حول الأبعاد الاقتصادية لإعلان مبادئ الحكم الذاتي الانتقالي
كلمات مفتاحية: 
إعلان المبادىء بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت 1993
الحكم الذاتي
الاقتصاد الفلسطيني
الاقتصاد الإسرائيلي
التنمية الاقتصادية
التنمية الإقليمية
نبذة مختصرة: 

يتناول المقال الأضرار المادية الوشيكة الوقوع نتيجة للحالة المعنوية والنفسية التي خلقها "إعلان المبادئ"، والأبعاد العربية والفلسطينية للنضال (أو الجهاد) من أجل دفع تلك الأضرار. ويذهب إلى أن الإعلان ربط القرار الاقتصادي الفلسطيني بالقرار الاقتصادي الإسرائيلي، بل إنه يعتبر هذا الربط مقدمة لتعاون إسرائيلي ـ فلسطيني فيما يتعلق بالتنمية الإقليمية في المنطقة ككل. ويعدد الاختلالات في الهيكل الإنتاجي الفلسطيني، والمهمات الاقتصادية الرئيسية.

النص الكامل: 

يعتبر إعلان المبادئ للحكم الذاتي الانتقالي في الضفة الغربية وقطاع غزة الخطوة الأولى لتسوية الصراع العربي – الإسرائيلي من خلال تحطيم حصن آخر، قد يكون آخر حصون المناعة والرفض للعدوان الصهيوني على الأرض العربية، وهو المتمثل في إنكار صاحب الأرض الفلسطينية ورفضه أي حق لأي دخيل في ذرة من التراب الفلسطيني.

ولقد كُتبتْ مطالعات كثيرة في تحليل الإعلان ونقده، وفي تحليل الأوضاع وملابسات الإقدام عليه ونقدها، وتشريح المثالب في كل ذلك من مختلف الوجوه، بما في ذلك مقالي المنشور في مجلة "المستقبل العربي" في عدد كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي، ومعظمها يلقي أضواء كاشفة، ويبدي وجهات نظر جديرة بكل اعتبار.

غير أننا ما زلنا نعتبر أن هناك جدوى محدودة من الاستغراق في البحث عما كان ينبغي أن يفعله العرب، وعما كان ينبغي أن يفعله الفلسطينيون، وعما كان يستحسن أن يفعله أو يمتنع من فعله هذا الصديق أو هذا العدو. فقد مضت لحظة الحقيقة إلى غير رجعة، وليس في الإمكان سوى التحرك إلى الأمام والسعي، بل النضال، من أجل استعادة السيطرة والتحكم في اللحظة الآتية.

من مقتضيات استعادة السيطرة، أو على الأقل استعادة الصحو والتوازن بعد ذلك الزلزال، هو التعرف بدقة على الضرر الذي حدث، والسعي لحصره واحتوائه.

إن الضرر الواقع هو "اعتراف" قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، من خلال خطاب رئيسها الموجَّه إلى رئيس حكومة إسرائيل في 9 أيلول/سبتمبر 1993، بـ"حق دولة إسرائيل في أن توجد في سلام وأمن"، وبأن "مواد الميثاق الوطني الفلسطيني التي تنكر على إسرائيل الحق في أن توجد ونصوص الميثاق التي تتعارض مع الالتزامات الواردة في هذا الخطاب هي الآن غير فعالة ومنذ الآن غير قائمة." ولذلك "تتعهد المنظمة من خلال هذا الخطاب بأن تتقدم إلى المجلس الوطني الفلسطيني من أجل الإقرار الرسمي للتغييرات الضرورية فيما يتعلق  بالميثاق الوطني الفلسطيني."

لقد كان ذلك الاعتراف في مُقابل يبعد بعداً قصياً عن المقابل المتكافىء العادل؛ فهو يقتصر على اعتراف إسرائيل، من خلال خطاب رئيس حكومتها الموجَّه إلى رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في التاريخ ذاته، بالمنظمة ممثلاً للشعب الفلسطيني، وعلى قبول إسرائيل من خلال إعلان المبادئ الشروع في خطوات تنفيذية لترتيبات انتقالية لحكم ذاتي للفلسطينيين في الضفة وقطاع غزة، وأيضاً قبولها استعمال مفردات في خطابها السياسي كانت دوماً تأنف وتستنكر استعمالها، مثل عبارة "الشعب الفلسطيني" بدلاً من "الفلسطينيين" أو "عرب أرض إسرائيل"، وعبارة "الضفة الغربية" بدلاً من "يهودا والسامرة"، وعبارة "الوحدة الترابية للضفة الغربية والقطاع"، وعبارة "الحقوق الشرعية والسياسية المتبادلة" مع حقوق دولة إسرائيل.

إن الضرر في جوهره، وفي البداية، معنوي ونفساني، لكنه يسرع سرعة حثيثة نحو انتفاء أبعاده المادية الخطرة. ولا نقصد من وصف الضرر بأنه معنوي ونفساني أن نقلل من شأنه أو أن نستخف بخطورته، فأنماط الصراع كلها هي صراع بين إرادات متعارضة، والإرادة هي أساساً حالة معنوية ونفسانية. وإذا اعتبرنا أن الضرر المادي لم يقع بعد فإن أهم الشروط لوقوعه هي الحالة المعنوية والنفسانية المواتية له. ولذلك فإن قصْدنا من ذلك الوصف هو أن نحدد موطن الضرر وطبيعته، حتى إذا كان هدفنا إزالته أو احتواءه أو تخفيفه بصورة من الصور، عرفنا في أي اتجاه ونحو اي هدف نصوب جهودنا.

ولا يتحقق الضرر المعنوي والنفساني فعلاً إلا بالمقدار الذي تنجم عنه آثار ونتائج مادية. فما هي، على وجه التحديد، الأضرار المادية الوشيكة الوقوع نتيجة للحالة المعنوية والنفسية التي خلقها إعلان المبادئ؟

في مقدم تلك الأضرار انفتاح العرب على إسرائيل، والشروع في تطبيع علاقاتهم بها، الأمر الذي يؤدي إلى نتائج كارثية بعيدة المدى، أهمها:

  • نزع أقوى ورقة تفاوضية من يد الفريق الفلسطيني، وهي ورقة من شأنها أن تمكنه من التأسيس على إعلان المبادئ الحد الأقصى من الحقوق الوطنية، واستعادة المساحة الأكبر من الأرض والسيادة.
  • ترسيخ دعائم الاستقلال الاقتصادي لإسرائيل، وفتح المجال لهيمنتها على النظام السياسي الإقليمي من خلال نفوذها الاقتصادي.

وينشأ عن وقوع ذلك الضرر أن المرحلة الانتقالية مما يسمى الحكم الذاتي قد تنتهي بتأطير التجمعات السكانية الفلسطينية في نطاق شبكة من المستوطنات الإسرائيلية التي من شأنها أن تضمن الأمن الخارجي ضد تلك التجمعات، كما أن البحبوحة المادية المتوخاة لتلك التجمعات تضمن استقرارها الأمني الداخلي. ومما يلاحظ في هذا الصدد أن إعلان المبادئ لم يحتو على أي نص يحد من حرية إسرائيل في الاستمرار في بناء المستوطنات، وهي عملية تغيير مستمر في الوضع الراهن بالغ التأثير على الوضع النهائي، في الوقت الذي أجَّل (الإعلان) البحث في مستقبل المستوطنات حتى مفاوضات المرحلة النهائية. ولذلك نجد عملية الاستيطان وبناء المستوطنات مستمرة على قدم وساق، لا سيما في مدينة القدس والقدس الكبرى. كما نجد أن البنية التحتية من الطرق والاتصالات قد ربطت فيما بين المستوطنات وبإسرائيل بصورة تؤمِّن الانتقال والاتصال من دون أي عائق، مع التجنب الكامل لضرورة المرور عبر المدن والقرى الفلسطينية.

إن للنضال (أو للجهاد) من أجل دفع تلك الأضرار بُعداً عربياً، كما أن له بُعداً فلسطينياً؛ فأما البعد العربي فيرتكز على حقيقتين:

الأولى،   هي أن الصراع في طبيعته وجوهره صراع قومي، لأن المشروع الصهيوني يهدف إلى الهيمنة على المنطقة العربية بمجملها. وهذه الحقيقة، للأسف، قد استفحل تجاهلها من قِبَل الأنظمة القطرية.

الثانية، هي أن الاعتراف، وما يتصل به من التنازلات الفلسطينية، كان اعترافاً منتزعاً تحت القهر. ولذلك، لا شرعية قومية له إلا بمقدار ما يعطيه العرب من شرعية. ولقد كان الخيار عربياً حين تنكرت الدول العربية للطبيعة القومية للصراع وألقت على عاتق منظمة التحرير عبئاً لا قِبل لها بحمله. ولا يزال الخيار خياراً      عربياً في رفض التطبيع، وفي التزام مقتضيات المصلحة العربية العليا في تحديد شروط السلام مع إسرائيل، وليس بفعل دواع قطرية أو إقليمية تقتضيها مصلحة الدوام لهذا النظام القطري أو ذلك.

وأما البعد الفلسطيني للنضال فهو ما سنركز عليه في هذا المقال، ساعين لإلقاء الضوء على جانب من التحديات التي تفرضها عملية التفاوض من أجل تطوير إعلان المبادئ إلى ترتيبات تفصيلية على أرض الواقع. والجانب الذي سنتناوله هو الجانب الاقتصادي، وهو الجانب الأكبر في الأهمية، بل هو المحور والأساس، كما جعله واضعو الإعلان وفصّلوه.

في المادة السادسة من الإعلان نجد أن المبرر الاقتصادي هو المحدد لمجالات السلطة التي تم اختيارها كي تنتقل إلى المجلس الفلسطيني المنتخب، فلقد اختيرت خمسة مجالات بعينها، لا من أجل تمكين الفلسطينيين من ممارسة  أية حقوق سياسية بل "بقصد النهوض بالتنمية الاقتصادية" (“With the view of promoting economic development”).

والمجالات الخمسة هي: التعليم والثقافة؛ الصحة؛ التنمية الاجتماعية؛ الضرائب المباشرة؛ السياحة.

لكن أين باقي المجالات التي يجب أن تمارسها أية حكومة، حتى لو كانت حكومة ذاتية انتقالية؟

لقد عالج إعلان المبادئ مصير هذه المجالات من خلال الملحق الثالث لإعلان المبادئ، وبتفصيل لافت للنظر. وهنا أيضاً، وعلى الرغم من الطبيعة السياسية للسلطات التي تعالجها نصوص الملحق، فإن عنوان الملحق هو "بروتوكول التعاون الإسرائيلي – الفلسطيني في برامج الاقتصاد والتنمية"، ويستهل نصه بأن الجانبين يتفقان على إنشاء لجنة إسرائيلية – فلسطينية مستمرة من أجل التعاون الاقتصادي للتركيز، من بين أمور أُخرى، على التعاون في المجالات التالية:

  • المياه وبرنامج تطويرها؛
  • الكهرباء وبرنامج تطويرها؛
  • الطاقة وبرنامج تطويرها؛
  • الشؤون المالية، بما في ذلك برنامج وخطة عمل التطوير المالي من أجل تشجيع الاستثمار الدولي في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي إسرائيل، ومن أجل إنشاء بنك فلسطيني للتنمية؛
  • النقل والاتصالات وبرامجها؛
  • التجارة والترويج التجاري، بما في ذلك دراسة جدوى إنشاء مناطق للتجارة الحرة في قطاع غزة وفي إسرائيل، وحرية الوصول المتبادل إلى هذه المناطق؛
  • الصناعة، وبرنامج للتنمية الصناعية يشمل إنشاء مراكز بحث وتطوير إسرائيلية – فلسطينية مشتركة، كما يشمل ترويج مشاريع استثمارية إسرائيلية – فلسطينية مشتركة، ويشمل أيضاً خطوطاً إرشادية للتعاون في صناعات محددة هي النسيج، والغذاء، والأدوية، والإلكترونيات، والماس، والكمبيوتر، والصناعات ذات القاعدة العلمية.
  • برنامج للتعاون في تنظيم العلاقات العمالية؛
  • برنامج لحماية البيئة؛
  • برنامج لتطوير التنسيق والتعاون في مجال وسائط الاتصال الإعلامي؛
  • أية برامج أُخرى ذات أهمية مشتركة.

ولا يقتصر الإعلان على ربط القرار الاقتصادي الفلسطيني بالقرار الاقتصادي الإسرائيلي من خلال اللجنة المستمرة للتعاون في جميع المجالات المتقدمة الذكر، بل إنه يعتبر هذا الربط مقدمة لتعاون إسرائيلي – فلسطيني مشترك فيما يتعلق بالتنمية الإقليمية في المنطقة ككل، وذلك بموجب نصوص الملحق الرابع للإعلان، والذي عنوانه "بروتوكول التعاون الإسرائيلي – الفلسطيني فيما يخص برامج التنمية الإقليمية"، الذي يتحدث عن الجهود المتعددة الأطراف التي تشارك فيها الدول الصناعية الغربية الكبرى السبع (G-7)، والدول العربية ومؤسساتها والقطاع الخاص فيها من أجل التنمية الإقليمية في مختلف المجالات.

إن كلاًّ من دخول تطبيع ووحدة حال إسرائيلية – فلسطينية، والتمهيد بالغ التحديد والتفصيل لدخول وحدة حال إسرائيلية – عربية في إبان ترتيبات المرحلة الانتقالية وقبل انتقال سلطات جوهرية للحكم الذاتي فيما يتعلق بالسيادة الفعلية على الأرض والموارد، وفيما يتعلق بالمقومات الاقتصادية للحكم، ولا سيما القدرة على رفع الحدود الاقتصادية وفرض الضرائب غير المباشرة، يهدد بإجهاض أي إمكان لاستقلال فلسطيني حقيقي حتى في نهاية المطاف، ويضع بدلاً من ذلك إطاراً محكماً لجعل الكيان الفلسطيني مجالاً حيوياً لتنمية القدرة الاقتصادية الإسرائيلية، وجعل الاقتصاد الفلسطيني بمثابة الضاحية الجنوبية للاقتصاد الإسرائيلي.

في مجابهة هذا التهديد والمخاطر الهائلة التي يشتمل عليها، لا بد من استراتيجية فلسطينية مدعومة عربياً وفقاً للأسس التي أشرنا إليها، ومرتكزة على تشديد المقاطعة العربية ورفض التطبيع وتأجيل التفاوض المتعدد الأطراف إلى ما بعد الوصول إلى معالم الوضع النهائي في فلسطين والجولان وجنوب لبنان.

ففي حدود مبادىء الإعلان ينبغي فرز الأمور السياسية والمتعلقة بجوهر الحقوق الوطنية ومقومات السيادة، وإعطاؤها الأولوية في التوصل إلى أطرها وتفصيلاتها، ومن ذلك، بصورة خاصة، ترتيبات الانتخابات للمجلس التمثيلي ومؤسسات السلطة الوطنية المنبثقة عنه. وفي الأمور الاقتصادية ينبغي التركيز على شؤون الاقتصاد المحلي والبنية التحتية الداعمة للاستقلال الاقتصادي الوطني، وتأجيل المشاريع ذات البعد الإقليمي، من مثل مشروع النفط والغاز، ومشروع البتروكيماويات المذكورين بصورة محددة في الملحق الثالث من إعلان المبادئ.

من هذا المنطلق، فمن الأهمية القصوى أن يقال "قف" لهذا الاندفاع المحموم من قِبل جهات أجنبية وعربية إلى الأرض المحتلة بدعوى البحث والتحري عن فرص الاستثمار، بمشاركة من شركات ومؤسسات وأفراد من جميع أقطار الأرض، ومعظمها متصل بشركات ومؤسسات إسرائيلية وأُخرى أميركية وأوروبية متصلة بإسرائيل. وللأسف، فإن عدوى الحمى من هذا الاندفاع تصل إلى جهات وأوساط فلسطينية مرموقة المكانة عند القيادة أو بجوارها. ومن الأهمية القصوى أيضاً أن يصار إلى بلورة استراتيجية اقتصادية تنموية يكون قوامها المعالجة الجدية للاختلالات الهيكلية الأساسية، التي يعانيها الاقتصاد الفلسطيني بعد سبعة وعشرين عاماً من الاحتلال وخمسة أعوام من الانتفاضة.

وسنخص بالذكر ثلاثة اختلالات: الأول: الاختلال في هيكل الإنتاج وسوق العمل؛ الثاني: الاختلال في هيكل التبادل التجاري الخارجي وميزان المدفوعات؛ الثالث: الاختلال في نمط ومستوى التربية والتأهيل للقوى البشرية.

فيما يتعلق بالاختلال الأول، الاختلال في هيكل الإنتاج وسوق العمل، يلاحَظ، بناء على الإحصاءات المقارَنة عبر الأعوام والمعنية بالقوى العاملة وتطور نموها ونمط اشتغالها في الفعاليات المختلفة في الوطن المحتل وفي إسرائيل، المعلومات الصارخة المبينة في الجدول المرفق، والتي تشير إلى ما يلي:

  

نمو القوة العاملة وتغير نسق العمالة في الضفة الغربية وقطاع غزة

 

الأعداد بالألوف

 

1970

1980

1987

1992

القوة العاملة الكلية

181

219

284

333

البطالة

8

3

6

14

 

العمالة الإجمالية

مجموع العاملين

172

216

278

319

في الضفة والقطاع

153

141

169

204

في إسرائيل

20

75

109

115

 

العمالة القطاعية

الإنشاء والبناء

في الضفة والقطاع

17

18

21

21

في إسرائيل

11

35

50

86

الزراعة

في الضفة والقطاع

74

52

42

50

في إسرائيل

5

10

16

10

الصناعة

في الضفة والقطاع

27

34

34

30

في إسرائيل

2

16

20

7

الأُخرى

 

 

 

 

في الضفة والقطاع

35

37

72

103

في إسرائيل

2

14

23

12

المصدر: الإحصاءات الرسمية للحكومة الإسرائيلية وتقديرات البنك الدولي.

 

بين سنتي 1970 و1992، أي خلال أكثر من عقدين من الزمن، ازداد حجم القوى العاملة المقيمة في الوطن المحتل من 181 ألفاً سنة 1970 إلى 333 ألفاً سنة 1992، أي إن 152 ألفاً دخلوا سوق العمل المحلية خلال العقدين المذكورين. وإذا سألنا كم من هؤلاء وجدوا فرصاً للعمل في الهيكل الإنتاجي للضفة الغربية وقطاع غزة، وكم منهم اضطر إلى العمل في الاقتصاد الإسرائيلي، نجد ما يلي:

في العقد ما بين سنة 1970 وسنة 1980، ازداد الحجم الكلي للعمالة الفلسطينية من 173 ألفاً إلى 216 ألفاً، أي بزيادة 43 ألفاً. وخلال الفترة ذاتها، نجد أن عدد العاملين في اقتصاد الضفة الغربية وقطاع غزة قد انخفض من 153 ألفاً إلى 141 ألفاً، بمعنى أن 12 ألف فرصة عمل قد تلاشت. وفي المقابل، نجد أن عدد العاملين من مواطني الضفة والقطاع في إسرائيل قد ارتفع من 20 ألفاً إلى 75 ألفاً، أي بزيادة 55 ألفاً. إذاً، فإن كل من وجد عملاً من الداخلين الجدد إلى سوق العمل إنما وجده من خلال الفرص التي أتاحتها الأنشطة الإسرائيلية؛ هذه الفرص التي استوعبت أيضاً 12 ألفاً من الذين فقدوا مجالات عملهم في الضفة والقطاع، أو تخلوا عنها. بعبارة أُخرى، لم تقتصر المأساة على غياب أي تطوير في هيكل الإنتاج للضفة والقطاع يتيح فرص عمل جديدة خلال عقد كامل من الزمن، بل إن فرص عمل قائمة في بعض القطاعات الإنتاجية تلاشت، أو تم التخلي عنها، وسعى من كانوا يشغلونها للعمل في إسرائيل.

وفي العقد بعد سنة 1980 حتى سنة 1987، عشية الانتفاضة، تشير الإحصاءات إلى تحسن بسيط في فرص العمل في الضفة والقطاع بمقدار 28 ألف فرصة، لكن بأقل من الزيادة في حجم العمالة الذاهبة إلى إسرائيل، والبالغة 34 ألفاً. أما في أعوام الانتفاضة، بين سنة 1987 وسنة 1992، فتشير الأرقام إلى تقلص فرص العمل في الصناعة، وبقائها راكدة في قطاع الإنشاء، وارتفاعها ارتفاعاً بسيطاً في الزراعة، وارتفاعاً كبيراً نسبياً في القطاعات الأُخرى" التي تشمل الخدمات على أنواعها، وبالتالي تستوعب ما يُعرف بالبطالة المقنَّعة.

والأخطر مما تكشفه الإحصاءات الإجمالية هو ما تكشفه الإحصاءات القطاعية التفصيلية: ففي قطاع الزراعة نجد تناقصاً في أعداد العاملين في الزراعة الفلسطينية خلال العقدين بمقدار 24 ألفاً، في حين ازداد العدد السنوي للفلسطينيين العاملين في الزراعة الإسرائيلية بمقدار 10 آلاف! وفي قطاع الإنشاءات، ازداد عدد العاملين في الإنشاء الفلسطيني خلال العقدين بمقدار 13 ألفاً، في حين ازداد عدد العمال الفلسطينيين في الإنشاء الإسرائيلي بمقدار 75 ألفاً (من 11 ألفاً سنة 1970 إلى 50 ألفاً سنة 1980، إلى 86 ألفاً سنة 1992، وهو ما يعادل 39% من العمالة الكلية).

وخلاصة القول: إن الاقتصاد الفلسطيني تحت الاحتلال كان اقتصاداً راكداً ومعاقاً وغير قادر على توفير فرص العمل حتى لجزء مهم من التزايد الحتمي في القوة العاملة. وهذا الفشل الذريع يبدو أكثر خطورة إذا تنبهنا إلى أن الأرقام سالفة الذكر تخص القوة العاملة التي بقيت مقيمة في الوطن المحتل، أي من غير العمالة التي اضطرت إلى الهجرة طلباً لفرص العمل في الخليج وبلاد أُخرى.

وهنا يجدر التذكير بأن عدد الذين نزحوا خلال عام الاحتلال 1967 يقدر بنحو 250 ألفاً، وأن عدد الذين نزحوا خلال الأعوام التالية، حتى سنة 1987، يقدر بنحو 270 ألفاً؛ فإذا ما حُسبت الزيادة الطبيعية لهؤلاء يصبح تقدير حجم النازحين الكلي بعد حرب 1967 نحو 880 ألفاً، وتقدير القوة العاملة فيهم 175 ألفاً، أي ما يعادل أكثر من نصف القوة العاملة الحالية في الوطن المحتل.

وبالمقابلة، نلاحظ أن الهيكل الإنتاجي في الوطن المحتل لم يوفر في أفضل الأعوام فرصاً للعمل لأكثر من 170 ألفاً من العاملين. وبذلك ندرك حجم التحدي الاقتصادي لاستيعاب ولو جزء من هؤلاء النازحين من خلال تطوير الهيكل الإنتاجي المحلي في الضفة والقطاع.

فيما يتعلق بالاختلال الثاني، الاختلال في هيكل التبادل التجاري الخارجي وميزان المدفوعات، فإن هذا الاختلال ناجم عن غياب السلطة الوطنية ومؤسساتها التجارية والمالية والنقدية، التي من مهمتها رعاية وحماية وتنظيم التبادل التجاري والمالي مع السوق الخارجية الدولية بما يحافظ على المصلحة الاقتصادية الوطنية وينميها، وناجم أيضاً عن غياب تلك السلطة عن استفراد إسرائيل بسوق الضفة والقطاع باعتبارها سوقاً أسيرة تطرح فيها صادراتها كيف تشاء ومتى تشاء، وتحظر فيها أية مزاحمة لا تريدها من موردين غير إسرائيليين، بل تحد حتى من مدى مزاحمة الإنتاج المحلي في الضفة والقطاع على ضآلته، وذلك من خلال ما تغدقه على إنتاجها الزراعي والصناعي من معونات وحماية.

نتيجة هذا الاختلال، تمكنت إسرائيل من تسويق ما يزيد على 10% من صادراتها السلعية في أسواق الوطن المحتل، أي ما يفوق صادراتها إلى دول المجموعة الأوروبية مجتمعة. ففي سنة 1992 مثلاً قدرت قيمة صادرات إسرائيل إلى الضفة الغربية وغزة بأكثر من 1104 ملايين دولار. وفي المقابل لم تسمح إسرائيل بأن يصدَّر إليها ما يتعدى قيمته 249 مليون دولار من إنتاج الضفة وغزة، بما في ذلك البضاعة الإسرائيلية التي هي أصلاً صادرات إسرائيلية من البضائع نصف المصنوعة والتي يستكمل تصنيعها هناك. وبذلك بلغ العجز في الميزان التجاري للوطن المحتل مع إسرائيل أكثر من 855 مليون دولار. أما بالنسبة إلى الأقطار الأُخرى، فيصدر الوطن المحتل إلى الأردن منتوجات، أغلبها زراعية، لم تزد قيمتها سنة 1992 على 38 مليون دولار، في حين أنه استورد من الأردن في تلك السنة ما قيمته 10 ملايين دولار، هي عبارة عن الزيوت الخام التي تصنع منها الزيوت النباتية، بالإضافة إلى ما يحمله المسافرون من هدايا، وبذلك بلغ الفائض التجاري مع الأردن 28 مليوناً. كذلك صدَّر الوطن المحتمل ما قيمته 5 ملايين دولار إلى سائر الأقطار، واستورد منها بقيمة 117 مليوناً، أي بعجز نحو 112 مليوناً، وبذلك بلغ مجموع العجز التجاري السلعي لتلك السنة نحو 939 مليون دولار.

والسؤال الذي ينشأ هنا هو: كيف كان يتم تمويل هذا العجز؟ ثمة فائض في تجارة الخدمات، لكن التمويل الأساسي اعتمد على دخول العاملين في إسرائيل من جهة، وعلى تحويلات العاملين في الخارج من جهة أُخرى. ولقد شكل مجموع هذه التحويلات سنة 1991 نحو 36% من متوسط الدخل القومي للفرد في الوطن المحتل.

الاختلال المهم الثالث هو الاختلال في مستوى التربية والتأهيل، وقد لخّصه التقرير الأخير للبنك الدولي بالقول إن المناهج المدرسية المعمول بها، والكتب والمواد المدرسية المقرة، والتي لم يجر في شأنها أي تحديث أو تطوير منذ الاحتلال سنة 1967، هي مناهج ومواد عقيمة لأنها تركز على الحفظ وحشو المعلومات، ولا تلتفت إلى تربية المقدرة الذهنية على التحليل والتركيب والتعامل مع المشكلات. ويبرز التقرير كذلك ضعفاً جسيماً في مؤهلات المعلمين في جميع المراحل، كما يشير إلى الحالة المزرية للأبنية والصفوف المدرسية نتيجة إهمال الإصلاح والصيانة. بالإضافة إلى ذلك، أدت أعوام الانتفاضة، بما صاحبها من الاضطرابات والإغلاق المتكرر للمدراس، إلى تدهور المستوى التعليمي ونوعيته بصورة جسيمة، وإلى زيادة كبيرة في عدد الطلاب تاركي الدراسة، وكذلك في عدد الطلاب الذين يعانون مشكلات سلوكية وإعاقات جسدية وعقلية نتيجة ما يخالط حياتهم اليومية من عنف وفوضى.

ولقد أدت أوضاع الاحتلال المستمر منذ عقود طويلة إلى ضعف المؤسسات الوطنية، مع ما سبقت الإشارة إليه من تخلف هيكل الإنتاج العام وتردي مستويات التعليم والتأهيل. وأفضى كل ذلك إلى نشوء أجيال من القوى البشرية تعاني فقراً وندرة ظاهرة في الكفاءات والمهارات الإدارية والتنظيمية، لا سيما في المستويات المتوسطة والعليا. ولعل ندرة هذا العامل الأساسي من عوامل الإنتاج (مهارات الإدارة والتنظيم) ستكون هي العامل المحدد لمدى النمو الاقتصادي الممكن في عهد الحكم الذاتي المقبل.

لكن على الرغم من تلك الاختلالات والمعوقات، فإن هناك بعض الفرص التي من غير الإنصاف أن نغفل وجودها. وفي مقدم هذه الفرص ضآلة الهياكل الإدارية (البيروقراطية)، إذ إن ذلك يتيح فرصة نادرة لبناء مؤسسات الدولة وهياكلها الإدارية وفق أحدث النظم، وبالمقادير والحدود الدنيا التي تجعل من الإدارة العامة الحكومية جهازاً رشيقاً وفعالاً بأقل التكاليف. ثم إن هناك فرصة نادرة تتمثل في أن الحكومة الفلسطينية تبدأ عملها من دون عبء مرهق من الديون، وفي تصرفها خبرات وتجارب كل الذين أهملوا وأخطأوا وتورطوا! والفرصة الثالثة النادرة هي وجود هذا المخزون الغني من الكفاءات والمهارات الفلسطينية المجرِّبة والمجرَّبة في أقطار الشتات العربية وغير العربية، والمستمدة للعودة والخدمة المخلصة إذا ما أُعطيت المجال الملائم.

إن المهمات الاقتصادية الرئيسية التي يطلب من القيادة الفلسطينية التركيز على إنجازها تشمل ما يلي:

  • إعادة تعبئة القوة التفاوضية الفلسطينية من خلال رفع وتيرة التنسيق العربي، ولا سيما مع الأردن وسوريا، وتشديد المقاطعة العربية، وتعليق المفاوضات متعددة الأطراف أو التراخي فيها.
  • التفاوض بعناد من أجل تخويل المجلس المنتخب سلطات اقتصادية فعلية على الأرض ومواردها وبولاية جغرافية تمكن السلطة الوطنية الفلسطينية من إقامة حدود اقتصادية مطابقة للحدود الجغرافيي للضفة والقطاع، وتسعى السلطة الفلسطينية لإخضاع القاطنين داخل الحدود لمدونة قانونية واحدة تنطبق بموجبها القوانين والأنظمة الضريبية والجمركية والمالية والمصرفية على جميع السكان من دون أي استثناء لسكان المستوطنات الإسرائيلية. وتسعى السلطة الوطنية الفلسطينية لاستعادة حرية القرار في الترتيبات التي تقتضيها المصلحة الفلسطينية فيما يتعلق بالنسق الأكثر ملاءمة للعلاقات الاقتصادية والتجارية بين فلسطين من جهة وإسرائيل والأردن وسائر الأقطار العربية والأجنبية من جهة أُخرى.
  • الانطلاق في تطبيق خطة الإعمار والتنمية، مع التركيز على الأولويات التالية:
  • إصلاح وبناء البنية التحتية الطبيعية والمؤسسية؛
  • تنفيذ استثمارات كثيفة وموسعة للإسكان والتطوير الحضري، من أجل اجتذاب واستيعاب أكبر عدد ممكن من العائدين؛
  • وضع الأطر القانونية والتنظيمية لنظام اقتصادي منفتح من دون انفلات، وضامن لحرية التنافس وتوازن الأسعار ضد الاحتكار ومراكز النفوذ.

إن البعد غير المحلي الوحيد الجدير باستثنائه من التركيز على الشأن الداخلي (لأنه بمعنى من المعاني شأن داخلي) هو العلاقة الأردنية – الفلسطينية.

واجتهادنا هو أن الخيار العملي أمام الكيان الفلسطيني لتفادي الانزلاق إلى ما هو بمثابة الضاحية الجنوبية للاقتصاد الإسرائيلي هو أن يستعيد هذا الكيان عمقه العربي من خلال تطوير الروابط الاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي لا تزال تربطه مع الأردن والتي استمرت على الرغم من فك الارتباط.

وهنا لا بد من مواجهة صريحة للاستقطاب والضلال اللذين يُبرزا في الجانب الفلسطيني من يعتقد أن تأكيد الهوية وتعزيز الاستقلال الفلسطيني يتناسب طردياً مع الابتعاد عن الأردن ولو بالاقتراب من إسرائيل، ويُبرزا في الجانب الأردني من يعتقد أن توثيق الروابط بفلسطين والفلسطينيين وتوحيد الحال معهم يهددان الكيان والنظام الأردني، ويوصلان إلى الوطن البديل في نهاية المطاف.

لقد وصفنا ذلك الاستقطاب وربطناه بالضلال، ويمكن وصفه أيضاً بأنه أحدث حالات فقدان المناعة القومية المكتسب بفعل فيروس القطرية المغالية. ونستعمل هذه العبارات القاسية كي تتلاءم مع المستوى المرَضي الذي وصله تفكك الروابط القومية وتهتك نسيج الأمة الواحدة حين تجاوز الفرقة بين الشعوب إلى تقطيع أوصال الشعب الواحد والأسرة الواحدة.

لقد كان الاتحاد بين الضفة الغربية والضفة الشرقية لنهر الأردن من أهم الخطوات التي سارت في الاتجاه المعاكس لتقسيمات سايكس – بيكو. ومهما كانت الأوضاع التي أحاطت بالدعوة إلى ذلك الاتحاد في إثر أحداث 1948 وقيام دولة إسرائيل، فإن الإرادة الشعبية المباركة لذلك الاتحاد والمكرِّسة له تأكدت بما لا يقبل أي طعن عقب الانتخابات النيابية العامة سنة 1950، والتي شاركت الأحزاب والفئات كافة فيها، من أقصى يسار الطيف السياسي إلى أقصى يمينه، حين اتخذ مجلس الأمة الممثل للضفتين بالتساوي "القرار التاريخي بوحدة الضفتين" في 24 نيسان/أبريل 1950، والذي جاء فيه أنه "استناداً إلى حق تقرير المصير، وإلى واقع ضفتي الأردن الشرقية والغربية ووحدتهما القومية والطبيعية والجغرافية، وضرورات مصالحهما المشتركة ومجالهما الحيوي، يقرر مجلس الأمة الأردني الممثل للضفتين ويعلن ما يأتي:

أولاً: تأييد الوحدة التامة بين ضفتي الأردن الشرقية والغربية، واجتماعهما في دولة واحدة هي (المملكة الأردنية الهاشمية).. وذلك على أساس الحكم النيابي الدستوري والتساوي في الحقوق والواجبات بين المواطنين جميعاً. ثانياً: تأكيد المحافظة على كامل الحقوق العربية في (فلسطين) والدفاع عن تلك الحقوق بكل الوسائل المشروعة، وبملء الحق وعدم المساس بالتسوية النهائية لقضيتها العادلة في نطاق الأماني القومية والتعاون العربية والعدالة الدولية."

إن هذه الحقائق التاريخية، إلى جانب كونها ذات مغزى في ذاتها، تفيد أيضاً في دحض دعوى إسرائيل من أن الشعب الفلسطيني لم يسبق له أن مارس سيادة على أرض فلسطين، وأن هذه الأرض، لذلك، أو ما تبقى منها خارج السيادة الإسرائيلية، هي أرض متنازع عليها؛ فلقد مارس هذا الشعب سيادة سياسية كاملة حين شرّع نوابه المنتخبون تكوين المملكة الأردنية الهاشمية، وحين استمر يمارس تلك السيادة بمشاركته المتساوية والمتكافئة في المتحد السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تكونت منه المملكة الأردنية الهاشمية، حيث تشارك المواطنون في كل من الضفة الغربية والضفة الشرقية في حقوق متساوية، وتشاركوا في ممارسة العملية الديمقراطية حين كانت ممارستها تتاح، كما تشاركوا في المعاناة جراء غياب هذه العملية أو تعليقها حين كانت تغيّب أو تعلَّق. وكانوا دائماً يحتلون نصف مقاعد السلطة التشريعية، ويحملون نصف الحقائب الوزارية، ويتناوبون رئاسة الوزارة ورئاسات مجلس الأمة.

وعلى الرغم من فك الارتباط الإداري والقانوني بين الضفتين سنة 1988، فقد بقي جزء كبير من البنية التحتية الاتحادية قائماً، ونخص بالذكر، على المستوى الاقتصادي، الوحدة النقدية المتمثلة في التداول القانوني للدينار، وغياب الحواجز الجمركية على الحدود من الجانب الأردني. كما نخص بالذكر، على المستوى الثقافي والاجتماعي، بقاء التوحيد في أنظمة التعليم وامتحانات الدراسة الثانوية.

في ضوء هذا الواقع، هل تقتضي الحكمة أن يؤجل تحديد العلاقة بين الكيانين الفلسطيني والأردني إلى ما بعد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة؟ وإلى ذلك الحين، هل تقتضي الحكمة تفكيك ما بقي من الروابط الاقتصادية والثقافية والاجتماعية بين الضفتين، استكمالاً لشروط الاستقلال الفلسطيني واستيفاء لرموزه؟

إن مما يلفت النظر أن غلاة الإقليمية القطرية في كل من الطرفين الفلسطيني والأردني يجيبون عن هذا التساؤل بالإيجاب، وكلٌ يعتبر ذلك في صميم مصلحة القضية الفلسطينية، ويعتبر أن اكتمال الاستقلال الفلسطيني عن أية رابطة عبر النهر هو المقدمة الصحيحة لإعادة العلاقة الوحدوية على أساس متين من الخيار الطوعي. ولا يلتفت أي من الطرفين إلى بعض الحقائق البسيطة:

أولاً: إن الترتيبات المرحلية للحكم الذاتي الانتقالي تنشىء على الأرض الواقع الذي سيحدد ملامح الوضع النهائي. وفيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية، فإن الواقع السائد على الأرض، والذي سبق أن وصِفت اختلالاته بإسهاب، لا يمكن تغييره في اتجاه الاستقلال عن التبعية للاقتصاد الإسرائيلي إلا بإحداث توازن عبر عمق آخر هو العمق الأردني، والعمق العربي من خلال الأردن. أما إذا كانت البداية تكريس الحاجز الاقتصادي الذي فرضته إسرائيل، فإن الحاجز المقابل سيقام من قِبل الأردن. والخبرة التاريخية في مثل هذه الحواجز هي أن سهولة إقامتها لا تضاهيها سوى صعوبة إزالتها بعد أن تقوم نتيجة ما يتراكم  حولها من مصالح ومراكز قوى معتمدة على بقائها حامية له.

ثانياً: إن الاستنكاف عن خيار العمق الأردني يدفع نحو تعميق الارتباط بالاقتصاد الإسرائيلي والسعي لإصلاح الاختلال الراهن بالتوصل إلى علاقات تكافؤ وندية بين الاقتصادين الفلسطيني والإسرائيلي. ولا نستبعد أن تتيح إسرائيل جميع فرص النجاح لهذا الاتجاه لتكريس كون الاقتصاد الفلسطيني عمقاً مكملاً للاقتصاد الإسرائيلي، مضيفاً لقوته ونفوذه، ومحبطاً استعادة علاقاته الطبيعية مع الأردن وسائر الأقطار العربية.

وهكذا تصبح حدود الأردن الاقتصادية هي خط نهر الأردن، بدلاً من أن تكون حدود الأردن وفلسطين والعرب هي الخط الأخضر الذي اخترقته إسرائيل سنة 1967.

 

* محاضرة ألقيت في "دار الندوة"، بيروت، في 21/1/1994.

السيرة الشخصية: 

طاهر حمدي كنعان: المدير العام لبنك الإنماء الصناعي الأردني، وزير التخطيط السابق في الحكومة الأردنية.