استراتيجية أميركية لعملية السلام العربية ـ الإسرائيلية
كلمات مفتاحية: 
عملية السلام
مفاوضات السلام
الولايات المتحدة الأميركية
العلاقات الخارجية الأميركية
السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
العلاقات الخارجية الإسرائيلية
السياسة الأميركية والمصالح الوطنية
تقارير
نبذة مختصرة: 

مقتطفات من التقرير النهائي الذي أعده فريق الدراسات الاستراتيجية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، والذي صدر في تشرين الأول / أكتوبر 1992. ويشتمل التقرير على العناوين الفرعية: المصالح الأميركية في عملية السلام المتجددة؛ الإطار الاستراتيجي؛ التغير الاستراتيجي؛ إسرائيل والأردن والحكم الذاتي الفلسطيني؛ الموقف الفلسطيني؛ الموقف الأردني؛ الخيارات الإسرائيلية؛ مقاربة أميركية؛ استنتاجات.

النص الكامل: 

تنشر "مجلة الدراسات الفلسطينية" مقتطفات من التقرير النهائي الذي أعده فريق الدراسات الاستراتيجية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى (Washington Institute for Near East Policy)، والذي صدر في تشرين الأول/ أكتوبر 1992، وهو تحت عنوان:

Pursuing Peace: An American Strategy for the Arab-Israeli Peace Process.

وقد وُضع في نهاية التقرير قائمة بأسماء ومناصب المشاركين في فريق الدراسة*.

 

 

[.......]

مقدمة

المصالح الأميركية في عملية السلام المتجددة

              طويت سنة 1991 على سياسة أميركية في الشرق الأوسط عظيمة الطموحات. فعقب حرب الخليج، أشار  الرئيس بوش ووزير الخارجية بيكر إلى أن الأمور لن تعود إلى سيرتها الأولى بعد الآن؛ إذ بدلاً من ذلك ستكون ثمة محاولة حازمة تقودها أميركا لبسط السلام الإقليمي في الخليج، وإيجاد تسوية سلمية للصراع العربي – الإسرائيلي، وفرض قيود جديدة على تصدير الأسلحة إلى الشرق الأوسط، وتحقيق تنمية اقتصادية أوسع. ومن البيّن أن واشنطن اعتقدت أن هزيمة العراق، مع انهيار القوة السوفياتية، يتيحان فرصة فريدة لتغيير موازين القوة في المنطقة باتجاه السلام بعيداً عن الصراع، وبدا أن إدارة الرئيس بوش مستعدة لاغتنام هذه الفرصة واستغلالها. لقد حملت نهاية الحرب الباردة معهد واشنطن على تأليف فريق للدراسات الاستراتيجية سنة 1990، وجرى اختيار أعضائه من طيف واسع من العلماء والمحللين السياسيين والشخصيات الساسية، وتحولت مهمة الفريق النهائية، التي سرعان ما وسَّعتها أزمة الخليج إلى وضع استراتيجية أميركية لمنطقة تمر بفترة عصيبة من التغيرات الصاخبة. وقد أعرب تقرير الفريق الأصلي، الذي صدر عشية الحرب ضد العراق، عن تصور الفريق بأنه لا بد من إعادة تنظيم ميزان القوى في الخليج والمنطقة كلها، إذا ما أرادت الولايات المتحدة صون مصالحها. وقد ركَّز التقرير الثاني، الذي صدر في حزيران/ يونيو 1991، على الأمن الإقليمي والحد من التسلح والتنمية الاقتصادية في أعقاب الحرب. ويكمل هذا التقرير النهائي عن عملية صنع السلام العربي – الإسرائيلي الآن عمل فريق الدراسات الاستراتيجية الأصلي.

إن الاستراتيجية، كما هو مفهوم منها، تستلزم غاية متماسكة يمكن تسويغها، ويمكن لعدد من الأعمال السياسية والاقتصادية والعسكرية أن ينتظم حولها. وفي سعيه لتحديد استراتيجية للشرق الأوسط، اضطر فريق الدراسات الاستراتيجية إلى مصارعة قضيتين لهما أهمية قصوى: 1) لماذا يتعين على الولايات المتحدة أن تتحمل عناء فعل أي شيء الآن وقد تلاشى الخطر السوفياتي البعيد الأجل، وقضي على الخطر العراقي القريب الأجل؟ 2) وإذا كان على الولايات المتحدة أن تفعل شيئاً الآن، فما هي دائرة العمل التي تستحق الأولوية؟

وقد استمدَّ السؤال الأول – لماذا العناء؟ مزيداً من الأهمية من كون الحاجة باتت ماسة إلى صرف الاهتمام الأميركي إلى وجهات أُخرى، سواء التعامل مع الدول التي ورثت الاتحاد السوفياتي، أو قضايا التجارة الخارجية الحيوية مع آسيا وأوروبا.. يضاف إلى ذلك أن المشكلات الداخلية الأميركية باتت الآن تحتل الأولوية بالنسبة إلى الكثير من مسائل السياسة الخارجية الأخرى. ولذلك، تبدو المرحلة الحالية غير ملائمة لتوجيه الطاقة والجهود الأميركية نحو الشرق الأوسط.

ومع أنه قد يكون من غير الملائم فعلاً أن تنشط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، فإن نشاطها ما زال ضرورياً. فالمصالح الأميركية هناك باقية، وهي الآن آمنة مرحلياً، لكنها لن تكون على القدر نفسه من الأمان إذا لم تحقق أهداف الرئيس. ومن المتوقع أن يتزايد اعتماد الولايات المتحدة على نفط الخليج. كما أن بقاء إسرائيل، وهو التزام أميركي يرجع إلى عشرات الأعوام ويقبله الحزبان [الأميركيان]، سيتعرض للمخاطر في غياب السلام. ثم إن خطر انتشار الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل قد برز بروزاً ساطعاً في سعي العراق لحيازة القنبلة النووية، وفي سعي إيران الحالي لامتلاكها، وهذا خطر سيستمر في المستقبل.

ومع أن نفراً من فريق الدراسات قد شكك في الحكمة من وضع سياسة أميركية واسعة النطاق تهدف إلى تغيير الشرق الأوسط، فإن الجميع اتفقوا على وجود فرصة لجعل المنطقة آمن للمصالح الأميركية. فعقب حرب الخليج، امتلكت أميركا أسباباً فريدة للقوة: مكانة المنتصر في حرب الخليج؛ مكانة القوة العظمى الوحيدة؛ القدرة على عقد تحالف دولي وعلاقات خاصة بأهم دول الشرق الأوسط، ولا سيما مصر وإسرائيل والعربية السعودية وتركيا. أما وقد تلاشى الخطر السوفياتي، وأتيحت القدرة على حشد المساهمات المحلية والحليفة من أجل القضية المشتركة – مثلما تبين من عاصفة الصحراء – فقد تتمكن الولايات المتحدة الآن من أن تفعل أكثر مما فعلته في الماضي وبتكلفة أقل. مثال لذلك: من الجائز أن يتاح تحالف قوى متعدد الأطراف من داخل المنطقة ومن خارجها ليكفل اتفاقات السلام العربية – الإسرائيلية، وذلك خلافاً لكامب ديفيد، يوم اضطرت الولايات المتحدة إلى تحمل أعباء السلام وحدها. ثم إن الاتحاد السوفياتي لن يكون موجوداً ليزيد في تكلفة السلام بدعمه "جبهة رفض" عربية أُخرى.

لذلك، فإن فريق الدراسات يتبنى بصورة عامة تصور الولايات المتحدة بوصفها "محفِّزاً" فحسب، لا بوصفها القوة الدافعة الوحيدة التي قد توصل إلى شرق أوسط أوفر سلاماً، وتحفظ بذلك المصالح الأميركية.

أما مسألة على ماذا يجب أن تركِّز الولايات المتحدة مساعيها، فتبقى معلَّقة. وقد بقيت هذه المسألة الأعسر حلاً بسبب استمرار التحدي المتمثل في بقاء صدام حسين بعد الهزيمة، وفي الجهود المتطاولة والمستهلِكة للوقت التي لا بد من بذلها لدفع مؤتمر مدريد للسلام إلى الأمام. ومع أن من المفضل تثبيت الاستقرار في الخليج أولاً، فإن مصير النظام العراقي ينبغي ألاّ يعوِّق المساعي الأميركية المبذولة لتشجيع عملية السلام العربي – الإسرائيلي. وتبقى الحقيقة الواضحة، وهي أنه من أجل خدمة المصالح الأميركية، فلا بد من أن تخطو الجهود الهادفة إلى مواجهة التهديدات الصادرة عن الراديكاليين جنباً إلى جنب الجهود الهادفة إلى دفع عملية السلام إلى الأمام.

واستناداً إلى هذه الفكرة، حدَّد التقريران السابقان الخطوات الأميركية التي من شأنها إحداث التغييرات، أو مناخ التغيير الذي يبشر بعصر جديد في الشرق الأوسط. وتشتمل هذه الخطوات على:

1-  الأمن الإقليمي

  • تعزيز الوجود العسكري الأميركي (البحري)، تخزين الإمدادات مسبقاً، إجراء مناورات مشتركة؛
  • ضمانات أميركية لدول الخليج ومزيد من التعاون الأمني مع مجلس التعاون الخليجي؛
  • تخفيض مبيعات الأسلحة التقليدية، وحصرها في الأسلحة المصمَّمة لتحسين الدفاع الأوّلي وتسهيل قدرة الولايات المتحدة على التدخل؛
  • التطبيق الصارم لقرارات الأمم المتحدة بنزع الأسلحة العراقية ومراقبتها.

2- مراقبة التسلُّح

  • مبعوث خاص لتنسيق المساعي؛
  • التشدُّد في القيود التي يفرضها المصدِّر؛
  • مساع لتوسيع نطاق المعاهدات الدولية للحد من التسلح في الشرق الأوسط، مع التركيز الخاص على اتفاقات الأسلحة الكيماوية؛
  • مساع إقليمية للحد من التسلح في إطار مفاوضات السلام العربية – الإسرائيلية، ولا سيما "تدابير لبناء الثقة المتبادلة".

3-  التنمية الاقتصادية

  • تخفيف الفقر من خلال الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، مع التركيز على النمو الاقتصادي بدلاً من إعادة التوزيع؛
  • إعادة توجيه الأموال نحو البرامج الاجتماعية بدلاً من البرامج العسكرية؛
  • ضمانات القروض لتمويل استيعاب المهاجرين في إسرائيل؛
  • دعم المشاريع العملية سياسياً، مثل مشروع سد نهر اليرموك؛
  • تطبيق التعويضات العراقية والنفقات الدولية للمساعدات الإنسانية.

4-  تشجيع التغيير السياسي

              حثَّ فريق الدراسة صانعي القرار الأميركي على تعهد موضوع "التغيير السياسي". فالولايات المتحدة، وإن لم تكن نصّبت نفسها صانعة لمجتمع جديد في الشرق الأوسط، فإنها تمثل، ولا بد لها من أن تدعم، حقوق الأفراد والديمقراطية، وهما سمتان نادرتا الوجود في الشرق الأوسط الملوَّث بالأنظمة الأوتوقراطية والأنظمة المستبدة. وفي شأن الكويت، رأى فريق الدراسات أنه ينبغي لنظام ما بعد حرب الخليج أن يقوم بمزيد من الخطوات للتقدم نحو مشاركة أوسع إذا ما أُريد  لمصالح أميركا أن تُخدم في نظام ثابت ومستقر. أما بالنسبة إلى العراق، فيجب أن تطالِب الولايات المتحدة بضمانات لا لبس فيها لحقوق الإنسان التي يجب الاعتراف بها للشعب العراقي.

الإطار الاستراتيجي

              في هذا الإطار العام لاضطلاع الولايات المتحدة بدور المحفز لإقامة شرق أوسط أوفر حرية وأمناً وازدهاراً، ركز فريق الدراسات على عملية صنع السلام العربية – الإسرائيلية. فقد كان فريق الدراسات يدرك إدراكاً حاداً أن عبارة "الشرق الأوسط" كثيراً ما كانت ترادف في أذهان معظم الناس عبارة النزاع العربي – الإسرائيلي. لكن لا بد لأية استراتيجية أميركية في الشرق الأوسط من أن تعترف بأن هذا النزاع لا يمثل إلا بعداً واحداً من أبعاد المنطقة.

              من الواضح مثلاً أن جولات المفاوضات العربية – الإسرائيلية الجارية الآن إنما تجري في مناخ استراتيجي سريع التغير. فإيران تبذل جهوداً مضنية لإحراز مكانة "قوة كبرى" في الخليج وفي المنطقة إجمالاً. أما في السودان، فإن الأصوليين الإسلاميين المحليين يتلقون الدعم من إيران أحياناً، ومن الإرهابيين العالميين أحياناً أُخرى، يبدون عداء صارخاً للغرب. وأما في المغرب العربي (ولا سيما في الجزائر)، فقد تزعزعت الحكومات بعنف من جراء المشاعر الشعبية الميالة إلى الزعامات الإسلامية المتطرفة. إن هذه مشكلات ليس في وسع عملية السلام العربية – الإسرائيلية، بالتأكيد، حلها، لكنها مشكلات قادرة على التأثير في دبلوماسية السلام والتأثر بها.

لذلك، فإن سياسة أميركا في الشرق الأوسط، إذا ما اقتصرت على عملية السلام العربية – الإسرائيلية وتجاهلت التوازن العام للقوى وتضميناته، أو بالعكس، تجاهلت عملية السلام وتأثيرها في توازن القوى، فلن يكون من شأنها أن تخدم الأهداف الأميركية الاستراتيجية العامة.

إن المصالح الأميركية في تسوية النزاع العربي – الإسرائيلي تشتمل على تعزيز أمن إسرائيل، وتشجيع العلاقات الطيبة المتبادلة مع الدول العربية، والحيلولة دون نشوء الصراع في منطقة شديدة الأهمية الاستراتيجية. إن التوصل إلى حل سلمي لهذا النزاع المرير سيبرهن، بالمعنى الأعم، أن النزاعات الدولية يمكن أن تحل حلاً سلمياً وعادلاً. وبصورة أخص، لقد وظفت الولايات المتحدة أصرح التزاماتها وأكثرها علانية وسخَّرت الموارد الهائلة في السعي المتمادي عقوداً بحثاً عن تسوية. والآن تسنح فرصة فريدة لتتمكن الولايات المتحدة من تحقيق أهدافها، وينبغي اغتنام هذه الفرصة.

[.......]

التغير الاستراتيجي

              يمكن إيجاز أهم التغيرات الحديثة المتعلقة بالنزاع العربي – الإسرائيلي بما يلي: أشد القوى العربية بأساً ونفوذاً في مقاومة عملية السلام قد أضحت إما مهزومة (العراق)، وإما مشوهة السمعة (منظمة التحرير الفلسطينية)، وإما عاجزة عن الاعتماد على ما كان دعماً سوفياتياً قوياً لها (سوريا). فقد آلت نهاية الحرب الباردة ونتائج حرب الخليج إلى انهيار "جبهة الرفض" العربية انهياراً تاماً بعدما كانت من أهم الأدوات الحائلة دون التقدم في عملية السلام منذ أوائل الثمانينات.

              فيمكن لهذه التطورات الدرامية أن تعزى إلى سبب وحيد: انحطاط القوة السوفياتية السريع مع تفاقم أزمة موسكو الداخلية خلال النصف الثاني من الثمانينات إلى أن بلغت ذروتها في انهيار الاتحاد السوفياتي في أواخر سنة 1991. وونتيجة لانعدام المنافس عادت الولايات المتحدة إلى امتلاك "99% من أوراق اللعبة"، كما كان السادات يقول.

ويمكن رؤية نتائج ضعف موسكو المتنامي في ثلاثة تطورات كبرى: هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل؛ انعطاف سوريا إلى الغرب؛ استيلاء العراق على الكويت. فمع تزايد حرص السوفيات على تحسين العلاقات بالولايات المتحدة، سارع غورباتشوف إلى التخفيف من وطأة بعض المسائل الإنسانية. وأفسح المجال بالتدريج لسيل من المهاجرين اليهود، الذين هاجر نحو 400,000 منهم إلى إسرائيل، فحسَّنوا وضعهم السكاني كثيراً وأتاحوا مدداً من القوى العاملة الرفيعة المهارة التي تستطيع، مع توفر رؤوس الأموال، أن تولّد "انطلاقة اقتصادية".

وقد خاب رجاء العرب إجمالاً، أول الأمر، ثم انتابهم القلق من جراء تعزيز إسرائيل في هذا المجال الذي كانت بأمس الحاجة إلى تعزيزه. إلا إن إثنين من "أنصاف حلفاء" موسكو من الدول العربية تأثرا بذلك أكثر من سواهما. فسوريا كانت تسعى لتحقيق التوازن الاستراتيجي إزاء إسرائيل، ولا سيما في مجال الأسلحة المتطورة، وذلك عقب الإحراج الذي أوقعتها به مجابهة الجيش الإسرائيلي في لبنان سنة 1982. والعراق كان يعتمد على موسكو للحفاظ على آلته العسكرية في إبان القسم الأكبر من الحرب الإيرانية – العراقية. أما في حالة دمشق، فإن رفض غورباتشوف الموافقة على [تحقيق] التكافؤ الاستراتيجي حيال إسرائيل، مشفوعاً بتقليص المعونة الاقتصادية السوفياتية، قد ترك الأسد على صلة بعراب ضعيف الفعالية. أما في حالة بغداد، فإن إعادة انفتاح الكرملين على إيران بعد انتهاء حرب الخليج الأولى افهمت صدام أن موسكو أخذت تراجع مواقفها، وربما أتت نتائج المراجعة على حساب مصالح العراق البعيدة الأجل.

ومع تضاؤل قوة السوفيات، استخلص النظامان البعثيان عبراً متناقضة. فقد بدأ الأسد عملية تقارب بطيئة مع الغرب، كان من علاماتها: تقدم متواضع في قضية الرهائن والإرهاب؛ الموافقة على اتفاق الطائف المدعوم غربياً في شأن لبنان؛ تأييد عودة مصر إلى جامعة الدول العربية. وأخيراًً، بدأ السوريون يلتمسون التوظيفات الأميركية في حقول النفط السورية وفي التجارة. أما صدام فقد اعتمد التكتيك المعاكس. فقد تصوَّر أنه لن يكون للأميركيين، بعد زوال السوفيات، سبب للقتال من أجل السيطرة على الخليج. ومن شأن استيلاء العراق على الكويت أن يظهر أن العراق هو القوة العظمى الجديدة في المنطقة. واستناداً إلى الغنائم الكويتية، وإلى جيش كبير وترسانة متنامية من الأسلحة الضخمة، فقد يتمكن صدام من تنظيم نظام عربي جديد قادر على مواجهة إسرائيل والغرب.

وقد أسفر هذا التقدير عن نكبة مني بها صدام ورفاقه في المغامرة الكويتية – ومنهم الفلسطينيون والأردن. فالوهن السوفياتي لم يكن يعني فقدان الإرادة الأميركية، بل أزال، فعلاً، عقبة كبرى عن طريق استعمال القوة من قبل تحالف دولي تتزعمه أميركا. أما الأسد، فقد استعمل ما طرأ من أزمة الخليج ليسارع تحركه باتجاه الغرب بعدما قوي اقتناعه بأن الأمر والنهي قد باتا في يد الجبار الأميركي. وإذا كانت الولايات المتحدة أصرت، مثلما بيَّنت دبلوماسية ما بعد الحرب، على أن ثمن تحسين العلاقات بها إنما هو المفاوضات المباشرة مع إسرائيل، وذاك ما كان يرفضه الأسد فيما مضى، فقد أظهر الأسد أنه مستعد لتغيير موقفه.

خلاصة القول: إن انهيار القوة السوفياتية وهزيمة العراق قد نالا كثيراً من قدرة "جبهة الرفض" العربية التي قامت عقب اتفاق كامب ديفيد لمقاومة عملية السلام العربية – الإسرائيلية التي تزعمتها أميركا. كما أن انعطاف الأسد غرباً، مع ما تبعه من موافقة على اقتراح مؤتمر ترعاه الولايات المتحدة، قد أكملا عزل المقاومة المتبقية – ولا سيما منظمة التحرير الفلسطينية. وقد ولَّد ذلك أفضل مناخ إقليمي ودولي تعيه الذاكرة الحية لعملية السلام العربية – الإسرائيلية، وما مؤتمر مدريد ومؤتمر موسكو إلا من ثمارها الأولى.

لكن ينبغي ألا تقود مراكمة هذه المزايا إلى جعل الولايات المتحدة تبالغ في الاعتداد بنفسها. ذلك بأن بقاء صدام حسين ومقاومته سلطة الأمم المتحدة يثيران التساؤلات حول احتمالات دوام هذا المناخ السائد الآن. فاختبار القوة الجاري الآن – وهو ضرب من حرب كسر عظم (وعظم صدام هو المكسور) – بين الحاكم العراقي والولايات المتحدة ربما قاد إلى عمل عسكري في المستقبل. فإنْ لم تستطع واشنطن أن تحول بين صدام وبين تحوله مجدداً إلى خطر على جيرانه، فإن دبلوماسية السلام ستضطرب حتماً. ثم إن الولايات المتحدة تفتقر أيضاً إلى علاقة بنّاءة بإيران، التي يمكن أن يتحول دعمها لعمليات حزب الله العسكرية ضد إسرائيل إلى مصدر متاعب شديدة في وجه المفاوضات. ثم إن العراق، إذا ما توصل إلى إقامة تحالف مع سوريا وإيران لمقاومة المفاوضات أو لمناهضة بعض الاتفاقات المحددة – كالحكم الذاتي للفلسطينيين مثلاً – فإنه قد يخلق عقبة كبرى في وجه السلام.

تتميز مفاوضات السلام نفسها أيضاً بتباين حاد بين وجهات النظر العربية والإسرائيلية. سوريا والأردن والفلسطينيون هم من المتنافسين في المكاسب التي يمكن أن تجنى من عملية السلام. كل منهم يرتاب في دوافع الآخرين، ويخشى عقد صفقات منفردة مع إسرائيل تلائم الطرف المعني فقط. وفي وسع مصر أن تقوم بدور جسر مفيد بين عالم عربي، أتيحت لها الآن فرصة تزعمه، وبين إسرائيل التي تربطها بها معاهدة سلام. إلا إن القاهرة فضلت حتى الآن تخفيف التوتر الذي يمكن لعملية السلام أن تولده في العلاقات العربية – العربية، واعتمدت إيقاع أبطأ الأطراف العرب سعياً في المفاوضات، اي سوريا. وبالمثل، فإن للعربية السعودية مصلحة في عملية السلام، لكنها ليست بالمصلحة الغالبة بحيث تدفعها إلى الإقدام على مخاطرات كبرى من أجل تحقيقه. وفي وسع الرياض أن تيسّر التوصل إلى حل، لكن ليس لديها من الحوافز ما يحملها على تأييد تسوية من شأنها أن تقسم الإجماع العربي القائم على غرار ما حدث بالنسبة إلى اتفاق كامب ديفيد.

أما دمشق، فما زال عليها أن تختار بين النظر إلى عملية السلام نظرتها إلى تمرين على كسب الوقت والرضا الأميركي وتوليد توتر في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية، وبين النظر إلى العملية بما هي مسعى لوضع حد للنزاع فعلاً وعقد الصلح مع إسرائيل. أما المفاوضون الفلسطينيون، فيواجهون معارضة من قبل أصوليي حماس في الأراضي المحتلة، ومنافسة من قبل منظمة التحرير الفلسطينية التي تجعل من الصعب عليه أن يتبعوا نهجاً متماسكاً في المفاوضات.

في الجانب الإيجابي، نجد أن تشديد حكومة رابين على "حل وسط إقليمي" سيخفف من التوترات التي أدخلتها على العملية معارضة حكومة الليكود السابقة لمقايضة "الأرض بالسلام". لكن من المفارقات هنا أن اهتمام رابين بالتقدم سريعاً على جبهة الحكم الذاتي للفلسطينيين وتجميده أنشطة الاستيطان يمكن أن يولِّدا هذه المرة توترات مختلفة بين العرب فيما هم يحاولون التكيف إزاء عملية سلام دينامية.

أمامنا إذاً تركيبة فريدة من التأييد الإقليمي والدولي لعملية سلام عربية – إسرائيلية بقيادة الولايات المتحدة، ومجموعة من القواعد الأساسية للمفاوضات  الجارية، وحكومة إسرائيلية جديدة تضع عملية صنع السلام على رأس أولوياتها. أما ما هو ليس لدينا حتى الآن – وبعد جولات مفاوضات عدة – فهو حسٌّ بأن الأطراف قد اقتنعت بالمصالح المشتركة اقتناعاً يمكن أن يحدث خرقاً جوهرياً باتجاه اتفاقات سلام.

وتتفحص المناقشة التالية المفاوضات الجارية على أنواعها، وتبحث في كل واحدة منها عن مصالح مشتركة. إذ إنه لا قيام لاستراتيجية أميركية مجدية إلا على أساس تحليل كهذا.

[.......]

إسرائيل، والأردن،

والحكم الذاتي الفلسطيني

              في مدريد، فاجأ الوفد الفلسطيني الجميع بمقاربة براغماتية، غير بادية في خطابة الكلمات الرسمية بقدر ما هي ظاهرة في استعداد الوفد لمفاوضة إسرائيل سريعاً بشأن النواحي الإجرائية والجوهرية. وكما أشرنا سابقاً، فقد تمكن الفلسطينيون، بفضل دعم السعوديين وحثِّ الأميركيين، من مقاومة الضغط السوري في شأن توقيت المحادثات الثنائية ومكان إجرائها. ولم يكن ذلك إلا بداية درب شاق، بيد أن الوفد، المؤلف كلياً من شخصيات من الضفة الغربية وقطاع غزة، والمتمتع باستشارة مجموعة من المستشارين من الأراضي المحتلة، قد أفلح في الامتحان الأصلي: كان يمثل الأراضي المحتلة ولم يكن مجرد واجهة لمنظمة التحرير الفلسطينية.

فقبول إطار التفاوض بشأن "حكم ذاتي انتقالي" يعني أن الفلسطينيين – وإسرائيل والأردن – سيناقشون ترتيبات عملية تقصر عن مُثُلهم السياسية المعلنة. ويجب أن يكون واضحاً منذ البداية أن الحكم الذاتي الفلسطيني لا يمكن أن يرضي التطلعات القصوى لأي من الأطراف. فالحكم الذاتي، تعريفاً، مفهوم ينطوي على قيود. إنه لا يعني الانتماء الكامل إلى الأسرة الدولية بصفة دولة. كما إنه لن يكون حيواناً مروَّضاً داجناً ينقاد كلياً إلى قوانين دولة أخرى. فالذين يطمحون إلى بسط أو استعادة أو إقامة السيادة الكاملة على الأراضي المتنازع بشأنها لن يجدوا ما يرضيهم تماماً في الحكم الذاتي.

لكن إذ كان الحكم الذاتي ناقصاً، قياساً بما يعدُّه الإسرائيليون أو الأردن أو الفلسطينيون مثالياً، فهو ليس بأنقص من الوضع القائم. لا أحد من الأطراف المتنازعة بشأن السيادة على الضفة الغربية وغزة قادر على تحقيق مُثُله في المستقبل المنظور. ولذلك، فالمسألة ليست ما إذا كان الحكم الذاتي يحقق المثال المنشود، بل ما إذا كان ينجح في الاختبار العملي الذي يمكن أن ترضى الأطراف به: هل هو أفضل من الوضع القائم؟

الموقف الفلسطيني

              لا بد لهذا الاختبار من أن ينجح الفلسطينيون فيه أولاً؛ فهم أضعف الأطراف وأبعدها عن غايتها العليا، وأكثرها معاناة من جراء استمرار الوضع القائم. وهم إذ يتألمون من الشدة المزدوجة المنجرة عليهم من الانتفاضة وحرب الخليج، قد يبدون أوفر الأطراف حظاً في تحقيق المكاسب من الحكم الذاتي وأفدحها خسارة إذا ما أخفقت المفاوضات. ومع ذلك، فإن الحواجز العاطفية القائمة في وجه مقاربة فلسطينية ليست بالحواجز التي يستهان بها. فالفلسطينيون يعتقدون أنهم قد تحوَّلوا من أكثرية في بلدهم إلى أقلية في مدة تقل عن عمر الإنسان؛ وأن إخوانهم العرب قد قصروا عن نجدتهم وكثيراً ما استغلوا بؤسهم؛ وأن الولايات المتحدة، تخصيصاً، قد أتاحت لإسرائيل أن تنكر عليهم حقوقهم الإنسانية والمادية البديهية. ولقد ازداد هذا الإحساس بالظلم التاريخي حدَّة من جراء الحوادث الأخيرة. فالانتفاضة أدت إلى سقوط 1400 شخص (900 قتلتهم القوات الإسرائيلية و500 قتلهم الفلسطينيون أنفسهم) لكنها لم تؤد إلى انسحاب إسرائيلي. وقد بدا التحالف مع صدام حسين فرصة لتهديد إسرائيل عسكرياً والاحتجاج على ما يعدُّونه ازدواجاً في المعايير؛ فكانت النتيجة، بدلاً من ذلك، خراب الجالية الفلسطينية في الكويت ومزيداً من الانعزال عن التعاطف الغربي وخسراناً كبيراً للدعم في الخليج بأسره – الركيزة المالية الكبرى للنضال الفلسطيني.

والفلسطينيون، وإنْ وحَّدهم الشعور بأنهم ضحايا، فقد وجدوا وحدة الموقف السياسي أمراً عسيراً. فالخصومات الشخصية العنيفة والتحالفات المتقلبة وسمت تاريخهم السياسي. ومن العوائق الأخرى النفوذ التحكمي الذي مارسته شتى الدول العربية – فمصر وسوريا والعراق والعربية السعودية والأردن سعت جميعها لوضع اليد على القضية الفلسطينية أو على بعضها، واستغلالها لأغراضها الخاصة. والفلسطينيون منقسمون أيضاً من حيث أماكن إقامتهم وتجربتهم: المقيمون في المنفى، وهم مبعثرون في أرجاء الشرق الأوسط؛ الذين وقعوا تحت الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967 ويسمون عادة "أهل الداخل"؛ اللاجئون من أهل الداخل، وهم أكثر من نصف سكان غزة وأكثر من 30% من سكان الضفة الغربية، يعيشون في مخيمات. ومع أن الفلسطينيين كلهم تقريباً يعربون عن الرغبة في دولة مستقلة في فلسطين كلها أو في جزء منها، فإن مكان إقامة الفلسطينيين وتجربتهم قد ولّدتا اختلافات في المواقف. فقيادات "الداخل" كانت أسرع إلى قبول حل ذي دولتين يمنحهم الاستقلال، بينما يتمسّك اللاجئون و"أهل الخارج" – ومنهم القيادة التقليدية لمنظمة التحرير الفلسطينية – بمطلب إقليمي في إسرائيل ما قبل 1967 لا يمكن تسويته بالحكم الذاتي في الضفة الغربية.

وباستثناء بعض المناسبات القليلة التي غلب فيها رأي "أهل الداخل" بشأن قضايا تكتية، مثل انتخابات سنة 1976 البلدية، فإن منظمة التحرير وفصائلها كانت بالنسبة إلى الفلسطينيين المقيمين تحت الاحتلال القيادة الممكنة الوحيدة حتى أواخر سنة 1987. لكن الانتفاضة كانت كلياً من نتاج الداخل، وقد أثارت التساؤل عما إذا لم يكن لأولئك الذين يتحملون القسط الأوفر من أعباء النضال الحق في القيام بدور أكبر في المساعي الدبلوماسية التي قد تضع حدّاً للنزاع أو قد تخفف حدَّته. كما أن "أهل الداخل"، وفيهم مجموعة جديدة من القادة الشباب الذين وصلوا إلى موقع النفوذ بفضل دورهم في الانتفاضة، قد صار لهم مكانة. وفي مفاوضات سنة 1989 التي رعتها الولايات المتحدة، والتي انهارت من جراء مسألة تمثيل الفلسطينيين، بدت منظمة التحرير مستعدة لأن تدع أهل الداخل يقومون بالمبادرة. وقد ازدادت هذه النزعة قوة عقب حرب الخليج. فبينما كانت قضية العراق تلقى تأييداً شعبياً في الأراضي المحتلة، فقد اعتبر تأييد منظمة التحرير الفلسطينية لغزو العراق الكويت نكبة وعزَّز الدعوة إلى "دم جديد" و"أفكار جديدة".[1]  ولذلك اضطرت منظمة التحرير إلى قبول أن يمثل [الفلسطينيين] في مدريد وفد من أهل الداخل حصراً، لا يضم أياً من رموز المنظمة، وأن يحد ياسر عرفات من دوره بعناية.

لكن أهل الداخل لاقوا صعوبات في بسط سلطتهم وتوسيع فرصهم. وقد تبيّن أن الوفد غير عملي ولا يخلو من المشاكسات، بينما دأبت منظمة التحرير الفلسطينية على حشر نفسها في المفاوضات. ثم إن التوقعات غير الواقعية بتحقيق تقدم سريع على حساب إسرائيل. فضلاً عن أعمال العنف المتزايدة على الأرض، قد أثارت التساؤل عن قدرة الوفد الفعلية على المفاوضات أصلاً. ولذلك، ستستمر مفاوضات ثلاثية الخطوط، وتتكثف: فلسطينية – إسرائيلية؛ فلسطينية – أردنية (وعرب آخرون)؛ فلسطينيو الداخل – فلسطينيو الخارج). ولربما يؤدي سعي عرفات لتجديد احترامه وسلطته إلى جعله أقل حذراً في إعلان نفوذه في حال نجاحه في استعادة الدعم العربي له. ومن المرجّح أن تنشب في النقاط الحرجة صدامات حقيقية بشأن الحلول الوسط المطلوبة لبلوغ الاتفاق مع إسرائيل. ومن ذلك أن مجرد ظهور فرصة حقيقية لمفاوضات جادة مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة قد ولّد، فعلاً، صراعاً عنيفاً بين مختلف الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة. وأخيراً، توجد للفلسطينيين أسباب حقيقية لأن يخافوا من أن تُقدم الدول العربية، متى توغلت في المفاوضات الجادة، على عقد صفقاتها الخاصة مع إسرائيل وأن تترك الفلسطينيين من دون أوراق ضاغطة ومن دون آفاق.

وفي وسع المرء أن يتوقّع معركة طويلة بين التركيز على التنظيم والحاجة إلى الرموز. ونجد الشاهد على هذا القول في الوصف الذي قدمه فيصل الحسيني، كبير محاوري "الداخل" الفعلي، للقاءاته بوزير الخارجية الأميركي جيمس بيكر: "قال لنا جيمس بيكر 'ستحصلون على شيء أقل قليلاً من الدولة وأكثر من الحكم الذاتي'. فأجبنا 'لا نريد تبادل الشعارات بل مناقشة جوهر المسألة. هذا الكيان الذي تتحدثون عنه، هل سيكون في وسعه تطبيق حق العودة للفلسطينيين المشتتين في أرجاء الأرض؟ فإن كان ذلك في وسعه، نستطيع أن نتكلم...'"[2]   وإذا قورنت مقاربة الحسيني باقتراح حكومة بيغن سنة 1977 إنشاء لجنة إسرائيلية – فلسطينية – أردنية مشتركة لتنظيم اللاجئين إلى الأراضي المحتلة، فإن في وسع المراقب أن يرى تفصيلات مفاوضات عملية حتى في شأن هذه القضية الحساسة.

لكن الفلسطينيين، وبفعل الرغبة في إحياء القومية الفلسطينية، اختاروا حتى الآن التركيز على مشروع يتحاشى المصالح المتداخلة العديدة بينهم وبين إسرائيل ويقدِّم أفكاراً تشحن الحكم الذاتي بالسيادة. وهذه النقاط شديدة الأهمية في المشروعين وفي الاقتراحات التي قدمها الوفد الفلسطيني غلى واشنطن لاحقاً في الجولات الثانية والثالثة والرابعة:[3] 

  • هدف المرحلة الانتقالية تحقيق الوضع النهائي للاستقلال الفلسطيني؛
  • لا بد لمنظمة التحرير الفلسطينية من دور، وذلك حفاظاً على الوحدة بين أهل الداخل وأهل الخارج؛
  • يجب أن تنسحب القوات الإسرائيلية المسلحة من الضفة الغربية وقطاع غزة إلى "الحدود" (أي إلى الخط الأخضر)؛
  • يجب أن يتمتع الفلسطينيون بالسيطرة التامة على الأرض والمياه والموارد وعلى [مستلزمات] إدارة هذه الموارد، كالسجلات العقارية وشركة الماء، إلخ.؛
  • يجب أن يجمد النشاط الاستيطاني الإسرائيلي إما قبل بداية المفاوضات وإما عند بداية المرحلة الانتقالية حتماً؛ ويجب أن تزال المستوطنات أو أن تخضع للسلطة الفلسطينية؛
  • يجب أن يلحظ بعض البنود عودة اللاجئين إلى الأراضي الخاضعة للحكم الذاتي؛
  • يجب أن تكون القدس الشرقية مشمولة باعتبارها العاصمة المستقبلية للكيان الفلسطيني: غير مقسمة مادياً، لكن منفصلة سياسياً؛
  • يجب إجراء "انتخابات عامة" لانتخاب "مجلس تشريعي"؛
  • يجب أن تكون اتفاقات الفترة الانتقالية بإشراف دولي أو بإشراف الأمم المتحدة، بما في ذلك حضورها المدني والعسكري (إذا لزم الأمر)؛
  • اتفاق فلسطيني – أردني ما، يمكن التوصل إليه لاحقاً، ويسمى عادة "كونفدرالية".

والفكرة هنا واضحة. فالفلسطينيون ينظرون إلى الحكم الذاتي الانتقالي نظرتهم إلى دولة ما زالت في القماط، على أن يؤدي مرور الزمن إلى بسط السيطرة الفلسطينية وإزالة الوجود الإسرائيلي إلى أن تبرز دولة مستقلة (قد ترتبط بالأردن) وذات سيادة تامة. وحتى لو أخفق الفلسطينيون في الحصول على ضمانات كاملة لهذه النتيجة قبل المفاوضات، فمن المتوقع أن يحكموا على كل جزء من تفصيلات الحكم الذاتي قياساً بفائدته في دعم طموحاتهم الهادفة إلى إنشاء دولة.

الموقف الأردني

              الاختبار الثاني في الموافقة هو الأردن الذي يعدُّ أكثر من نصف سكانه فلسطينيين. والفلسطينيون، على الرغم من كونهم منذ أمد بعيد يعتبرون الأردن بوابة ضرورية وحليفاً وشريكاً ممكناً في اتحاد كونفدرالي، فإنهم لم يتوصلوا قط إلى علاقة به ثابتة ومرضية. فمن سنة 1948 حتى سنة 1967، عندما كانت اليد العليا للهاشميين، أُقصي الفلسطينيون بحزم إلى دور سياسي ثانوي، وإنْ كان سُمح لبعض الأفراد منهم ببلوغ مناصب رفيعة في البلاط والإدارة الملكية. وابتداء من سنة 1968، تمكنت منظمة التحرير الفلسطينية التي عادت إلى الحياة من بسط سيطرتها على الأردن، فأعقب ذلك حرب أهلية بلغت ذروتها في إقدام الأردن على طرد منظمة التحرير الفلسطينية بصورة عنيفة من أراضيه في أيلول/ سبتمبر 1970. وأباحت نكبة منظمة التحرير الفلسطينية لاحقاً في لبنان، وما تلاها من خصام مميت مع سوريا، للملك حسين فرصة تعزيز زعامته، لكن الملك وعرفات لم يتمكنا في فترة 1982 – 1983 ولا في سنة 1985 من التفاهم على نهج سياسي مشترك للمفاوضات. وأخيراً، أعلن الأردن رسمياً سنة 1988 "تخليه" عن كل مطلب للأردن في الضفة الغربية بعد أن عزَّزت الانتفاضة ساعد منظمة التحرير الفلسطينية.

والآن يجد الفريقان نفسيهما مضطرين إلى العمل معاً في وفد مشترك إلى مفاوضات السلام وإلى المفاوضات المشتركة بشأن الحكم الذاتي الانتقالي، وهو انقلاب في التطورات لم يسع له أي منهما ولا توقَّعه. لكن، مع أن الأردن والفلسطينيين انحازوا إلى العراق في حرب الخليج، وعادَوا مؤيديهم القدامى، فإن الملك حسين أفلح، خلافاً لياسر عرفات، في استعادة مكانته. فقد تحاشى الملك كارثتين توأمين: إما الحرب الأهلية (لو أنه اتخذ موقفاً معادياً للعراق) وإما القتال (لو أنه سمح بشن هجمات على إسرائيل)، محققاً بذلك إنجازاً فريداً حتى بمعايير الشرق الأوسط. فقد حاز رضا الفلسطينيين وحكومة الليكود الإسرائيلية في الوقت نفسه. وبصفته شريك الفلسطينيين "الأكبر" المعيَّن، وبفضل دوره الحاسم الذي أكَّده إصرار إسرائيل على أن يحاورها وفد أردني – فلسطيني في المفاوضات، يتجه الملك حسين إلى إنهاء دوره كحليف لصدام حسين والعودة إلى دوره المعهود كأحد المعتدلين العرب. إنه أول المستفيدين من استئناف عملية السلام، كما أن انخراطه في المفاوضات يعضد محاولته تبديد سخط واشنطن لتركه الباب مفتوحاً أمام صدام حسين.

إن سياسة الملك حيال الحكم الذاتي الفلسطيني تصدر عن تصوره الخاص لدور الأردن وعن غريزة البقاء[4]   التي اشتهرت عنه بحق. وتوجد هنا ثلاثة عوامل مهمة جداً:

1-  لدى الملك حسين شعور حاد بتراث أسرته – دور جدِّه في الثورة العربية في إبان الحرب العالمية الأولى، وتحدُّره من نسل النبي العربي. وهو في نظر نفسه مؤهل تأهيلاً فريداً ليكون زعيماً عربياً من الصف الأول.

2-  يرتبط معظم سكان الأردن بالضفة الأخرى من النهر بصلات من القرابة والثقافة والتاريخ. وكما مرَّ معنا من قبل، فإن العلاقات بين البيت الهاشمي ومختلف الحركات الوطنية لم تكن سهلة قط. فالفلسطينيون والحسين يعلمون أنه وإن كان الملك أحياناً معهم، فإن الأردن الهاشمي لن يكون منهم. وقد أخفق الحسين في حماية الفلسطينيين سنة 1967، ولم يتمكن قط من استعادة الأراضي المفقودة على الرغم من أصدقائه في الغرب. والآن، مع بداية عملية السلام، بات على الحسين أن يتعامل مع سكان فلسطينيين متململين لا يؤيدون مشاركة الأردن في العملية إلا بقدر ما سيعمل الملك على ضمان قيام دولة فلسطينية مستقلة، كما أن عليه أن يتعامل مع معارضة أصولية إسلامية ترفض عملية السلام جملة وتفصيلاً.

3-  الأردن بلد ضعيف. وافتقار الأردن إلى الموارد الطبيعية والثروة المحلية يزيد في هشاشته الإقليمية. جيران الأردن المباشرون كلهم – سوريا، والعراق، وإسرائيل، والعربية السعودية – أقوى من الأردن أو أغنى مما قد يصل الأردن إليه يوماً. والأسوأ من هذا أن الأردن يرتاب فيما يضمره كل منهم من خطط خطرة: حلم الأسد بسوريا الكبرى؛ طموحات صدام الإقليمية؛ نظرية الليكود التي ابتكرها أريئيل شارون والتي تقول إن "الأردن هو فلسطين"؛ هذا فضلاً عن خصومة سعودية قديمة ترقى إلى استيلاء ابن سعود على الحجاز، وهي مملكة الهاشميين الأصلية، في العشرينات من هذا القرن.

نتيجة لهذه الحقائق الباقية، كان على الحسين أن يوازن دوماً بين جيرانه الأقوياء من أجل أن يبقى ويزدهر. وقد ساقه هذا النهج مؤخراً إلى تحالف خطر مع صدام العراق كان من آثاره جعل المملكة تابعة للعراق اقتصادياً حتى في مقابل العلاقات بالولايات المتحدة وبرعاته السابقين من عرب الخليج.

وقد أدت هذه الاعتبارات كلها، بعد حرب الخليج، إلى جعل الدور الأردني في مفاوضات السلام دوراً ممكناً وضرورياً، وإنْ كان قليل الفعالية (passive)؛ فإصرار إسرائيل على دور للأردن، من خلال الوفد الأردني – الفلسطيني، ضمن له المشاركة في مفاوضات الحكم الذاتي. كما أن حرص الولايات المتحدة على المشاركة الأردنية لإكمال دائرة التزام الدول العربية وممارسة الضغط على سوريا والفلسطينيين للانضمام إلى المفاوضات قد مكَّنا الملك من إعادة بناء علاقاته بالولايات المتحدة (وإن ظلَّت هذه العملية عسيرة ما دام الملك محافظاً على علاقاته ببغداد).

يضاف إلى ذلك أنه ما دامت إسرائيل مصرة على التزام قواعد الحكم الذاتي التي نص اتفاق كامب ديفيد عليها، فإن ذلك سيصب في خدمة مصالح الملك، لأن اتفاق كامب ديفيد ينص على دور للأردن في أربع نقاط:

1-  تأليف الوفد المفاوض بشأن سلطات إدارة الحكم الذاتي – وذلك بالتعاون مع المشاركين الفلسطينيين "كما تم الاتفاق"؛

2-  مفاوضة إسرائيل بشأن ترتيبات "الوضع النهائي" للضفة الغربية وقطاع غزة، وتوقيع معاهدة سلام؛

3-  المشاركة في الترتيبات الأمنية مع إسرائيل، وبالتنسيق والارتباط مع "قوة الشرطة المحلية القوية" التي نصت بنود الحكم الذاتي عليها في اتفاق كامب ديفيد؛

4-  العضوية في اللجنة المكلفة معالجة "أنماط عودة الأشخاص الذين هُجِّروا من الضفة الغربية وغزة سنة 1967."

وهكذا، يبدو الملك حسين في وضع يتيح له مكاسب جمة من دون أن يحرك ساكناً. فالسوريون، بحضورهم مؤتمر السلام، يفسحون له في المجال للمضي فيه؛ والفلسطينيون، بانضمامهم إلى الوفد الأردني، يمنحونه مرة أخرة شيئاً من الشرعية في الشؤون الفلسطينية؛ والإسرائيليون، بإصرارهم على وفد أردني – فلسطيني، يُنشئون الآلية التي تتيح له إعادة بناء نفوذه في صفوف الفلسطينيين. والأردن يستطيع أن يترك الفلسطينيين يفاوضون ويقبلون التسويات في مسائل الحكم الذاتي الشائكة، بينما يتجه دور الأردن إلى أهم الوسائل الإجرائية في سلطة الحكم الذاتي، وهو الدور الذي يتوقع أن يشدِّد الإسرائيليون عليه. (كما أن تجربة التعاون الإسرائيلي – الأردني المديدة في مراقبة الهجمات الحدودية والإرهاب ستكون من المؤهلات المهمة في مجال الأمن).

وخلاصة القول: إن الأردن قد يتمكن من القيام مرة أُخرى بدور – وإنْ كان دوراً محدوداً – في الضفة الغربية كجزء من "اتفاق مرحلي" يضبط النزعة القومية الفلسطينية لكن من دون أن يحمل ذلك الملك على الإساءة إلى مشاعر الفلسطينيين في أثناء المفاوضات. والحكم الذاتي الفلسطيني تحت هذه الشروط يلائم تماماً ما سماه رجل راقب الحسين مدة طويلة استراتيجية البقاء: "لا مخاطرات، لا مبادرات بطولية. وإذا أمكن ذلك – عدم إغضاب أحد. وإذا كان لا بد من إغضاب أحد، فليُغضَب الفريق الأقل خطورة الآن... وإذا لم يكن سبيل للبقاء إلا القتال – فليكن القتال وحشي القسوة."[5]

ومن المزايا الإضافية التي تتيحها الأوضاع الدبلوماسية الحالية أن من الممكن لدور الأردن أن يكون قليل البروز. ذلك كان الوضع حتماً في مدريد، حيث حجب الفريق الفلسطيني في الوفد المشترك "شريكه الأكبر" المفترض – حتى بالنسبة إلى الإسرائيليين. (شجع الأردن والعربية السعودية الفلسطينيين على مقاومة التحكم السوري المطلق في المفاوضات الثنائية في مدريد).

لكن إذا كان الملك سيتفادى بالتأكيد الوقوف موقفاً مناقضاً للفلسطينيين في وقت مبكر، فثمة اعتباران آخران قد يجعلاه (أو يجب أن يجعلاه) أكثر فعالية. أولاً، إن فشل المفاوضات في وقت مبكر قد يعود على الأردن بنكسة في وقت يحتاج الأردن أشد الحاجة إلى الاستقرار والمساعدات الاقتصادية ليتعافى مما جرته عليه عمليات التهجير التي أسفرت حرب الخليج عنها، والتي توافد خلالها [إلى الأردن] 300,000 لاجئ فلسطيني من الخليج.[6]

ثانياً، تكمن مصالح الملك البعيدة المدى في اتفاق على الوضع النهائي يمنح الأردن السيادة إما مباشرة وإما من خلال اندماج مضمون مع الكيان الفلسطيني. ولأسباب تتعلق بكرامته وبرغبته في أن يبين للفلسطينيين بصورة نهائية أن أفضل خيار لهم إنما هو مع الأردن شريكاً أكبر، فمن المتوقع أن يود الملك استعجال البدء في محادثات الوضع النهائي التي سيكون فيها هو، لا فلسطين المستقلة، الخيار المفضَّل عند إسرائيل والولايات المتحدة وعدد من الحلفاء العرب الكبار.

وقد تصرف الأردن في الجولات الخمس الأولى من المفاوضات بصورة متماسكة منطقياً بمقتضى هذا الحسبان، فكان يسارع دائماً إلى قبول الدعوة إلى الجولة التالية، تاركاً لإسرائيل الإصرار على إبقاء الوفد الأردني/ الفلسطيني المشترك في "دبلوماسية الكنبة". وقد استعمل الأردن مفاوضاته الثنائية مع إسرائيل ليؤكد التزامه السلام الكامل، ويرضي الإسرائيليين بذلك. لكن الملك رفض أيضاً المضي قدماً في قضايا الوضع النهائي للأراضي المحتلة قبل تحقيق تقدم في المفاوضات الأخرى، وذلك ليحمي جوانبه العربية.

بيد أن استراتيجية التوازن الأردنية قد لا تكون سهلة التطبيق في المرحلة التالية من المفاوضات. فمن سخرية الأوضاع أن حكومة رابين التي شدَّدت، يوم كانت حاكمة في السبعينات، على دور الأردن في عملية السلام، باتت الآن أشد اهتماماً بترتيب الأوضاع مع الفلسطينيين، وراحت تعتبر الأردن أضعف من أن يقوم بدور "الأخ الأكبر" الذي تصورته له حكومة شمير. كما أن الولايات المتحدة صارت أضيق صدراً باستمرار الأردن في خطْب ود صدام حسين وأقل رغبة في صرف النظر عن ذلك من أجل عملية السلام. إن هذه العوامل كلها قد تدفع الملك إلى أن يكون أنشط، وإنْ ظل حذراً، في تأدية دوره في مفاوضات السلام، وذلك ليبرهن لواشنطن والقدس عن جدارته.

الخيارات الإسرائيلية

              ربما وجد الفلسطينيون والأردنيون أنفسهم وجهاً لوجه مع الحكم الذاتي بفعل الأوضاع التي دفعتهم إلى ذلك، لكن الأمر مختلف في نظر إسرائيل. فاقتراح الحكم الذاتي أمر اخترعته إسرائيل أصلاً. والمسألة الآن هي إلى أي مدى ترى الدولة اليهودية نفسها مستعدة للمضي في تعريفه.

إن  حكومة إسرائيل الجديدة ستكون في موقع قوي. ذلك بأن حرب الخليج قد أزالت، في الوقت الحاضر، أعظم المخاطر العسكرية على إسرائيل – هجوم عراقي – سوري مشترك على جبهتها الشرقية – من دون أن يكلف ذلك إسرائيل ثمناً يذكر. وبات المهاجرون السوفيات يتقاطرون وإنْ بأعداد متناقصة. كما أن الاهتمام السوري بالمفاوضات، أياً تكن أسبابه، قد يتيح للقيادة الإسرائيلية الفرصة ذاتها التي تمكَّن بيغن من اغتنامها سنة 1978: التخفيف من حدة أكبر المخاطر العسكرية العربية على إسرائيل من دون أن يضطرها ذلك إلى التنازل عن السيطرة على يهودا والسامرة [الضفة الغربية] وقطاع غزة.

هذه هي المكاسب السياسية، فإنْ تحققت فلن يكون ذلك إلا بمثابة الظفر النهائي للفكرة الصهيونية: دولة يهودية آمنة في أرضها التاريخية. ولذلك يمكن أن يعدَّ الحكم الذاتي الفلسطيني طريقة لتربيع دائرة عدم الاستقرار الذي أصاب إسرائيل منذ انتصاراتها الكبرى سنة 1967.

في عالم مثالي [من وجهة نظرهم]، يفضل الإسرائيليون أن يشتمل بلدهم على كل الأرض الممتدة إلى الغرب من نهر الأردن. قليل من الإسرائيليين، على تنوع ميولهم السياسية، يعتقد أن العودة إلى حدود 1967 ستكون آمنة حتى مع معاهدة سلام. أما ما ينقسم الإسرائيليون بشأنه، فهو السؤال، هل يمكن مقايضة "الأرض بالسلام" في الضفة الغربية (وغزة لا تغري أحداً منهم البتة) أو بالأحرى، ما هو مقدار الأرض القابلة للمقايضة؟ وأما من قبل منهم ذلك، فيفضل ملك الأردن شريكاً في الصفقة. وثمة على اليمين واليسار أغلبية إسرائيلية لا بأس فيها تعارض قيام دولة فلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية مكروهة بصورة واسعة النطاق.

وقد خلَّفت الانتفاضة، ومن بعدها حرب الخليج، أثراً في هذه المواقف القديمة العهد يتسم بتناقض ظاهري. فعلى المستوى الفردي، يفضل الإسرائيليون العيش منفصلين ومبتعدين عن شعب فلسطيني يعدونه معادياً لهم بالفطرة. لكنهم، كدولة، تغلب عليهم معارضة قيام سيادة فلسطينية (أو حتى أردنية) على الأراضي المحتلة في أي مدى قريب. وقد عزَّز هذا الموقف تأييد الفلسطينيين لصدام وتصاعد العنف الذي نقله الفلسطينيون إلى داخل حدود إسرائيل ما قبل سنة 1967. كما أن الهجرة الروسية عزَّزت الثقة الإسرائيلية بأن بقاءها من الناحية الديموغرافية بات مضموناً، وأنها تستطيع التخليِّ عن خدمات العمال الفلسطينيين.

إن موقف الليكود، المتأصل في الماضي والقائل إن من غير المأمون (فضلاً عن أن من الخطأ أخلاقياً وأيديولوجياً) أن تتخلى إسرائيل عن الأراضي المحتلة، قد وجد ما يعزّزه في الحوادث الأخيرة. إلا إن الميل إلى ضم هذه الأراضي ودمجها في إسرائيل قد لجمه من زمن طويل الخوف من أن تؤدي تلك الأفواج الضخمة من المواطنين العرب إلى تحويل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية. وقلما تجد فكرة تحويل فلسطينيي الأراضي المحتلة إلى مواطنين إسرائيليين كاملي المواطنية (وهي فكرة ترد في خطة بيغن نفسه للحكم الذاتي) اليوم من ينادي بها حتى في صفوف الليكود.

ويجد الاقتناع بأن على إسرائيل أن تسيطر على الأراضي المحتلة، لكن من دون استيعاب سكان تلك الأراضي، رواجاً لدى جميع الأحزاب. وفي غياب أي "شريك عربي للسلام"، أجمع العمل والليكود كلاهما على أن من واجب إسرائيل التمسك بالأراضي بأقل تكلفة ممكنة. وبينما نشط شمعون بيرس كرئيس للحكومة في السعي من أجل عملية سلام، نظراً إلى اقتناعه بأن الزمن ليس في مصلحة إسرائيل كلياً (إلى حد كبير، خشية الآثار المفسدة الناجمة عن حكم سكان متمردين)، فقد اكتفى يتسحاق شمير بانتظار رنين جرس الهاتف، مثلما قال دايان ذات مرة بالنسبة إلى مصر.

وقد رن جرس الهاتف عند دايان سنة 1973، لكن بدلاً من سماع إعلان مصر استسلامها الدبلوماسي كانت حرب يوم الغفران على الطرف الآخر من الخط؛ كذلك اهتز شمير سنة 1987، يوم نسفت الانتفاضة وهْم أن الفلسطينيين استسلموا للأمر الواقع المتحرك ضدهم على نحو مطرد. وسرعان ما اضطرت حكومة الوحدة الوطنية يومها إلى توقع المساعي الأميركية لاستئناف عملية السلام وأحياناً إلى رفضها. غير أن أي بحث عن طرق تزيح عن كاهل إسرائيل مسؤولية إدارة السكان العرب من دون المساس بالسيطرة العسكرية الإسرائيلية أو بحق الاستيطان، لا يمكن أن يقود إلا إلى حكم ذاتي. ومن الأمور ذات الدلالة أن يتسحاق رابين، الذي كان وزيراً للدفاع يومها، هو الذي دعا إلى إحياء فكرة الحكم الذاتي حتى قبل شمير. وكان رابين هو القوة الدافعة وراء مبادرة شمير سنة 1989، التي قصد منها الترويج لفكرة الحكم الذاتي في المفاوضات مع الفلسطينيين.

لذلك، فإن اهتمام إسرائيل بالحكم الذاتي الفلسطيني أعمق جذوراً من مجرد التكتيك أو الرغبة في كسب الوقت ريثما يتم "استيعاب" الأراضي المحتلة وأهلها. فالحكم الذاتي يتيح لإسرائيل ما سعى له فلاديمير جابوتنسكي، معلم مناحم بيغن، ومبتكر الفكرة أصلاً: طريقة للتعامل مع "أقلية قومية" من دون تخريب الديمقراطية الإسرائيلية أو التنازل عن الأكثرية اليهودية. أو كما قال موشيه دايان بصورة فجة: ترك العرب وشأنهم قدر المستطاع، مع بقاء الحضور اليهودي والسيطرة العسكرية في المنطقة؛ السماح لهم بحق تقرير مصيرهم مع حرمانهم من فرصة تقرير مصير إسرائيل.

إلا إن خيار إسرائيل لا ينحصر في مجرد التقدم بفكرة الحكم الذاتي الفلسطيني، بل في كيفية تحديد تفصيلاته. وهنا بالتحديد تبدأ المخاطر. وثمة أربع فئات من المخاطر العظيمة الأهمية:

أولاً، تأثير ذلك في العلاقات الأميركية الإسرائيلية: إن تطوير إسرائيل لخطة الحكم الذاتي لم يصدر فقط عن الحقائق الديموغرافية في الأراضي المحتلة، بل جاء استجابة للضغوط الأميركية. ومع أن إسرائيل والولايات المتحدة لم تتفقا قط على تفصيلات الحكم الذاتي، فقد ثبت أن فكرة الحكم الذاتي أداة ثمينة في صدِّ الضغط الهادف إلى انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية. وكان الرؤساء كارتر وريغان وبوش قد تبنّوا فكرة الحكم الذاتي. أما الآن، وقد وصلت إسرائيل إلى مفاوضة الفلسطينيين في شأن التفصيلات، فإن العلاقات الأميركية – الإسرائيلية تمر بفترة حرجة. ففي حقبة ما بعد الحرب الباردة، باتت إسرائيل (أو أية دولة أُخرى) أقل أهمية كحليف استراتيجي في الصراع ضد النفوذ السوفياتي. والولايات المتحدة تشعر بالأمان، وإن تكن إسرائيل قلقة من المخاطر البعيدة الأجل. ومن شأن هذا الفارق النفسي، المشفوع بتضاؤل التأييد الشعبي الأميركي للالتزامات الخارجية، بما فيها الالتزامات المتعلقة بإسرائيل، أن يزعزع ثقة إسرائيل في علاقتها بالولايات المتحدة؛ ومن شأنه أن يضاعف اهتمام إسرائيل بمجالات المخاطر الأخرى، ولا سيما الأمن. ومن شأن هذا الاهتمام بدوره أن يزيد في الاستياء الأميركي مما قد تعدُّه واشنطن إفراطاً في الاحتراس أو مطالب غير معقولة من قِبل إسرائيل.

ومن الأرجح أن يصح هذا التحليل بالنسبة إلى حكومة رابين الجديدة، حتى وإنْ تكن ملتزمة تحقيق اتفاق سريع مع الفلسطينيين. وسيتوجب على رابين مواجهة المعارضة الصاخبة والمنظمة من جانب ذلك القطاع من الجمهور السياسي الإسرائيلي، الذي يعتبر أي اتفاق للحكم الذاتي بمثابة نهاية لحلمه في استيعاب يهودا والسامرة (الضفة الغربية) ضمن إسرائيل. كما أن الولايات المتحدة قد تجد، في سعيها لتحقيق اتفاق مرضٍ للفلسطينيين، أنها تضغط من أجل الحصول على مزيد من التنازلات التي لا يستطيع رابين أن يقدِّمها لأسباب سياسية.

ثانياً، المآزق الأمنية: من الممكن لإسرائيل أن تسد حاجات دفاعها الخارجية في الأراضي المحتلة (أي أن تصد هجوماً من سوريا والأردن) باستخدام قوة بعيدة عن الأنظار. لكن حتى التطورات التكنولوجية لن تلغي الحاجة إلى شيء من العمق الاستراتيجي، وهذا ينطوي على تجريد مناطق معينة من السلاح والسيطرة عليها. لذلك نجد رابين مستعداً لتجميد المستوطنات في المناطق الفلسطينية الكثيفة السكان، لكنه يصرُّ على تقوية المستوطنات على طول غور الأردن، الذي من شأنه أن يوفر شريطاً أمنياً ضد أي هجوم عربي من الشرق.

والأكثر من ذلك تعقيداً هو مشكلة السيطرة على الإرهاب واحتفاظ إسرائيل بأجهزة الاستخبارات في الأراضي المحتلة. وسيكتسي هذا الأمر أهمية خاصة عندما يتعلق الأمر بالمستوطنات؛ إذ يتوجب على الحكومة الإسرائيلية أن تكفل سلامة المواطنين الإسرائيليين الذين يعيشون هناك. ففي أيام كامب ديفيد، لم يكن يعيش في الضفة الغربية إلا 10,000 مستوطن، أما الآن فهنالك 110,000 مستوطن، وهو ما يزيد المأزق الأمني حدة.

ثالثاً، التطور السياسي: إن الحكم الذاتي القادر على ممارسة مهماته سينال الشرعية من الانتخابات ومن الدعم الدولي. ومن المتوقع أن يقود هذا التعبير الفعال عن الاعتدال الفلسطيني إلى زيادة الصعوبات في وجه إسرائيل إذا قاومت المطالبة المحتومة بحق تقرير المصير في مفاوضات الوضع النهائي للأراضي المحتلة. وقد تكون نتيجة ذلك دولة تُنتزع من إسرائيل من جراء ضغط شديد على الصعيدين المحلي والدولي.[7]   ولما كانت الدولة الفلسطينية تعدُّ في نظر أغلبية الإسرائيليين خطراً على أمن إسرائيل، وفي نظر مؤيدي الليكود خطراً على مطالبة إسرائيل بأرض إسرائيل كلها، فثمة مصلحة مشتركة في التأكد في من أن ترتيبات الحكم الذاتي تلغي فعلاً إمكان قيام دولة فلسطينية.

رابعاً، المناخ السياسي، أو "الترابط": في مفاوضات الحكم الذاتي مع مصر والولايات المتحدة من سنة 1979 إلى سنة 1982، قاومت إسرائيل أي ترابط بين اتفاق السلام الثنائي وبين صفقة الحكم الذاتي، ثم ما لبثت أن اتخذت موقفاُ معاكساً لهذا الموقف مع اقتراب موعد الانسحاب الإسرائيلي الكامل من سيناء. وقد اكتفى الإسرائيليون في المفاوضات التي جرت حتى الآن باقتراح تزامن التقدم على خطي المحادثات (إسرائيل – الدول العربية؛ إسرائيل – الفلسطينيون)، غير أن حكومة رابين تنوي الآن الاستعجال على خط الحكم الذاتي. لكن إذا لم ينجح الحكم الذاتي، فهل ستصبح الاتفاقات الثنائية رهينة له؟ أو إذا نجح الحكم الذاتي، لكن سوريا وإسرائيل أخفقتا في بلوغ اتفاق نتيجة للمفاوضات، فهل ستعارض سوريا (وغيرها من العرب) الحكم الذاتي الفلسطيني؟

وبصورة عامة، إن الخطر في نظر إسرائيل يمكن التعبير عنه على النحو التالي: الحكم الذاتي الفلسطيني قد يعني فقدان السيطرة الملموسة من دون تخفيض يذكر في العداوة الفلسطينية والعربية. وفي الوقت الراهن، تبدو إسرائيل مستعدة للمخاطرة، اعتقاداً منها أن تحسين العلاقات بالدول العربية الأخرى، وأن حكماً ذاتياً "لا ينطوي على خطر" أمران يمكن التوصل إليهما. وسيحكم الإسرائيليون، كغيرهم من المفاوضين العرب، على تفصيلات الحكم الذاتي بمقتضى أهدافهم البعيدة الأجل التي لم تزل كما هي: وجود في الأراضي المحتلة، وضمانات أمنية، وعدم قيام دولة فلسطينية مستقلة. في سنة 1989 اضطرت حكومة الوحدة الوطنية الإسرائيلية إلى النظر في مآل مفاوضات متجددة هذه المرة مع الفلسطينيين. ونجم عن ذلك وضع خطة شمير – رابين التي احتفظت لإسرائيل بالسلطة الحصرية في مجالات ثلاثة: السياسة الخارجية، والأمن، والصلاحيات القانونية فيما يتعلق بالمواطنين الإسرائيليين. وقد أعادت حكومة الليكود برئاسة شمير توكيد "خطة السلام" عند تسلمها السلطة، كما أن رابين كرر تأكيد هذه النقاط خلال حملته الانتخابية. وثمة أسباب وجيهة جمة تدعو إلى الاعتقاد أن هذه النقاط الثلاث ستبقى معبرة عن الحد الإسرائيلي الأدنى – إضافة إلى استثناء القدس من الحكم الذاتي الفلسطيني.

لقد حرص الإسرائيليون في المفاوضات التي جرت حتى الآن على عدم الإفصاح عن "خطة شاملة"، بل اكتفوا بالتلميح إلى جدول أعمال وتجارب انتقائية في ممارسة الحكم الذاتي. وهذه الصياغات الإسرائيلية تشدِّد على الأوجه الإدارية بقدر ما تشدِّد الأفكار الفلسطينية على الأوجه السياسية. فمن ذلك أن الإسرائيليين مستعدون لأن "يولّوا" الفلسطينيين شؤون الإشراف على نظام العناية الصحية، بما في ذلك صلاحية اتخاذ القرارات التخطيطية العليا. ومن المقترحات الأخرى إجراء انتخابات بلدية "نموذجية"، لا بديلاً من سلطة الحكم الذاتي، بل خطوة باتجاه نقل الإدارة المحلية إلى الفلسطينيين. ويحتفظ الإسرائيليون ببعض المسافة عن اقتراحاتهم لسنة 1982 أو حتى عن خطة سنة 1989. ومن الممكن أن يتغير ذلك في عهد رابين، لكن إسرائيل ستمضي، على الأرجح، في التركيز على أن متطلباتها الأمنية اضحت اليوم أغلى ثمناً مما كانت يوم لم يكن يقيم في مستوطنات الضفة الغربية وقطاع غزة، خارج حدود مدينة القدس الإدارية، أكثر من عشرة آلاف مستوطن يهودي.

[.......]

مقاربة أميركية

              لقد نجحت السياسة الأميركية في دفع الخطوات الأولى من عملية السلام المستأنفة: الأطراف تتفاوض. فعقب حرب الخليج استفادت الولايات المتحدة من هزيمة "جبهة الرفض" وارتباكها لترتب سلسلة فريدة من المفاوضات الثنائية والمتعددة الأطراف. وقد صدرت هذه المفاوضات عن ضغط أميركي، وعن تحالف دولي لم يعد منقسماً بفعل الحرب الباردة، وتجمُّع إقليمي ألَّف بين مصر، والعربية السعودية، والأردن، وسوريا، وراء محادثات مباشرة مع إسرائيل.

              إن المناخ السياسي الدولي الملائم يخفِّف مخاطر دخول مفاوضات، لكنه لا يستطيع أن يضمن نتائج هذه المفاوضات. ويقود تحليلنا إلى القول إن المناخ الدولي نفسه قد لا يظل على هذا القدر من اللطف: فصدّام ما زال في السلطة؛ وإيران تتحرك؛ وسوريا تسعى لإعادة بناء خيارها العسكري؛ والعنف يتصاعد في الأراضي المحتلة وعلى طول الحدود اللبنانية – الإسرائيلية، وكميات ضخمة من الأسلحة الحديثة، بما فيها صواريخ سكود،  تتدفق على الترسانتين الإيرانية والسورية. وفي هذه الأثناء، تحمل أجواء انتخابات الرئاسة الأميركية على تشجيع موقف "الانتظار والترقب" في مجال الدبلوماسية.

ربما كانت هذه التطورات أيسر معالجة لو أن العرب والإسرائيليين كانوا قد بدأوا المفاوضات بجِد فحدَّدوا المصالح المتداخلة والاختلافات القابلة للتفاوض. إلا إن ذلك لم يتم. إن الاختراق المتمثل في اللقاءات المباشرة في مدريد، وفي اللقاءات الثنائية في واشنطن والمتعددة الأطراف حول العالم قد خلق فرصاً – لكن ما زال المطلوب اغتنام هذه الفرص. أو، بعبارة أخرى، ما زال المطلوب أن يبيِّن بعض الأطراف لبعضها الآخر (أو أن يقنع بعضها البعض الآخر) أنه جاد في عقد اتفاق. ولذلك، فإن المهمة الأميركية في المراحل المقبلة هي الحفاظ على المناخ المشجع وتسهيل عملية عقد الاتفاقات بين الأطراف إذا كان من الممكن تسهيلها. وكي يحدث ذلك، لا بد من أن يرى المفاوضون العرب والإسرائيليون مصلحة عليا مشتركة.

في الوقت الحاضر، تبدو السلبيات أغلب وتبدو المصالح متباينة جداً عند كل نقطة. فإسرائيل لا ترى في انسحابها من هضبة الجولان أي تحسين يذكر في أمنها، وسوريا حافظ الأسد لا تبحث حتى عن اللفتات أو الخطوات السلمية الحقيقية التي من شأنها إقناع إسرائيل بتغيير موقفها. ورغبة سوريا في المفاوضات تصدر في الدرجة الأولى عن ضرورة "دخول لعبة أميركية" لأن ما من سبيل آخر أمام النظام [السوري] لإخراج الإسرائيليين من دون مخاطر أكبر؛ والسلام مع واشنطن، لا مع إسرائيل، هو محور الاهتمام السوري. واللبنانيون يريدون الاستقلال، لكن يجب أن يقوم أحد غيرهم بتحمل العناء عنهم ليبلغوا الاستقلال. والفلسطينيون يريدون دولة ذات سيادة عاصمتها القدس ويريدون إخراج المستوطنين اليهود. والأردن يرغب في إعادة سلطته، فإنْ لم يكن بوصفه "شريكاً رئيسياً" للفلسطينيين فليكن بوصفه عنصراً رئيسياً في المفاوضات التي تعنيه.

وفي هذه الأثناء، يبقى تصاعد العنف في الأراضي المحتلة وعلى طول الحدود اللبنانية – الإسرائيلية سيد الموقف.

ومع ذلك، فإن لكل واحدة من هذه السلبيات إيجابية تقابلها وتستطيع أن توفر القوة الدافعة للمفاوضات. فالإسرائيليون الذين يواجهون آفاق شرق أوسط نووي في العقد المقبل، يريدون درء الخطر العسكري السوري، ورفع اليد السورية عن لبنان، وعدم تدخل السوريين في اتفاق مع الفلسطينيين تبدو حكومة رابين مصممة الآن على إنجازه. أما سوريا، فلا تستطيع أن تأمل بـ"إزالة" "عدوانَي" 1967 و1982 – أو نيل رضا الولايات المتحدة – خارج مفاوضات جادة مع إسرائيل. وأما لبنان، فيحتاج إلى المعونة الأميركية والإسرائيلية لرفع اليد السورية. وأما الفلسطينيون (والأردن)، فلا يستطيعون أن يأملوا بإنهاء الحكم العسكري الإسرائيلي إلا من خلال اتفاق أشمل مع إسرائيل يتعلق بـ"الحكم الذاتي الانتقالي". وهكذا، نجد في كل حالة مقداراً كبيراً من الحوافز في المضي قدماً، أملاً بتغيير الوضع القائم باتجاه أوضاع أفضل.

وكي تستطيع الإدارة الأميركية المقبلة أن تستغل هذه المصالح المتداخلة، فإنه يترتب عليها أن تبت أموراً مهمة عدة:

1-  المقاربة الأميركية العامة

              لقد تناوبت مواقف رجال الدولة الأميركيين بين مقاربتين أساسيتين لحل الصراع العربي – الإسرائيلي: 1) ما سُمي سياسة "الخطوة خطوة"، حيث تشجع إسرائيل والدول العربية ذات المصالح المتداخلة على تحسين العلاقات بالتدريج، وإنْ عارض العرب الآخرون ذلك، و2) "المقاربة الشاملة"، التي تصمم الولايات المتحدة فيها مقاربة شاملة ثم تحاول أن تدفع الفرقاء باتجاهها. أما وقد جلس العرب كلهم إلى طاولة المفاوضات، فإن هذه المقاربة التخطيطية قد تبدو أقل أهمية، لكن من الممكن دائماً أن تثمر بعض المفاوضات في حين تكون مفاوضات أُخرى متعثرة. وقد يكون على الولايات المتحدة في المراحل كافة أن تقرر ما إذا كان اتفاق جزئي ما أفضل من عدمه، وإنْ لم تكن النتيجة شاملة بعد.

ويقترح هذا التقرير أن تتخذ الولايات المتحدة من العثور على المصالح المشتركة [بين الأطراف]، ومن بناء الاتفاقات على هذه المصالح مقياساً لها. وعلى الولايات المتحدة في هذا التصور ألا تكون أحرص على بلوغ الاتفاقات من الفرقاء أنفسهم، كما أنه يجب ألا تكون مصالح الولايات المتحدة في أي اتفاق من هذا القبيل تتجاوز مصالح أصحاب الاتفاق. بل ينبغي أن تنحصر مهمة الولايات المتحدة في: 1) المساعدة في تحديد المصالح المشتركة؛ 2) تقليل المخاطر على الأطراف من جراء عقد الاتفاقات؛ 3) القيام بدور ما في حماية النتائج.

ومن شأن هذه الطريقة أن تتيح للدبلوماسيين الأميركيين المرونة المطلوبة لتشجيع الفرقاء المتقاربين في الآراء من دون أن يكونوا ملزمين بأية خطة محددة، كما أنها تحتفظ للولايات المتحدة بدور يمكنها، متى دعيت إلى القيام به، من مدِّ "الجسور" التي تربط بين الفرقاء الذين يحاولون التقارب. ونقترح على الولايات المتحدة أن تمدَّ هذه الجسور عندما:

  • تكون المصالح المشتركة [بين الأطراف] واضحة.
  • يكون الطرفان كلاهما قد قاما بمساع حثيثة للإعراب عن حسن النية.
  • يشعر الطرفان بالحاجة إلى اقتراح أميركي.

إن عملية سلام تفضي إلى سلام دائم هي من مصالح أميركا الكبرى، لكن كي يكون هذا السلام دائماً، لا بد له من أن يلبي الحد الأدنى من مطالب الفرقاء المحليين في الاتفاق. يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة إذا ما كان عليها أن تكفل النتائج، فينبغي لها أن تأخذ مجمل المصالح الأميركية في الحسبان. وجملة القول: إن الولايات المتحدة تريد السلام العربي – الإسرائيلي، لكن ليس إذا كان الثمن فرض هذا السلام، أو قبول المسؤولية الكاملة عنه، أو جعله خلاصة المصالح الأميركية في المنطقة. إذا كان الفرقاء يريدونه، فيجب أن نكون جاهزين لمساعدتهم، وإذا كانوا لا يريدونه، فإن وجودنا إلى جانبهم لن يكفي.

2- "علاقة" أميركا "الخاصة" بإسرائيل

              لا تقوم الولايات المتحدة في هذه المفاوضات بدور خاص من أجل مصالحها الإقليمية فحسب، بل أيضاً من أجل علاقاتها الفريدة بأهم الدول، علماً بأن أوسع تحالف لها وأعمقه هو تحالفها مع إسرائيل. ولما كانت التطورات الداخلية والعالمية تجعل، في الوقت نفسه، من العسير على الولايات المتحدة أن تحتفظ بحضور [عسكري] حول العالم، فإن الولايات المتحدة ستظل بحاجة إلى الاحتفاظ بحضور لها في الشرق الأوسط محتفظة، من خلال ذلك، بقيمة إسرائيل كحليف استراتيجي. لكن نهاية الحرب الباردة ونتائج حرب الخليج غيرت المناخين الدولي والإقليمي، وربما ولَّدت ضغوطاً داخل واشنطن من أجل التغيير في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية. وقد برزت هذه الميول فعلاً:

أ-  لقد أزال انهيار القوة السوفياتية حاجة الولايات المتحدة إلى محاربة توسع النفوذ السوفياتي في المنطقة، بينما ازدادت حاجة إسرائيل إلى حليف استراتيجي، وذلك مع تفكيرها في مخاطر عقد السلام في مناخ أمني لا يزال خطراً.

ب – تزايد النفور الشعبي الأميركي من المساعدات الخارجية من جراء التراجع الاقتصادي ونهاية الخطر السوفياتي، بينما جاء تدفق اليهود الروس يفرض أعباء اقتصادية هائلة على إسرائيل، مضاعفاً حاجتها إلى التمويل الأجنبي.

ج – يمكن للخلافات المهمة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن شروط السلام أن تزداد من جراء المفاوضات. فمن ذلك أن قضية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة قد أُثيرت في أثناء عهد حكومة شمير من قبل الرئيس بوش ووزير الخارجية بيكر، واعتُبرت عقبة على طريق السلام مع العرب وعلى طريق إقرار الضمانات الأميركية لقروض إسكان اللاجئين السوفيات من الاتحاد السوفياتي السابق. حتى مع تسلم يتسحاق رابين زمام السلطة، فبإمكاننا أن نتوقع تباينات ملموسة في وجهات النظر بين إسرائيل والولايات المتحدة في مجرى المفاوضات.

وستزداد هذه التوترات من جراء سياسة التقارب بين واشنطن ودمشق. ذلك بأن دخول سوريا تحالف حرب الخليج، ودورها في الإفراج عن الرهائن الغربيين في لبنان، ورغبتها العامة في تحسين العلاقات بواشنطن، قد أتت بعبارات الرضا من الرئيس بوش. ومن المغري أن نسوق طبعة سورية للسياسة الكارثية التي اتبعت فيما مضى مع صدّام: أي التركيز على الإيجابية والتغاضي بالتدريج عن السلبيات أو إساءة تفسيرها. ونظراً إلى سجل سوريا السابق في عرقلة عملية السلام، فقد ينشأ إغراء إضافي بـ"إبقاء سوريا داخل اللعبة" من خلال تقديم التنازلات في شأن العلاقات الثنائية (مثل الإرهاب، حقوق الإنسان، المساعدات الاقتصادية). وقد حذّر أعضاء فريق الدراسات في معظمهم من أن طبيعة النظام السوري العدائية، وأيديولوجيته التوسعية، واستمراره في الإنفاق على الأسلحة الهجومية، وتأييده الإرهاب، وسياساته الداخلية القاسية، تجعله مشاركاً محدود المشاركة في عملية صنع السلام. وأفضل السياسات حيال الأسد سياسة الاحتواء لا سياسة التقارب، بينما يجري اختبار سياساته. ولن يكون الأسد مرشحاً جدياً للقب صانع السلام إلا إذا غيَّر سلوك سوريا في هذه المجالات كلها.

ثمة مصدر آخر للمتاعب في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية هو بحث الفلسطينيين عن "عراب" الآن، وقد أصبح حلفاؤهم التقليديون في مصر والخليج معادين لهم أو غير مبالين بهم. فالوفد الفلسطيني يواجه ضغوطاً داخلية وخارجية خطرة من المرجّح أن تزداد قوة مع تواصل المفاوضات. وربما تحول التشجيع الأميركي في نقطة ما إلى وصاية، وربما تحولت الوصاية إلى دفاع عن الفلسطينيين. ويحذِّر فريق الدراسات من هذا الإغراء. وقد كان من أبرز إنجازات المفاوضات الجارية نهوض الفلسطينيين بمسؤولية التفاوض في شأن قضيتهم. وينبغي للولايات المتحدة أن تحترس من إراحة الفلسطينيين من هذا العبء بـ"الاستيلاء" على الملف الفلسطيني.

لقد أقرَّ أعضاء فريق الدراسات بأن قيمة إسرائيل الاستراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة قد تتغير من جراء نهاية الحرب الباردة. لكنهم خلصوا إلى أن أسباباً مهمة عدة تجعل العلاقة الأميركية – الإسرائيلية القائمة على القيم الديمقراطية المشتركة تظل جوهرية بالنسبة إلى المصالح الأميركية:

1) لا تزال الولايات المتحدة بحاجة إلى حلفاء عسكريين محليين أقوياء. إن بقاء ميزان القوى راجحاً في مصلحة الغرب في المنطقة أمر غير واقع ولا يمكن اعتباره مفروغاً منه. ونظراً إلى طبيعة المخاطر العسكرية الممكنة، التي يمكن للولايات المتحدة أن تواجهها في المنطقة، فإن قيمة إسرائيل ستظل قائمة. يضاف إلى ذلك أن مدى التعاون العسكري بين الولايات المتحدة وإسرائيل وما نجم عنه من أسلحة وقدرات لوجستية كانت حاسمة الأهمية في حرب الخليج قد يتحولان إلى مفتاح للمستقبل، ولا سيما في حقبة تقليص ميزانيات الدفاع وتزايد الحاجة إلى الحماية من هجمات بالصواريخ.

2) ثمة مخاطر جوهرية من نظام سوري لا يزال معادياً بصورة أساسية للمصالح الغربية، ومن إيران والعراق أيضاً. وقدرة إسرائيل على ردع سوريا تخدم المصالح الأميركية في الحفاظ على الاستقرار، وتساعد في إقناع الأسد بأن ما من خيار أمامه غير التسوية السلمية. لكن ذلك يعتمد على إدراك دمشق أن الولايات المتحدة تقف وراء قوة إسرائيل بينما لم يعد لسوريا أية قوة عظمى تدعمها.

3)  إن أية اتفاقات في عملية السلام قد تعني بالضرورة مخاطرات جديدة لإسرائيل بحيث لا تنظر أية حكومة إسرائيلية فيها من دون الثقة في علاقتها الأمنية بواشنطن. ولن يحدث ذلك إذا ما مضت الولايات المتحدة في سياستها السابقة حيال إسرائيل، أي في تأكيد التزامها قرار مجلس الأمن رقم 194، وتسريب معلومات بصورة غير مسؤولة عن أعمال نقل تكنولوجيا، والتصويت بـ"الشجب الشديد" لإسرائيل في الأمم المتحدة.

أخيراً، وبصرف النظر عن أية حسابات سياسية، فقد قطعت الولايات المتحدة لإسرائيل عهوداً إنسانية تقوم على أساس التزام أميركا ببقاء إسرائيل وبالقيم الديمقراطية المشتركة. فإذا ما تبين أن الولايات المتحدة غير مستعدة للوفاء بهذه الالتزامات بعد أربعة عقود، فماذا يمكن لبلاد أُخرى في المنطقة – أو في مكان آخر – أن تتوقع من وفاء واشنطن بالتزاماتها؟

إلا إن فريق الدراسات ينظر، مع ذلك إلى العلاقات الأميركية – الإسرائيلية نظرته إلى "طريق ذات اتجاهين". فأميركا ليست ملزمة بضمان أية أعمال إسرائيلية "صواباً كانت أم خطأ"، أو بتجاهل الأضرار التي تلحق بمصالحها. لا بد من وجود حدِّ معين من الثقة بين البلدين إذا ما أُريد خدمة مصالحهما، ذلك لأن لكل منهما القدرة على إحباط الآخر. ولأن العلاقة الأميركية – الإسرائيلية تبقى قلعة من قلاع النفوذ الأميركي في المنطقة، وتبقى مهمة أكثر من عملية السلام وأبعد منها، فإن فريق الدراسات يوصي بأن:

1)  توضح السياسة الأميركية أن غاية الولايات المتحدة ليست صفقة أميركية تفرض على إسرائيل، بل صفقة إسرائيلية – عربية تكفلها علاقة أميركية – إسرائيلية وطيدة.

2)  تقنع سياسة الولايات المتحدة إسرائيل بالإقدام على مخاطر السلام، مطمئنة إلى أنها لن تقدم على هذه المخاطر وحدها، من دون دعم أميركي موثوق به.

3)  لا يُعد مجمل العلاقات الثنائية، ولا سيما المشاريع الإنسانية، رهائن لعملية السلام. ويصح هذا تخصيصاً على ضمانات القروض للمهاجرين اليهود من الاتحاد السوفياتي السابق. لقد توصل الرئيس إلى تأخير هذه القضية من أجل إطلاق عملية السلام. أما وقد انطلقت هذه العملية، فإن على الولايات المتحدة وإسرائيل أن تعودا إلى صيغة المساعدات المجرَّبة التي عملتا بها في الماضي:

أ)  تتعهد إسرائيل عدم استعمال الضمانات وراء حدود "الخط الأخضر" لسنة 1967. وينبغي لهذا التعهد أن يستمد قوة جديدة من جراء التزام حكومة رابين – خلافاً لسابقتها – لجم أنشطة الاستيطان وتحويل أولويات الميزانية نحو إيجاد فرص جديدة للعمل واستيعاب المهاجرين داخل حدود "الخط الأخضر".

ب)  يجب أن تكون شروط الضمانات والمشاريع نفسها سليمة اقتصادياً. ولهذا الأمر أهمية خاصة، لأن الضمانات ليست مساعدات خارجية بل وسيلة تمكن إسرائيل من اقتراض الأموال بفوائد أدنى.

إن أشد صور التأثير الأميركي في إسرائيل فاعلية يكمن في حافز المفاوضات الحقيقية. وكما لاحظ وزير الخارجية جورج شولتس مرة، فإن "السلام هو الحافز". فبقدر ما تستطيع واشنطن أن تقنع شركاء إسرائيل العرب في المفاوضات بأن يفصحوا قولاً وفعلاً عن رغبتهم في سلام حقيقي مع إسرائيل واستعدادهم لحمل مخاوف إسرائيل الأمنية على محمد الجد، فإنهم سيجدون حليفاً جاهزاً في الرأي العام الإسرائيلي والرأي العام الأميركي. أما التلاعب بالتزامات الولايات المتحدة الأساسية تجاه إسرائيل، فيمكن أن يولِّد أزمة في العلاقات الأميركية – الإسرائيلية لكن من غير المرجح أن يثمر تقدماً في مفاوضات السلام، فكيف به يثمر اتفاق سلام.

3- "الترابط، والتعاقب، وتعددية الأطراف"

              إن مؤتمر مدريد، الذي حُدِّدت صلاحياته بعناية، قد أدى الآن إلى المحادثات الثنائية. لكن إغراءات الترابط ومخاطره ما زالت باقية. فمن ذلك أن ثلاث جولات ثنائية وواحدة متعددة الأطراف قد اشتملت على مقدار من المصالح المتداخلة والمتضاربة للأطراف يكفي لـ"يتخالطوا ويتنافسوا" بحسب ما تسنح الفرصة لهم، بحيث يسعى كل طرف منهم للتعويض في إحدى جولات التفاوض مما عجز عن تحقيقه في جولات أُخرى. وهذه ليست تحركات تكتية فحسب. فالجولان، مثلاً، لا يمكن أن تنظر سوريا وإسرائيل إليه بمعزل عن مصير الحدود اللبنانية، أو بمعزل عن توازن القوى على الجبهة الشرقية.

ومما يزيد الأمر تشويشاً أن عدد جولات التفاوض الجارية والعلاقات المعقدة بين الأطراف تثير مشكلات التعاقب وتعددية الأطراف التي ووجهت من قبل. أية مفاوضات يجب أن يركَّز عليها أكثر من غيرها: المفاوضات الإسرائيلية – السورية – اللبنانية أم الإسرائيلية – الفلسطينية – الأردنية؟ هل يجب أن يعلق التقدم في القضايا المتعددة الأطراف بانتظار التقدم في المفاوضات الثنائية؟ هل يجب أن تسعى الولايات المتحدة لجعل وتيرة التقدم متساوية تقريباً في المفاوضات كلها؟

أفضل دليل في هذه المتاهة لا يزال يتمثل في المصالح المتداخلة المشتركة، أو بعبارة أخرى، كون هذا الصراع أو ذاك قد أضحى "ناضجاً" للحل. ينبغي ألا تكون واشنطن في وضع من يكبح التقدم الممكن في مجال ما لأن الفرقاء ما زالوا متأخرين في مجال آخر.

وقد ترتب على الولايات المتحدة، في المفاوضات مع الفلسطينيين، أن توضج أن: 1)  الحكم الذاتي لا يضمن الاستقلال لدولة فلسطينية ولا يكفل السيادة الإسرائيلية على الأراضي المحتلة. 2)  يجب أن يعمل الاتفاق بفضل قوة شروطه الخاصة: فالحكم الذاتي يمكن أن يسهِّل دبلوماسية السلام بين دولة ودولة (وهذا ما حقَّقه لمصر وإسرائيل) لكن بشرط أن تكون الدولتان قد قررتا حقاً السعي لتحقيق السلام على أسس ثنائية سليمة. وبالعكس، فإن من شأن عملية سلام واسعة مشتملة على مفاوضات ثنائية بين دولة ودولة أن تعمل على تشجيع اتفاق الحكم الذاتي لكنها لن تكون بديلاً من اتفاق إسرائيلي – فلسطيني ذي فعالية بالنسبة إلى الفريقين.

والوفد الفلسطيني مدين، أكثر من أي وفد آخر، بشرعيته للمفاوضات نفسها. والوفد يواجه، كما أُشير سابقاً، تنافسات ومخاطر داخلية حادة، ويمشي على حبل مشدود من الضغوط المتجاذبة، ليس أقلها رغبة منظمة التحرير الفلسطينية في أن تستمد شرعيتها من وقائع المفاوضات، اي أن تستعيد التأييد الدولي والخليجي الذي فقدته من جراء انحيازها إلى جانب العراق.

على الولايات المتحدة أن تشق دربها الضيق الخاص هنا فلا تتوه في دغل يحولها إلى عرّاب الوفد الفلسطيني ولا إلى إخراج عرفات من مأزقه، وإنْ من دون قصد. فبناء السلطة الفلسطينية يأتي من إقناع الفلسطينيين بالتفاوض الجاد على حكم ذاتي انتقالي (لا على "دولة بلا عَلَم")، ومن إقناع الفلسطينيين والإسرائيليين بتحسين الوضع على الأرض مع المضي في المفاوضات.

إن أي اتفاق إسرائيلي – فلسطيني انتقالي يتم التوصل إليه قبل أي تقدم من الجانب السوري سيعرض هذا الاتفاق للمعارضة السورية. لكن السلوك على غير هذا النهج سيمنح أقل الفرقاء رضا فرصة تعطيل الاتفاق مع أكثرهم رضا بالاتفاق. ثم إن الخوف من العزلة قد يتيح حافزاً يحمل سوريا على حثِّ الخطى في المفاوضات.

والولايات المتحدة تواجه خياراً صعباً: فالعداوة الإسرائيلية – السورية إذا ما انفجرت حرباً، فإنها ستكون أعنف وأخطر من أية حرب على جبهة أُخرى، بينما تجد في الوقت نفسه أن المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية قد تكون واعدة أكثر بالتقدم الدبلوماسي. لذلك يجب على واشنطن أن تستعمل أحد الخيارين لتشجع الآخر: ينبغي أن توضح أنها ستعمل على منع الفيتو السوري من التأثير في تقدم المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، وأن أفضل الخيارات المتاحة أمام سوريا هي المفاوضات الجادة مع إسرائيل.

يجب أن تكون الولايات المتحدة مستعدة لأن تبين لسوريا أن البديل من المفاوضات ليس الحرب أو عرقلة المفاوضات بل تعميق عزلة سوريا وإحباط أهدافها إحباطاً تاماً.

وجملة القول: إن الولايات المتحدة تحتاج إلى تعزيز اقتناع دمشق بأن ليس أمامها خيار حقيقي للحرب لا على إسرائيل ولا الدبلوماسية الفلسطينية – الأردنية الرامية إلى بلوغ اتفاق مع إسرائيل. لكن ينبغي أن تطمئن دمشق في الوقت نفسه إلى أن الباب مفتوح للمفاوضات الجادة. وهذا يقتضي من الولايات المتحدة أن تلتفت إلى التطورات الإقليمية في توازن القوى أيضاً. فإذا ما صنعت "جبهة رفض" جديدة من حطام الجبهة القديمة، وقامت هذه المرة على تحالف قائم أصلاً بين سوريا وإيران مع إضافة وزن العراق إليها، فإن سوريا ستكون قد وجدت بديلاً من إنهاء الصراع مع إسرائيل.

وإذا انتقلنا الآن من هذه الاعتبارات العامة إلى تفصيلات المفاوضات نفسها، فإن على الولايات المتحدة أن تنظر فيما يلي:

على الجبهة الإسرائيلية السورية: قد تحتاج صيغة "الأرض في مقابل السلام" إلى تهذيب، أو على نحو أدق، إلى إخراج تعاقبي على مراحل. فإسرائيل وسوريا كلاهما تريد التغيير. لكن رغبة إسرائيل في أن يكون هناك سوريا أقل عدائية وخطراً قد لا تلبيها سوريا الأسد. كذلك فإن رغبة سوريا في استرجاع هضبة الجولان من دون عقد سلام لن تلقى التجاوب من إسرائيل. إن هذا الميدان الدبلوماسي الوعر، الذي تأكدت وعورته في المفاوضات الثنائية، يوازي وعورة أرض الهضبة التي لا مجال فيها إلا للقليل من التسويات الإقليمية غير المؤثرة جذرياً في المواقع العسكرية للجانبين.

وما لم يُتَوَصَّل إلى اختراق جديد، إما من جهة الأرض وإما من جهة السلام، فإن على الولايات المتحدة أن تنظر في الترويج لاتفاق فك اشتباك من نوع اتفاق الجولان الثاني. وقد ينطوي اتفاق كهذا على تخفيض كبير للانتشارين العسكريين الإسرائيلي والسوري من شأنه أن يعمل على بناء الثقة بدوافع كل من الطرفين، ويؤذن بترتيبات قد تستلزم نزعاً جوهرياً للمظاهر العسكرية. وفي تقدير نفر غير قليل من أعضاء فريق الدراسات أنه لا بد حتى لهذا الإجراء الانتقالي من أن ينطوي على تنازل إقليمي، أي على انسحاب إسرائيلي، وإنْ يكن جزئياً ورمزياً، من خطوط وقف إطلاق النار الحالية. ولا بد له أيضاً من أن يشتمل على عنصر سياسي، أي على التزام سوري بإلغاء حال الحرب، وجدول زمني لتحديد الوضع النهائي للهضبة. ومن العناصر المهمة في أية ترتيبات بناء ثقة من هذا القبيل وفاء سوريا بتعهداتها بحسب اتفاق الطائف، ولا سيما ما يتعلق منها بتجريد الميليشيات التي تضايق إسرائيل على حدودها الشمالية من السلاح. إذ لا يمكن أن يتوقع من إسرائيل أن تقبل اتفاقاً في الجولان يترك المجال مفتوحاً أمام إمكان القيام بمضايقتها على الحدود اللبنانية.

وفي تقدير بعض أعضاء فريق الدراسات أن الاتفاق الانتقالي ينطوي على كثير من المخاطر وقليل من المزايا لكل من الجانبين. فإذا ما تبين أن اتفاقاً كهذا غير قابل للتنفيذ، فإن ثمة فكرة أُخرى تستحق الفحص وهي أن تستأجر إسرائيل هضبة الجولان مدة طويلة. ومن الممكن في ترتيب كهذا أن تعاد السيادة الرسمية إلى سوريا مع الزمن لكن مع بقاء حضور إسرائيلي لحماية مصالح إسرائيل الأمنية.

أما في المدى البعيد، فلا بد لأي حل أمني عملي لمسألة الجولان من أن يلبي مشكلة إسرائيل العسكرية الجوهرية: فهي تحتاج إلى إنذار مبكر ووقت للتعبئة السريعة ضد أي هجوم سوري. وليس نزع السلاح وتخفيض القوات إلا أجزاء من الصورة، وذلك بسبب القدرة السورية على التعزيز السريع، وقد تُقدم التطورات التكنولوجية الحديثة مزيداً من المؤازرة إلى إسرائيل في هذا المجال، لكن لا بد لذلك من أن يمتحن امتحاناً دقيقاً قبل أن تفكر إسرائيل في الانسحاب من أرض كانت تستعمل لقصف المدن الإسرائيلية قبل سنة 1967.[8]

وتعزِّز هذه الإمكانات الفكرة القائلة أن من الممكن الشروع في العمل على ترتيبات دائمة في هضبة الجولان تعالج مطالب إسرائيل الأمنية وتختلف عن أحوال الوضع القائم. لكن لا بد من تلبية المطالب السياسية أيضاً. ذلك بأن الولايات المتحدة ستعرِّض مصالحها في الاستقرار للخطر إذا ما سعت لانسحاب إسرائيلي من الجولان من دون التزام سوري جاد وقابل للتثبت منه بإنهاء حال الحرب مع إسرائيل وعقد معاهدة سلام مع الدولة اليهودية.

على الجبهة الإسرائيلية اللبنانية: ليست الجبهة الإسرائيلية – اللبنانية مهمة بسبب علاقتها بالمواقع الإسرائيلية – السورية الأوسع مدى فحسب، بل أيضاً بسبب المصالح المتعلقة بلبنان نفسه. فالمصلحة الأميركية في استقلال لبنان تلحظ وجود دولة مسالمة متعددة الطوائف لا تقلق جيرانها، ولا سيما إسرائيل وتركيا، وليست معسكر انطلاق للإرهاب الدولي ولا تكون ملاذاً له. ولا يمكن لأية من هذه المصالح أن تتحقق على يد دولة مصدَّعة، أكانت تحت السيطرة السورية أم تحت رحمة إرهاب حزب الله المدعوم من قبل إيران.

يجب على الولايات المتحدة أن تنظر إلى الاتفاق اللبناني بما هو أداة "بناء ثقة" تلطف الاحتكاكات الإسرائيلية – السورية، وطريقة لمؤازرة اللبنانيين في استعادة استقلالهم. وبصفتها ضامنة لاتفاق الطائف وداعية إلى انسحاب جميع الجيوش الأجنبية من لبنان، فإن على الولايات المتحدة أن تمتحن جميع الاقتراحات التفاوضية التي تؤمن سيطرة أكبر على الجماعات الإرهابية؛ وأن تشجع انسحاب القوات الأجنبية كلها بما فيها القوات السورية؛ وأن تعزز مكانة الحكومة اللبنانية وموقعها؛ وأن تقود إلى اتفاق سلام ملزم بين إسرائيل ولبنان وحدود آمنة بينهما.

على الجبهة الإسرائيلية الفلسطينية الأردنية: هذا المجال أوفر المجالات لمصالح متداخلة في تغيير الوضع القائم. وهو نظرياً خالٍ من أعباء التفاوض على الوضع النهائي لأنه يركِّز على اتفاق انتقالي. ولهذه الأسباب، كانت المحادثات الإسرائيلية – الفلسطينية – الأردنية في مدريد بناءة أكثر من سواها.

ومع ذلك، فقد بيَّنت المفاوضات الثنائية لاحقاً أن الأطراف تحاول، على الرغم من طابع "الانتقالية"، التأثير في الوضع النهائي للأراضي المحتلة من خلال التفصيلات السياسية والإدارية. ويبرز هذا بوضوح في المقترحات الإسرائيلية والفلسطينية للحكم الذاتي: فالإسرائيليون يركِّزون على الترتيبات الإدارية بينما يقترح الفلسطينيون "دولة بلاعَلَم". وسيكون الفلسطينيون متنبّهين إلى كيفية تأثير الحوادث الأخرى – والمفاوضات الأُخرى – في مواقفهم هم.

وفي وسع الولايات المتحدة، عند النظر إلى الاتفاق الممكن نفسه، أن تتقدم بعدة اقتراحات عملية في أثناء سعي الأطراف لتحديد طبيعة الحكم الذاتي الانتقالي ومهماته. ويمكن النظر إلى هذه المفاوضات بأنها أشبه بأحجية صور مقطعة معقدة التركيب، بعض القطع أكبر من بعضها الآخر، ومن الممكن أن تبرز الصورة الكلية أقساماً تلو أقسام، لكن لا بد من وضع القطع كلها في أماكنها في نهاية المطاف. ونحن نقترح أن تعمل المفاوضات على تجميع القطع التي يتلاءم بعضها مع بعضها الآخر بيسر وسرعة حتى في أثناء نظر المتفاوضين في تركيب الأقسام الأصعب تركيباً. لذلك، يقترح فريق الدراسات ما يلي:

1)  تحاشي الرموز ما أمكن والتركيز على السلطات الفعلية المنقولة التي سيمارسها الفلسطينيون، وتلك التي ستشاركهم إسرائيل والأردن فيها، وتلك التي ستحتفظ إسرائيل بها لنفسها.

2)  ينبغي التوصل إلى الاتفاق سريعاً على بعض السلطات وينبغي أن يبدأ الفلسطينيون ممارستها، متى كان ذلك ممكناً عملياً، حتى قبل التوصل إلى اتفاق شامل. وسيؤدي ذلك إلى بناء الثقة وسيمنح المفاوضات شيئاً من الاندفاع. ومن البدائل من ذلك إمكان إحداث تغييرات في إدارة الحكم العسكري الإسرائيلي من شأنها تحسين العلاقات المتبادلة، ولا سيما في المجال الاقتصادي، حيث يمكن تشجيع الاستثمارات المحلية والخاصة والأجنبية لكن بشرط أن تكون القوانين المتفق عليها دائمة، أي ألاّ تكون عرضة للإلغاء المفاجئ.

3-  يجب أن يستدرج الأردن، الذي سيتأثر بنتيجة هذه المفاوضات، إلى المشاركة في بعض المجالات التي يستطيع أن يساهم فيها. وتشتمل هذه المجالات على التجارة الخارجية والداخلية، ولا سيما التجارة المتبادلة بين الأردن والضفة الغربية وإسرائيل (إذ إن التجارة ذات الاتجاه الواحد قائمة). كما أن الأمن سيكون لعمان دور مهم فيه، مثلما سبقت الإشارة، سواء في مجال الأمن الخارجي أو في مجال مكافحة الإرهاب.

4)  وفي حين أنه يجب أن يكون المتفاوضون قادرين على إعلان أسهل عناصر الاتفاق من وقت إلى آخر، فإن السيطرة على الأراضي والموارد المائية والأمن ستكون هي القضايا الحاسمة. وبصورة أساسية، فإن الصيغة التي وضعها فريق بيغن – شارون سنة 1982، وهي عبارة عن فيتو متبادل في شأن تنمية الموارد المائية والأراضي، تترك في جورها للفريقين بت ماهية القاعدة: هل هل التعاون أم الطريق المسدود؟ أما في شأن الأمن، فإن التعاون الإسرائيلي والفلسطيني والأردني سيكون ضرورياً إذا أُريد لأي شيء أن يتحقق، وعندها فقط تستطيع إسرائيل أن تتخلى بالتدريج وببطء عن إلحاحها على السيطرة التامة في هذه المنطقة الحيوية.

5)  تمثل المستوطنات حالة خاصة بسبب دلالتها الرمزية (والفعلية) بالنسبة إلى الفريقين. فكل اتفاق على الحكم الذاتي الفلسطيني يخفق في تعديل برنامج الاستيطان الإسرائيلي لن يلبي شروط النجاح في الامتحان الفلسطيني. وكل اتفاق ينكر إنكاراً تاماً حق إسرائيل في الاستيطان لن يلبي شروط النجاح في الامتحان الإسرائيلي.

نظراً إلى الدور الاستراتيجي الذي تقوم قضية المستوطنات به، بالنسبة إلى الإسرائيليين والفلسطينيين على السواء، فمن غير المرجح أن يتم اتفاق منفصل خارج طاولة المفاوضات يكون من شأنه مبادلة تجميد موقت للمستوطنات بتعليق المقاطعة العربية أو بتعليق الانتفاضة، حتى لو كان مكمَّلاً بضمانات القروض الأميركية. ذلك بأن تلك الأفكار كلها مما يصعب رصده ومما يكتسي دلالات مختلفة باختلاف الفرقاء. فمن ذلك أن "تجميداً" يحول دون إنشاء مستوطنات إسرائيلية جديدة قد يكون أمراً يسهل تطبيقه (من حيث ما هو مخالف لفكرة "تكثيف" المستوطنات القائمة، أي توسيعها). لكن في أية حال، ما من حكومة إسرائيلية سترضى بأن يشمل التجميد مدينة القدس. ومن ذلك أن وقع المقاطعة الحالية على إسرائيل ليس كبيراً ولن يكون تعليق المقاطعة أمراً يسهل رصده. كما أن أي وقف للانتفاضة غير قابل للتطبيق من شأنه أن يضع الاتفاق كله تحت رحمة رماة الحجارة.

في الماضي تأثرت سياسة الاستيطان الإسرائيلية بالافتقار إلى الأموال أو بالحافز على بلوغ اتفاق سريع بعد اتفاق كامب ديفيد سنة 1978. أما الآن، فإن حكومة رابين ملتزمة لجم نشاط الاستيطان "السياسي" وتغيير أولويات الميزانية، واضعة حداً لنيّات الليكود المفرطة في العظمة. وإذا كان ممكناً التوصل في نهاية المطاف إلى اتفاق إخضاع الأراضي والمياه لفيتو متبادل، فإن من شأن ذلك أن يؤثر في خطط الاستيطان الإسرائيلي كافة. لذلك، فقد آن الأوان لتحويل مسألة المستوطنات من قضية خلاف بين الولايات المتحدة وإسرائيل إلى قضية تعالَج ضمن المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية.

على الجبهة المتعددة الأطراف: نظراً إلى التباين في طبيعة مصالح الفرقاء المشاركين، فإن المحك الأساسي لهذه المفاوضات هو هل إنها ستؤدي إلى زيادة الثقة بين فرقاء المفاوضات الثنائية أم إلى تناقصها. ومن علامات هذه الثقة أن تسري قواعد مدريد. فعلى الولايات المتحدة وروسيا المهتمتين باشتمال فرق العمل الخاصة باللاجئين على ممثلين للاجئين الفلسطينيين أن تشدِّدا على أن يضم الوفد الفلسطيني ممثلين من منطقتي غزة والضفة الغربية مقبولين لدى إسرائيل وقادرين على دعم المطالب الفلسطينية. لذلك يجب على الولايات المتحدة أن تسعى لتركيز المناقشات بسرعة حول:

1) مستلزمات السلام الاقتصادية، ولا سيما من حيث تعلقها بالمياه وبإعادة توطين اللاجئين وبالتنمية الاقتصادية.

2)  خطة موسعة لتنمية اقتصادات الشرق الأوسط تنمية سريعة.

3)  قيود على التسلح في المنطقة تحد من أسلحة الدمار الشامل، وانتشار الصواريخ، والأسلحة التقليدية، والقوات الجاهزة الكثيفة المعدَّة للعمليات الهجومية، [من أجل الاطلاع على التوصيات المحدَّدة، أنظر: التقرير السابق الذي أعدته المجموعة الاستراتيجية بعنوان  After the Storm: Challenges for America’s Middle East Policy, Chapter 2].

لا بد لهذه القضايا من أن تتعلق، ضرورة، باتفاقات ثنائية ممكنة، لكن تقصي هذا الموضوع يجب أن يستمر ما دام من الممكن المضي في أية عملية مفاوضات.

ثمة مجالات عدة ذات أهمية اقتصادية جاهزة للعمل الفوري:

  • قضايا المياه. للقضايا المتعلقة بالمياه وجهان: 1) الحاجة البيِّنة إلى التشارك في موارد المياه المتاحة لإسرائيل والأردن والفلسطينيين وزيادتها؛ 2) مواقف تركيا والعراق وسوريا من تدفق نهر الفرات. وستساهم المشاريع المتعددة الأطراف المصممة لزيادة موارد المياه لجميع الفرقاء في تيسير التفاوض بشأن استعمال الموارد المتاحة الآن. وسيكون من المفيد جداً أن يتمكن الفرقاء من التناقش والتشارك في التكنولوجيات المتعلقة بمعالجة مشكلة المياه.
  • تلوث خليج العقبة. إن التلوث يسيء إلى القطاع السياحي الواسع. وقد توسطت الولايات المتحدة في عقد بعض اللقاءات غير الرسمية بين إسرائيل والأردن ومصر والعربية السعودية – أي الدول المطلة على الخليج. ومن شأن هذه اللقاءات أن تمكِّن الأردن من متابعة مصالحه المشتركة مع إسرائيل بعيداً عن القيود الفلسطينية وربما مكّنه من إعادة بناء علاقاته بمصر والعربية السعودية.
  • إجراءات مراقبة الملاحة الجوية. إن امتيازات التحليق شائعة في مناطق أخرى من العالم بين دول ليس بينها علاقات دبلوماسية (ولا سيما التحليق الأميركي فوق كوبا)؛ فالإسرائيليون سيستفيدون من التحليق فوق السعودية في الطرق المؤدية إلى آسيا، كما أن دول الخليج والأردن ستستفيد من الطرق الأقصر إلى أوروبا الجنوبية من دون الاضطرار إلى الالتفاف والتحليق فوق سوريا ومصر.
  • التشارك في الربط الكهربائي. إن الربط بين مناطق ذات استهلاك عال في مواسم مختلفة يتيح مكاسب تتعلق بالتكاليف والضمانة ضد نتائج تعطل محطات التوليد الكبرى. وثمة وصلة صغيرة في طور الإنشاء الآن بين الشبكتين المصرية والأردنية تحت خليج العقبة، لكن التكلفة ستكون أقل لو أنها تمرُّ فوق الأرض عبر إسرائيل. ومن شأن الربط الكهربائي بين الدول العربية (مصر – دول مجلس التعاون الخليجي) أو حتى بين تركيا والدول العربية، أن يكون أوفر اقتصادياً.

كَبْلات بصريات الألياف*. إن خطاً يربط أثينا بإسرائيل، مع فرع إلى القاهرة – الأردن الكويت – البحرين – الرياض، قد يكون جذاباً. فهذه الكبلات تتيح اتصالات أرخص وترابطاً أسرع بين الحاسبات الإلكترونية.

 

استنتاجات

              إن توصياتنا المتعلقة باستراتيجية أميركية لتشجيع عملية صنع السلام العربية – الإسرائيلية يمكن تلخيصها في النقاط العامة التالية:

1)  ينبغي أن تدخل السياسة الأميركية بشأن الصراع العربي – الإسرائيلي نطاق سياسة أميركية أعم حيال المنطقة كلها، مع التنسيق بين السياستين بحيث تعزِّز كل منهما الأخرى.

2) على الرغم من مجيء حكومة إسرائيلية جديدة ملتزمة تحقيق التقدم في عملية السلام، فإن المناخ السياسي السائد حالياً والمؤاتي لمفاوضات السلام قد لا يدوم مهما يكن من مساعينا الخيرة كلها. ينبغي لنا أن نقر بأن نجاح أو فشل السياسات الأميركية في أماكن أُخرى من المنطقة، كالخليج مثلاً، قد يخلِّف وقعاً في المفاوضات.

3)  أما وقد تم ترتيب المفاوضات المباشرة، فيجب أن تشجع الولايات المتحدة الفرقاء على تحديد المصالح المشتركة والتفاوض بشأن الخلافات.

أ)  على الجبهة الإسرائيلية – السورية – اللبنانية، تبدو الترتيبات الانتقالية، التي تنطوي على تغيرات إقليمية وسياسية طفيفة مع تلطيف واضح للمخاطر العسكرية، أكثر ترجيحاً من خطوة انتقالية إلى تسوية نهائية.

ب) على الجبهة الإسرائيلية – الفلسطينية – الأردنية، لا يمكن لإطار الحل الانتقالي أن يعمل إلا إذا ركَّز الفرقاء على نقل بعض السلطات المحدَّدة المحدودة إلى حكم ذاتي فلسطيني، فضلاً عن ترتيبات أمنية قابلة للتنفيذ. والمستوطنات الإسرائيلية يمكن التعامل معها في هذا السياق، وربما باعتبارها نتيجة ثانوية لفيتو متبادل في مجالات المياه وتطوير الأرا        ضي. إن معالجة هذه القضية يجب أن تتم هنا، لا في سياق العلاقات الأميركية – الإسرائيلية.

4) ثمة مجال للوساطة الأميركية النشيطة في ظل الشروط التالية: جهود حسنة النية من قبل الأطراف للتوصل إلى أسس مشتركة؛ مواقع متقاربة تقارباً يمكن الولايات المتحدة من أن تتقدم بمقترحات حلول وسطى أو بضمانات تخفض المخاطر؛ استعداد الأطراف لقبول التدخل الأميركي.

5) سيستلزم التقدم في عملية السلام تعميقاً للثقة والتنسيق بين الولايات المتحدة وإسرائيل، نظراً إلى أن الثقة والتنسيق قد تعرضا للشك بعد الخلافات الأخيرة. وتحت السطح تكمن القضية الأعمق، وهي هل سيستمر التحالف الأميركي الإسرائيلي من دون تغيير جوهري في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. وقد رأينا أن الخطر السوفياتي وإن لم يعد يجمع البلدين معاً، فإن إسرائيل والولايات المتحدة لا تزالان تواجهان في الشرق الأوسط مناخاً معادياً للغرب وللديمقراطية. وإن هذا الواقع، فضلاً عن سياساتهما الديمقراطية المشتركة، بما فيها السعي للسلام، يربط إسرائيل والولايات المتحدة معاً على الرغم من الاختلافات التكتية وتصورات الاتفاق النهائي. أما في غياب الثقة، فمن المرجح ألاّ تتمكن إسرائيل ولا الولايات المتحدة من ضمان أهدافهما الكبرى. ومع مجيء حكومة جديدة في إسرائيل، ينبغي للولايات المتحدة وإسرائيل أن تشرعا في مناقشات رفيعة المستوى من أجل تنسيق المواقف لتحقيق غايات الفريقين المشتركة.

6) لا تزال الولايات المتحدة تجد في مصر والسعودية العربية حليفين مهمين يعطياننا، مع إسرائيل وتركيا، رجحان القوة في المنطقة. وإن من شأن عملية السلام إذا ما أديرت على النحو الملائم أن تحتوي سوريا وألاّ تدع أمامها خياراً أفضل من مسايرة السياسة العامة لهذا التجمع. أما الفلسطينيون الذين طالما عانوا السياسات العربية – العربية، فسيجدون حوافز جمة للانضمام إلى اتفاق تدعمه هذه الأطراف. ومن العوامل المهمة في هذه المقاربة سعي الولايات المتحدة الحثيث لصيانة وتعزيز السلام المصري – الإسرائيلي وإتاحة الفرصة، إجمالاً، لدور مصري بنّاء في توسيع السلام. لكن هذا يستلزم أيضاً رغبة مصرية مجدَّدة للقيام بهذا الدور.

7)  ستستلزم عملية السلام أيضاً بعض الترتيبات المتعددة الأوجه، والحماية. ففي حين تظل الولايات المتحدة القوة الأقدر على تسهيل المفاوضات بسبب ما لها من نفوذ فريد عند الفرقاء، فإنه ينبغي لواشنطن ألا تتحمل كل الأعباء في العمل على إحلال السلام. ففي وسع أوروبا واليابان وغيرهما من الدول في المنطقة أن تقدم حوافز مالية وسياسية مهمة لتحقيق التقدم.

8) ولا بد لنجاح عملية السلام من أن تشتمل على اتفاقات للحد من التسلح تخفِّض تصدير الأسلحة المخلة بالاستقرار إلى المنطقة. وعلى المدى القصير، يجب أن يتم التركيز على القيود المتعددة المفروضة على المصدِّرين، فضلاً عن إجراءات بناء الثقة بين دول المنطقة.

9) أخيراً، على الرغم من أن النزاع العربي – الإسرائيلي والشرق الأوسط ككل ما عادا يمثلان ساحو ممكنة للمواجهة بين الجبارين، فإن المصالح والقيم الأميركية ما زالت مرتبطة ارتباطاً حيوياً بالمنطقة. ويجب أن يكون جعل هذه المصالح والقيم آمن، وبأقل قدر ممكن من المخاطر علينا وعلى حلفائنا، هو الهدف الأساسي للسياسة الأميركية في الأعوام المقبلة. هذه هي فرصة الشرق الأوسط، وهذا هو التحدي الماثل أمامه في حقبة ما بعد حرب الخليج وما بعد الحرب الباردة.

[.......]. 

 

*   ندرج فيما يلي الأسماء من دون المناصب: مادلين أولبرايت، ج. برايان أتوود، ليس أسبِن، غرايم بانرمان، أَلفن برنستاين، باتريك كلاوسون، إليوت كوهين، وليام س. كوهين، ستيوارت أَيزنستات، مارفن فويرفرغر، ألكسندر هيغ، تشارلز هيل، روبرت هنتر، مارتن إنديك، جيفري كِمب، جين كيركباتريك، تشارلز كراوتهامر، صمويل و. لويس، روبرت ليبر، إدوارد لوتواك، مايكل ماندلباوم، روبرت مكفرلين، والتر مونديل، ريتشارد مورفي، روبرت موري، لوري ميلروي، جين نولان، صمويل نَنْ، دانييل بايبس، ألان بلات، جيمس روش، بيتر رودمان، روبرت ساتلوف، هارفي زيشرمان، والتر سلوكومب، ستيفن سبيغل، دوف زكهايم.

[1]   من الأفكار التي دار نقاش ساخن بشأنها فكرة إجراء انتخابات توسع دور أهل الداخل في المجلس الوطني الفلسطيني، على أن يعقب ذلك اتفاق على كونفدرالية مع الأردن، حتى قبل التفاوض مع إسرائيل. أنظر مثلاً:

Radi Jerrai, al-Fajr (English Weekly), April 1, 1991, p. 4 and others; al-Fajr, April 8, 22 and 28.                                                                                                              

[2]   مقابلة في: Journal of Palestine Studies, Vol. XX, No. 4, Summer 1991, p. 107.

[3]   من أجل مزيد من المعلومات بشأن مواقف الفلسطينيين ومواقعهم، أنظر:

Harvey Sicherman, Palestinian Self-Government (Autonomy): Its Past and Its Future, Policy Paper No. 27 (Washington, D.C.: The Washington Institute for Near East Policy, 1991).

[4]   من أجل تحليل لسيرة الملك حسين منذ أواسط الخمسينات حتى أزمة الخليج، أنظر:

Uriel Dann, King Hussein’s Strategy of Survival, Policy paper No. 29 (Washington D.C.: The Washington Institute for Near East Policy, 1992).

[5]   Dann, op.cit., p. 58.

[6]   يصف المسؤولون الأردنيون الرسميون عملية الهجرة هذه بأنها اضخم من هجرة سنة 1967، وأشد إيذاء منها في المستقبل، لأنه لم يعد من الممكن توقع أية تحويلات مالية من الخليج. أنظر:

Mideast Mirror, August 14, 1991. 

لكن على المدى البعيد يؤمل بأن يصبح هؤلاء الأشخاص الذين يتمتعون بالمهارات العالية قوة اقتصادية – هذا إذا وجدواعملاً. أنظر أيضاً:

Ann M. Lesch, “Palestinians in Kuwait,” Journal of Palestine Studies, op.cit., Summer 1991.                                                                                                  

 

[7]   أنظر:

Aryeh Shalev, “Autonomy: problems and Possible Solutions,” Jerusalem Quarterly, No. 15, Spring 1980, p. 14.

[8]   فضلاً عن أقمار الاستطلاع والإنذار الصناعية التي تملكها، فإن إسرائيل ستستفيد من:

  • وسائط جوية غير آهلة (UAVs) شديدة الاحتمال من أجل تحديد مواقع أنظمة عسكرية معينة بمؤازرة من تكنولوجيا أنظمة رادار مسح الهدف ومهاجمته (JSTARS)، مثل تلك التي استخدمت في إبان حرب الخليج؛
  • متفجرات وألغام تجهّز من بُعد وتُقذف إما من الجو وإما من مدافع.

 *  fiber optic cables، وهي من أحدث الطرق التي تؤمن اتصالات مرئية سريعة بتكاليف معقولة. (المحرر)