سياسة إدارة كلنتون حيال الشرق الأوسط
كلمات مفتاحية: 
إدارة وليام
الإدارة الأميركية
السياسة الخارجية الأميركية
السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
نبذة مختصرة: 

جزء من الخطاب الذي القاه المدير العام السابق لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي، في 18/5/1993، أمام معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. وهو يتناول السياسة الخارجية الأميركية حيال الشرق الأوسط، كما حدّد كلنتون خطوطها العريضة في حملته الانتخابية: محورها الديمقراطية؛ تعزز مصالح الأعمال الأميركية؛ تعمل مع الأصدقاء والحلفاء في المنطقة من أجل حماية المصالح الأميركية؛ وتعطي الأولوية للتشجيع على السلام في الشرق الأوسط.

النص الكامل: 

مهمتي الليلة أن أحاول أن أعرض عليكم مقاربة إدارة كلنتون حيال الشرق الأوسط. وكان الرئيس كلنتون حدّد الخطوط العريضة لهذه المقاربة خلال حملته الانتخابية: سياسة خارجية محورها الديمقراطية؛ سياسة خارجية تعزز مصالح الأعمال الأميركية في الخارج؛ سياسة خارجية تعمل مع أصدقائنا وحلفائنا في الشرق الأوسط ـ إسرائيل ومصر والسعودية ـ من أجل حماية المصالح الأميركية في الشرق الأوسط ومواجهة تهديدات الأنظمة الراديكالية والعلمانية والدينية على حد سواء، لهذه المصالح؛ وأخيراً فإنها سياسة خارجية تعطي الأولوية للتشجيع على سلام حقيقي وشامل في الشرق الأوسط.

وبتعبير آخر، فإن "مسألة الرؤية" كانت شديدة الوضوح لدى هذا الرئيس قبل تسلمه منصبه. وهو يفهم أن الشرق الأوسط هو في حالة توازن دقيق بين مستقبَلين بديلين: الأول يتمثل في سيطرة المتطرفين المرتدين عباءة الدين أو الوطنية على المنطقة، مستخدمين أسلحة الدمار الشامل المحملة على الصواريخ الباليستية؛ والثاني مستقبل تحقق فيه إسرائيل وجيرانها العرب والفلسطينيون مصالحة تاريخية تمهد الطريق للتعايش السلمي والتنمية الاقتصادية الإقليمية واتفاقات الحد من التسلح وتنامي الديمقراطية في الشرق الأوسط.

ويفهم الرئيس كلنتون أيضاً أن الولايات المتحدة، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وبعد حرب الخليج، تقف بوصفها القوة المسيطرة في المنطقة التي لها مقدرة فريدة على التأثير في سير الأحداث. ونحن نأمل، من خلال العمل بقوة مع أصدقاء أميركا وحلفائها في المنطقة، أن نجعل الميزان يميل لمصلحة ذاك المستقبل الأكثر سلاماً الذي تتطلع إليه شعوب المنطقة والتي حرمت منه طويلاً.

أولاً: إن المهمة الأولى التي واجهتنا كانت تطوير استراتيجية متماسكة لتحقيق تلك الأهداف. وقد قمنا بمراجعة السياسات القائمة وبتحليل ديناميات المنطقة، ودخلنا في مناقشات واسعة مع الوكالات المتعددة المعنية بشؤون الأمن القومي، وتبادلنا وجهات النظر مع زعماء المنطقة خلال رحلة وزير الخارجية كريستوفر إلى الشرق الأوسط في شباط/فبراير الماضي، ثم عندما التقى الرئيس كلنتون رئيس الوزراء الإسرائيلي رابين والرئيس المصري مبارك. كانت هذه عملية مدروسة واستغرقت بعض الوقت. وقد أضحت المراجعة كاملة الآن. وأود أن أنتهز هذه الفرصة لأوجز المقاربة العامة التي ستعتمدها إدارة كلنتون حيال الشرق الأوسط، مسلطاً الضوء على بعض العناصر الحاسمة في استراتيجيتنا.

تحتوي مقاربة إدارة كلنتون، بالضرورة، على عناصر ثابتة وأخرى متغيرة. والثبات ناجم عن حقيقة بقاء العديد من المصالح الحيوية لأميركا في المنطقة من دون تغيير. وعلى الرغم من التطورات الدراماتيكية التي عصفت بالساحة العالمية في الأعوام الأربعة الماضية، ما يزال التدفق الحر لنفط الشرق الأوسط بأسعار معقولة يعتبر من مصالحنا الثابتة. ولنا مصلحة ثابتة في تبادل الصداقة مع الذين ينشدون علاقات جيدة مع الولايات المتحدة في العالم العربي. وما زلنا نملك مصلحة ثابتة في [المحافظة على] أمن دولة إسرائيل وبقائها ورخائها. ولأن العلاقات السلمية بين سكان المنطقة تسهل تعزيز تلك المصالح، كانت لنا مصلحة ثابتة في تشجيع تسوية عادلة ودائمة وشاملة وحقيقية للصراع العربي ـ الإسرائيلي.

من جهة أخرى، تنشأ التغييرات في السياسة من التطورات العالمية والإقليمية الدراماتيكية التي تؤثر بدورها في الديناميات السياسية للمنطقة. لقد كان لنهاية الحرب الباردة نتائج عميقة على الشرق الأوسط. وصارت القوتان العظميان لا تتنافسان على النفوذ في هذه المنطقة المتقلبة، مما يعني أن لا حاجة بعد الآن لأن تنظر الولايات المتحدة إلى المنطقة من خلال منظور عالمي تنافسي. وللمرة الأولى نتمكن من الحكم على التطورات هناك من خلال تأثيرها في مصالحنا في المنطقة، لا في مصالحنا العالمية.

للمرة الأولى منذ الخمسينات، تكون الولايات المتحدة القوة المسيطرة في المنطقة من دون أن يتحداها أحد، وتتطلع كل الأطراف الآن إلى واشنطن لتمارس نفوذها. لكن غياب التنافس بين القوتين العظميين يجر في أعقابه نفوذاً أقل على سياسات القوى في المنطقة، فضلاً عن حلفائنا الأوروبيين واليابانيين خلال الحرب الباردة. كما تنطوي حقيقة مرحلة ما بعد الحرب الباردة على تناقص في استخدام الوسائل العسكرية والاقتصادية للتأثير في الأحداث. إن مسؤولياتنا في المنطقة تتعاظم، ومع ذلك فإن قدرتنا على تحمّلها تقلّ.

ثانياً: أصبحنا غير قادرين على التعاطي مع المنطقة بتقسيمها إلى أجزاء مستقلة. فمع انتشار الصواريخ الباليستية من جهة، وانتشار التطرف من جهة أخرى، يمكن النزاع أو الاضطراب في مكان ما في المنطقة أن يؤثر بطريقة دراماتيكية في الأحداث في أمكنة أخرى. وصار في غير الإمكان شن حرب تمتد ثمانية أعوام بين قوتين في المنطقة ـ العراق وإيران ـ بينما تتابع دول المنطقة أعمالها كالمعتاد. وكما أثبتت حرب الخليج، فإن عصر الصواريخ في الشرق الأوسط خلق وضعاً يمكن أن تجد فيه الرياض وتل أبيب أنهما عرضة لهجوم عراقي في الوقت نفسه.

وبطريقة مماثلة، أثبتت إيران أن يدها تطال المنطقة باصطيادها في المياه العكرة، بدءاً بالخليج ومروراً بمصر ولبنان والجزائر. فقد اكتسبت إيران، بتمويلها وتسليحها وتدريبها عناصر "حزب الله" وحركة "حماس"، القدرة على التدخل في عملية السلام العربية ـ الإسرائيلية. كما توفر لها الصواريخ التي ابتاعتها من كوريا الشمالية القدرة على ضرب إسرائيل والدول العربية. وباختصار، فإن الأحداث في شرق المنطقة حالياً تؤثر مباشرة في غربها، والعكس صحيح أيضاً.

ثالثاً: مع انتهاء الحرب الباردة تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف المنطقة. إذ يجب علينا أن نُدخل الدول الإسلامية الحديثة الولادة في آسيا الوسطى كأحد عناصر استراتيجيتنا في المنطقة، مع أنها تقع عند أطراف الشرق الأوسط. وعندما نفعل ذلك، نتفهم الدور المتزايد الأهمية الذي تلعبه تركيا في حساباتنا الإقليمية. لقد جرى معاملة تركيا خلال الحرب الباردة باعتبارها قوة أوروبية وشريكة في جهود حلف الناتو لاحتواء الاتحاد السوفياتي. والآن تلعب تركيا دوراً مهماً في آسيا الوسطى وفي الشرق الأوسط كذلك. ولأن لها حدوداً مشتركة مع إيران والعراق وسوريا، فإنها مهمة للجهود التي نبذلها لاحتواء نظام صدّام حسين وللمحافظة على اتفاقات توفير الإغاثة “Provide Comfort” لسكان شمال العراق. باختصار، إن تركيا دولة علمانية وديمقراطية إسلامية، وقوة عسكرية واقتصادية ذات موقع استراتيجي، وحليفة منذ أمد طويل للولايات المتحدة. ويتمثل أحد التحديات التي تواجهنا في إيجاد طريقة لاستخدام هذه العناصر بشكل أفضل في السعي وراء أهدافنا في الشرق الأوسط.

عندما نجري تقويماً استراتيجياً للمنطقة عموماً نرى ثلاثة تحديات رئيسية للمصالح الأميركية:

أولاً: نحن محظوظون جداً لأننا ورثنا عملية مفاوضات عربية ـ إسرائيلية مستمرة تشمل الفلسطينيين وجميع الجيران المباشرين لإسرائيل من العرب، ودول المغرب ومجلس التعاون الخليجي أيضاً. والتحدي المطروح هنا أمام إدارة كلنتون يتمثل في تحويل العملية السلمية إلى عملية لصنع السلام وبتحقيق اختراق مبكر في مجال اتفاقات السلام.

ثانياً: نتيجة للحرب العراقية ـ الإيرانية ولحرب الخليج، نحن محظوظون أيضاً لأننا ورثنا توازناً للقوى في المنطقة فيه مستوى منخفض إلى درجة كبيرة من القدرة العسكرية التي تهدد مصالحنا. إن الجيش العراقي المؤلف من مليون رجل وسبعين فرقة صار غير موجود. والتحدي هنا هو في المحافظة على هذا الوضع في وجه جهود مصممة تبذلها كل من إيران والعراق لإعادة بناء ترسانتيهما، خصوصاً في مجالات السلاح النووي والصواريخ الباليستية.

ثالثاً: بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وهزيمة العراق، حدث انهيار لجبهة الرفض الراديكالية في الشرق الأوسط. لكن الطبيعة، خصوصاً طبيعة الشرق الأوسط، تمقت الفراغ. فما أن سقط طاقم من مثيري الشغب حتى ظهر طاقم آخر ليحل محله. إن عقوداً من الإهمال والآمال المحبطة بالمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية غذّت حركات عنفية تنكرت بأقنعة دينية وبدأت تتحدى الحكومات في أنحاء العالم العربي، مما ينطوي على خطر كامن لزعزعة الاستقرار في المنطقة.

ينبغي ألا نُبسِّط تحدياً معقداً تطرحه الينابيع المختلفة، الإقليمية والوطنية، ويجب ألاّ نرفض جميع الإصلاحيين الدينيين باعتبارهم متطرفين. لكن لا يمكننا، في الوقت نفسه، أن نتجاهل أن بعض المتطرفين الدينيين وجدوا، بلجوئهم إلى العنف، العون من النظامَيْن الأصوليين في إيران والسودان. ولذا فالتحدي الثالث أمامنا هو أن نساعد شعوب الشرق الأوسط وحكوماتها على مواجهة هذا التهديد الناشىء، بالسعي الحثيث إلى السلام من جهة، وباحتواء التطرف في أنحاء المنطقة من جهة أخرى، وبالتمسك برؤية بديلة للتطور السياسي الديمقراطي وتطور اقتصاد السوق الحرة. وهذا ما نريده ليس لشعوب الاتحاد السوفياتي السابق فحسب، بل لشعوب الشرق الأوسط أيضاً.

إن تطوير استراتيجية إقليمية متماسكة تجمع هذه الاعتبارات كلها هو تحدٍ هائل بحد ذاته لإدارة كلنتون. ويبدأ توجهنا بفكرة الاعتماد المتبادل بين النصفين الشرقي والغربي للمنطقة: هكذا، فإن احتواء التهديدات الآتية من العراق وإيران في الشرق سيؤثر في قدرتنا على العمل لتحقيق السلام بين إسرائيل وجيرانها العرب في الغرب؛ وبطريقة مشابهة، فإن تحقيق السلام بين إسرائيل والعرب في الغرب سيؤثر في قدرتنا على احتواء التهديدات من إيران والعراق في الشرق. ونجاحنا في الحقلين سيؤثر في قدرتنا على مساعدة الحكومات الصديقة في خلق حياة لشعوبها أفضل من تلك التي يعرضها دعاة العنف.

بناء على هذا يمكن أن نلخص سياسة إدارة كلنتون بالآتي:

  • "الاحتواء المزدوج" للعراق وإيران في الشرق؛
  • العمل لتحقيق السلام العربي ـ الإسرائيلي في الغرب؛
  • يدعم ذلك جهود نشطة لوقف انتشار أسلحة الدمار الشامل ودفع المنطقة لتبني رؤية أكثر ديمقراطية وازدهار لجميع شعوب الشرق الأوسط.

ولقصر الوقت، أظن أنه قد يكون مفيداً أن أركز على مقاربة إدارة كلنتون بخصوص الشقيْن الأوليْن من استراتيجيتنا في الشرق الأوسط، تاركاً مهمة توضيح سياستنا تجاه الشق الثالث إلى وقت لاحق ولناس أكثر خبرة مني في ذلك.

الاحتواء المزدوج في الشرق

تُستمد سياسة إدارة كلنتون المتعلقة بـ "الاحتواء المزدوج" لإيران والعراق في المرحلة الأولى من التقويم القائل إن النظامين، العراقي والإيرانيين الحاليين معاديان للمصالح الأميركية في المنطقة. وعلى هذا لا نوافق على الحجة القائلة أن علينا مواصلة اللعبة القديمة لتوازن القوى، أي تعزيز أحدهما لموازنة الآخر. إننا نرفض هذا التوجه ليس لأن الغزو العراقي للكويت أثبت إفلاسه فقط، بل بدافع من تقويمنا الواضح للعداء الذي يضمره النظامان تجاه الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة أيضاً، ولأننا لسنا بحاجة إلى الاعتماد على أحدهما لموازنة الآخر. إن التحالف الذي حارب صدّام حسين ما زال متماسكاً، وما دمنا قادرين على الإبقاء على وجودنا العسكري في المنطقة، وما دمنا ناجحين في تحجيم الطموحات العسكرية لإيران والعراق، وما دمنا معتمدين على حلفائنا في المنطقة ـ مصر وإسرائيل والسعودية ومجلس التعاون الخليجي وتركيا ـ للمحافظة على توازن القوى لمصلحتنا في الشرق الأوسط الأوسع، فإنه تتوافر لدينا الوسائل اللازمة لمواجهة النظامين العراقي والإيراني، ولن نحتاج إلى الاعتماد على أحدهما لمواجهة الآخر.

وكما قال وزير الخارجية كريستوفر، يجب ألا ندع جهودنا لدفع العراق إلى الالتزام الكامل بتنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة تلهينا عن إدراك التهديد الذي تشكله إيران لمصالحنا في الشرق الأوسط. وبالاعتبار نفسه، ينبغي ألا يلهينا الاهتمام بالتهديد الإيراني عن بذل الجهد لإرغام العراق على التزام قرارات الأمم المتحدة.

آمل أن تكون سياسة إدارة كلنتون تجاه العراق أصبحت مفهومة الآن. ببساطة، نريد أن يلتزم العراق التزاماً كاملاً تنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة، ويجب ألا يشكل نظام صدّام حسين ثانية، أبداً، تهديداً لجيران العراق. إننا ملتزمون أيضاً أن نضمن تقيد العراق بالقرار رقم 688 الصادر عن الأمم المتحدة الذي يدعو النظام إلى إنهاء القمع ضد الشعب العراقي.

لقد حاول البعض أن يصور سياستنا بأنها تليين للسياسة السابقة. ولكن ينبغي أن يكون مفهوماً الآن إننا نريد تقيُّد أي نظام في العراق [بتنفيذ جميع قرارات الأمم المتحدة]. لن تكفينا الإطاحة بصدّام حسين لكي نرفع العقوبات عن العراق، بل لا بد أن نقتنع بأن أي حكومة تخلفه ستتقيد تقيداً كاملاً بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة. إننا لا نسعى إلى المصالحة مع نظام صدّام حسين ولا نتوقعها. وقرار إدارة كلنتون نشر تقرير المدعي العام الذي يتضمن تفاصيل جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي اقترفها النظام في الكويت لم يكن إلا خطوة أولى. وقد قررنا الآن أن نسعى إلى تأليف لجنة تابعة للأمم المتحدة للتحقيق في تهم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في العراق نفسه، وجمع الأدلة الوفيرة المطلوبة لإثبات هذه التهم.

وهدفنا من ذلك مدروس بعناية: الإثبات بوضوح وبصورة لا لبس فيها أن النظام الحالي في العراق هو نظام مجرم وخارج حظيرة المجتمع الدولي، وهو، في تقديرنا، غير قابل للإصلاح.

إننا نقدم أيضاً دعماً أقوى لـ "المؤتمر الوطني العراقي" باعتباره بديلاً ديمقراطياً من نظام صدّام حسين. لقد نجح المؤتمر في توسيع قاعدته لتضم ممثلين عن الجماعات الرئيسية الثلاثة في العراق، السنية والشيعية والكردية. وهو ملتزم، مثلماً نحن ملتزمون، المحافظة على وحدة أراضي العراق والتقيد بالتزامات العراق الدولية. ونحن نحض الآن الآخرين في المنطقة على أن يقدموا للمؤتمر الاعتراف والدعم اللذين يستحقهما.

ينبغي أن نوضح أن خلافنا ليس مع الشعب العراقي. إن الديكتاتورية في بغداد تتحمل المسؤولية كلية عن المأزق الذي هي فيه. ونحن نشارك في جهود الأمم المتحدة لتوفير مساعدات إنسانية للشعب العراقي ولمنع، بقدر الإمكان، وقوعه مجدداً ضحية القمع الوحشي الذي يمارسه صدّام حسين. هذا هو هدف عملية "توفير الإغاثة" “Provide Comfort” وإقامة منطقة حظر جوي في شمال العراق وجنوبه. وهذا أيضاً هدف قراري الأمم المتحدة 706 و712 اللذين يوفران مساعدات إنسانية أكبر، واللذين يرفضهما النظام العراقي. ونحن نبحث الآن، وبإلحاح، عن وسائل أخرى لمساعدة الشعب العراقي، مثل دعم اقتراح إرسال مراقبين من الأمم المتحدة إلى العراق لمراقبة انتهاكات حقوق الإنسان.

باختصار، إن إدارة كلنتون تنوي أن تضمن، عبر قرارات الأمم المتحدة والتدابير المتخذة لتطبيقها ومراقبتها، أن نظام صدّام حسين لن يكون في موقع يتمكن فيه من تهديد جيرانه وقمع شعبه من دون عقاب.

إن احتواء التهديد الآتي من إيران أمر أصعب، على الرغم من أن القيام به ضروري بما لا يقل [عن احتواء التهديد القادم من العراق]. وعندما نقوّم النيات والقدرات الإيرانية نرى مجموعة من الأخطار على المصالح الغربية. فإيران تشكل تحدياً خماسياً للولايات المتحدة والمجتمع الدولي، فهي الدولة الأكثر دعماً للإرهاب والاغتيالات في أنحاء العالم. وعبر دعمها حركة "حماس" و"حزب الله" تسعى إيران بما تستطيع إلى إحباط جهودنا من أجل تشجيع السلام بين إسرائيل والفلسطينيين والدول العربية. وعبر صلاتها بالسودان، تصطاد إيران في المياه العكرة في العالم العربي وتسعى بنشاط إلى تدمير الحكومات الصديقة. وعبر بذلها جهوداً نشطة للحصول على أسلحة هجومية، تسعى إيران إلى الحصول على قدرة للهيمنة على الخليج بالوسائل العسكرية. ولعل أكثر ما يثير القلق أن إيران تسعى إلى امتلاك أسلحة الدمار الشامل، بما فيها أسلحة نووية سرية وصواريخ باليستية لنقل أسلحة الدمار الشامل إلى الشرق الأوسط.

يجب أن أشدد على أن إدارة كلنتون لا تعارض وجود حكومة إسلامية في إيران. إننا نقيم، في الواقع، علاقات ممتازة مع عدد من الحكومات الإسلامية. لكننا، بالأحرى، نعارض بحزم هذه الجوانب المحددة من تصرفات النظام الإيراني فضلاً عن انتهاكاته حقوق الإنسان للشعب الإيراني. إننا لا نسعى إلى المواجهة، لكننا لن نطبِّع علاقاتنا مع إيران قبل أن تتغير سياسات إيران تغيراً شاملاً وما لم تتغير هذه السياسات. إننا راغبون في أن نستمع إلى ما تريد إيران أن تقوله شريطة أن يكون ذلك عبر قنوات تمتلك السلطة. وفي أية حال، وفي غياب تغيرات في سلوك إيران، سنعمل بنشاط من أجل إقناع حلفائنا الأوروبيين واليابانيين، وكذلك روسيا والصين، بأن من مصلحتهم عدم مساعدة إيران في الحصول على أسلحة نووية أو وسائل تقليدية لتهديد المنطقة. كذلك نعتقد أن ليس من مصلحتهم تحسين الوضع الاقتصادي لإيران بحيث يصبح في وسعها إقامة علاقات تجارية طبيعية من جهة، بينما تهدد مصالحنا المشتركة من جهة ثانية.

سنواصل سعينا النشط لتحقيق سياسة الاحتواء من جانب واحد، مُبْقين على العقوبات المناهضة للإرهاب وتدابير أخرى أقرتها إدارات سابقة لتشجيع تغيير السلوك الإيراني. لكننا ندرك أن النجاح يتطلب جهوداً من أطراف متعددة، لأن الكثير مما تسعى إيران إليه لبناء قوتها العسكرية متوافر في مكان آخر. وبهذا الخصوص، سنحاول إشعار حلفائنا بضرورة مواجهة التهديد الإيراني وانتهاز الفرصة المتاحة الآن بسبب الظروف الحالية التي تشهدها إيران.

إن ضرورة التصرف الآن تنشأ من حقيقة أن النيات التهديدية لإيران تفوق قدراتها في هذه اللحظة. لكن هذه اللحظة لن تدوم طويلاً. وإذا فشلنا في جهودنا لتعديل السلوك الإيراني فإن إيران ستكون بعد خمسة أعوام من الآن أكثر قدرة على تشكيل تهديد حقيقي لإسرائيل والعالم العربي والمصالح الغربية في الشرق الأوسط. لكن الفرصة للتصرف الآن تنشأ، من جهة أخرى، من حقيقة أن إيران عادت لا تُعتبر طرفاً تجارياً جيداً. فالديون المترتبة عليها من القروض الدولية القصيرة الأجل تبلغ خمسة مليارات دولار، وهذا الرقم يتزايد بقفزات سريعة. وتعاني إيران تضخماً بلغ 30 في المئة وبطالة بلغت 30 في المئة. وباختصار، فإنها تعتبر استثماراً سيئاً من الناحيتين التجارية والاستراتيجية، لا للولايات المتحدة فقط، بل لكل الأعضاء المسؤولين في المجتمع الدولي.

هذا الطرح يفرض نفسه لسبب آخر أيضاً. فإيران لا تواجه، بعد، نظاماً دولياً مثل المفروض على العراق. لذا هناك عدم توازن هيكلي بين الوسائل المتاحة لاحتواء العراق وإيران. وإذا كانت النتيجة نجاح المجتمع الدولي في احتواء العراق وفشله في احتواء إيران، فسنكون قد سمحنا في شكل غير مقصود بأن يميل ميزان القوة في الخليج لمصلحة إيران مع نتائج خطيرة جداً ستترتب على ذلك. ويدعو عدم التوازن هذا، إذن، إلى بذل جهود أكثر حيوية من أجل احتواء إيران وتعديل سلوكها، فيما نحن نبقي على نظام العقوبات ضد العراق.

مواصلة السعي من أجل السلام في الشرق الأوسط

هذا الجهد المبذول للاحتواء المزدوج في الخليج يصبح ملحاً أكثر نظراً لتأثيره في الجانب الآخر لسياستنا في الشرق الأوسط ـ مواصلة السعي من أجل السلام في الشرق الأوسط. إن الفرصة التي نعتقد أنها سانحة لصنع السلام العربي ـ الإسرائيلي ناجمة، بشكل كبير، عن التغييرات التي طرأت على الظروف الاستراتيجية في المنطقة. فبعد أربعة عقود من محاولة تسوية الصراع بالقوة، أدرك العرب والإسرائيليون أن الوقت حان لتسوية خلافاتهم عبر المفاوضات المباشرة. وإذا مال ميزان القوى ثانية لمصلحة القوى الراديكالية بقيادة العراق وإيران، فالأرجح أن يفشل هذا الجهد لأن الخيار العسكري سيبدو لبعض المشاركين في المفاوضات أكثر قابلية للحياة.

لقد استطاع الرئيس كلنتون الوفاء بالوعد الذي أطلقه خلال حملته الانتخابية بالمحافظة على استمرارية مفاوضات السلام. ويعود ذلك بشكل كبير إلى أن الحسابات الاستراتيجية للأطراف المشاركة في مفاوضات السلام لم تتغير في الفترة الانتقالية بين الإدارتين. وبالتأكيد، فإن العامل الوحيد الجديد الذي برز خلال هذه الفترة ـ المد المتصاعد للتطرف الديني ـ يبدو أنه يعزز فعلاً مصلحة كافة الأطراف ليس في العودة إلى طاولة المفاوضات فقط، بل في إظهار أن المفاوضات يمكن أن تسفر عن نتائج أيضاً. وذلك لأن المتطرفين الإسلاميين يشكلون تهديداً مشتركاً لجميع الأطراف المنخرطة في محادثات السلام، سواء كانت إسرائيل أو الفلسطينيين أو حتى سوريا.

ومع ذلك، لم تكن إعادة الأطراف إلى طاولة المفاوضات [الجولة التاسعة] مهمة سهلة. والطريقة التي تابعت بها إدارة كلنتون هذا الهدف أوجدت سابقة للأسلوب الذي سندير به سياستنا تجاه المفاوضات.

أولا: تبعاً لتقويمنا بأن المفاوضات نضجت لتحقيق اختراق على جبهات عدة، عرضنا رفع درجة المساهمة الأميركية في المفاوضات بأن تكون "شريكاً كاملا" لجميع الأطراف. لكن هذا العرض يبقى مشروطاً، فنحن لا نقدر أن نكون شريكاً كاملاً إلاّ عندما تُبدي الأطراف أنفسها استعداداً لتحمل مسؤولياتها. وبهذا الخصوص، فإن العودة إلى طاولة المفاوضات ليست كافية. نحن لا يمكننا أن نصبح بديلاً من المشاركة المباشرة لتلك الأطراف، بعضها مع بعضها الآخر، في التفاوض على أساس الأخذ والعطاء، ولن نكون ذلك البديل. وإذا كانوا مستعدين لحلّ مشكلاتهم عبر التوصل إلى حلول وسط تأخذ في الاعتبار الحد الأدنى من متطلبات الطرف الآخر، فنحن جاهزون للعب دور المسهِّل والوسيط. لكننا لن نكون الطرف الذي يصدر الأحكام أو يفرض إرادته.

ثانياً: أوضح الرئيس ووزير الخارجية أن مقاربتنا حيال المفاوضات ستتضمن العمل مع إسرائيل، لا ضدها. إننا ملتزمون تعميق شراكتنا الاستراتيجية مع إسرائيل من أجل السلام والأمن. وعلى الذين يسعون بصدق إلى سلام شامل وحقيقي أن يدركوا أن هذا لن يتحقق من دون قيام إسرائيل بالانسحاب من أراضٍ، مع ما يتطلبه ذلك من مخاطر ملموسة على أمنها. وعلى الذين يبحثون عن تقدم حقيقي أن يدركوا أن هذا التقدم لن يتحقق من دون هذا النوع من العلاقات الخاصة بين الولايات المتحدة وإسرائيل.

لقد أوضح رئيس الوزراء رابين أن حكومته مستعدة لتحمل هذه المخاطر من أجل السلام. لكنه لن يستطيع أن يفعل ذلك ما لم يُعرض على إسرائيل سلام حقيقي في المقابل، وما لم تتأكد إسرائيل من أن الولايات المتحدة تقف خلفها بقوة. وهذا بالضبط ما دفع الرئيس كلنتون، عندما أبلغ رابين إليه أنه مستعد لتحمل المخاطر من أجل السلام، إلى الإجابة: إن دورنا هو تقليل هذه المخاطر. وإحدى الوسائل لعملنا هذا هي تنفيذ التزامنا المحافظة على تفوق إسرائيل النوعي. وثمة وسيلة أخرى تكمن في إقامة شراكة لتطوير بضائع ذات تكنولوجيا عالية، وإنتاجها وقد نفذ الرئيس كلنتون تعهده الانتخابي وأنشأ "هيئة العلوم والتكنولوجيا الأميركية ـ الإسرائيلية" التي يرأس الجانب الأميركي منها وزيرُ التجارة رون براون.

ثالثاً: لقد أظهرنا بوضوح أننا مستعدون أيضاً للعمل كشركاء كاملين مع الأطراف العربية المشتركة في المفاوضات. وعلى هذه الأطراف أيضاً أن تخاطر من أجل السلام، ونحن ندرك هذا. نحن نفهم الضغط الذي يتعرض له المفاوضون الفلسطينيون والصعوبات التي عانوها جراء دخولهم المفاوضات. ولكن لكي يحققوا أهدافهم، لن يوجد بديل آخر من انخراطهم في المفاوضات في شأن جوهر ترتيبات الحكم الذاتي الموقت، من دون معرفة الوضع النهائي للضفة الغربية وغزة. وهم سيعرفون، في أي حال، أن انخراطهم هذا سيؤدي إلى سيطرتهم على حياتهم ومصيرهم للمرة الأولى في تاريخهم المضطرب. وسيعرفون أنهم في العام الثالث من الفترة الانتقالية سيكونون في وضع يمكنهم من التفاوض على المسائل المتعلقة بالوضع النهائي تحت رعاية القرارين 242 و338. وبالنسبة إلى السوريين، ينبغي أن يكونوا راغبين في التزام السلام الحقيقي مع إسرائيل، بكل ما يعنيه ذلك من إنهاء النزاع وتطبيع العلاقات وفتح الحدود وتبادل السفارات وإقامة العلاقات التجارية. وإذا كانوا مستعدين للانخراط في المفاوضات بهذه الطريقة، فإننا مستعدون أن نؤدي دورنا في ضمان أن يتحقق اختراق في اتجاه السلام.

أيها السيدات والسادة، كما ترون من هذه الجولة في الأفق السياسي للشرق الأوسط، فإن إدارة كلنتون تواجه جدول أعمال واسعاً وبعض التحديات المروعة. والرهان كبير على مستقبل المنطقة وعلى المصالح الأميركية فيها. ويبقى الرئيس مصمماً على ألا يدع الفرصة تفلت، على الرغم من أن قضايا عدة أخرى تتطلب اهتمامه واهتمام فريقه لشؤون الأمن القومي. وكما قال الرئيس كلنتون عندما أعلن أنه سيرسل وزير خارجيته كريستوفر إلى الشرق الأوسط في مهمته الأولى خارج البلاد:

"لا نستطيع أن نفرض حلاً في الشرق الأوسط. إن زعماء المنطقة وحدهم يستطيعون صنع السلام، ومسؤوليتهم تبعث على الرهبة. والذين يعارضون العملية ويسعون إلى تخريبها عبر العنف والابتزاز، لن يجدوا هنا تسامحاً مع أساليبهم. لكن الذين ينوون صنع السلام سيجدون في شخصي وفي إدارتي شريكاً كاملاً. إنها لحظة تاريخية يمكن أن تفلت منا بسهولة. لكن إذا انتهزنا الفرصة، يمكننا البدء الآن ببناء شرق أوسط مسالم للأجيال المقبلة".

 

* جزء من الخطاب الذي ألقاه مارتن إنديك في 18/5/1993 أمام معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، ونشرته Mees, 31 May 1993, pp. D1-D5.

السيرة الشخصية: 

مارتن س. إنديك: المدير العام السابق لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا في مجلس الأمن القومي الأميركي.