استيعاب ودمج الضفة المحتلة إسرائيلياً، وتفريغها من مواطنيها الفلسطينيين.

 "التنظيم"

أداة التنفيذ المبرمج لسياسة التخطيط الإسرائيلية

ارتبطت سياسة اعتماد إسرائيل المبرمج على عملية التنظيم في الحد من النمو الفلسطيني في الضفة المحتلة، ارتباطاً وثيقاً بالتغيرات في الموقف الإسرائيلي الرسمي تجاه مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة وعملية الاستيطان فيها. فخلال العقد الأول من احتلال سنة 1967، والذي شهد استمرار الهيمنة المطلقة لحزب العمل على مجرى الحياة السياسية الإسرائيلية، ارتسمت الخطوط العريضة للسياسة الإسرائيلية تجاه الضفة الغربية (وقطاع غزة) بمشروع يغآل آلون الذي عرضه بشكله النهائي سنة 1970. وعلى الرغم من أنه لم يتم قط إقرار هذا المشروع رسمياً من قبل الحكومة الإسرائيلية، فإنه بقي الموجه الرئيسي لموقف حزب العمل من التسوية السياسية، ولسياسات حكوماته المتعاقبة تجاه الأراضي المحتلة حتى سنة 1977.

ينطلق مشروع آلون من قبول مبدأ التسوية الإقليمية للصراع العربي – الإسرائيلي، بحيث يتم في إطار معاهدة سلام شاملة إعادة أجزاء داخلية من الضفة الغربية (كما الحال مع قطاع غزة) تتميز بكثافتها السكانية العالية إلى السيادة الأردنية المقيدة. ويقوم المشروع أيضاً على اعتبار أن مقتضيات الأمن الإسرائيلي تتطلب أن يكون نهر الأردن الخط الحدودي الفاصل مع الأردن. وبموجب ذلك، يفترض المشروع ضرورة إقامة شريط حدودي في منطقة غور الضفة المحتلة، وهي منطقة قليلة الكثافة السكانية قياساً بالمرتفعات الداخلية، ويشترط تكثيف الاستيطان اليهودي فيه، ليشكل "عازلاً أمنياً للحدود الشرقية."

وبناء على الرؤية السياسية المتضمنة في مشروع آلون، تم تحديد أولوية الاستيطان المبرمج والمدعوم حكومياً داخل الضفة المحتلة في منطقة الأغوار (إضافة إلى حزام استيطان كثيف حول مدينة القدس). وتم، انطلاقاً من ذلك، إنشاء ما مجموعه 34 مستعمرة فيها حتى سنة 1983. ونظراً إلى عدم إيلاء حزب العمل في حينه اهتماماً استراتيجياً خاصاً لمنطقة "داخل" الضفة ذات الكثافة السكانية العالية، لم يتم في البداية توظيف عملية التنظيم للحد من النمو الفلسطيني فيها بشكل مكثف ومبرمج. فحتى سنة 1972، حين أُنشئت دائرة التنظيم المركزية، بقيت رخص البناء تمنح من قبل الحاكم العسكري لكل منطقة من مناطق الضفة. بعد ذلك، أخذت الدائرة الجديدة مسؤولية منح رخص البناء بشكل مركزي. وكانت عملية الحصول على رخصة بناء داخل المدن والقرى سهلة خلال السبعينات قياساً بحجم التعقيدات التي بدأت تفرض مع مطلع الثمانينات، حين شرع في إعداد مخططات إقليمية جديدة، وظيفتها إيقاف امتداد النمو الفلسطيني وتكثيف عملية الاستيطان الإسرائيلي داخل الضفة المحتلة.

منذ منتصف السبعينات بدأت النظرة الإسرائيلية إلى الضفة المحتلة بالتحول تدريجاً. فمن ناحية، قامت حركة "غوش إيمونيم" اليمينية، ابتداء من سنة 1974، بحملة عملية واسعة لفرض نظرتها العقائدية على استراتيجية الاستيطان في الأراضي العربية المحتلة. وتتمحور هذه النظرة حول اعتبار "يهودا والسامرة" جزءاً لا يتجزأ من "أرض إسرائيل". ومن هذا المنطلق، بدأت الحركة بمحاولة فرض أمر واقع استيطاني في عمق الضفة المحتلة، حول التجمعات السكانية الفلسطينية وداخلها، وفقاً للخطة الاستيطانية التي قدمتها سنة 1978، والقاضية بتوطين مليون مستوطن يهودي في مختلف أرجاء الضفة خلال عشرة أعوام.(24) (أنظر اللوحة رقم 2).

 

 

 

 من ناحية ثانية، بدأت تظهر منذ أواسط السبعينات نزعة استيطان "اقتصادية" في أوساط أبناء الطبقة الإسرائيلية الوسطى من سكان تل أبيب والقدس. فغلاء إيجارات الشقق، وارتفاع أسعار البيوت في هاتين المدينتين، علاوة على نمط الحياة السريع وضوضائها، دفعت بالعديد من أصحاب المهن والأزواج الشابة إلى التوجه لاستيطان محاور الضفة المحتلة القريبة منهما. وبدأت المستعمرات الإسرائيلية في هذه المحاور تغري أمثال هؤلاء المستوطنين بمعادلة اقتصادية جذابة، تقوم على أساس ضمان رخاء العيش بزهيد الثمن، مع عدم التضحية بالبقاء على مقربة من مكان العمل والترفيه.(25) وقام حزب العمل سنة 1976 بالتجاوب مع نزعة الاستيطان "الاقتصادية" بإعداد خطة استيطانية تكفل الاحتفاظ بأجزاء الضفة القريبة من تل أبيب والقدس بعد أن يتم التوصل إلى تسوية سياسية إقليمية (أنظر اللوحة رقم 3).

ومن ناحية ثالثة، أدى الانقلاب السياسي الذي شهدته إسرائيل بوصول الليكود إلى سدة الحكم سنة 1977، إلى تعزيز التوجه الإسرائيلي الاستيعابي للأراضي المحتلة. فالليكود يؤمن بأن حرب 1967 كانت بالنسبة إلى إسرائيل "حرباً تحريرية" تم خلالها "استعادة" أجزاء من "أرض إسرائيل التاريخية". ومن هذا المنطلق، يتحدد موقف الليكود القاضي بعدم إمكان حتى التفكير في التخلي عن حق السيادة الإسرائيلية على أي قسم من هذه الأجزاء "المحررة". بل بالعكس، يجد الليكود أن الواجب الصهيوني الأصيل يحتم ضرورة استيعاب هذه الأجزاء، وتكثيف استيطانها يهودياً، وتفريغها من أكبر عدد ممكن من مواطنيها الفلسطينيين.

مع نهاية عقد السبعينات، أدى تفاعل التطورات الثلاثة آنفة الذكر بعضها مع بعض، وما تركه ذلك من أثر فعلي في نمو حركة الاستيطان وتغلغل المستعمرات الإسرائيلية في الضفة والقطاع، إلى إحداث تغير جذري في النظرة الإسرائيلية العامة تجاه مستقبل الأراضي المحتلة، وبالتحديد مستقبل الضفة المحتلة. ففي ذلك الوقت، زادت بصورة رئيسية قوة الرأي الداعي إلى ضرورة الاحتفاظ بالضفة تحت السيادة الإسرائيلية، وإلى ضرورة تغيير طبيعتها الديموغرافية عن طريق الاستيطان اليهودي الكثيف في أرجائها كافة. ومع توسع الاستيطان وتشكيل المجالس الإقليمية للمستعمرات، أصبح من الأهداف الأساسية لإسرائيل حصر النمو الفلسطيني وتقليص موارد عيش الفلسطينيين من جهة، وفتح المجال واسعاً أمام نمو المستمرات وإدماجها بمختلف الوسائل في شبكة الحياة الإسرائيلية من جهة أخرى. ومن هذا المنطلق، بدأ الإسرائيليون باستغلال مكثف لسلطة التنظيم في الضفة الغربية من أجل فرض القيود والتكبيلات على الفلسطينيين بواسطة تحديد استعمالات الأراضي، ومحاولة إقرار مخططات تنظيم إقليمية وهيكلية إسرائيلية، والتحكم في إصدار تراخيص البناء، وإنزال أقصى العقوبات بمن يعتبر "مخالفاً للقانون".

 

 

مخططات التنظيم الإقليمية:

شرعت السلطة الإسرائيلية المحتلة، منذ أواخر السبعينات، في إعداد مخططات إقليمية لمناطق الضفة الغربية تتلاءم والمنطلقات الجديدة للسياسة الإسرائيلية، لتحل مكان المخططات التي أعدها البريطاني كاندل سنة 1942. وفي سنة 1982، تم نشر أول هذه المخططات تحت اسم "مشروع تنظيم إقليمي جزئي رقم 1/82: تعديل رقم 1/82 لمشروع التنظيم الإقليمي لمنطقة القدس رقم RJ/5 لعام 1942". وتضمن هذا المخطط، الذي أصبح يعرف منذئذ بـ "مشروع منطقة المركز"، مشروعاً إسرائيلياً لهيكلة منطقة مركز الضفة المحتلة، وهي منطقة تشمل مساحة مقدارها 446,279 دونماً (لا يتضمن هذا الرقم نحو 70 ألف دونم صودرت سنة 1967 لتوسيع حدود بلدية القدس)، وتضم 49 مدينة وقرية فلسطينية و7 مخيمات لاجئين.(26) (أنظر اللوحة رقم 4).

هدف الإسرائيليون بإعلان المخطط الإقليمي لمنطقة المركز إلى تحقيق عدة أهداف جملة واحدة.(27) أولاً، عزل شمال الضفة المحتلة عن جنوبها، مما يقطع أوصالها ويهدم تكاملها بدق إسفين استيطاني يهودي كثيف في وسطها، يحقق ربط منطقة الأغوار بالساحل؛ ثانياً، توسيع منطقة القدس في إطار مخطط "القدس الكبرى" عن طريق إحاطتها بحزام استيطاني عريض وكثيف بغية ترسيخ فرض الأمر الواقع القائم لتحقيق استيعابها فعلياً في إسرائيل، وضمان استمرار ضمها حتى في حالة التوصل إلى تسوية سياسية قائمة على حل إقليمي للصراع؛ ثالثاً، تسهيل توسيع رقعة الاستيطان اليهودي من خلال تقييد التصرف العربي في مساحات كبيرة من الأراضي تضاف مستقبلاً إلى ما تم مصادرته من قبل السلطة المحتلة؛ ورابعاً، خنق إمكانات النمو والتطور العربيين في مختلف المجالات الحيوية، وحصر الفلسطينيين في بقع مضغوطة وغير قابلة للتوسع، الأمر الذي يهدف إلى التضييق عليهم وحملهم على الهجرة من بلدهم. ومن المثير للانتباه أن المخطط يقوم على أساس تقدير عدد السكان الفلسطينيين المشمولين ضمنه عند سنة 2002 بنحو 272,000 نسمة، بينما وصل العدد الفعلي لهم عند نشر المشروع سنة 1982 إلى 275,000 نسمة.

على أساس الأهداف المذكورة أعلاه، تقوم سلطة التنظيم الإسرائيلية، من خلال مخططها الإقليمي الجديد، بتحديد استعمالات الأراضي المشمولة ضمنه على النحو التالي:

 

المنطقة

المساحة بالدونمات

النسبة المئوية

المناطق الحمر

(المخصصة للإسكان العربي)

 

58,941

 

13%

المناطق الصفر

(المخصصة للاستيطان اليهودي)

 

76,608

 

17%

المناطق الخضر

(محميات طبيعية)

 

28,820

 

7%

المناطق الزراعية

263,570

59%

الطرق

(وتشمل منطقة المطار)

 

18,340

 

4%

المجموع

446,279

100%

 

يتضح من التقسيم المتضمن في الجدول أن مساحة الأراضي المخصصة للتطور العمراني العربي محددة بنسبة 13% من مجموع الأراضي المشمولة في المخطط. ويجب الانتباه إلى أن هذه النسبة تضم مساحة المدن والقرى والمخيمات القائمة ضمن المخطط، الأمر الذي يعني أن مساحات الأراضي الفارغة والمخصصة كمناطق تطوير عمراني مستقبلي يسمح للفلسطينيين بالبناء عليها، محدودة جداً. وفي الواقع، اكتفى المخطط بتحديد هذه المناطق ضمن الحدود البلدية للمدن والمسطحات المقلصة للقرى الواقعة ضمنه، مما ترك العديد من الأبنية القائمة فعلياً خارج حدود المنطقة المسموح للفلسطينيين بالبناء عليها، تسهيلاً لإمكان هدمها مستقبلاً. وتتجلى بذلك السياسة الإسرائيلية الهادفة إلى تجميع الفلسطينيين وحصرهم داخل تجمعات سكانية ذات كثافة عالية، وذلك لضمان منع امتدادهم الأفقي خارج الحدود المقلصة لمدنهم وقراهم.(28)

لم يقف المخطط الإقليمي لمنطقة المركز عند حد منع الامتداد الأفقي الفلسطيني فقط، بل تعداه إلى تشجيع تهجير الفلسطينيين عن طريق الحد أيضاً من إمكان البناء داخل المنطقة المخصصة ضمنه لـ"التطوير العربي"، والتي من المفترض أصلاً أن يسمح للفلسطينيين بالبناء ضمنها. فقد وضع المخطط قواعد جديدة لإصدار رخص البناء، قلص بواسطتها إمكان حصول المواطنين الفلسطينيين عليها. ومن هذه القواعد، فرض شرط إثبات ملكية طالب الرخصة الفعلية للأرض المزمع إقامة البناء عليها،(29) وضرورة الحصول على تصديق رسمي لخريطة  مفصلة بالبناء تتضمن مواصفات الارتداد والارتفاع المحددة، إضافة إلى الموافقة على الشكل المعماري للبناء، وعلى تصميم الأرض المحيطة به وتسويتها وغرسها(30) كما تتضمن الشروط إمكان  تقييد أو منع البناء في المناطق التي تعتبرها سلطة التنظيم ضرورية لـ "منع الضوضاء" أو لـ "الحفاظ على الطبيعة".(31) وتظهر دراسة القائمة الكاملة للمواصفات الواردة في المخطط بشأن الحصول على رخصة بناء، أن الهدف الإسرائيلي الكامن وراءها هو تعجيز الفلسطينيين عند مجرد التفكير في الحصول على رخصة بناء، وتعطيل عملية إصدار الرخص بعد تقديم الطلبات قدر الإمكان.

 

أما خارج المنطقة المخصصة لـ"التطوير العربي"، فقد تم حظر البناء على الفلسطينيين حظراً تاماً. وفي المقابل، خصت المستعمرات الإسرائيلية بنسبة 17% من مساحة المخطط (76,600 دونم)، ومنحت مجالسها المحلية سلطة تنظيم مطلقة داخل حدودها التنظيمية. وتضمن المخطط أيضاً إقراراً لشبكة طرق رئيسية تصل المستعمرات بعضها ببعض، وتربطها جميعاً بالقدس ومنطقة الساحل (تل أبيب). أما المناطق الزراعية (59%) والمحميات الطبيعية (7%)، فتبقى بعد إغلاقها أمام إمكان التوسع العربي مصادر كامنة للتوسع الاستيطاني اليهودي المستقبلي. وعلى هذا الأساس، تعمل سياسة التخطيط الإسرائيلية بأساليب "قانونية" على تجريد الفلسطينيين من أراضيهم، وتهميش وجودهم داخل وطنهم.

وعلى الرغم من أنه لم يتم نشر مخططات إقليمية جديدة حتى الآن لمنطقتي شمال الضفة وجنوبها، كالمخطط الإقليمي لمنطقة المركز، فإن ذلك لم يحل دون تعرض المواطنين الفلسطينيين في هاتين المنطقتين لعملية التضييق نفسها التي يتعرض فلسطينيو وسط الضفة المحتلة لها. فبدلاً من تقييدات المخطط المنشور لمنطقة وسط الضفة، يتعرض فلسطينيو شمال الضفة وجنوبها لتقييدات مخططين "في قيد الإعداد". فالسلطة المحتلة، كما تشير الدلائل المتوفرة كافة، بدأت في الوقت الذي شرعت في إعداد مخطط إقليمي لوسط الضفة، بإعداد مخططين آخرين لمنطقتي شمال الضفة  وجنوبها. ومع أن السلطة لم تعلن رسمياً هذين المخططين في الوقت الذي أعلنت مخطط وسط الضفة، ربما للتقليل قدر الإمكان من حدة واتساع المعارضة الفلسطينية لمشروع التخطيط برمته، إلا أنها "وظفت" غيابهما أيضاً لتحقيق مآربها. فعوضاً من استمرار وضع التنظيم في المنطقتين على الأسس السارية نفسها (مخططات كاندل)، تقوم السلطة المحتلة باستغلال عدم إعلان هذين المخططين ذريعة للتعطيل والتضييق على المواطنين الفلسطينيين، وذلك بحجة إمكان تعارض ما يتقدمون به من مشاريع وطلبات لدائرة التنظيم مع تفاصيل وأحكام المخططين عندما يحين وقت نشرهما. وهكذا، كما يتعرض جزء من الفلسطينيين في إحدى مناطق الضفة المحتلة لعقاب مخطط إقليمي احتلالي، يتعرض آخرون في مناطق أخرى منها للقدر نفسه من العقاب بسبب عدم "وجود" مثل هذا المخطط.

 مخططات التنظيم الهيكلية:

لم تواجه السلطة المحتلة، في مسعاها لتحقيق أهداف تخطيطها الاستيعابي للضفة المحتلة، "عوائق" كبيرة من قبل مدن الضفة. فبالإضافة إلى محدودية عدد هذه المدن وتفرق بعضها عن بعض، وتبعثرها في مختلف مناطق الضفة، يوجد لمعظمها مخططات هيكلية معدة إما في عهد الانتداب وإما خلال الحقبة الأردنية، ومصدقة وفقاً لمخططات كاندل الإقليمية. وبما أن المساحة التنظيمية للمخططات الموجودة كانت محدودة أصلاً، استطاعت السلطة المحتلة أن "تضبط" التوسع العمراني للمدن من خلال فرض التزام العمل بمقتضى هذه المخططات، والتحكم في إمكان إعداد مخططات جديدة لتوسيع حدود التنظيم المحلي.

لكن قرى الضفة، بعددها الكبير وانتشارها الكثيف، شكلت مبعث قلق للسلطة الإسرائيلية، وخصوصاً أنه لم يتوفر لجهاز التنظيم مخططات هيكلية قديمة لها، كي يتم التشبث بها وتوظيفها لخنق إمكانات التطور العمراني في الريف الفلسطيني. فجميع قرى الضفة، باستثناء قرية واحدة هي الطيبة، كانت عند وقوع الاحتلال من دون مخططات هيكلية. وكان البناء فيها يتم وفقاً لأحكام المخططات الإقليمية التي أعدها كاندل، والتي كانت تسمح بالبناء في المناطق الزراعية خارج حدود جذر القرى بشروط سهلة.

وجدت السلطة الإسرائيلية أن تحقيق أهداف تخطيطها الاستيعابي للضفة المحتلة يستند إلى القيام بخطوات تحكم سيطرتها على النمو والتوسع العمراني في الريف الفلسطيني. ولذلك، كانت دائرة التنظيم المركزية، في الوقت الذي نشرت المخطط الإقليمي لمنطقة المركز، قد أوكلت إلى مكتب المهندس الإسرائيلي شمشوني مهمة إعداد مخططات هيكلية لـ 180 قرية عربية في وسط الضفة وجنوبها. وجرى العمل على إعداد هذه المخططات وفقاً للشروط والأحكام التي تضمنها المخطط الإقليمي لمنطقة المركز، والمخطط الإقليمي للطرق الذي نشر سنة 1983، وعلى أساس العمل قدر المستطاع على حصر الحدود التنظيمية للقرى بمناطقها ذات البناء الكثيف فقط. وطبعاً، لم يتم أخذ المواصفات الدولية المتعارف عليها لعملية التخطيط التنموي لهذه التجمعات، في أي اعتبار.

بعد انتهاء شمشوني من إعداد مخططات قرى وسط الضفة وجنوبها، سنة  1983، تم التعاقد معه ثانية سنة 1984 ليقوم، وعلى الأسس نفسها، بإعداد مخططات هيكلية لـ 103 قرى في منطقة شمال الضفة. وعندما أتم شمشوني مهمته سنة 1985 وأعلنت جميع المخططات، ثارت معارضة فلسطينية عارمة عليها. وقام عدد من القرى بمحاولة التصدي لمخططات شمشوني من خلال المبادرة إلى إعداد مخططات هيكلية مقابلة للمخططات التي أعدها، بحيث تستجيب للمتطلبات الحقيقية لنمو هذه القرى وتطورها المستقبلي. وكان من نتائج هذه المحاولة عدم تمكن دائرة التنظيم المركزية من إيداع أي من مخططات شمشوني للتصديق النهائي عليها، حتى بداية اندلاع الانتفاضة الفلسطينية أواخر سنة 1987. وهكذا، بقيت قرى الضفة من ناحية فعلية على وضعها السابق، إلا إن إجراءات الحصول على تراخيص بناء أصبحت، بعد إعداد مخططات شمشوني، أكثر صعوبة وتعقيداً مما كانت عليه سابقاً. وفي الواقع، أصبحت دائرة التنظيم المركزية تطبق فعلياً أحكام مخططات شمشوني غير المصدقة على الطلبات المقدمة للحصول على رخص بناء في القرى الفلسطينية.

المشروع الإقليمي للطرق رقم 50:

لإكمال هجمة "التنظيم" الإسرائيلية في الضفة المحتلة، وإحكام الطوق على الفلسطينيين، قامت دائرة التنظيم المركزية سنة 1983 بإعداد "مشروع هيكلي جزئي إقليمي للطرق رقم 50"، من أجل استحداث شبكة طرق جديدة في الضفة تتلاءم ومقتضيات التخطيط الإسرائيلي. وجاء في شرح أهداف المشروع ما يلي: "وصف شبكة الطرق الطبيعية القائمة والمفصلة (المقترحة) في يهودا والسامرة بشكل عام مع ذكر خطوط الطرق وتصنيفها وطريقة اندماجها بشبكة واحدة"، و"تصميم وتوجيه التنظيم والتطوير على الصعيدين الإقليمي واللوائي بكل ما يتعلق بطرق المواصلات الرئيسية ولتحقيق المبادىء والغايات النابعة عن رؤيا شاملة للتنظيم بمنطقة يهودا والسامرة."(32) وقد جاء المشروع الإقليمي للطرق لينسخ الأمر العسكري رقم 810 الذي صدر سنة 1979، والذي "عدل" القانون الأردني للطرق رقم 29 لعام 1951.(33) ويتضمن مخطط هذا المشروع تحديد أنواع الطرق التي ستضمها الشبكة عند انتهاء إقامتها في الضفة المحتلة، مع تحديد أطوالها وعرض قطاعاتها المنظمة وعرض خطوط البناء على جوانبها. ويمكن تلخيص معطيات هذا المخطط بما يلي:

 

نوع الطريق

عرض الطريق

بالأمتار

الابتعاد عن خط وسط الطريق عند البناء من كل جانب بالأمتار

طول الطريق

(كلم)

المساحة

(كلم2)

الطريق السريع

120

150

93,5

28

الطريق الرئيسي

100

120

517,5

124,2

الطريق الإقليمي

60

100

636

127,2

طرق محلية رئيسية

40

70

727

87,6

المجموع

 

 

1873,5

367

 

وبتحليل خريطة شبكة الطرق المقترحة في المخطط (أنظر لوحة رقم 5)، تتضح مجموعة الأهداف الكامنة في المشروع. فأولاً، يهدف مخطط الطرق رقم 50 إلى استكمال هدف مخطط التنظيم الإقليمي لمنطقة المركز بتقطيع أوصال الضفة المحتلة، وعزل التجمعات السكانية الفلسطينية ضمن "كانتونات" يفصل بعضها عن بعض شبكة من الشوارع العازلة والمستعمرات الإسرائيلية. ويتم بواسطة ذلك تحديد جميع إمكانات التطور العربي في بنية معزولة ومنفصلة بالكامل عن تطور بنية الاستيطان اليهودي المخططة للضفة المحتلة. ثانياً، يقوم المخطط بالعمل على دمج الضفة فعلياً في إسرائيل، عن طريق إيجاد شبكة طرق رئيسية تقطع الضفة عرضياً وتصل المستعمرات فيها بقلب إسرائيل. أما التجمعات السكانية الفلسطينية، فتبقى متصلة بشبكة طرق فرعية ومفصولة نسبياً عن الشبكة الرئيسية المستحدثة. وبإيجاد هذه الازدواجية في شبكة طرق الضفة، يحاول المخطط أن يخنق البنية التحتية الفلسطينية، ويقيم عوضاً منها، وبالتدريج، بنية مكملة للبنية التحتية في إسرائيل. ولهذا، يعتبر المخطط الإقليمي "الجزئي" للطرق رقم 50 جزءاً لا يتجزأ من المخطط القطري رقم 3 المصدق من قبل الحكومة الإسرائيلية سنة 1976، والشامل لكل إسرائيل.(34) ثالثاً، يؤدي المخطط إلى استيلاء السلطة المحتلة استيلاء غير مباشر على المزيد من الأراضي الفلسطينية، إضافة إلى مجمل الأراضي التي يتم الاستيلاء عليها بطرائق المصادرة المباشرة. فمخطط الطرق سيستنفد من الفلسطينيين ما مجموعه 367 ألف دونم. وإذا ما تم حسم مساحة الطرق الموجودة حالياً في الضفة والمنوي دمجها في الشبكة المستحدثة، فإن المخطط سيستهلك استهلاكاً فعلياً 280 ألف دونم، لن يسمح للفلسطينيين باستغلالها بأية طريقة من الطرائق (تجدر الإشارة إلى أن نحو 1300 كلم من طرق شبكة المخطط ستكون على طرق قائمة حالياً في الضفة. لكن، بما أن هذه الطرق القائمة ليست بمقاييس المخطط، فإن أراضي كثيرة ستقتطع لتوسيعها). رابعاً، سيؤدي تنفيذ المخطط المذكور إلى المزيد من خسارة الأرض الزراعية في الضفة، الأمر الذي سينتج منه حرمان العديد من الفلسطينيين من مصدر رزقهم، ويدفع بهم في نهاية المطاف إلى الهجرة. فعلى سبيل المثال، تم احتساب الخسائر التي ستنجم في هذا المجال عن إقامة طريق رقم 57 في المخطط المذكور (طولكرم – عنبتا، طلوزة – غور الفارعة)، فتبين أن بين ما سيتم إتلافه 1586 دونماً من الأراضي الزراعية المغروسة بالحمضيات واللوز والزيتون، إضافة إلى تدمير مشروع ري الفارعة الذي يروي 16 ألف دونم، ويوفر المياه للسكان والمواشي في تلك المنطقة.(35)

 

 

بعد إعلان "المخطط الهيكلي الإقليمي لمنطقة المركز"، وإيداع "المشروع الهيكلي الإقليمي الجزئي للطرق" للاعتراض، شن الفلسطينيون حملة منظمة وفعالة ضدهما. وتضمنت الحملة، بين سنة 1982 وسنة 1985، تأليف لجنة متابعة لتقديم الاعتراضات، وعقد المؤتمرات الصحافية، ومتابعة الأمر قضائياً في المحكمة العليا الإسرائيلية، وإعداد ملف للجمعية العامة للأمم المتحدة لإحالة القضية على محكمة العدل الدولية في لاهاي.(36) وتم خلال الحملة التي شنتها المؤسسات والهيئات الوطنية، تقديم آلاف الاعتراضات الفردية على مشروع المخطط المزمع للطرق.

وتحت وطأة الحملة الفلسطينية المضادة للمخططين في حينه، أحجمت السلطة المحتلة عن استكمال العملية القانونية للمصادقة على "المخطط الهيكلي الإقليمي لمنطقة المركز"، ولم تقم حتى بإيداعه – كما حدث للمخططات الهيكلية التي أعدها شمشوني – للاعتراض وفقاً لما ينص القانون عليه. وبالنسبة إلى "المشروع الهيكلي الإقليمي الجزئي للطرق"، فقد تم تجميده ظاهرياً ومرحلياً، ولم تقم سلطة الاحتلال باستكمال العملية القانونية التي تفرض عليها النظر في جميع الاعتراضات المقدمة عليه. غير أن من الضروري الإشارة إلى أن سلطة الاحتلال لم تقم بإلغاء مخططيها، بل بقيت تتوثب للتصديق عليهما وتمريرهما عندما تحين الفرصة المواتية بانشغال أو إشغال الأوساط الفلسطينية والدولية بقضية جديدة. وفي أثناء انتظارها، شرعت هذه السلطة في تنفيذ جزئي وتحضيري – لكن مبرمج – للمخططين، كتنفيذ أجزاء من شبكة الطرق وتقييد تراخيض البناء العربية في المناطق "المغلقة" وفقاً لهما.

 ترخيص الأبنية:

منح قانون تنظيم المدن والقرى والأبنية الأردني رقم 79 لعام 1966 جهاز التنظيم صلاحية منع البناء في المناطق التي تخرج عن تلك المخصصة له وفقاً للمخططات الإقليمية والهيكلية السارية. وخول القانون لجان التنظيم المحلية، كلا في منطقتها، صلاحية إقرار إصدار رخص البناء وفقاً لأحكامه وتعليماته، بينما أعطى اللجان اللوائية والمركزية صلاحية النظر في الاعتراضات والاستئنافات المقدمة على قرارات اللجان المحلية.(37) لكن السلطة الإسرائيلية عمدت، بمقتضى الأمر العسكري رقم 418، إلى إلغاء تقسيم صلاحيات إصدار رخص البناء بين مستويات جهاز التنظيم الثلاثة، وقامت من ناحية فعلية بتجميعها في المستوى المركزي المتمثل في مجلس التنظيم الأعلى ودائرة التنظيم المركزية.

بعد وقوع الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967، استمرت عملية إصدار رخص البناء حتى سنة 1971، كما ذكر سابقاً، بموجب القانون الأردني واستناداً إلى مخططات كاندل الإقليمية، مشروطة بالحصول على موافقة الحاكم العسكري لكل منطقة من مناطق الضفة المحتلة. وبعد صدور الأمر العسكري رقم 418 بشأن قانون المدن والقرى والأبنية سنة 1971، والذي ركّز الصلاحيات في مجلس التنظيم الأعلى، وإنشاء دائرة التنظيم المركزية لتكون الذراع التنفيذية للمجلس سنة 1972، أصبح الحصول على رخصة بناء مرهوناً بأحكام الأمر العسكري رقم 418، ومرتبطاً برأي مدير دائرة التنظيم المركزية. وبقيت عملية استصدار رخص البناء سهلة نسبياً حتى سنة 1979، حين تم رفد دائرة التنظيم المركزية بعدد جديد من المفتشين على الأبنية، وبدىء بتكثيف التفتيش وزيادة القيود على رخص البناء تمشياً مع ازدياد حدة سياسات إسرائيل الاستيطانية للضفة المحتلة.

هذا، وقد قام شلومو موسكوفيتش، في أعقاب تعيينه مديراً لدائرة التنظيم المركزية سنة 1981، بتجميد عملية الترخيص تجميداً شبه كامل حتى نهاية سنة 1982. وبعد أن تعالت الأصوات الاحتجاجية من المواطنين الفلسطينيين استؤنفت عملية الترخيص، لكن بعد أن أضيف إليها إجراءات تعقيدية جعلت عملية الحصول على رخصة مرهقة عملياًَ، ومكلفة مادياً، وطويلة زمنياً. فقد أصبحت الموافقة النهائية على رخصة البناء تتطلب موافقة عدة دوائر، منها الحكم العسكري، والآثار، وأملاك الغائبين، والصحة، قبل بتّها من قبل دائرة التنظيم المركزية التي بدأت في تلك الفترة التطبيق الفعلي للأحكام والتقييدات الواردة في المخطط الإقليمي لمنطقة المركز، ومخططات شمشوني الهيكلية، والمخطط الإقليمي للطرق رقم 50 (أنظر اللوحة رقم6). وفي سبيل إحكام القيود على مجمل عملية إصدار رخص البناء، ألفت السلطة المحتلة سنة 1984 "لجنة معلومات"، بعضوية ثلاثة مسؤولين يهود وعربي واحد، مهمتها "التنقيب" – عند البحث في طلبات الرخص المقدمة – عن جميع الجوانب والأسباب التي تحول دون إصدارها.(38) ونتيجة الممارسة السلبية لهذه اللجنة، أصبحت تعرف في الأوساط الفلسطينية باسم "لجنة الرفض".(39) وفعلاً، أدت سياسة الخنق والتضييق الإسرائيلية، في نهاية المطاف، إلى تجميد عملية الترخيص نهائياً. ففي تشرين الثاني/ نوفمبر 1986، "اكتشفت" السلطة المحتلة قضية فساد ورشوة في دائرة التنظيم والمساحة. وبدلاً من معاقبة المسؤولين الإسرائيليين في الدائرتين، تم حرمان المواطنين الفلسطينيين من رخص البناء بحجة إجراء تحقيق شامل في القضية.

ولإحكام الطوق على إمكان التوسع الأفقي للعمران العربي في الضفة المحتلة (وقطاع غزة)، رفدت السلطة الإسرائيلية سياستها التضييقية في مجال ترخيص الأبنية بعملية مستمرة ومبرمجة لهدم المباني " المخالفة للترخيص" و"غير المرخصة".(40) بالنسبة إلى النوع الأول من المباني، فيقع داخل مناطق تنظيم المدن والحدود التنظيمية للقرى، وأقيم استناداً إلى وجود رخصة بناء، لكن تم من ناحية فعلية تجاوز شروط وأحكام الترخيص عند البناء. وفي معظم الحالات، يقع الفلسطينيون في التجاوز المخالف للقانون، نظراً إلى ما يواجههم من تعقيدات وصعوبات جمة عند محاولتهم استصدار تراخيص بتوسيع مبانيهم.

أما المباني "غير المرخصة" فهي من نوعين أساسيين: الأول تقليدي، ويشمل المباني التي أقيمت خلال الحقبة الأردنية وفترة الاحتلال الإسرائيلي خارج حدود التنظيم المرسومة للتجمعات السكانية في الضفة المحتلة بناء على مخططات كاندل الإقليمية. فبما أن هذه المخططات أصبحت مع مرور الوقت قديمة، ولم تعد تستجيب لحاجات السكان العصرية ومتطلباتهم التنموية، وبما أنها لم تواكب بتحديث أو بإعداد هيكلية جديدة للقرى وعدد من المدن، فقد بدأ المواطنون الفلسطينيون البناء خارج حدودها. وفي الكثير من الأحيان، كان البناء يتم بعد الحصول على ترخيص من اللجان المحلية خلال الحقبة الأردنية. أما النوع الثاني فهو للمباني التي أصبحت تعتبر من قبل السلطة المحتلة "غير مرخصة" بناء على استثنائها لوقوعها خارج الحدود التنظيمية للمخطط الإقليمي لمنطقة المركز، أو لمخططات القرى الهيكلية التي أعدها شمشوني، أو لتعارضها مع مخطط الطرق الإقليمي رقم 50. وبناء على دراسة أُجريت في هذا الموضوع، تبين أن نحو 23% من المباني التي أقيمت بعد وقوع الاحتلال الإسرائيلي خارج نطاق المخططات الهيكلية للمدن، تعتبر من قبل جهاز التنظيم الإسرائيلي أبنية "غير مرخصة".(41)

ومع أن عملية هدم المباني لأسباب تتعلق بالتنظيم (إضافة إلى النسف "لاعتبارات أمنية") ابتدأت في الأراضي العربية المحتلة منذ وقوع الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967، إلا إن العدد الإجمالي للمباني الفلسطينية التي هدمت في الضفة المحتلة، بناء على قرارات دائرة التنظيم المركزية، غير موثق بدقة حتى مطلع سنة 1987.(42) فالمعلومات المتناثرة المتوفرة بين أيدينا تشير إلى أن حجم الهدم السنوي للمباني، بحجة "مخالفة الترخيص" أو عدم الترخيص"، كان يصل حتى سنة 1983 إلى بضعة بيوت فقط. لكن عملية الهدم بدأت تأخذ بعداً مبرمجاً وحاد الخطورة منذ سنة 1984، حين تم استحداث لجنة فرعية منبثقة من مجلس التنظيم الأعلى تعرف باسم "لجنة التفتيش" (أو بالأحرى "لجنة الهدم") لتتولى مهمة توجيه ومتابعة عمل قسم التفتيش على المباني، وتفعيل تنفيذ قرارات الهدم الصادرة عنه. وبناء على سياسة التشديد التي تبنتها "لجنة التفتيش"، ارتفع معدل الهدم السنوي حتى نهاية سنة 1986 ليصل إلى 50 مبنى. وفي سنة 1987، قفز عدد المباني التي تم تنفيذ هدمها إلى 109 من المباني.

 

 

إجراءات "التنظيم" الإسرائيلية

منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية

 شكلت الانتفاضة الفلسطينية، منذ اندلاعها أواخر سنة 1987، ضغطاً على إسرائيل يمثل الأعظم منذ قيامها سنة 1948. فبعكس المواجهات الإسرائيلية – العربية السابقة، والتي نجحت إسرائيل خلالها إلى درجة كبيرة في تبرير عدوانها على العرب أمام العالم الغربي، وإبراز نفسها أنها الطرف "المعتدى عليه والمضطر إلى الدفاع عن وجوده"، جاءت الانتفاضة بزخمها وأحداثها لتعري مثل هذه الادعاءات، وتظهر إسرائيل على طبيعتها العدوانية والتوسعية أمام الرأي العام العالمي برمته. فالانتفاضة، وهي حرب مواجهة غير متكافئة بين المواطنين الفلسطينيين العزل في الأراضي المحتلة وبين إسرائيل المتخمة بالعسكر والمدججة بالأسلحة، عرّفت العالم بشكل لا يقبل التأويل بالطرف "المعتدى عليه" في حقيقة الأمر، وبيّنت فداحة مسلسل الاعتداءات الإسرائيلية المتلاحقة لاستلاب الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، والاستيلاء الكامل على وطنه، وتهجيره منه، وأظهرت مدى فظاعة الوسائل والإجراءات الإسرائيلية المتبعة في تحقيق ذلك. كما بيّنت الانتفاضة، في المقابل، مدى تشبث الشعب الفلسطيني بحقوقه الشرعية في وطنه وقدرته على التحمل في سبيلها، على الرغم من كل ما تعرض له من استلاب وتشريد واحتلال، وعظم قوة رفضه لاستمرار التشريد والاحتلال، وعمق تصميمه على تحقيق الحرية والاستقلال الوطني.

أدت كثافة اهتمام الإعلام الدولي، وخصوصاً الغربي، بنقل وقائع الانتفاضة في المرحلة الأولى لاندلاعها، وتحليل أسبابها ودوافعها، ووصف مظاهرها وعنف الإجراءات الإسرائيلية في مواجهتها، وإعادة "النبش" في كوامن وحيثيات القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي مجدداً، إلى تنامي شعور إسرائيل بالعزلة، و"عدم الأمان". فبالإضافة إلى ما حملته الانتفاضة معها من تغيرات عملية جوهرية في مدى حدة العلاقة التنافرية بين السلطة الاحتلالية والقابعين في ظل الاحتلال، أدى صداها الإعلامي على الصعيد الدولي إلى بداية "خلخلة"جملة "معايير"، حاولت إسرائيل جاهدة خلال السنوات السابقة تثبيتها في الذهنية الغربية لضمان استمرار الحصول على الدعم الغربي غير المشروط أو المحدود. فبفعل الانتفاضة، وما رافقها من مبادرة فلسطينية – عربية في شأن السلام، حدث اختراق فلسطيني – عربي، ولو محدود، للرأي العام الغربي، وخصوصاً الأميركي. وبدأت تحوم في الأوساط الغربية "تساؤلات"، وتتبلور مواقف، في شأن تعنت إسرائيل تجاه عملية السلام، وممارساتها التعسفية في الأراضي المحتلة، ورفضها الاعتراف بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، واستمرار استلابها للأراضي المحتلة على الرغم من وضوح الرفض الفلسطيني التام فيها للاحتلال.

خافت الأوساط السياسية المتشددة في إسرائيل من مؤشرات "التغيير" في أوساط الرأي العام الغربي، إذ وجدت فيها بداية تحول استراتيجي في مصادر دعم إسرائيل التقليدية. فللرأي العام تأثيراته في صانعي القرار السياسي في الغرب. ولا بد للتغيير في اتجاهات هذا الرأي إزاء المسألة الفلسطينية من أن يترجم نفسه، عاجلاً أو آجلاً، إلى سياسات عملية تؤثر في إمكان استمرار إسرائيل في الاحتفاظ بالأراضي المحتلة ونكران الحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني. واستقرأت هذه الأوساط أن تراكمات استمرار ضغط الانتفاضة الداخلي على المجتمع الإسرائيلي، وأثرها الإعلامي الخارجي في الساحة الدولية، سيقودان في نهاية المطاف إلى تحريك عملية التسوية السياسية في اتجاه حل إقليمي للقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي.

انبرت إسرائيل، وبالتحديد الأوساط السياسية المتشددة فيها، للدفاع عن "مكتسباتها" في وجه تنامي الضغوط الداخلية والخارجية عليها. وتم اتباع استراتيجية تستند إلى القيام بخطوات عملية للقضاء على مصدر الضغوط الممارسة على إسرائيل من جهة، والتسريع في عملية فرض الأمر الواقع الكفيل باستكمال استيعاب إسرائيل للأراضي المحتلة من جهة أخرى. فالتسريع في استكمال عملية الاستيعاب اكتسب خلال الانتفاضة أهمية قصوى في نظر المتشددين الإسرائيليين، إذ اعتبروه أفضل الوسائل العملية ملاءمة لـ "تحصين" إسرائيل في وجه الضغوط الممارسة عليها، وأنجع طريقة لتفويت الفرصة المتنامية أمام إمكان التوصل لتسوية سياسية محورها حل إقليمي للصراع الدائر في المنطقة.

وقد ركزت إسرائيل في استراتيجية مواجهتها على تحقيق ثلاثة أهداف متكاملة. الأول، تمحور حول القضاء على الانتفاضة بأسرع وقت ممكن والحد من تبعاتها السلبية على إسرائيل قدر الإمكان، واستغلال الوضع السياسي الناجم عنها لتمرير حل سياسي للصراع يتلاءم والمخططات الاستراتيجية الإسرائيلية. ولتحقيق هذا الهدف، استنفرت إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضة مجمل إمكانات قوتها ونفوذها، ووجهتها في اتجاهين متوازيين: أحدهما داخلي، استخدمت السلطة المحتلة فيه كل وسائل القمع والتنكيل ضد فلسطينيي الأراضي المحتلة على مدار العامين الماضيين لخنق الحركة الجماهيرية العارمة للانتفاضة والقضاء على نواتها المحركة؛ والثاني خارجي، وظفت إسرائيل فيه إمكاناتها الدبلوماسية والإعلامية لتطويق النتائج الإيجابية التي حققتها الانتفاضة على صعيد الرأي العام العالمي، وخصوصاً الغربي. وفي هذا السياق، حاولت إسرائيل إظهار نفسها بمظهر الباحث عن السلام، فطرحت خطة شمير الحكومية لتخفيف الضغوط الدولية عليها، وكسب الوقت للتركيز على محاولة القضاء على الانتفاضة بالوسائل العسكرية القمعية. وتجدر الإشارة، في هذا السياق، إلى أن السقف الأعلى لما يمكن أن تحققه خطة شمير لا يتجاوب مطلقاً مع المطالب الفلسطينية – العربية الدنيا.

لم تستطع إسرائيل على صعيد هدفها الأول، حتى الآن، سوى تسجيل "نجاحات" جزئية، تمثلت في قدرتها الفائقة على رفع درجة معاناة الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال و"جرجرة" مسلسل التسوية السياسية في طريق يتلاءم وتحقيق مخططاتها الصهيونية الاستراتيجية. أما أحداث ومجريات الانتفاضة على أرض الواقع، فقد بقيت مستمرة على الرغم من كل الوسائل الإسرائيلية المستخدمة ضدها.

وفي ظل الفشل الإسرائيلي في قمع عسكري سريع وحاسم للانتفاضة، وجهت إسرائيل جهودها أيضاً نحو استغلال الوضعين المحلي والدولي لتحقيق الهدفين الآخرين؛ فتحت ضغط الانهماك الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة في المواجهة اليومية لمسلسل القمع المتصاعد، وسلسلة القيود المتزايدة التي تفرضها السلطة المحتلة على المواطنين في محاولة يائسة للحد من استمرار الانتفاضة، وتحت ستار انشغال العالم الخارجي بمتابعة الأحداث وملاحقة التقارير اليومية للانتفاضة، بما تتضمنه من قضايا وجوانب فلسطينية مؤلمة تفرض طغيان حضورها الإعلامي، قررت إسرائيل أن هذا الوقت الحرج يوفر لها أفضل غطاء لتكثيف تنفيذ مخططها الصهيوني الاستيعابي للأراضي المحتلة.

من هذا المنطلق، جهدت إسرائيل منذ اندلاع الانتفاضة لتحقيق الهدف الثاني المتمثل في هدم البنى التحتية والمؤسساتية في الأراضي المحتلة (إضافة إلى إنهاك الاقتصاد الوطني الفلسطيني) لتسهيل استيعابها إسرائيلياً وحرمان الفلسطينيين من إمكان تطوير استقلالهم الوطني فعلياً. ولضمان تحقيق هذا الهدف، اتبعت السلطة المحتلة سياسة منهجية لإغلاق السواد الأعظم من المؤسسات المستقلة وشبه المستقلة الفاعلة في الأراضي المحتلة، من جامعات وجمعيات ونقابات ونواد ومكتبات عامة، والتي تشكل العمود الفقري للبنية المؤسساتية الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة المحتلين. كما حظرت السلطة المحتلة نشاط حركات طالبية وسياسية واعتبرتها خارج القانون، وشددت الحظر على عقد الاجتماعات السياسية. وبالنسبة إلى الأجهزة الحكومية المرتبطة بالحكم العسكري، كجهازي التعليم والصحة على سبيل المثال، فقد قلصت السلطة المحتلة حجم ميزانياتها عقاباً، بحجة استمرار الانتفاضة وامتناع الفلسطينيين من دفع الضرائب، فأصبحت هذه الأجهزة بفعل التقليصات هياكل متداعية. وإذا أضفنا إلى ذلك أن البلديات عاجزة، في وضعها الحالي، عن تقديم خدمات أساسية معقولة لسكانها، ناهيك بتوقف قديم لمشاريعها التطويرية، نجد أن الوضع الإجمالي للبنية المؤسساتية في الأراضي المحتلة ينذر بالخطر، ويؤثر سلباً في مجمل البنية التحتية الفلسطينية فيها. ولا بد من الإشارة إلى أن التضييق الإسرائيلي على إدخال الأموال للأراضي المحتلة من الخارج، بحجة أنها تأتي لدعم استمرار الانتفاضة، يصب أيضاً في مجال تحقيق هذا الهدف الإسرائيلي الذي تنوي السلطة المحتلة من خلاله إنهاك الفلسطينيين، وهدم المقومات الأساسية الموجودة لدولتهم المستقبلية.

أما الهدف الثالث الذي تسعى إسرائيل جاهدة لتحقيقه، في خضم الانشغال العام بأحداث الانتفاضة ومجرياتها، فهو استكمال عملية تمرير مخططات التنظيم الصهيوني للضفة المحتلة (وقطاع غزة)، وذلك لضمان إلحاقها الفعلي بإسرائيل، وتثبيت أمر واقع إسرائيلي فيها يصعب في المستقبل تجاوزه. فبالنسبة إلى شبكة الطرق في الضفة المحتلة، تم خلال الانتفاضة تكثيف تنفيذ المخطط الإقليمي للطرق رقم 50 من خلال شق طرق جديدة بين المستعمرات، وتوسيع الطرق القائمة التي يُكثر المستوطنون وقوات الجيش من استخدامها. ويتضح، في هذا المجال، تكثيف عمليات الإنشاء والصيانة للطرق التي تخدم الإسرائيليين، مع الإهمال الواضح لبقية الطرق التي تصل التجمعات السكانية الفلسطينية بعضها ببعض، على الرغم من أنها بحاجة ماسة إلى التحسين. فالهدف الإسرائيلي، كما ذكرنا آنفاً، وهو تدمير بنية شبكة الطرق الفلسطينية في الضفة المحتلة وتقطيع أوصالها بتحويلها إلى طرق فرعية معزولة، وإحلال شبكة طرق إسرائيلية مكانها لتصبح جزءاً لا يتجزأ من شبكة الطرق الإسرائيلية العامة. ويجب الانتباه إلى أن شبكة الطرق المتوخى إقامتها، بناء على المخطط الإقليمي للطرق رقم 50، تعزل القرى والمدن الفلسطينية عن مسار الطرق العامة، مما يؤثر سلباً في بنية هذه التجمعات السكانية، ويهدم اقتصادها، ويقوض إمكانات تطورها المستقبلية.

قامت السلطة المحتلة خلال السنتين الماضيتين، وتحت ستار ضرورة الإسراع في تحاشي مرور الجيش والمستوطنين الإسرائيليين بالمدن والقرى الفلسطينية تجنباً للرشق بالحجارة، بتكثيف العمل على إنهاء أربع طرق جديدة من شبكة المخطط الإقليمي للطرق رقم 50: الطريق الأولى جزء استكمالي في المخطط الذي يربط مستعمرة مخماس شرق الضفة المحتلة بمجموعة مستعمرات مكابيم – متتياهو في المنطقة الحدودية الغربية لها، مروراً بمستعمرتي غفعات زئيف ونفي يعقوف. ويتخطى الجزء الواقع تحت التنفيذ حالياً قريتي بيت عور الفوقى وبيت عور التحتا (أنظر اللوحة رقم 7/أ). الطريق الثانية تفصل مستعمرة ألفي منشيه عن طريق عزون – قلقيلية بتحويلة رئيسية تربطها مباشرة بشريان الطريق الرئيسي الذي يصل المستعمرات حول نابلس بإسرائيل (أنظر اللوحة رقم 7/ب). أما الطريق الثالثة، فهي التي تحول مسار طريق الخليل – القدس ليربط بين مستعمرة إليعيزر شمالي قرية بيت أُمّر ومستعمرة جيلو جنوبي القدس، مروراً بمستعمرة نفي دانيال، ومتخطية المرور عبر قرية الخضر. والطريق الرابعة هي التي تصل مستعمرة إيلي بطريق نابلس – رام الله، وتمر بأراضي قرية اللبن الشرقية استعداداً لتحويل مسار الطريق الرئيسي ليمر بمستعمر شيلو، مبتعداً به عن قريتي اللبن الشرقية وسنجل.(43)

كما قامت السلطة المحتلة أيضاً، خلال فترة الانتفاضةـ بالعمل المكثف على توسيع وتحسين بنية أجزاء من الطرق القائمة حالياً في الضفة المحتلة، لكونها ستدمج في شبكة الطرق الإسرائيلية المقترحة وفقاً للمخطط الإقليمي للطرق رقم 50. فقد أجرت السلطة المحتلة مجموعة من "التطويرات" على الطريق المسمى "عابر السامرة" من مفرق قرية مسحة إلى قريتي بديا وحارس، لخدمة مستعمرة أريئيل ومنطقتها الصناعية، والطريق الذي يصل مستعمرة دوليف بالطيرة مروراً بقرية عين قينيا في منطقة رام الله، وطريق طوباس – تياسير -  المالح لخدمة المستعمرات الموجودة في منطقة غور الأردن الشمالي، وطريق صور باهر – بيت ساحور – الفريديس الذي يخدم مستعمرة تكواع، وطريق بيرزيت – النبي صالح الذي يخدم مستعمرة حلميش، وطريق صانور – الزبابدة الذي يقع عليه معسكر للجيش الإسرائيلي، وطريق كفر الديك – دير بلوط الذي يمر بمستعمرتي بوعيز وادمن.

واستكمالاً للعمل على تنفيذ أجزاء من مخطط الطرق الإقليمي رقم 50، قام مجلس التنظيم الأعلى بالتصديق، أواسط سنة 1989، على شق تحويلتين رئيسيتين في المخطط: الأولى لربط طريق رام الله – نابلس بمستعمرة شيلو، استكمالاً للتحويلة التي تمرر الطريق من مستعمرة إيلي؛ والثانية لتحويل طريق طولكرم – نابلس عن المرور بمدينة عنبتا ومخيم نور شمس. كما بدأ هذا المجلس، أواخر سنة 1989، باستكمال العملية "القانونية" للتصديق على المخطط الإقليمي للطرق رقم 50، والتي كانت قد توقفت نتيجة الحملة الواسعة التي شنها الفلسطينيون ضد المخطط في الفترة الواقعة بين سنة 1983 وسنة 1985. ففي الثلث الأخير من سنة 1989، أرسلت دائرة التنظيم المركزية إشعارات رسمية إلى جميع من كان قد تقدم باعتراضات على المخطط، وذلك لإبلاغهم أن الوقت حان للنظر فيها. ومن أجل إنهاك المعترضين وزيادة الصعوبات في وجه اعتراضاتهم، فرضت السلطة المحتلة عليهم ضرورة إبراز مجموعة من الوثائق والخرائط التي تثبت ملكيتهم لما يعترضون بشأنه. ومن البديهي أن يعتبر إرسال هذه الإشعارات دلالة واضحة على أن السلطة جادة في مسعاها الحالي لاستكمال تنفيذ مخطط الطرق الإسرائيلي في الضفة المحتلة.(44)

فيما يتعلق باستكمال عملية تمرير المخططات الإقليمية للضفة المحتلة، بما يتفق والمطامع الصهيونية في استيعابها وتهويدها وتقليص الوجود الفلسطيني فيها قدر الإمكان، قامت السلطة المحتلة منذ اندلاع الانتفاضة بإجراءين على غاية من الخطورة: الأول، تكثيف دائرة التنظيم الإسرائيلية لعملية هدم المباني بحجة "عدم الترخيص" أو "مخالفة الترخيص"، بما يتلاءم مع مخططاتها الإقليمية، ويتفق مع ما أعدته من المخططات الهيكلية للمدن والقرى الفلسطينية بقصد حصرها وخنق سبل توسيعها وتطورها. ففي سنة 1988 قامت السلطة المحتلة، بإيعاز من دائرة التنظيم المركزية، بهدم 252 مبنى في الضفة المحتلة. وزادت عملية الهدم سنة 1989، فوصل عدد المباني المهدومة إلى 311 مبنى. أما عدد المباني المهدومة خلال شهري كانون الثاني/يناير وشباط/فبراير من هذه السنة (1990)، فوصل إلى 42 مبنى.(45) ويمثل المعدل السنوي لعدد المباني المهدومة بحجة مخالفة أوامر "التنظيم" خلال فترة الانتفاضة، زيادة بمقدار 250% - 300% على معدلها خلال الأعوام الثلاثة السابقة لاندلاع الانتفاضة.

 

 

وإضافة إلى الزيادة في عدد المباني المهدومة، فإن نمط عملية الهدم يختلف خلال فترة الانتفاضة عن سابقتها؛ فبينما كانت العملية تتركز قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية في المواقع التي تم تخصيصها أو تخطيطها للمستعمرات أو للطرق الإقليمية المزمع فتحها في الضفة المحتلة، أصبحت هذه العملية واسعة الانتشار مناطقياً، ووصلت نتيجة استعمالها – كعقاب للفلسطينيين على الانتفاضة – إلى داخل القرى الفلسطينية. فعلى مدار السنتين الماضيتين، دخلت دائرة التنظيم المركزية طرفاً رئيسياً في الحرب الإسرائيلية ضد الانتفاضة، إذ وجهت عمليات الهدم التي تقوم بها تنفيذاً لمخططات "التنظيم" الاستيعابية للضفة المحتلة إلى المناطق الفلسطينية الساخنة انتفاضياً. وأصبح النمط السائد أن يدخل مسؤولو التفتيش والتنظيم الإسرائيليون، بحماية قوات جيش الاحتلال، القرى الفلسطينية النشيطة في تنفيذ فعاليات الانتفاضة، ليقوموا بإصدار الإخطارات وتنفيذ عمليات الهدم في ظل فرض منع التجول على المواطنين الفلسطينيين. وقد اتبع هذا النمط في العديد من القرى الفلسطينية، مثل بيتا وسيلة الحارثية وصور باهر وبيت فوريك، والتي دخلها الجيش بعد وقوع العديد من  المصادمات مع أهلها للقيام بنسف المنازل بتهم أمنية، ورافقته مجموعات التفتيش والتنظيم للهدم بحجة "عدم الترخيص" أو "مخالفة الترخيص".

أما الإجراء الثاني، فكان استغلال جهاز التنظيم الإسرائيلي لوضع الانهماك الفلسطيني والدولي العام في أحداث الانتفاضة، من أجل الشروع في عملية تصديق جماعية لعدد من المخططات الهيكلية لقرى فلسطينية، تم إعدادها وفقاً للأسس التي استعملها شمشوني في مسوحاته ما بين سنة 1982 وسنة 1985. فقد بدأت تظهر في الصحف المحلية، ابتداء من أواخر أيار/ مايو 1989، إعلانات رسمية متتالية بإيداع مخططات هيكلية لعدد من القرى للاعتراض، وفقاً لما ينص القانون عليه، وبناء على قرار اتخذه مجلس التنظيم الأعلى في جلسته بتاريخ 5/2/1989 (يجب الانتباه إلى أن الفوج الأول من الإعلانات الرسمية ظهر بعد نحو أربعة أشهر من تاريخ عقد تلك الجلسة، وأن إجمالي عدد القرى التي اتخذت في شأنها قرارات إيداع للمخططات الهيكلية غير معروف، مع أننا نقدر بأن عددها وصل في تلك الجلسة إلى 60 قرية تقريباً). وتعقيداً لآلية الاعتراض، تضمنت هذه الإعلانات ضرورة أن يقدم المعترض عدداً من الوثائق والمستندات المحددة لإثبات ملكيته للعقار، وخريطة للموقع المعترض بشأنه.

كانت القرى التي ظهرت إعلانات إيداع بشأن مخططاتها الهيكلية هي: الكفير وتلفيت وعرانة والعرقة وكفر قود وعربونة ورابا (منطقة جنين)، وطلوزة (منطقة نابلس)، وشبتين وحزما (منطقة رام الله)، ونحالين (منطقة بيت لحم). وفي 25 تشرين الأول/ أكتوبر 1989، تم فعلاً التصديق النهائي على المخططات الهيكلية لقرى عرانة والعرقة وكفر قود وعربونة ورابا وطلوزة وحزما وشبتين. أما بالنسبة إلى قرى الكفير وتلفيت ونحالين، فقد تم النجاح في إيقاف التصديق على مخططاتها الهيكلية نتيجة قيام أهاليها بحملة اعتراضات واسعة على هذه المخططات.

علاوة على النمط "التمريري" للمخططات الهيكلية للقرى الفلسطينية، من اللافت للانتباه أن مساحة مجموعة المخططات التي صادق مجلس التنظيم الأعلى عليها للتنفيذ النهائي، تقل عن المساحة التي كان قد خصصها شمشوني لقراها في مخططاته. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن مخططات شمشوني ذاتها تخنق القرى الفلسطينية ولا تتجاوب مع أدنى متطلبات نموها المستقبلي، نستطيع القول إن المخططات التي تم فعلاً التصديق على تنفيذها في الآونة الأخيرة، هي بمثابة إصدار "صكوك الموت" للقرى الفلسطينية في الضفة المحتلة على المدى البعيد.

 المخطط الهيكلي لقرية طلوزة

 لتوضيح أبعاد ومخاطر تمرير السلطة المحتلة للمخططات الهيكلية للقرى الفلسطينية، قررنا عرض وضع قرية طلوزة، والتي تم اختيارها عشوائياً (بسحب القرعة) من مجموعة القرى التي قام مجلس التنظيم الأعلى بالتصديق النهائي على مخططاتها الهيكلية.

تقع قرية طلوزة على بعد 6 كلم تقريباً إلى الشمال الشرقي من مدينة نابلس، وبمحاذاة الطريق المؤدية منها إلى الأغوار الشمالية. وتبلغ مساحة الأراضي الزراعية التابعة للقرية نحو 58 كيلومتراً مربعاً (58 ألف دونم). وبينما وصل عدد أهالي طلوزة، وفقاً لإحصاء سنة 1961، إلى 1667 نسمة، بلغ عدد  المقيمين فيها 2182 نسمة عند إجراء الإحصاء السكاني من قبل السلطة المحتلة أواخر سنة 1967. وبناء على الحسابات الديموغرافية الخاصة بالأراضي الفلسطينية المحتلة، يقدر عدد أهالي طلوزة المقيمين فيها الآن بنحو 4000 نسمة. وعند دراستنا للناحية العمرانية في القرية، وجدنا أن مبانيها تنتشر حالياً على مساحة 600 دونم، وأن الانتشار العمراني للقرية يتجه بصورة رئيسية نحو الشمال والشرق، وخصوصاً على جانبي الطريق المؤدي إلى منطقة عين الباذان.

لكن لا بد من الإشارة، قبل الخوض في تفاصيل حالة طلوزة، إلى أن التخطيط الهيكلي لأي تجمع سكاني يعتمد أساساً على دراسة الواقع القائم ضمن المعطيات المؤثرة فيه من النواحي العمرانية والاجتماعية والاقتصادية. ويهدف ذلك إلى تحديد المشكلات التي تواجه التجمع السكاني في قيد الدراسة، ووضع الحلول التي تتوافق مع طبيعة المجتمع وعاداته وتقاليده، وتتلاءم مع متطلبات وتطلعات تنميته المستقبلية. وعلى هذا الأساس، فإن التخطيط الهيكلي السليم يجب أن يستند إلى دراسة مسحية دقيقة لكل جوانب الحياة داخل التجمع السكاني، وذلك كي يبنى المخطط على أسس سليمة وملائمة لاستشراف وتحديد اتجاه مسار التطور المستقبلي ومواصفاته.

وبالأخذ في الاعتبار طبيعة قرية طلوزة الريفية، واشتغال معظم أهلها بالزراعة وارتباطهم العضوي بها، فإن إعداد مخطط هيكلي سليم ومطابق لتوقعات التطور المستقبلي يجب أن ينطلق من مراعاة عدة عوامل بنيوية أساسية: أولاً، أن الريفيين عامة، والفلاحين الفلسطينيين تحديداً، يتميزون بالتمسك بملكية الأرض، والاحتفاظ بها للاستعمالات الزراعية والعمرانية الخاصة. ويلاحظ بصورة عامة أن سوق الأراضي في الريف الفلسطيني تتسم بالركود مقارنة معه في المدن، وذلك لأن الفلاح الفلسطيني لا يلجأ إلى بيع أرضه إلا في أقصى الحالات الطارئة. وثانياً، ونظراً إلى محدودية بيع الأراضي في القرى الفلسطينية، فإن عملية البناء لتلبية حاجات التوسع الأسري غالباً ما تتم على الأراضي التي تملكها الأسرة، ولو كانت هذه الأراضي بعيدة عن منطقة الكثافة السكانية والخدمات العامة. وثالثاً، باستثناء منطقة مركز القرية، وهي منطقة البناء القديم على الأسس التقليدية، فإن الريفيين ينزعون في العادة إلى إحاطة مبانيهم السكنية الجديدة بمساحات أرض كبيرة نسبياً، بهدف استغلالها لأغراض الاقتصاد المنزلي. وتؤدي هذه النزعة إلى استمرار وجود فراغات واسعة من الأراضي داخل القرى لا يحبذ استخدامها لأغراض البناء السكني. ورابعاً، إن إمكان توسع البناء الريفي عمودياً قليل، بمعنى أن الفلاحين يفضلون إبراز استقلالهم ببناء بيوت بعضها مستقل عن بعض. ولذلك، فإن التوسع العمراني في القرى لا بد من أن يأخذ بعداً أفقياً أكثر منه عمودياً. وأخيراً يجدر الانتباه إلى أن توزيع ملكية الأرض في القرى الفلسطينية يرتبط، إلى حد كبير، بالتركيبة الاجتماعية والتقسيم الحمولي. فغالباً ما تتركز الأراضي التابعة لحمولة معينة في منطقة واحدة، وعليه فإن أراضي القرى غالباً ما تكون مقسومة مناطقياً بين الحمائل. وعلى هذا الأساس، ينبغي لخبراء التخطيط مراعاة هذه المسألة عند إعداد المخططات الهيكلية للقرى، لتمكين أكبر قطاع من المواطنين (ملاكين كبار وصغار وتجمعات حمولية) من الاستفادة من أراضيهم لأغراض البناء الآني والمستقبلي. فحتى لو كان النمو العمراني الحالي لقرية ما يسير في اتجاه معين، فإن ذلك لا يشكل بالضرورة دليلاً قاطعاً على اتجاه المسار العمراني المستقبلي؛ فقد يعبر الاتجاه الحالي للعمران عن القدرة المادية لأبناء حمولة معينة على البناء حالياً. لكن هذا، طبعاً، لا يستثني على الإطلاق إمكانات أبناء الحمائل الأخرى في البناء المستقبلي على أراضيهم.

بناء على المعلومات المسحية التي تم جمعها من خلال دراسات ميدانية لما يزيد على خمسين قرية عربية في الضفة المحتلة، بقصد إعداد مخططات هيكلية لها،(46) وأخذاً في الحسبان مجموعة الاعتبارات المذكورة آنفاً، تبين أن المساحة اللازم تخصيصها لمنطقة التخطيط والتنظيم المستقبلي (لنحو العشرين عاماً المقبلة) للقرى الفلسطينية تتراوح بين دونم ودونمين لكل أسرة. فهذه المساحة ضرورية لتغطية حاجات السكن والزراعة المنزلية والحرف والخدمات العامة، مثل المدارس والعيادات وأماكن العبادة والمقابر والساحات والطرق... إلخ.

وبما أن عدد الأسر المتوقع في قرية طلوزة سنة 2010 يصل إلى نحو 1200 أسرة، على أساس أن عدد السكان سيكون نحو 8000 نسمة، وأن حجم الأسرة سيكون بين 6 و8 أشخاص، فإن المساحة الإجمالية التي يجب أن يوفرها المخطط الهيكلي لأغراض النمو والتطور المستقبلي للقرية تتراوح بين 1000 و1200 دونم، وذلك بتخصيص دونم واحد فقط لكل أسرة (وهو تقدير متحفظ). ولو فرضنا أن جزءاً من التوسع العمراني المستقبلي في قرية طلوزة سيكون عمودياً (أي بناء طبقة ثانية فوق البيت الرئيسي)، فإن المساحة الضرورية قد تنخفض (جدلاً) إلى نحو 800 دونم، تشكل أقل مساحة يمكن أن تفي بحاجات ومتطلبات حياة هذه القرية وسكانها (أنظر اللوحة رقم (8/ أ).

عندما أعد شمشوني المخطط الهيكلي لقرية طلوزة سنة 1985، خصص له مساحة 368 دونماً فقط (أنظر اللوحة رقم 8/ب). ومن دون عناء يذكر، يمكن حتى للنظرة غير المتخصصة إلى هذا المخطط اكتشاف أن شمشوني هدف إلى الحد من نمو القرية أفقياً، وتقييدها ضمن أضيق الحدود الممكنة. فقد اعتمد في رسمه لحدود مخطط القرية على ضمان استيعاب أقسامها الكثيفة السكان، تاركاً العديد من الأبنية المتناثرة خارج المخطط. فاستيعاب هذه الأبينة المتناثرة ضمن حدود التنظيم الهيكلي كان من شأنه أن يوفر الكثير من الأراضي للعمران العربي، لكن هذا طبعاً مخالف للمصلحة الإسرائيلية وللأهداف الصهيونية الاستراتيجية.

يبدو أن مخطط شمشوني لم يرق لدائرة التنظيم المركزية، التي وجدت أن شمشوني لم يكن "حريصاً" على المصلحة الصهيونية بما فيه الكفاية، و"منح" طلوزة مساحة تشتمل على "زيادات" يمكن قصها. ولذلك قامت دائرة التنظيم المركزية، استناداً إلى مخطط شمشوني، بإعداد مخطط هيكلي جديد لقرية طلوزة لا تتجاوز مساحته 210 دونمات (أنظر اللوحة رقم 8/ج). وفعلاً، تمت المصادقة على هذا المخطط الهيكلي الجديد من قبل مجلس التنظيم الأعلى، أواخر سنة 1989. وبهذا حُكم نمو وتطور قرية طلوزة حتى سنة 2010 (في حالة استمرار الاحتلال) بمخطط إسرائيلي خانق لا يكفل، في الواقع، حاجات تنميتها الآنية.

هذا، واستناداً إلى حالة قرية طلوزة، يمكن التعميم على حالات القرى الأخرى التي تم التصديق النهائي على مخططاتها الهيكلية من قبل مجلس التنظيم الأعلى مؤخراً. لكن وضع "الخطر الأقصى" يبدو بصورة أكثر جلاء عند مجرد التفكير في أن مصير جميع قرى الضفة الفلسطينية المحتلة، في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي، مماثل لعملية "خنق" طلوزة.

 

 

الخلاصة

 هدف هذا البحث إلى إبراز ملامح سياسة "التنظيم" الإسرائيلية الاستعمارية (الكولونيالية) في الضفة المحتلة، وطرائق تنفيذها، وآثارها السلبية في حاضر الشعب الفلسطيني ومستقبله، وفي إمكانات التوصل إلى تسوية سياسية مقبولة للقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي. ولهذا الغرض تم إبراز الهدف الاستراتيجي الصهيوني لعملية استيعاب إسرائيل للضفة المحتلة عملياً، وعرض "نشاطات" جهاز التنظيم الإسرائيلي المكملة لممارسات السلطة العسكرية المحتلة، والموجهة لتحقيق هدف استيعاب الضفة إسرائيلياً. كما تم، في هذا السياق، التعرض للكيفية التي تستغل إسرائيل بها أوضاع الانتفاضة الفلسطينية وآثارها، للتسريع في تنفيذ مخططاتها التهويدية للأراضي الفلسطينية المحتلة.

يمكن، مع نهاية هذا البحث، استخلاص أن جهاز التنظيم الإسرائيلي عمل منذ بداية الاحتلال، وبشكل مبرمج ومتدرج، على إسناد مهمة السلطات العسكرية المحتلة الموجهة نحو خلق واقع "جديد" في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يهوّدها ويدمجها فعلياً في إسرائيل، ويصعب إمكانات استعادتها فلسطينية في المستقبل. وطبعاً، يؤدي استمرار الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية المحتلة إلى تحقيق الهدف الإسرائيلي الأكبر، والمتمثل في عدم الاعتراف بجريمة استلاب الشعب الفلسطيني حقوقه الشرعية، والاستمرار في حرمانه من استعادة استقلاليته وحريته. فالاعتراف الإسرائيلي باستلاب حقوق الشعب الفلسطيني، بالنسبة إلى معظم الصهاينة المتشددين، يمثل رخصة ذاتية بنكران أحقية إسرائيل في الوجود.

لقد وجدت إسرائيل نفسها، منذ اندلاع الانتفاضة، تتعرض لحملة مركزة ومتنامية من النقد والضغط الدوليين بسبب ممارساتها القمعية في الأراضي المحتلة، وتعنت موقفها من التسوية السياسية. ولمواجهة هذه الحملة، كان أمام إسرائيل خياران: إما أن ترضخ للموقف الدولي وللرأي العام العالمي، وإما أن تستمر في تصلفها وتتجاهل النقد والضغوطات بغض النظر عن النتائج.

لقد اختارت إسرائيل طبعاً، وكما تلزمها طبيعتها، الخيار الثاني. لكنها لم تكن لتقبل بأن تستمر الانتفاضة الفلسطينية داخلياً، وحملة النقد والضغوطات الممارسة عليها خارجياً، من دون أن تحصل لنفسها على ثمن في المقابل. لقد وضعت إسرائيل ثمناً، وتقوم الآن باستحصاله، وهو كما بيّنا ثمن باهظ على المستقبل الفلسطيني. ولذلك، فقد آن الأوان ليعي العالم خطورة الوضع وإلحاحيته، كي يحول حملة النقد والضغوطات على إسرائيل إلى موقف فعال قبل فوات الأوان.

 

المصادر:

(1) أطلق شمير تصريحه في 14 كانون الثاني/يناير 1990،  وأثار به ضجة  عالمية. راجع صحيفة "القدس"، 15/1/1990؛ 31/1/1990.

(2) إميل توما، "الصهيونية المعاصرة: دراسات" (عكا: دار الأسوار، 1982)، ص 32.

(3) علي الجرباوي، "الصراع بين (جمهورية فلسطين الأولى) و (جمهورية إسرائيل الثانية)"، "شؤون عربية"، العدد 55 (أيلول/سبتمبر 1988)، ص 31 – 35.

(4) ابراهيم الدقاق، "السياسة الاستيطانية الإسرائيلية، وانعكاساتها على قضية الإسكان الفلسطيني في الأرض المحتلة"، "المستقبل العربي"، العدد 107، السنة العاشرة (كانون الثاني 1988)، ص 7 – 9.

(5) راجع في هذا الصدد:

Sabri Jiryis, The Arab of Israel (New York: Monthly Review Press, 1967); Ian Lustick, Arab in the Jewish State (Austin: University of Press, 1980).

(6) راسم محي الدين خمايسي، "سياسة التخطيط الإسرائيلية وهدم المباني في الضفة الغربية" (القدس: الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية، 1989)، ص 3 – 4.

(7) للاطلاع على الأسااليب والوسائل التي انتهجتها السلطة الإسرائيلية المحتلة في الأراضي العربية المحتلة منذ سنة 1967، راجع: علي الجرباوي، "العرب في الأرض المحتلة وتحديات الاحتلال"، "المجلة العربية للعلوم السياسية"، العدد الأول، السنة الأولى (1986)، ص 181 – 199.

(8) للمحة عن المشاريع والخطط الاستيطانية، راجع، عبد الرحمن أبو عرفة، "الاستيطان: التطبيق العملي للصهيونية" (القدس: وكالة أبو عرفة للصحافة والنشر، 1981)، ص 238 – 250.

(9) راجع في هذا الصدد: رجا شحاده وجونثان كتاب، "الضفة الغربية وحكم القانون"، ترجمة وديع خوري (بيروت: دار الكلمة للنشر، 1982).

(10) Raja Shehadeh, Occupier’s law: Israel and the West Bank (Washington D.C.: Institute for Palestine Studies, 1988), p. 17.

(11) جورج العبد، "الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال: مقدمة ونظرة عامة"، في: جورج العبد (محرر)، "الاقتصاد الفلسطيني: تحديات التنمية في ظل احتلال مديد" (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989، ص 17.

(12) خمايسي، مصدر سبق ذكره، ص 12.

(13) هناك مدن لم يتم إعداد مخططات هيكلية لها في أثناء الحقبة الأردنية. فالمخطط الهيكلي المعمول به في مدينة الخليل حتى الآن صودق عليه من قبل السلطة البريطانية الانتدابية سنة 1944.

وعندما وقع الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية سنة 1967، كانت سبع مدن من دون مخططات هيكلية مصدق عليها، وكان يتم البناء فيها بموجب ترخيص من المجالس البلدية داخل حدود التنظيم البلدي.

(14) "قانون تنظيم المدن والقرى والأبنية الأردني رقم 79 لعام 1966" (نشر في "الجريدة الرسمية"، رقم 1952، بتاريخ 25/9/1966)، المواد 7 – 10. وسيشار إلى هذا القانون، في الهوامش اللاحقة، بـ"قانون التنظيم الأردني رقم 79".

(15) على سبيل المثال، في حالة عدم اعتبار المجلس البلدي لجنة تنظيم محلية، فإن المادة 9/1 – د من قانون التنظيم الأردني رقم 79 تحدد تأليف هذه اللجنة بعضوية الحاكم الإداري للمنطقة، ورئيس البلدية، وشخص يسميه المجلس البلدي، وشخص تسميه لجنة اللواء، وممثل وزارة الصحة، ومهندس البلدية أو مهندس دائرة التنظيم.

(16) "قانون التنظيم الأردني رقم 79"، المادة 9/2.

(17) المصدر نفسه، المادة 4.

(18) المصدر نفسه، المادة 5/1.

(19) بقي للفلسطينيين تمثيل شكلي في جهاز التنظيم على صعيد اللجان المحلية المسلوبة الصلاحيات من قبل مجلس التنظيم الأعلى ودائرة التنظيم المركزية. فهذه اللجان تتألف من مهندس اللجنة المحلية، وطبيب الصحة، ومهندس الأشغال في المنطقة.

(20) "قانون التنظيم الأردني رقم 79"، المادة 6.

(21) بلغ عدد التعديلات ثمانية حتى تاريخ 8/3/1988. ويتعلق معظم التعديلات برفع رسوم الرخص، وقيمة العقوبات، وإعفاء أشخاص وهيئات من دفع رسوم الترخيص.

(22) المادة 7 من الأمر العسكري رقم 418. تضمنت الصلاحيات إمكان إعفاء أي شخص من واجب اتباع القانون والحصول على رخصة لتسهيل عملية الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية.

(23) مع أن الأصل في "قانون التنظيم الأردني رقم 79" أن يكون المجلس القروي لجنة التنظيم المحلية لقريته، إلا أن الأمر العسكري ألغى ذلك، وأسند عضوية اللجان المحلية إلى موظفين بالتعيين.

(24) Meron Benvenisti and Shlomo Khayat, The West Bank and Gaza Atlas (Jerusalem: The West Bank Data Base Project, 1988), p. 64.

(25) تقدر تكلفة شراء بيت في المستعمرات داخل الضفة الغربية بثلث تكلفة شراء بيت في منطقة تل أبيب. أما مسافة بُعد ما يسمى منطقة "الطلب العالي" عن تل أبيب والقدس، فتقدر بـ 30 دقيقة بالسيارة. راجع:

Annette Hoschstein, Metropolitan Links between Israel and the West Bank (Jerusalem: The West Bank Data Base Project, 1983), pp. 4-6.

(26) ابراهيم الدقاق وآخرون، "المشروع الإسرائيلي لتخطيط منطقة المركز: دراسة ووثائق" (القدس: نقابة أصحاب المهن الهندسية، 1983)، ص 9.

(27) يعتمد هذا الجزء على مقالة للكاتبين بعنوان "سرقة الأرض وطرد السكان: وقائع المخطط الإسرائيلي لإعادة تنظيم القرى ومد شبكة طرق جديدة"، "اليوم السابع" (11 كانون الأول 1989)، ص 22 – 24.

(28) من حساب عدد السكان العرب في منطقة المخطط سنة الهدف (2002)، يتضح أن الكثافة السكانية العربية ستكون أكثر من 7 أفراد للدونم الواحد في المنطقة التي خصصها المخطط لـ "التطوير العربي". وتعتبر هذه النسبة عالية جداً وفقاً لجميع المقاييس المتعارف عليها في هذا المجال.

(29) تنص المادة الثالثة من الفصل الثالث لـ "نظام المشروع الإسرائيلي لمنطقة المركز" على أن "لا يقدم طلب رخصة بناء للجنة اللوائية إلا بعد أن يثبت مقدم الطلب ملكيته على الأرض، إما بواسطة سجلات الأراضي أو تسجيل تمهيدي أو بطريقة أخرى تراها اللجنة اللوائية مناسبة." وطبعاً، تحد هذه المادة من إمكان الحصول على تراخيص بناء من قبل وكلاء بوكالات قانونية من مالكي الأرض، كما تمنع البناء على الأراضي المشاع المنتشرة في الريف الفلسطيني بحجة عدم التمكن من إثبات الملكية. وبالنسبة إلى "قانون التنظيم الأردني رقم 79"، فقد حدد في المادة 3/26 أن مالك الأرض هو "مالكها المسجل أو المعروف أو أي شريك أو متولي الوقف." وكان هذا التعريف فضفاضاً، يتيح فرصة كبيرة أمام المواطنين لاستصدار رخص بناء.

(30) "نظام المشروع الإسرائيلي لمنطقة المركز"، الفصل الثالث (المواد 4، 9، 10)، الفصل السابع (المادتان 1، 5).

(31) المصدر نفسه، الفصل الرابع (المادتان 8، 12).

(32) "مشروع هيكلي إقليمي جزئي للطرق رقم 50"، المادتان 1، 2.

(33) للتعديلات التي أُدخلت على القانون الأردني فيما يتعلق بعرض الطرق، بموجب الأمر العسكري رقم 810، راجع: خمايسي، مصدر سبق ذكره، ص 26.

(34) المصدر نفسه، ص 25.

(35) عزيز شحاده وآخرون، "المشروع الإسرائيلي المقترح للطرق في الضفة الغربية: مسألة لمحكمة العدل الدولية" (رام الله: مؤسسة الحق من أجل الإنسان، 1984).

(36) وقائع المؤتمر الصحافي الذي عقدته اللجنة الخاصة لمتابعة الاعتراض على مشروع التنظيم الإقليمي المقترح للطرق رقم 50، في فندق "الأميركان كولوني" في القدس بتاريخ 19/12/1984.

(37) "قانون التنظيم الأردني رقم 79"، المواد 9/2 – ج، 6/5.

(38) تتألف "لجنة المعلومات" من ثلاثة يهود هم: المسؤول عن التخطيط الإقليمي، والمسؤول عن التخطيط في الوسط العربي، ورئيس قسم التفتيش. أما العضو العربي في اللجنة فهو مهندس اللجنة المحلية.

(39) خمايسي، مصدر سبق ذكره، ص 43.

(40) ابراهيم شعبان، "الانتفاضة الفلسطينية في عامها الأول: دراسة في ضوء أحكام القانون الدولي العام" (القدس: الناشر غير مذكور، 1989)، ص 268 – 278.

(41) المصدر نفسه، ص 50.

(42) بدأ مركز الهندسة والتخطيط في رام الله، منذ مطلع سنة 1987، بمتابعة دقيقة لعدد المباني التي يعلن هدمها من قبل جهاز التنظيم الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967.

(43) لا تتوفر حتى الآن خرائط تفصيلية عن خط مسار كل من الطريقين الثالثة والرابعة.

(44) يبرز تصميم السلطة على استكمال تنفيذ مخطط الطرق الإقليمي رقم 50 من خلال الاستمرار في إعلان إيداع تفصيلي رقم 9/901 لجزء من الطريق رقم 60، والممتد من قرية حوارة إلى قرية دير شرف. وتسهل التحويلة الرئيسية الجديدة حركة الاتصال بين مستعمرات الغور والمستعمرات في المناطق الشمالية الغربية من الضفة الفلسطينية، بتحاشي المرور وسط مدينة نابلس. وتخدم هذه التحويلة الرئيسية بصورة خاصة مستعمرات يتسهار وكدوميم وشافي شومرون، بأن تجعلها على خط طريق رئيسي.

(45) إحصاءات مركز الهندسة والتخطيط. يجدر الانتباه إلى أن الهدم على خلفية "التنظيم" لا يقل خطورة عن النسف بحجم "الاعتبارات الأمنية". ففي سنة 1988، كان عدد المباني التي نسفت 221 مبنى، بينما وصل عددها خلال الأشهر العشرة الأولى من سنة 1989، إلى 368 مبنى.

(46) بناء على تكليف من المجالس البلدية والقروية، قام مركز الهندسة والتخطيط منذ سنة 1985 بإعداد مخططات تنظيم هيكلية لنحو 50 قرية ومدينة في الضفة الفلسطينية. وتم تقديم العديد من هذه المخططات إلى مجلس التنظيم الأعلى لمناقشتها ومحاولة الحصول على التصديق عليها. وشملت عملية إعداد المخططات القيام بتحضير صور جوية، وخرائط مساحة مفصلة، ودراسات ميدانية شملت الأراضي والأوضاع السكانية والإسكانية والاجتماعية والاقتصادية لكل بلدة. كما شملت تحديد المتطلبات المستقبلية اللازمة للتطور والنمو على أساس عدد السكان المتوقع، وطبيعة توزيع ملكية الأراضي، والخدمات اللازمة في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة والتعليم والصحة، وغيرها من الخدمات العامة.

السيرة الشخصية: 

علي الجرباوي: أستاذ العلوم السياسية المشارك – جامعة بير زيت.

رامي عبد الهادي: مدير مركز الهندسة والتخطيط – رام الله.