إشكالات التغيير في النظام الفلسطيني السياسي
كلمات مفتاحية: 
منظمة التحرير الفلسطينية
النظام السياسي
نبذة مختصرة: 

يرى الكاتب أن هذه الدراسة ليست أكثر من محاولة لتحديد عناوين العوامل والأوضاع المتعددة التي تداخلت لتوجد الأزمة الداخلية في م.ت.ف. وهي محاولة كذلك لتحديد طبيعة هذه الأزمة وتجلياتها، وتجرؤ على تقديم بعض الاقتراحات للخروج من الأزمة وتطوير النظام السياسي الفلسطيني.

النص الكامل: 

واجهت منظمة التحرير الفلسطينية، منذ إعادة تشكيلها قبل ثلاثة عقود، أوضاعاً كثيرة بالغة الصعوبة، وضغوطاً هائلة وتحديات خطرة. ومع ذلك فإن هذه الصعوبات والضغوط والتحديات لم تكن بالحدة والاتساع اللذين هي فيهما الآن.

إن الأسلوب الذي سوف تعالج به منظمة التحرير الفلسطينية الوضع المستجد والدقيق سيقرر مستقبلها ومهامها، كما ستكون له آثاره المباشرة والبارزة في المصير السياسي للشعب الفلسطيني.

إن هذا المقال ليس أكثر من محاولة أولية لتحديد عناوين العوامل والأوضاع المتعددة التي تداخلت لتوجد الأزمة الداخلية الراهنة لمنظمة التحرير. وهو محاولة كذلك لتحديد طبيعة هذه الأزمة وتجلياتها، ويجرؤ على تقديم بعض الاقتراحات للخروج من الأزمة وتطوير النظام السياسي الفلسطيني.

I   شكلت منظمة التحرير الفلسطينية التعبير المؤسساتي عن النظام الفلسطيني السياسي منذ أواخر الستينات، حين سيطرت عليها حركة المقاومة وأعادت بناءها. ومن هذا المنطلق، كانت مهمتها الأساسية، كما كان المرتكز الأكبر لشرعيتها، ولمّا يزل، تعبئة الفلسطينيين في سياق النضال من أجل ممارسة حقهم في تقرير المصير والعودة. ونمت المنظمة بشكلها الجديد في نهاية الستينات كآلية لتحديد الإطار التنظيمي للحركة الوطنية الفلسطينية ومكوناتها، وأدواتها وأهدافها الاستراتيجية وتكتيكها الأساسي وهي بهذا مثلت، من خلال تجسيدها الوطنية الفلسطينية، الهوية الفلسطينية الراهنة. ومن خلال المعارك المتعددة التي اضطرت إلى خوضها في الدفاع عن الحقوق والمصالح والأهداف الفلسطينية، أكسبت منظمة التحرير الفلسطينية الهوية الوطنية بعداً نضالياً جديداً.

إن تبعثر الشعب الفلسطيني، منذ العام 1948، في تجمعات متعددة، تتباين في ظروفها الاجتماعية والاقتصادية، وتفتقر إلى التكوين المجتمعي الموحد، جعل الدور التوحيدي لمنظمة التحرير الفلسطينية عاملاً أساسياً في صيانة الهوية الفلسطينية الوطنية وتطويرها. ووفرت المؤسسات المختلفة لمنظمة التحرير، واتحاداتها الشعبية والمهنية، وكذلك الشبكات التنظيمية للفصائل السياسية المؤتلفة في إطارها، وشائج حيوية بين مختلفة التجمعات الفلسطينية. وبرزت ضرورة هذه الوشائج، ليس لتأمين الروابط بين فلسطينيي الأراضي المحتلة وفلسطينيي الخارج فحسب، بل لتأمين التفاعل بين التجمعات الفلسطينية في الشتات أيضاً. وقد يكون من التبسيط الزائد أن تختزل هذه الروابط إلى مستواها التنظيمي، على الرغم من استحالة التقليل من أهميته، أو أن نحصرها في المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية (تعليم، صحة، مساعدة اجتماعية لأسر الشهداء، مراكز حرفية..) التي أقامتها منظمة التحرير الفلسطينية، ولعل ما كان أكثر أهمية من ذلك هو المؤسسات الوطنية التي عملت منظمة التحرير الفلسطينية من خلالها، هذه المؤسسات التي شُكلت لتمثيل التجمعات الفلسطينية، والتي أمنت منبراً موحداً لبلورة الخطاب السياسي للشعب الفلسطيني وتنقيحه، ولإعطاء نضاله التوجيهات الضرورية.

أدت سيطرة فصائل المقاومة على منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1968 إلى إعادة تنظيم هيكليتها، وصقل مجموعة من المهام أكثر اتساعاً وحداثة. وجرت إعادة تشكيل مهام المؤسسات الوطنية الفلسطينية وتنظيمها وتشغيلها عبر عملية تفاوض وتفاهم بين فصائل المقاومة بتوجيه من حركة "فتح" وبقيادتها.

كانت عملية حصول منظمة التحرير الفلسطينية على شرعية تمثيل الشعب الفلسطيني معقدة وشائكة. فتحت الضغطين المتعاكسين (محاولات الدمج والتوطين والإلحاق من جانب، والتمييز والعزل من جانب آخر) تنامت لدى الفلسطينيين، بدرجات متفاوتة ومراحل مختلفة، الحاجة السياسية إلى إعطاء الوطنية التعبير التنظيمي.

لقد أدى انحلال الحركة الفلسطينية الوطنية بعد العام 1948 إلى اندماج العناصر الفلسطينية النشطة سياسياً في تيارات الحركة القومية العربية المتعددة، وأدى ضم الضفة الغربية للأردن ووضع قطاع غزة تحت الحكم المصري إلى تعزيز الحاجة إلى تعبير تنظيمي للهوية الوطنية، كما قدم الحافز لجهود استنهاض الوطنية الفلسطينية. وجاء فشل تجربة الوحدة بين مصر وسوريا، وهزيمة العرب العسكرية في حزيران/يونيو 1967، ليعجلا في تحويل منظمة التحرير الفلسطينية من أداة للسياسة العربية الإقليمية إلى أداة للوطنية الفلسطينية.

كان انضواء غالبية فصائل المقاومة في إطار منظمة التحرير الفلسطينية خطوة ضرورية في إكسابها شرعيتها السياسية. ولا شك في أن محورية الكفاح المسلح في استراتيجية التحرير كانت وظيفة ضرورية في عملية التعبئة السياسية. وقد عكس الميل إلى تقديس الكفاح المسلح، في أيديولوجية معظم فصائل المقاومة، إلى حد ما، الطبيعية الدموية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، كما عبر عن حاجة الفلسطينيين إلى تأكيد هويتهم الوطنية كشعب في مواجهة الأيديولوجية الصهيونية والمؤسسة السياسية الإسرائيلية التي تتنكر كلياً لهذه الهوية.

وكان من الطبيعي أن ينظر الفلسطينيون إلى المحاولات العديدة التي جرت لتهميش أو شق أو تجاوز منظمة التحرير الفلسطينية على أنها محاولات لإنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وتجاهل هويته. كما كان من الطبيعي أن تؤدي المواجهات الكبرى التي جرت بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل، وبين المنظمة وبعض الأنظمة العربية، إلى تعزيز الالتفاف الجماهيري حول المنظمة وشرعيتها كممثل وحيد للشعب الفلسطيني. وجاء اعتراف الجامعة العربية في العام 1974، واعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة، بالصفة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية ليؤكدا شرعية سبق أن منحتها لها الأكثرية العريضة من الفلسطينيين.

ضم المجلس الوطني الفلسطيني في عضويته شخصيات من مختلف التجمعات الفلسطينية في المنفى. وقد خُصص عدد من المقاعد للأراضي المحتلة، ولكنها بقيت من دون تحديد تخوفاً من الإجراءات القمعية الإسرائيلية. وينص ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية على ضرورة انتخاب المجلس الوطني الفلسطيني، لكن هذا الشرط لم يوضع موضع التطبيق، وإنما أصبحت العضوية في "البرلمان الفلسطيني في المنفى" خاضعة عملياً لموافقة قيادات فصائل المقاومة، وأصبح نظام "الكوتا" معمولاً به في كل مؤسسات منظمة التحرير، وكذلك في الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية.

ومع أن أعضاء الجسم التشريعي الفلسطيني غير منتخبين مباشرة من دوائر انتخابية، ومع أنه لا يوجد للأراضي المحتلة أية مشاركة مباشرة أو تأثير في هذا الجسم، فإن هذا لم يقلل من الطبيعة التعددية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فحرية التعبير والانتساب والاستقلال السياسي الأيديولوجي والتنظيمي للفصائل المختلفة العاملة، أو الراغبة في العمل، تحت إشراف منظمة التحرير الفلسطينية، وفرت بعض المتطلبات الدنيا لنظام تعددي.

إن الوشائج التي أوجدتها منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها الرئيسية مع المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، بدأت تتخذ شكلها بمرور الوقت مع استفحال الإجراءات القمعية للاحتلال العسكري الاستيطاني الإسرائيلي. فعلى سبيل المثال، جاء تأسيس لجنة التوجيه الوطني في الأراضي المحتلة بدعم من الهيئات القيادية في منظمة التحرير الفلسطينية وغالبية فصائلها. ولم يكن بالإمكان إجراء الانتخابات البلدية في الضفة الغربية في العام 1976، والتي أسفرت عن فوز ساحق للقيادات الوطنية، من دون موافقة فصائل رئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية. وبدأ بناء المنظمات الجماهيرية والمهنية أو الروابط (النساء، الشباب، العمال، الروابط التطوعية.. الخ) في النصف الثاني من السبعينات، واستمر بشكل أو بآخر حتى تفجر الانتفاضة في أواخر الثمانينات. وقد تم ذلك بتوجيه وتشجيع من المراكز القيادية في "الخارج" للفصائل الأساسية في منظمة التحرير الفلسطينية. وقد كان بناء هذه المؤسسات الشعبية أحد أهم العوامل المساعدة في تفجير الانتفاضة في كانون الأول/ ديسمبر 1987.

II    وفّرت منظمة التحرير الفلسطينية المؤسسات التوحيدية (الرسمية وغير الرسمية) التي أدخلت التجمعات الفلسطينية المختلفة في كيان سياسي محدد المعالم، على الرغم من اختلاف ظروفها الاجتماعية ـ الاقتصادية والسياسية. وربما كان هذا أحد العوامل المهمة التي تفسر فشل المحاولات المتكررة لإيجاد بدائل من منظمة التحرير الفلسطينية، أو لتهميش دورها التمثيلي. لقد فشلت تلك المحاولات لأن أياً من البدائل المطروحة لم يمتلك الشرعية الشعبية، أو القدرة على تلبية الاحتياجات الوطنية الفلسطينية، أو تعبئة الشعب الفلسطيني في كفاحه لبناء دولته المستقلة وممارسة حقه في العودة، كما فعلت منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد حافظت منظمة التحرير على هذا الموقع من دون تحدٍ خطير طيلة امتلاكها القدرة على تلبية متطلبات الكفاح من أجل تقرير المصير والاستقلال. وقد فرض الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، بأبعاده الإقليمية والدولية، على منظمة التحرير الفلسطينية أن تبقى مستنفرة دائماً، وأن تحاول بثبات التكيف مع المستجدات من دون المساومة على قضية شعبها.

وخلّف انهيار الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية آثاراً سلبية على المكانة الدولية لمنظمة التحرير، وعلى نطاق وفاعلية الدعم المعطى لبرنامجها السياسي. كذلك تركت حرب الخليج الثانية، على المستوى الإقليمي، واقعاً عربياً منقسماً على ذاته، وموقفاً عدائياً من منظمة التحرير الفلسطينية من معظم دول الخليج. وهكذا ازداد ميزان القوى، على المستويين الإقليمي والدولي، ميلاً ضد منظمة التحرير الفلسطينية وبرنامجها، ولمصلحة دولة إسرائيل وأهدافها. ووضع طابع هذه المستجدات، الذي ترافق مع سياسات حكومة الليكود اليمينية التوسعية في إسرائيل، منظمة التحرير الفلسطينية في حال حصار تقريباً. لكن هذه التحولات عرّت الحاجة إلى التغيير في بنية مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية ودورها.

ولم تكن الضغوط الخارجية (سياسية ومالية وعسكرية) التي تعرضت لها منظمة التحرير الفلسطينية، هي وحدها التي تطلبت التحديد والمواجهة؛ فقد ضيقت المتغيرات التي شهدتها التجمعات الفلسطينية الرئيسية من المساحة الاجتماعية التي اعتمدت عليها منظمة التحرير الفلسطينية في النضال والدعم السياسي. فقد شهدت معظم هذه التجمعات تحولات تراكمية ودرامية. فالحرب الأهلية الطويلة والدامية في لبنان، والغزو الإسرائيلي للبلد، وحصار بيروت ما يقارب الثلاثة أشهر، ومغادرة منظمة التحرير الفلسطينية، والحرب ضد المخيمات الفلسطينية، والقيود ضد الفلسطينيين، تضافرت كلها لتنتج بعد العام 1982، وضعاً كارثياً للفلسطينيين في لبنان. وقد جعل هذا الوضع من الصعوبة بمكان على منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها ممارسة العمل الوطني والتعبئة السياسية بين صفوف الفلسطينيين في لبنان على نحو شبيه بما كان يجري خلال عقد السبعينات.

وفي سوريا جعل اتساع الفجوة بعد العام 1982 بين القيادة السياسية في سوريا وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية؛ من الصعب على الأخيرة أن تنشط بين الفلسطينيين بحرية وانفتاح. وحتى المنظمات التي سمح لها بمواصلة العمل السياسي بين الفلسطينيين في سوريا، بقيت محكومة في حرية حركتها برؤية قيادة البلد السياسية لمصالحها الاستراتيجية وحساباتها التكتيكية.

أما في الكويت فقد تعرضت الغالبية الساحقة من الجالية الفلسطينية هناك للترحيل فور حرب الخليج عام 1991، لدرجة شكلت مأساة جماعية. وبهذا فقدت منظمة التحرير الفلسطينية والمناطق المحتلة، مصدراً مهماً للدعم المالي والسياسي والإعلامي، وساهم في ذات الاتجاه تشديد القيود على الفلسطينيين في دول خليجية أُخرى.

أما في الأردن، وفي إثر الإجراءات التي اتخذت لدمقرطة النظام السياسي ولتشريع الأحزاب السياسية، فإن العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الفلسطينية من جانب، وبين الفلسطينيين في الأردن من جانب آخر، باتت بحاجة إلى وساطات معقدة وغير مباشرة أمام اندماج غالبية الفلسطينيين في البلد في حياته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولم يبق ثمة شكل بارز من التعبئة السياسية المباشرة ممكناً.

إن الضفة الغربية ـ وضمنها القدس ـ وغزة هما الاستثناء الرئيسي من بين التجمعات الفلسطينية الأساسية التي لم تؤد المتغيرات التي حدثت في السنوات الأخيرة إلى تضييق كبير لمساحة العمل السياسي فيهما أمام منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها. لكن هذا الحكم يبقى نسبياً وقابلا للتغيير، خاصة بعد تنامي دور الإسلام السياسي في هاتين المنطقتين في السنوات الأخيرة.

هذا الوضع الصعب وسريع التغيّر الذي ورثته المنظمة من عقد الثمانينات ما زال يضغط بشدة من أجل تغييرات بنيوية ملحة، ومن أجل أشكال أكثر تطوراً من العمل السياسي، ومن أجل صوغ استراتيجية واضحة جديدة. ولا شك في أن مستقبل منظمة التحرير الفلسطينية بات يتوقف على قدرتها على التعاطي مع الحاجة إلى التغيير.

III     عبّر تشكّل منظمة التحرير الفلسطينية، بصفتها الكيان السياسي الفلسطيني، عن محورية هدف الدولة المستقلة في نضال الحركة الوطنية الفلسطينية. وتنامى وعي هذه الحقيقة بعد فقدان حركة المقاومة الفلسطينية قاعدتها العملياتية والاجتماعية الأساسية في الأردن خلال العامين 1970 – 1971. ففقدت بذلك القدرة على العمل العسكري ضد إسرائيل عبر الحدود الأردنية، والقدرة على تعبئة القطاع الفلسطيني من مواطني البلد. وقد جاء تبني منظمة التحرير الفلسطينية لبرنامجها المرحلي ذي النقاط العشر في العام 1974، تعبيراً عن تغير بارز في استراتيجيتها، وتلمساً أدق لتوازن القوى الإقليمي الجديد. كما جاء ليسهل، موضوعياً انتقال مركز الثقل الفلسطيني السياسي لاحقاً إلى الأراضي المحتلة منذ العام 1967. وقد أكملت الحرب الأهلية اللبنانية، التي وجدت منظمة التحرير الفلسطينية نفسها طرفاً فيها، ومغادرة الأخيرة بيروت عام 1982، الشروط الموضوعية لتموضع مركز الثقل للكفاح الوطني الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. واستلزم الأمر اندلاع الانتفاضة في كانون الأول/ ديسمبر 1987 (أي بعد خمس سنوات من مغادرة المنظمة بيروت و 13 سنة من تبنيها برنامجها السياسي المرحلي) لتعرية الحاجة إلى ضرورة تحويل الأراضي المحتلة إلى ساحة أساسية للكفاح الوطني الفلسطيني.

كانت الانتفاضة نتيجة تفاعل متفجر بين عوامل ثلاثة:

أولاً: وطنية فلسطينية كفاحية جرى توكيدها من جانب منظمة التحرير الفلسطينية التي قاومت، بنجاح كبير، مختلف المحاولات التي سعت إلى شقها وتهميش دورها السياسي كممثل للشعب الفلسطيني. وعند انطلاق الانتفاضة، كانت منظمة التحرير الفلسطينية المرجعية السياسية الوحيدة لأكثرية الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة وخارجها، إذا أخذنا التركيب الديمغرافي الشاب للشعب الفلسطيني في الاعتبار.

ثانياً: الاحتلال العسكري الاستيطاني، الذي حوّل الأراضي المحتلة إلى احتياطي رخيص من الأيدي العاملة للرأسمال الإسرائيلي وإلى سوق أسيرة للسلع الإسرائيلية. لقد استعدى الاحتلال الإسرائيلي من خلال سياسة مصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، وفرض القيود على الصناعة والزراعة، والضرائب المالية، ومختلف أصناف العقوبات الجماعية والتدابير القمعية كل الطبقات والفئات الاجتماعية الفلسطينية، ورفع استعدادها للانخراط في أشكال مختلفة من المقاومة.

ثالثاً: عملية بناء واسعة لمنظمات جماهيرية وروابط مهنية في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، اشتملت على قطاعات الطلاب والنساء والعمال والمعلمين والمحامين.. الخ. لقد وفرت هذه المنظمات الجماهيرية والمهنية التجربة وشبكة العلاقات الضرورية لإسناد الانتفاضة وإدامتها، ومكنتها، ولا سيما في سنتها الأولى، من تحمل مختلف أشكال الضغط والقمع والعنف الإسرائيلي. ومع ذلك فقد ترك الجناح "الخارجي" للحركة الوطنية بصماته الواضحة على الانتفاضة وعلى المنظمات الجماهيرية والمهنية في "الداخل" لأسباب ذات جذر بنيوي كما سيتضح لاحقاً.

IV    حصل التغيير في الوضع الحياتي للتجمعات الفلسطينية في لبنان والكويت (في 1982 و 1991 على التوالي) بصورة درامية ومفاجئة. أما في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة، فقد حصل تغيير تراكمي مس مختلف مناحي الحياة بعد الصدمة الأولى والهائلة للاحتلال الإسرائيلي في حزيران/ يونيو 1967، وقطع العلاقات الاقتصادية والسياسية ـ الإدارية المؤسسة منذ العام 1948، بين هذه الأراضي الفلسطينية والأردن ومصر.

لقد وجدت البورجوازية الفلسطينية (الصناعية والزراعية والتجارية) نفسها محاصرة بقيود وضوابط متعددة استهدفت كبح نموها وإخضاعها لمصلحة الاقتصاد الإسرائيلي. وواجهت الطبقة المتوسطة، بشقيها التقليدي والمهني الجديد، تآكل الفرص المحدودة التي كانت بحوزتها للحراك الاجتماعي، وبدأت تفقر بشكل متزايد، في حين تنامت الطبقة العاملة الفلسطينية نسبياً وعددياً، وفُتح أمام جزء منها سوق العمل الإسرائيلية المتعطشة إلى يد عاملة رخيصة وغير ماهرة.

وكانت التغييرات في البنية الطبقية والمهنية في الضفة الغربية والقدس وغزة قد سهلت التوجه السياسي الذي تبنته، في أواخر السبعينات المنظمات اليسارية لبناء اتحادات ومؤسسات جماهيرية وتطوير حركة نقابية. واتبعت "فتح" التوجه نفسه بعد فترة وجيزة. وكان لهذه السياسة أثرها في إحداث المزيد من التحويل في التركيب الاجتماعي للحركة الوطنية الفلسطينية، التي بدأت تجذب المزيد من الكادرات والقادة المحليين من العمال والمهنيين.

ومع بناء حركة نقابية، مهنية، جماهيرية، حديثة، بدأت شرائح اجتماعية أكثر اتساعاً تشارك في الفضاء النشط للحركة الوطنية الفلسطينية (عمال، طلاب، نساء من العائلات الفقيرة، ومهنيين من أصول فلاحية.. الخ).

ودفعت مشكلات البطالة، وتراجع الصناعات الحرفية التقليدية، وتغلغل العلاقات الرأسمالية في مختلف القطاعات الاقتصادية في الأراضي المحتلة، والسياسات الإسرائيلية الاقتصادية، أعداداً كبيرة من الفلسطينيين في هذه المناطق إلى الهجرة إلى الدول العربية وسواها سعياً وراء الرزق، أو إلى سوق العمل الإسرائيلية للمهن غير الماهرة أو شبه الماهرة. وأدى الكساد في دول الخليج وإسرائيل، في الثمانينات، إلى تضخم عدد العاطلين عن العمل، ولا سيما بين خريجي الجامعات والمعاهد. ورافق اتساع الطبقة العاملة، وتفاقم الأوضاع المعيشية لأعداد أوسع من السكان، نشاط محموم لبناء مؤسسات "مجتمع مدني"، ومنظمات ذات جذور محلية.

وساهمت هذه المتغيرات في تعزيز دور الحركة الوطنية في الضفة والقطاع وتأثيرها. ودلل ذلك على فشل سياسة "القبضة الحديدية" التي أعلنتها إسرائيل في آب/ أغسطس 1985 لإخماد المقاومة الشعبية المتصاعدة ضد الاحتلال. كما لم يؤد الحظر الإسرائيلي على لجنة التوجيه الوطني في العام 1982، وغزو لبنان وحصار بيروت في العام ذاته، إلى النتائج التي توختها القيادة الإسرائيلية منهما.

كما فشلت خطة "الحكم الذاتي" التي اقترحتها اتفاقات كامب ديفيد في اجتذاب أي تأييد من الفلسطينيين، سواء من "خارج" أو "داخل" الأراضي المحتلة. وبقيت روابط القرى التي رعتها إسرائيل معزولة كلياً. كذلك فإن الحملة الإسرائيلية ضد القادة المحليين المنتخبين في الأراضي المحتلة (والتي شملت الإبعاد) فشلت في نسف نفوذ الحركة الوطنية.

ومع ذلك كان من نتائج الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 إضعاف سمة "الدولة" في منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك بتجريدها من آخر قاعدة وفرت لها استقلالية واسعة نسبياً. كما كانت لهذه النتائج آثارها في بنية وفاعلية جناح "الخارج" للحركة الوطنية الفلسطينية. إلا أن هذه الآثار لم تشمل، بخلاف ما هدفت إليه القيادة الإسرائيلية آنذاك، جناح "الداخل" للحركة الفلسطينية. ويمكن أن تكون حرب 1982 قد ساعدت، موضوعياً، في إنضاج ظروف اندلاع الانتفاضة.

وبعيداً عن تكرار جهد المنظمات الفلسطينية في الأراضي المحتلة في تأمين الخدمات، فإن المنافسة بين تلك التنظيمات ساهمت، في مرحلة ما قبل الانتفاضة، في إيجاد بعد جماهيري للحركة الوطنية في الداخل، بخلاف الاتجاه الذي سارت عليه الأمور في الجناح الخارجي لتلك الحركة.

لقد أثر عدد من العوامل، في عقد الثمانينات، في المسار الذي اتبعته الحركة الوطنية خارج الأراضي الفلسطينية المحتلة. إن العامل الثابت الذي يشكل أساس مشكلات كثيرة، وصعوبات ذاتية لمنظمة التحرير الفلسطينية، هو المتمثل في كون الشعب الفلسطيني لا يجمعه تكوين اجتماعي موحّد (مجتمع واحد). وهو أمر يعني أن الفلسطينيين واجهوا منذ العام 1948، كأفراد وكجماعات، ظروفاً مختلفة وكثيرة التنوع اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً وقانونياً. وفضلاً عن ذلك فإنه يعني أيضاً أن أي تعبير منظم عن الهوية الوطنية الفلسطينية يمكن أن تنظر إليه الدول "المضيفة"، التي تتمتع فيها القضية الفلسطينية بتأييد شعبي، وبالتالي، ببعد سياسي كعامل يهدد استقرارها. وذلك لأن التعبير عن الهوية الوطنية الفلسطينية لا يمكن أن يقتصر على المستوى الثقافي ما دام يحتوي على بعد سياسي بارز. إن هذا الأمر مرشح أن يبقى ما دام الشعب الفلسطيني من دون دولة مستقلة.

V   كانت وظائف الدولة التي مارستها منظمة التحرير الفلسطينية خلال السبعينات والثمانينات قد أخفت هشاشة هذا الجانب بسبب افتقادها إلى القاعدة الإقليمية المستقلة والضرورية التي يمكن أن تخفف، إلى الحد الأدنى، أثر الضغوطات والتدخلات الخارجية. وكان من المنتظر أن تبرز حرب إسرائيل ضد منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1982 حقيقة أن المنظمة غير قادرة على إدارة مهام الدولة (التي تشمل الصحة والتعليم والخدمات الثقافية والقضاء والبوليس والمهمات العسكرية وإدارة البعثات الدبلوماسية..) من دون أي قاعدة إقليمية مستقلة. وهكذا فإن الأجهزة المتضخمة (العسكرية وشبه العسكرية والدبلوماسية والإدارية) التي أنشأتها منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها خلال النصف الأول من السبعينات في لبنان، أصبحت تشكل عبئاً لحظة فقدان المنظمة قاعدتها المستقلة في ذلك البلد. لقد ترعرت الأجهزة البيروقراطية داخل صفوف منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها بفعل عوامل عديدة، أهمها:

ـ  الحرب الأهلية اللبنانية (حيث تسارعت عملية "تجييش" المقاومة).

ـ  المساعدات المالية من دول النفط العربية الغنية (التي ازدادت بعد قمة بغداد عام 1978 ووفرت الأموال لإنشاء المزيد من المكاتب وتوظيف المزيد من الأفراد).

ـ النجاح الدبلوماسي للمنظمة (وما استتبع ذلك من افتتاح البعثات الدبلوماسية وتوسيعها في عشرات البلدان).

ـ  دعم الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية لها (وما ترتب على ذلك من تأثيرات في أسلوب عمل منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها..).

ـ  عزلة المنظمة عن التجمعات الفلسطينية، ولا سيما تلك الموجودة في لبنان وسوريا، بعد خروجها من لبنان.

وعلى الرغم من محاولة منظمة التحرير وحركة "فتح" إرساء علاقات مباشرة مع الفلسطينيين في الأردن من خلال مساعي التقارب مع الحكومة الأردنية التي جرت خلال العامين 1984 و 1985، فقد فشلت تلك المحاولات لأسباب داخلية، وللتعارض في الاستراتيجيات السياسية للفريقين.

ليس من قبيل الصدفة أن عدداً من قادة الانشقاق في حركة "فتح" (الذي جرى عام 1983) جاء من النخب البيروقراطية العسكرية وشبه العسكرية. وهي بيروقراطية كانت في ذلك الوقت تتعرض للتفتت بعد أن خسرت، نتيجة للغزو الإسرائيلي، معظم قواعدها ومقراتها العسكرية في جنوب لبنان، وهذا ما كان وفر لها الجانب الضروري من الشرعية لتبرير امتيازاتها ودورها السياسي.

بعد خروجها من لبنان، بات من الصعب على منظمة التحرير الفلسطينية أن تحافظ على تماسك مؤسساتها وفاعليتها خارج الأراضي المحتلة. وبدأ دور الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية في الشتات يتآكل بسرعة. ويكمن السبب الهام لهذا التآكل في بيروقراطية هذه البنى، وبالتالي في اغتراب قواعدها الشعبية والمهنية عن "هيئاتها القيادية" (ربما مع استثناء الاتحاد العام لطلبة فلسطين الذي بقي يعاني بيروقراطية أقل).

ثمة عوامل متعددة ساعدت في تحويل الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية في الشتات الفلسطيني إلى "واجهات سياسية". ومن هذه العوامل:

ـ  بيروقراطيتها واعتمادها المالي الكامل على منظمة التحرير الفلسطينية.

ـ  الطبيعة التحررية الوطنية للنضال الفلسطيني الذي يملي أولوية التعبئة السياسية.

ـ  نظام "الكوتا".

ـ الصعوبات التي تواجه دور هذه الاتحادات والنقابات كراعية للمصالح الجماعية لأعضائها، وذلك تخوفاً من التصادم مع الدول المضيفة.

وبهذا اتسم سلوك الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية بسيطرة النشاطات السياسية مع غياب شبه كامل تقريباً لأية فعاليات أُخرى. نادرة هي الاتحادات الشعبية والروابط المهنية التي استطاعت أن تؤسس أو تحافظ على وجود جماهيري ملحوظ وفاعل في أي من التجمعات الفلسطينية في الشتات. وهكذا تحولت تلك الاتحادات الشعبية والروابط المهنية إلى أدوات سياسية مباشرة بدلاً من أن تكرس اهتماماً كافياً لتنظيم القطاعات المختلفة للشعب الفلسطيني من أجل حماية مصالحها وحقوقها وتطويرها من جانب آخر. وهكذا بدأ الضبط البيروقراطي يحل محل التعبئة السياسية والاجتماعية. أكثر من هذا، فقد بات "ضبط" الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية والروابط الأخرى يتم من قبل منظمة التحرير الفلسطينية المباشرة.

لكن المنظمات والمؤسسات الجماهيرية التي بدأت تظهر في النصف الثاني من السبعينات في الأراضي المحتلة، اختلفت في جوانب هامة عن رديفاتها في الشتات. ولعل أهم هذه الجوانب وجود جمهور لهذه التنظيمات وعلى صلة بها. ثمة سبب مهم وراء التطور "المستقل" للحركة الجماهيرية في "الداخل" خلال عقد الثمانينات يتعلق بالأسلوب المختلف الذي عمل من خلاله النظام السياسي الفلسطيني في الضفة والقطاع. فالمفهوم الذي نظم علاقات التحالف بين القوى السياسية الفلسطينية في "الداخل"، اختلف نسبياً في مرحلة السبعينات والثمانينات عن ذلك الذي ساد الهيئات القيادية لمنظمة التحرير الفلسطينية واتحاداتها الشعبية. ففي الشتات تم إشراك مختلف الفصائل بصرف النظر عن حجمها، وأيديولوجيتها، ودرجة تأثيرها في الرأي العام الفلسطيني. وبما أن المواقع القيادية في المؤسسات الوطنية لم تُشغل عبر الانتخابات، فقد كان من المحال أن يتقرر، موضوعياً، درجة النفوذ أو التأييد اللذين يملكهما كل من تلك الفصائل. وهذا أمر جعل من الصعب جداً تطبيق نظام تمثيل نسبي. وفضلاً عن ذلك، فإن بعض القوى والفصائل المدعومة عربياً مُثلت في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية القيادية واتحاداتها لاعتبارات إقليمية وليس لمتطلبات تطوير النظام السياسي الفلسطيني.

وفي الأراضي المحتلة أسست الفصائل الرئيسية منظماتها الجماهيرية، وفي بعض الأحيان روابطها المهنية ونقاباتها أيضاً. وكان عجزها عن العمل العلني نظراً للقمع الإسرائيلي قد شكل أحد الأسباب الكامنة وراء بناء هذه المنظمات الجماهيرية والروابط المهنية. أما الأسباب الأخرى فتتعلق بمحاولات القوى والفصائل السياسية إيجاد وسائل جديدة للتعبئة السياسية. ولتوسيع قاعدتها الشعبية ونفوذها العام في وضع لا تستطيع "فتح" استخدام كامل وزنها المالي والبيروقراطي لإحباط أو لتقييد هذه المحاولات. وفي الختام شاركت "فتح" في عملية البناء هذه ولحقتها "حماس" فيما بعد.

يحتل أهمية خاصة في تفسير مسارات النمو المختلفة لجناحي الحركة الوطنية الفلسطينية وجود تشكيل مجتمعي في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ مجتمع له تركيبه الطبقي الخاص واقتصاده، ونظام قيمه، وكذلك مؤسساته المدنية. لقد كان للاحتلال الإسرائيلي تأثيره الكبير، بلا شك، في هذا المجتمع، مثلما كان قبله للحكم الأردني والمصري تأثيرهما. ولكن في كلا الوضعين، بقي الفلسطينيون في أرضهم وقراهم ومخيماتهم ومدنهم، وحافظوا إلى حد كبير على علاقاتهم القرابية، ومؤسساتهم الاقتصادية والاجتماعية. ولم يكن أي تجمع آخر في الشتات قد احتفظ بالبناء المجتمعي نفسه أو طوره، كما حدث في الضفة والقطاع.

وربما كانت مخيمات اللاجئين الفلسطينيين التكوين الوحيد في الشتات الذي يملك ملامح مجتمعية محددة على الرغم من أن طبيعة هذه الملامح تختلف من مكان إلى آخر، وتبقى خاضعة للتقلبات السياسية والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، كما يدلل تاريخ المخيمات الفلسطينية في لبنان خلال العقود الثلاثة الماضية.

لقد تطور "المجتمع المدني" في الضفة الغربية وقطاع غزة على الرغم من قمع الاحتلال الإسرائيلي وقيوده. بل يمكن القول أن بعض مناحي "المجتمع المدني" قد تعززت في سياق عملية تحد للاحتلال، وكردة فعل "جماعية" على محاولات إسرائيل تبديد الهوية الوطنية الفلسطينية وتدمير بنية المجتمع في الضفة وغزة.

ويمكن الاستشهاد هنا بالنمو السريع خلال الثمانينات في عدد الروابط المهنية والاتحادات الشعبية ومنظمات العمل التطوعي، ومراكز البحوث والجامعات والمعاهد، فضلاً عن المنظمات السياسية والمؤسسات الاقتصادية والمصانع، على الرغم من القيود التي يفرضها اقتصاد أسير.

ومقابل ذلك، كانت التجمعات الفلسطينية في الشتات مقيدة (قانونياً وسياسياً)، في معظم الحالات، في حركتها لتطوير مؤسسات مجتمعها المدني. كما كانت الاتحادات الفلسطينية النقابية والروابط المهنية تحظر في بعض البلدان. وكانت منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل والقوى السياسية المكونة لها، في الشتات\ن قد بادرت إلى إنشاء بعض مؤسسات "المجتمع المدني" لأغراض التعبئة السياسية، والتعاطي مع المشكلات الناجمة عن النضال الوطني. وقد شملت هذه المؤسسات روابط الشباب والنساء والعيادات والمستشفيات وكذلك المصانع في بعض المواقع.

ومع ذلك فإن هذا النمو في بعض مظاهر الحياة ذات البعد المجتمعي للشعب الفلسطيني في الشتات، خلال السبعينات والثمانينات، لم يشمل سوى تجمعات محددة، هي التجمعات التي مارست منظمة التحرير الفلسطينية بعض السلطة عليها، وكان لها فيها، على الأقل، بعض النفوذ السياسي المباشر، وحيث احتفظت بعلاقة جيدة مع حكومة البلد المضيف. وبمجرد زوال أو انتهاء هذه السلطة أو النفوذ، أو حدوث تنافر مع حكومة البلد المضيف، كانت معظم المؤسسات التي أقامتها منظمة التحرير الفلسطينية تتلاشى أو تنهار كما حدث في لبنان بعد آب/ أغسطس 1982. وتمثل مجزرة صبرا وشاتيلا شكلاً رمزياً درامياً لذلك.

أما معظم الحكومات العربية فقد نظر، وعلى الرغم من أي خطاب أيديولوجي مخالف، إلى ممارسة السلطة على الفلسطينيين المقيمين في دولها كجزء من السيطرة على "مجتمعها المدني" ذاته. كما نظر إلى منظمة التحرير الفلسطينية بصفتها "دولة" أكثر منها حركة تحرر وطني.

لقد جرى تكرار غالبية مهمات "الدولة" التي مارستها منظمة التحرير الفلسطينية من جميع التنظيمات السياسية المكونة لها. وقد تصرف كل منها، بشكل أو بآخر كحزب حاكم، وأعاد إنتاج المهمات المنوطة بالمنظمة الأم وفقاً لحجمه وحجم موارده. وهكذا كان لكل تنظيم تشكيله العسكري وجهازه الأمني وسجونه، وعياداته، وحضاناته، ومتاجره الحرفية، ومجلته الأسبوعية، وفي بعض المناسبات، محطته الإذاعية.

إن التناقص المستمر، منذ حرب الخليج، في ممارسة م. ت. ف. مهمات شبيهة بمهمات الدولة، ولا سيما فيما يتعلق بالخدمات التي أخذت في تقديمها إلى الفلسطينيين، رافقه تقلص في دور الاتحادات الشعبية والنقابات المهنية في الشتات الفلسطيني، بما في ذلك تقلص (خلال السنوات القليلة الماضية) في دور الأطر المفتوحة المؤسسة للنساء والشباب والقطاعات الأخرى داخل الأراضي المحتلة.

بدأت البيروقراطية "المتضخمة" لمنظمة التحرير الفلسطينية، التي تغذت من المساعدات المالية الواردة من الدول النفطية العربية، تواجه مصاعب كبيرة بعد أن تم وقف الجزء الأكبر من هذه المساعدات في عقب أزمة الخليج. ومن الواضح أن أسباباً سياسية تقف وراء توقف المساعدات باعتبار ذلك إجراء يستهدف تهميش المنظمة، وباعتباره شكلاً من أشكال الضغط عليها، خصوصاً بعد دخولها المفاوضات السياسية مع إسرائيل.

لقد باتت الأزمة المالية التي تمر بها منظمة التحرير الفلسطينية العنوان الأكثر جذباً للاهتمام من عناوين الأزمة الأخرى، مع أن الجوانب الأخرى أكثر أهمية وعلاجها أكثر ضرورة. ونخص بالذكر من هذه الجوانب: استفحال البيروقراطية، وتغييب دور المؤسسات الوطنية، والعلاقة الأحادية الجانب القائمة بين منظمة التحرير الفلسطينية كمؤسسة والحركة الوطنية في الأراضي المحتلة عام 1967، إضافة إلى استفحال الخلاف السياسي على الدور الفلسطيني في المفاوضات مع إسرائيل.

VI    كشفت الانتفاضة الحاجة إلى تجديد بنيوي في النظام السياسي الفلسطيني، الذي لم يشهد أي تعديل يذكر منذ تشكله في أواخر الستينات، وأبرزت وجهة التجديد المطلوب عبر إطلاقها اللجان الشعبية كشكل تنظيمي يؤمن المشاركة المباشرة في العمل السياسي، حيث شكلت هذه اللجان استجابة لحاجة الجماهير إلى الانخراط المباشر في إدارة شؤون الحياة اليومية ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي في الوقت نفسه.

غير أن اللجان الشعبية حُرمت من فرصة تطوير كامل إمكاناتها. ويعود ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية:

ـ  السياسة الإسرائيلية التي أفردت قمعاً خاصاً للجان الشعبية، وقامت، عبر شن حملة من الاعتقالات الواسعة، بسجن أعداد كبيرة من الكوادر التنظيمية والسياسية المجربة.

ـ  البيروقراطية المفرطة للنظام السياسي الفلسطيني الذي رفض التكيف بسرعة وفاعلية مع حاجات الانتفاضة ومتطلباتها.

ـ  طبيعة علاقات السلطة القائمة داخل الحركة الوطنية الفلسطينية، والتي جاءت المفاوضات السياسية لتضيف إليها بعداً تنافسياً جديداً.

تأسست بنية منظمة التحرير الفلسطيني (كما هو الحال في معظم المنظمات السياسية المنضوية تحتها) على النظر إلى الأراضي المحتلة كساحة من ساحات النضال، وليس بصفتها الساحة الرئيسية للنضال. لذلك لم تستطع المنظمة المثقلة بالأجهزة البيروقراطية أن تكيف نفسها مع انتقال مركز ثقل العمل الوطني إلى هذه المناطق. فنخبتها البيروقراطية، وكذلك معظم قادة الفصائل الفلسطينية، رأوا في الواقع السياسي الناشىء خطراً على مواقعهم وامتيازاتهم.

إن جانباً أساسياً من أزمة منظمة التحرير الفلسطينية يتمثل في بنية النظام السياسي الذي ما زال يقوم على غياب ممثلي الأراضي المحتلة عن المؤسسات الوطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وعن عملية صنع القرار الوطني. وما زال هذا الوضع مستمراً على الرغم من مرور ست سنوات تقريباً على بدء الانتفاضة، وسنتين كاملتين منذ المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية.

غير أن أهم مناحي أزمة النظام السياسي الفلسطيني تتمثل في أن القرارات المتعلقة بالقضايا الوطنية صارت لا تصنع داخل المؤسسات التنفيذية والتشريعية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإنما خارج هذه المؤسسات. إن الميل إلى نقل عملية صنع القرار السياسي إلى خارج المؤسسات الوطنية كان حاضراً دائماً داخل منظمة التحرير الفلسطينية. فقد ركّز الخطاب السياسي لليسار الفلسطيني، في جانب مهم منه على نقد التفرد والاستفراد والفئوية وهيمنة "فتح" بالوسائل البيروقراطية على مؤسسات المنظمة ودوائرها ومكاتبها، فضلاً عن السيطرة على مالية المنظمة. ومع ذلك فإن دعوات الإصلاح الديمقراطي التي صدرت عن اليسار لم تحظ يوماً بدعم شعبي واسع ونشط ويعود السبب في ذلك، جزئياً على الأقل، إلى أنه لم يُنظر إلى تلك الدعوات إلا باعتبارها صراعاً على تحسين الحصة في نظام "الكوتا"، وهو النظام الذي حدد توزيع المواقع القيادية بين الفصائل والقوى السياسية في الهيئات الوطنية والاتحادات الشعبية منذ أواخر الستينات.

ولم يكن ممكناً إجراء أي تعديل في نظام "الكوتا" من دون موافقة "فتح"، أو من دون تحد حقيقي لحركة "فتح" تقوم به المنظمات اليسارية. ولا تجد النخبة البيروقراطية في "فتح" أي مصلحة في تغيير نظام خدمها في تعزيز سيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية. ولم يحدث إلا نادراً، ولفترات وجيزة، أن اتفق اليسار الفلسطيني على برنامج سياسي وتنظيمي موحد لكي يتحدى قيادة "فتح" وسيطرتها على منظمة التحرير الفلسطينية، أو لكي يقدم مفهوماً واضحاً لنظام سياسي أكثر ديمقراطية وتقدماً؛ نظام يعطي صلاحيات فعلية للتجمعات الفلسطينية (في الشتات وفي الأراضي المحتلة) في تقرير سياسة المنظمة وتوجيهها. إن مثل هذا التفويض يصعب تحقيقه من دون تأسيس انتخابات ديمقراطية كوسيلة لاختيار ممثلين للمؤسسات التشريعية والتنفيذية الفلسطينية. وتتطلب الديمقراطية أيضاً جعل الهيئات التنفيذية مسؤولة أمام مجلس تمثيلي تشريعي، بدلاً من حصر مسؤولية أعضاء المؤسسات الوطنية تجاه الفصائل والقوى السياسية، كما هو سائد حتى الآن.

فالمطلوب هو نظام تعددي يعطي الانتباه اللازم للجمهور المحلي (الدائرة الانتخابية) لتعزيز تمثيله، وتأسيس شكل من أشكال المحاسبة الشعبية. إن نظام "الكوتا"، الذي يحدد مسبقاً تكوين المؤسسات التشريعية والتنفيذية والشعبية، يحتوي على المكونات التي تجعل المؤسسات الوطنية بلا وظيفة حقيقية، ويعطي نظام "الكوتا" صلاحية صنع القرار الوطني إلى ممثلي الفصائل والقوى السياسية، ومن المنطق ذاته، إلى قيادة (أو زعيم) التنظيم المهيمن. لقد استطاعت "فتح" أن تستخدم التنافس بين الاتجاهات السياسية المختلفة للمجموعات اليسارية، واستعداد كل منها لتعزيز مركزه حتى لو تم ذلك على حساب القوى الأخرى، من أجل الحفاظ على سيطرتها والاستمرار بها. وساعدت صيغة نظام "الكوتا"، بسبب البنية المركزية للسلطة في جميع فصائل المنظمة، على نزع الصلاحيات من المؤسسات والهيئات الوطنية وكذلك من الاتحادات الشعبية والمهنية.

في الأراضي المحتلة، دفعت عملية التنافس ـ من خلال الانتخابات الديمقراطية ـ بين المنظمات السياسية من أجل السيطرة على المنظمات الشعبية والمهنية ذات الصفة الوطنية (مجالس الطلبة والغرف التجارية .. الخ) هذه المنظمات إلى الاهتمام بكسب الجمهور المحلي، وساعد ذلك في تأمين وجود شعبي منظم نسبياً للحركة الوطنية. ومع ذلك فإن الميول البيروقراطية المتزايدة، وتنامي الإحساس بالأزمة، باتا يهددان بشكل متسارع هذا البعد الشعبي للحركة الوطنية في الضفة والقطاع. ويشكل مصير اللجان الشعبية مثلاً صارخاً لهذا الخطر. فقد جرى تفكيك هذه اللجان كأطر مفتوحة لكل فئات المجتمعات المحلية، وذلك تحت ضغط التنافس الفئوي الضيق بين الفصائل والقوى السياسية، التي سعى كل منها إلى وضع هذه الأطر تحت سيطرته الخاصة. وهكذا جرى تجريد الانتفاضة من حيوية اللجان الشعبية التي تجلت في انفتاحها على جمهور واسع، واعتمادها الديمقراطية في بنائها ونظام عملها.

ومع تراجع الكفاح المسلح كمصدر لشرعية سلطة منظمة التحرير الفلسطينية (باعتبارها تحالفاً لفصائل المقاومة) برزت الحاجة إلى أشكال جديدة من الشرعية. والشكل الوحيد القادر على تزويد منظمة التحرير الفلسطينية (كمؤسسة وبرنامج سياسي) بالشرعية الشعبية، في ضوء الظروف المحلية والدولية الراهنة، هو دمقرطة مؤسساتها. فالدمقرطة هي المدخل لتعزيز صفته التمثيلية، ولإتاحة أوسع درجة من المشاركة العامة في عملية صنع القرار. وتحتاج مثل هذه العملية إلى التزامن مع تقديم كل الحوافز والإمكانات الممكنة لتوسيع أشكال المقاومة الشعبية للاحتلال الإسرائيلي.

ومع الصعوبات المحيطة بممارسة كفاح مسلح بشكل فاعل وملحوظ، وفي ظل غياب مبادرات لإدخال الديمقراطية إلى المؤسسات الوطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية، تبرز المخاطر من تشريع الأشكال البيروقراطية للسلطة. وترتكز هذه الأشكال على قواعد السيطرة الإدارية والمالية. ويزداد خطر الأشكال البيروقراطية لتشريع السلطة بقدر ما تتسع التحديات للشرعية السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وبقدر ما تتعمق أزمتها الداخلية.

كانت الانتفاضة قد جددت شرعية منظمة التحرير الفلسطينية من خلال التوكيد على أن الأخيرة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ومن خلال اعتبار نفسها عاملاً مساعداً في تحقيق أهداف المنظمة. ولكن، مع عدم تمكين الانتفاضة من تطوير نفسها، ومع بروز "حماس" قوة من خارج منظمة التحرير الفلسطينية تقود المعارضة السياسية لمنظمة التحرير وسياستها، تبدو المنظمة غير قادرة على الاحتفاظ بالشرعية الشعبية من دون المبادرة إلى إدخال تغييرات بنيوية بارزة، ومن دون تحقيق نجاحات سياسية وأساسية.

جاء التحدي الحقيقي لمنظمة التحرير الفلسطينية خلال السنوات القليلة الماضية من خارج النظام السياسي الفلسطيني. وقد جاء هذا التحدي في وقت شهد متغيرات واسعة وسريعة في الوضع السياسي لفلسطينيي الأراضي المحتلة والشتات. ومن الممكن أن يكون تفاقم الظروف الاجتماعية ـ الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة قد لعب دوراً في توسيع القاعدة الاجتماعية لـ "حماس". مع ذلك فإن مثل هذا العامل لا يستطيع أن يقدم تفسيراً كافياً لحالة النهوض التي شهدها الإسلام السياسي في الأراضي المحتلة كتحد لمنظمة التحرير الفلسطينية. ومن الضروري أن يتضمن التفسير إبراز الضعف الذي لحق بدور منظمة التحرير الفلسطينية في التعبئة السياسية للفلسطينيين من جانب، والإشارة إلى هياكلها البيروقراطية التي أصبحت معزولة، أكثر فأكثر، عن مشكلات الفلسطينيين في تجمعاتهم المختلفة من جانب آخر. هذا الاغتراب ترافق مع إدراك عام متزايد للسمات الشكلية للمؤسسات الوطنية وللطبيعة الفردية لعملية صنع القرار، التي أصبحت تتم بشكل أكثر انكشافاً خارج تلك المؤسسات.

شكل غياب استراتيجية واضحة لمنظمة التحرير الفلسطينية بعد خروجها من بيروت، وما ترتب على ذلك من ارتباك سياسي، عنصراً في تعزيز الصراعات داخل المنظمة وبين فصائلها، وساعد ذلك على نمو الأُصولية الفلسطينية. كما أن هذه الظاهرة لا يمكن عزلها عن المتغيرات السياسية خلال عقد الثمانينات في الشرق الأوسط، بما في ذلك بروز التيار الأُصولي كقوة جماهيرية مؤثر في عدد من بلدان المنطقة.

لم تتبن منظمة التحرير الفلسطينية استراتيجية سياسية واضحة إلا في تشرين الثاني/نوفمبر 1988، أي بعد نحو سنة من الانتفاضة المستمرة، وبعد ست سنوات على خروجها من بيروت، وذلك في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني الذي عُقد في الجزائر في ذلك العام. وجاء تحديد تلك الاستراتيجية الفلسطينية (المبنية على حل "الدولتين" للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي) بعد نقاش طويل ومكثف بين الفصائل والقوى الرئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية. وكان من الواضح أن الانتفاضة نفسها ذات تأثير ضاغط في تكوين هذه الاستراتيجية، خصوصاً أنها جمعت الممارسة الكفاحية العالية في مقارعة الاحتلال الإسرائيلي إلى خط سياسي يقوم على درجة عالية من الواقعية. ولكن الاستراتيجية التي تبنتها منظمة التحرير الفلسطينية في تشرين الثاني/نوفمبر 1988، لم تقترن بإجراءات إصلاحية بنيوية لمؤسسات المنظمة وأُطرها، وهي إصلاحات كان لها ضرورتها لبعث قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على التعبئة السياسية لعموم التجمعات الفلسطينية، ولتأمين الدعم والإسناد وتفعيل قاعدتها الشعبية، وحماية الأشكال التنظيمية الديمقراطية التي بادرت إلى بنائها وخصوصاً اللجان الشعبية).

لكن التطورات الإقليمية والدولية في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات لم تأت بما يتلاءم مع تحقيق استراتيجية منظمة التحرير الفلسطينية القائمة على الحل المتمثل في "الدولتين". فالمتغيرات التي شهدها كل من الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، ثم انهيارهما، أدت، فيما أدت إليه، إلى زيادة معدلات الهجرة اليهودية إلى إسرائيل، وإلى تكثيف النشاط الإسرائيلي الاستيطاني في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ العام 1967. كما وضعت نهاية الحرب الباردة حداً نهائياً للإسناد السياسي والمعونات المالية التي كان الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية يقدمانها إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وشكّل انهيار دور الجامعة العربية تعبيراً عن تراجع الدعم العربي الجماعي للانتفاضة، وللمنظمة ومبادرتها السياسية. وفي الوقت نفسه، واصلت الولايات المتحدة دعمها غير المشروط لإسرائيل، ورفضها حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وواصلت استخدام "الفيتو" لحماية إسرائيل من أية إجراءات أو عقوبات قد يتخذها مجلس الأمن الدولي بحقها. ولا شك في أن مجمل تلك المتغيرات، إضافة إلى حرب الخليج الثانية وما ترتب عليها، شجعا حكومة الليكود اليمينية المتطرفة ـ التي كانت في الحكم آنذاك ـ على استخدام أقصى إجراءاتها القمعية ضد الانتفاضة، وعلى وضع أقسى الشروط وأجحفها على المشاركة الفلسطينية في المفاوضات.

ويتمثل أحد مظاهر أزمة الحركة الوطنية الفلسطينية في اتساع حالة الانتقاد لمنظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها، وفقدان الثقة بها لدى أوساط متسعة من فلسطينيي الأراضي المحتلة والشتات. وتنامى في الفترة الأخيرة الشعور بالإحباط السياسي. وعلى الرغم من أن هذا الشعور لا يرتبط مباشرة بمنظمة التحرير الفلسطينية بشكل دائم، وتحديداً فيما يخص المشاركة في العملية التفاوضية، إلا أنه يعكس، مع ذلك، تقويماً سلبياً لدور المنظمة وفاعليتها. ويعبر، في أية حال، عن ضعف شديد في الدور التعبوي السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية. لذا لم يكن مصادفة ظهور حركة "حماس" على المسرح الفلسطيني فور نشوب الانتفاضة، واكتسابها السريع الدعم الجماهيري في الأراضي المحتلة عام 1967. لقد اكتسب هذا الدعم زخمه عندما اتضح فشل منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها وقواها الأساسية، في إجراء التغييرات الضرورية في أساليب العمل، وفي أشكال الدعم المعتمدة لتلبية حاجات الانتفاضة والقطاعات الواسعة من الشعب المتضررة بشكل متصاعد من الاحتلال، ولتلبية حاجات الدفاع عن مصالح التجمعات الفلسطينية في الشتات وحقوقها.

كما يشكل التراجع في عدد أنصار فصائل المقاومة الفلسطينية، في السنوات القليلة الماضية، تعبيراً عن الأزمة في النظام السياسي الفلسطيني. إن التكلس في البنى التنظيمية للمنظمة وفصائلها الرئيسية، وبقاءها بعيدة عن تأثيرات الانتفاضة ومتطلباتها، بل ومتطلبات المتغيرات الهائلة في الواقع الفلسطيني والإقليمي والدولي، وعزلتها عن الشعب، واعتمادها الكلي تقريباً على "المتفرغين" بدلاً من العمل التطوعي التنظيمي والسياسي، جعل من المحتم أن يظهر التحدي الأساسي من خارج النظام السياسي الفلسطيني (أي من خارج الإطار الذي شكلته منظمة التحرير الفلسطينية في أواخر الستينات).

إن أشكال التنظيم ذات المركزية الشديدة التي سادت فصائل منظمة التحرير، والتي تمخض عنها حصر القرار (السياسي والتنظيمي والعسكري والمالي) بيد مجموعة صغيرة من القيادات، أدت إلى عزلة القيادة عن القاعدة التنظيمية وهمومها، وبالتالي عن الهموم اليومية والحياتية التي يعيشها الشارع الفلسطيني.

تطرح القوى الأصولية الفلسطينية الإسلام بديلاً من الوطنية العلمانية التي رفعت رايتها منظمة التحرير الفلسطينية. وفضلاً عن ذلك، وبحكم الأيديولوجية الشمولية والمغلقة التي ترتكز إليها، فهي ترفض فعلياً، معالم التعددية للمجتمع الفلسطيني المستقبلي، وتطرح مفهوماً أحادي الجانب للمجتمع. ويصعب التقليل من المخاطر الناتجة عن البديل الذي يطرحه الإسلام السياسي، في الحالة الفلسطينية، لأن الهوية الوطنية الفلسطينية كانت من أصلب الأدوات الكفاحية في الصراع ضد الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي، كما كانت إحدى أقوى الوسائل الواقية من محاولات الاستيعاب والسيطرة على الفلسطينيين وتوطينهم في الشتات.

غير أن التحدي الذي تمثله حركة "حماس" وقوى الإسلام السياسي الأخرى، وكذلك التحدي الذي أطلقته المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية والفلسطينية ـ الإسرائيلية، وما سبقها وترافق معها من مستجدات في المجالين الإقليمي والدولي، تدعو كلها إلى تحديث النظام السياسي الفلسطيني، تكون أحد مكوناته الرئيسية التعددية التي تضمن حرية العمل والتعبير لكل القوى والأحزاب السياسية، بما فيها قوى الإسلام السياسي.

VII    يبدو أن لا خيار لمنظمة التحرير الفلسطينية، في ظل التحديات التي تواجهها داخلياً وخارجياً، إلا إعادة بناء نفسها على قواعد وأسس تعطي ثقلاً وانتباهاً أكبر لمهماتها التمثيلية والديمقراطية. وفي تقديري إن هذا يعني تطوير المؤسسات الوطنية القيادية بما يمكنها من التفاعل والتعاطي مع المشكلات والحاجات المعقدة والمتعددة التي يواجهها الفلسطينيون في أرضهم المحتلة وفي الشتات.

ولا يلغي بدء مفاوضات السلام الفلسطينية ـ الإسرائيلية (بصرف النظر عن نتائجها) الحاجة إلى تطوير ودمقرطة بنية منظمة التحرير الفلسطينية، وحل الإشكالات التي راكمت عوامل توليد أزمتها الداخلية. على العكس من ذلك، فإن بدء عملية مفاوضات السلام تجعل هذا الأمر أشد إلحاحاً، لأن من الضروري القيام بكل شيء ممكن لتقوية الموقع التفاوضي الفلسطيني.

يكمن أحد العناصر الجدية والخطيرة المكونة لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية في التقهقر السريع لدور المؤسسات الوطنية في عملية صنع القرار الوطني. وهذا ما يجعل تعزيز دور المؤسسات الوطنية وإعادة بنائها على أسس ديمقراطية وتمثيلية، أكثر الأعمال السياسية الداخلية إلحاحاً. ومن المفترض البدء بإعادة تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني، فمن غير الممكن، ولا المبرر، أن تترك هذه المؤسسة الوطنية المركزية على حالها كمؤسسة لا ترتقي إلى أكثر من مؤتمر يلتئم مرة كل سنتين، ويضم فلسطينيين معينين غالبيتهم من العاملين في مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية واتحاداتها وفي فصائلها. كما أنه ليس من المفيد قصر دوره على تأمين "الشرعية" للصفقات السياسية والتنظيمية التي تعقدها قيادات المنظمات السياسية. وبما أن عضوية المجلس قائمة على التعيين، فإن الفصائل تحظى تلقائياً بولاء الأكثرية الساحقة من أعضائه. ولا يغير وجود الخلافات السياسية والتنظيمية بين المنظمات السياسية شيئاً من السمة الشكلية والاحتفالية لاجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني.

إن أي إصلاح جدي لبنية منظمة التحرير الفلسطينية يلزمه إعطاء أولوية لإعادة هيكلة المجلس الوطني الفلسطيني على غرار أي برلمان أو جمعية وطنية ذات مهمات تشريعية واضحة. إن مهمات السلطة التشريعية يجب أن تأتي من التجمعات الفلسطينية الرئيسية التي يجب أن تُعطى، من أجل ذلك، فرصة انتخاب ممثليها إلى المجلس الفلسطيني، وبما يتناسب وحجمها. وعندما يثبت عملياً استحالة إجراء انتخابات ديمقراطية مباشرة، يجب البحث عن إجراءات ديمقراطية أخرى. إن هذا هو الذي يجعل أعضاء المجلس الوطني الفلسطيني مسؤولين تجاه دوائرهم الانتخابية وليس تجاه منظماتهم السياسية فقط، كما هو واقع الحال. ولذا يصبح من المفيد أن يعقد المجلس الوطني الفلسطيني جلسات نظامية على غرار الهيئات البرلمانية الديمقراطية الأخرى، وأن تكون لديه لجان دائمة لإصدار التوصيات حول القضايا المتنوعة التي تهم الشعب الفلسطيني ونضاله.

وفي هذا الإطار، وتثبيتاً للديمقراطية والتعددية، ينبغي البدء في الفصل الواضح بين السلطتين التشريعية والتنفيذية (والقضائية حيث توجد أو تظهر للوجود). وهكذا فإن النقاش الذي بدأ منذ فترة قصيرة نسبياً حول إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية بشكل خاص، ومؤسسات الحركة الوطنية بشكل عام، يجب أن يُبعث من جديد، بما في ذلك مناقشة التفاصيل المتعلقة بحكم المجلس الوطني الفلسطيني الجديد، وتكوينه، وكيفية ضمان تمثيل الضفة الغربية وقطاع غزة تمثيلاً كاملاً فيه.

في أية حال، فإن إصلاح النظام السياسي الفلسطيني يتطلب ما هو أكثر من دمقرطة صلاحيات المجلس الوطني الفلسطيني وتعزيزها. فلا بد من بذل انتباه خاص لتوضيح العلاقة العتيدة بين المجلس التشريعي المقترح (في المرحلة الانتقالية) في الأراضي المحتلة وبين المجلس الوطني الفلسطيني. كما يجب أن يعطى انتباه مماثل أيضاً إلى العلاقة المستقبلية بين اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وبين السلطة الفلسطينية التي يمكن أن تتسلم السلطة من الاحتلال العسكري الإسرائيلي، في حال نجاح مفاوضات السلام. كما أن من الضروري أن يتم تطوير شكل مؤسساتي ديمقراطي لتنظيم العلاقة بين "الداخل" و "الخارج" الفلسطينيين، وبين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية في الضفة والقطاع والقدس. ومن دون هذا الشكل فإن منظمة التحرير الفلسطينية ستجد من الصعوبة بمكان أن تصمد، كتعبير قابل للحياة عن وحدة الشعب الفلسطيني، وكتجسيد للهوية الوطنية والحقوق، وكإطار تنظيمي يحدد استراتيجيته ويصوغها، ويمثل مصالحه.

إن الملامح الفريدة للظرف الفلسطيني، والمواصفات الخاصة للأوضاع المحلية والإقليمية والدولية في هذا المنعطف من الزمن، تتطلب، على ما أعتقد، سياسة إصلاحية جذرية ونظرة نقدية تجاه النظام السياسي الفلسطيني القائم. غير أن هذه السياسة والنظرة يجب أن تبرزا عبر تكوين رأي عام مطّلع قادر على ممارسة الضغط على ما يشكل ما يمكن تسميته بـ "المؤسسة السياسية" الفلسطينية.

لقد فقد النظام السياسي القائم ديناميته، وباتت حالات الانتقاد العلني تتسع ضد أساليب العمل السائدة، وغياب الاهتمام بتعميق الممارسات الديمقراطية، واستمرار التغاضي عن مظاهر الفساد والمحسوبية والنخبوية... إلخ. لقد قيل الكثير عن الحاجة إلى تخليص الانتفاضة من الممارسات الضارة والمنفرة، ومن الممارسات الفئوية الضيقة، ومع ذلك لم تتوقف هذه الظواهر والممارسات. إن كل شيء يوحي بأن الوقت نضج لتطوير الفصائل إلى أحزاب سياسية، والإعلان عن برامجها السياسية والاجتماعية، ووضعها تحت الرقابة والمحاسبة الجماهيرية، وتأسيس نظام من المنافسة الديمقراطية للمراكز والوظائف ذات المسؤولية العامة.

وليس من الضروري أن يطرح مثل هذا النظام أي قيد على أشكال الصراع والتنظيم خلال وجود الاحتلال الإسرائيلي. فالمطلوب هو جعل النظام حساساً إزاء مصالح الغالبية الساحقة من الفلسطينيين في التجمعات الفلسطينية المختلفة وتطلعاتها. إن مثل هذا النظام سيكون أكثر قدرة على أن يمهد الطريق لبناء دولة فلسطينية ديمقراطية ذات "مجتمع مدني" دينامي قادر أن يوجه الاهتمام الضروري نحو تعزيز قيم الحرية، والمساواة والعدالة الاجتماعية، وكذلك نحو احترام حقوق الإنسان وحقوق المواطنين الديمقراطية.

مثّلت منظمة التحرير الفلسطينية الإنجاز الأكبر للحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة. وكانت أساسية لصيانة الوحدة السياسية والهوية الوطنية للشعب الفلسطيني. غير أن منظمة التحرير الفلسطينية، في شكلها الراهن، ما تزال مشدودة إلى شروط مرحلة سابقة سادت؛ وهي شروط تغيرت أو تجاوزها الزمن. لذلك، ما لم تغير منظمة التحرير الفلسطينية شكلها على أسس أكثر ديمقراطية وتمثيلية، فإنها ستواجه أخطاراً حقيقية تهدد دورها الوطني الذي دفع الشعب الفلسطيني غالباً لتطويره.

إن نظاماً سياسياً دينامياً يكتسب مشروعيته بشكل ديمقراطي من شأنه أن يمتلك طاقة تعبوية كبرى. كما أن استخدام أوسع إطار ممكن للقدرات والطاقات الفلسطينية (السياسية والاقتصادية والدبلوماسية والتنظيمية والإعلامية... الخ) في معركة الاستقلال لهو اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

السيرة الشخصية: 

جميل هلال: مدير دائرة الإعلام في منظمة التحرير الفلسطينية.