الفلسطينيون في لبنان: الوضع العام والمشهد من عين الحلوة
كلمات مفتاحية: 
الوجود الفلسطيني في لبنان
فلسطينيو لبنان
لبنان
الأونروا
اتفاق أوسلو 1993
المساعدة الاقتصادية
المعونات الخارجية
مخيم عين الحلوة للاجئين
نبذة مختصرة: 

تذهب الدراسة إلى أن المرء لا يستطيع أن يفهم وضع الفلسطينيين في لبنان من دون أن يضعه في الإطار السياسي الدولي والإقليمي، الذي يؤثر من خلال السياسات الرسمية اللبنانية والمواقف غير الرسمية. فتعالج الموضوع تحت العناوين الفرعية: سياسات المساعدات الدولية؛ مستقبل الأونروا؛ الإطار الإقليمي؛ وضع الفلسطينيين في لبنان بعد أوسلو؛ المشهد من عين الحلوة؛ بانتظار رسالة جديدة.

النص الكامل: 

يشكل الفلسطينيون في لبنان حالة خاصة من عملية تهميش مسألة اللاجئين في صيغة "المسارين" التي أطلقها بيكر في مدريد (تشرين الأول/أكتوبر 1991)، والتي ختمت منظمة التحرير عليها بختم الموافقة في اتفاق أوسلو. وفي حين أن اتفاق أوسلو افتأت على حقوق اللاجئين الفلسطينيين أينما كانوا، فإن اللاجئين في لبنان يعانون القلق إزاء المستقبل إلى حد لا مثيل له في أي مكان آخر، لأنهم مرفوضون من إسرائيل ومن لبنان على السواء. ولمّا كانوا قد جاؤوا من الجليل والمدن الساحلية، لا من غزة ولا من الضفة الغربية، فإن عودتهم تواجه رفضاً إسرائيلياً قاطعاً. غير أن معارضة توطينهم في لبنان هي من القضايا القليلة التي يُجمع الحكم والرأي العام عليها عبر أكثر الطوائف. ومع تصاعد الضغوط الدبلوماسية الدولية لتصفية مسألة اللاجئين، فإن استبعاد اقتدار لبنان على مقاومة الضغوط الهادفة إلى التوطين تنذر بالصعوبات للاجئين فيه.

ولا يستطيع المرء أن يفهم وضع الفلسطينيين في لبنان من دون أن يضعه في الإطار السياسي الدولي والإقليمي، الذي يؤثر فيهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة من خلال السياسات الرسمية اللبنانية والمواقف غير الرسمية. فالعوامل الدولية والإقليمية واللبنانية تتفاعل فيما بينها لتولد وضعاً متدهوراً باستمرار بالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين، ولا سيما القطاع الأفقر والأشد قابلية للعطب.

سياسات المساعدات الدولية

منذ أوسلو، بات تحويل المساعدات الدولية إلى الأراضي المحتلة (ولا سيما غزة) بعيداً عن اللاجئين في الخارج أوضح المؤشرات على الإجماع الدولي على حل للنزاع العربي - الإسرائيلي مبني على تصفية "مشكلة اللاجئين". جاءت الخطوة الأولى في هذا الاتجاه في مؤتمر مدريد سنة 1991، يوم أدت صيغة المسارين التي قدمها بيكر، والتي فصلت اللاجئين إلى لجنة متعددة الأطراف، إلى إضعاف ميراثهم التاريخي من قرارات الأمم المتحدة، وفرَّقتهم في المفاوضات الثنائية بين إسرائيل والدول المضيفة. فقد أفلحت إسرائيل، بُعَيْد مدريد، في وضع اللاجئين في جدول المفاوضات مع الأردن، ومنذ ذلك التاريخ بدأت مساعدات الأونروا وم.ت.ف. للاجئين في لبنان تتناقص، وسبقت الجمعيات الفلسطينية غير الحكومية إلى الإحساس بالتغير في دعم الجمعيات الدولية غير الحكومية التي كانت تمدها بالمساعدة.[1]

ولمّا كانت الأونروا المصدر الأول لمساعدة اللاجئين، فإن المقابلة بين مخصصاتها في حقول عملها الخمسة منذ مدريد تتيح نظرة واضحة إلى الانحياز في التوزيع. فاللاجئون في لبنان غدوا يتلقون من الأونروا كمية أقل من المساعدات، علماً بأنهم من دون غيرهم من اللاجئين يعانون القيود القانونية المفروضة على تشغيلهم وحصولهم على الخدمات الحكومية.[2] وفي التقرير الذي قدمته اللجنة الأوروبية إلى مجموعة العمل الخاصة باللاجئين، في كانون الأول/ديسمبر 1994، والمتعلق بالبنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية، جداول مقارنة بشأن حقوق اللاجئين في الدول المضيفة. في سنة 1992/1993 تلقى لبنان 11.8٪ من نفقات الأونروا في مقابل 31.8٪ لغزة و22.4٪ للضفة الغربية. وقد تلقى الأردن وسورية حصة أكبر من حصة لبنان: 21.2٪ و12.8٪ على التوالي. وإذا عدلنا الأرقام، آخذين في الاعتبار الحجوم المتعددة لتجمعات اللاجئين، فإن تحويل الاهتمام يظهر في توزيع المساعدات بالنسبة إلى كل فرد: فقد كانت حصة الفرد في غزة 298 دولاراً وفي الضفة الغربية 264 دولاراً، بينما كانت حصته في لبنان 204 دولارات. أمّا في سورية، فكانت حصة الفرد 230 دولاراً وفي الأردن 112 دولاراً. ويظهر في ميزانية 1994/1995 نمط مماثل؛ إذ خُصص لغزة 30.6٪ من مساعدات الأونروا (405 دولارات للفرد الواحد) وخُصص للضفة الغربية 22.9٪ (329 دولاراً)، كما حصل لبنان على 10.4٪ (254 دولاراً).[3]

والتمييز بين غزة/الضفة الغربية والدول المضيفة الثلاث يبدو بأجلى وضوح في ميزانيات الأونروا الخاصة الثلاث: التدابير الاستثنائية للبنان والأراضي المحتلة (EMLOT)؛ برنامج المساعدات الموسع (EPA)؛ برنامج تطبيق السلام (PIP). فقد حصلت غزة على سبعة أضعاف ما حصل لبنان عليه من المساعدات الملحوظة في التدابير الاستثنائية لسنة 1994/1995، و65 ضعف ما حصل لبنان عليه من برنامج المساعدات الموسع. وصُمم برنامج تطبيق السلام بُعَيد أوسلو بميزانية تبلغ 187 مليون دولار موزعة كما يلي: 76 مليون دولار لغزة؛ 46 مليون دولار للضفة الغربية؛ 65 مليون دولار تقسم على الأردن وسورية ولبنان. فبلغت تعهدات المساهمين في دعم مشاريع محددة 76 مليون دولار في غزة و46 مليون دولار في الضفة الغربية و10 ملايين دولار في الأردن وسورية ولبنان.[4] ويتم في غزة بناء مستشفى كبير يضم 232 سريراً بتمويل من المجموعة الأوروبية وبإشراف الأونروا، وبتكلفة تقدر بنصف مليون دولار، وذلك بعد أن خُطط له قبل أوسلو. وكذلك فإن المشاريع الاقتصادية موزعة بطريقة غير متوازنة. من ذلك أنه في سنة 1994/1995، خصص 46 قرضاً بقيمة 31.000 دولار للبنان في مقابل 143 قرضاً بقيمة 23.055.000 دولار.

ويظهر تحويل المساعدات بعيداً عن اللاجئين في لبنان في النفقات المتعلقة بالخدمات الأساسية: ففي سنة 1994/1995، أنفقت الأونروا 35.108.000 مليون دولار على التربية في لبنان في مقابل 109.480.000 ملايين دولار في غزة، و62.543.000 مليون دولار في الضفة الغربية، و93.697.000 مليون دولار في الأردن. أمّا في مجال الصحة، وفي الفترة نفسها، فقد أنفقت الأونروا 16.498.000 مليون دولار في لبنان في مقابل 67.010.000 مليون دولار في غزة، و35.689.000 مليون دولار في الضفة الغربية. وفي سنة 1993/1994، حصل اللاجئون في لبنان على 41 منحة دراسية جامعية في مقابل 218 في غزة، و165 في الضفة الغربية و216 في الأردن و186 في سورية. ويجب أن تُربط هذه الأرقام بحق الحصول على الخدمات العامة: فاللاجئون في الأردن وسورية مندمجون في نظامي التربية والصحة العامة. أمّا في لبنان فلا.[5] وإهمال اللاجئين في لبنان يبلغ ذروته في مجال التربية: ففي سورية التي فيها لاجئون أقل عدداً، ثمة للأونروا 111 مدرسة في مقابل 76، ويبلغ التلاميذ 60.216 تلميذاً في مقابل 33.172 تلميذاً. [6]

اعتبر فريق العمل الخاص باللاجئين، الذي دُشن في أوتاوا في أيار/مايو 1992، أن مهمته الأولى هي "المساهمة الفورية في تحسين تلبية حاجات اللاجئين الإنسانية." وقد باشر فريق العمل، المؤلف من اللجنة المتعددة الأطراف الخاصة باللاجئين برئاسة كندا ورعاية مشتركة من الولايات المتحدة وروسيا، القيام بمهمته بقوة ينوَّه بها، إلى حد أنه عند انعقاد جمعيته العامة السابعة في أنطاليا في كانون الأول/ديسمبر 1994، كان نحو مئة مشروع قد نفذ أو هو في قيد التنفيذ.[7] وتوزيع الحصص المالية لا يمكن استخلاصه من توزيع المشاريع، لكن، باستثناء 36 مشروعاً لا تتعلق بمنطقة بذاتها، بل ينتفع منها جميع اللاجئين على السواء، فإن العدد الباقي موزع على المناطق كما يلي: 23 في غزة والضفة الغربية؛ 17 في الأردن؛ 9 في سورية؛ 8 في لبنان، مع تعليق العمل بأهم مشروع فيها (مشروع الإسكان الطارئ). وفي التقرير الذي رفعه إلى القمة الاقتصادية في الدار البيضاء (تشرين الثاني/نوفمبر 1994) بشأن إنجازات فريق العمل الخاص باللاجئين، قال رئيس الفريق مارك بيرون إن 80 مليون دولار جُمعت من أجل مشاريع فريق العمل في غزة والضفة الغربية، وذلك في مقابل 10 ملايين دولار للمشاريع في الأردن وسورية ولبنان. وهذا النمط في التوزيع يعكس السياسة الدولية نفسها التي تتبعها الأونروا.[8]

والقيود على تدفق مساعدات فريق العمل والأونروا باتت أشد لأن المعونات من المصادر الأُخرى تناقصت منذ سنة 1992. فقد خفضت منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.) نفقاتها في لبنان تخفيضاً حادّاً عقب حرب الخليج. وكانت اليونيسف تمول بعض مشاريع الصحة العامة والتربية في المخيمات، لكن ميزانية الطوارئ التي كانت تنفق منها قُطعت سنة 1992 بقرار من الإدارة العامة. وفي السنة نفسها، بدأ الدعم الذي تقدمه المنظمات الدولية غير الحكومية إلى المنظمات المحلية غير الحكومية يتضاءل. وفي حين أن المنظمات غير الحكومية لا تكشف بسهولة عن تفصيلات ميزانياتها وعن مموليها، فإن كلاً ممن كان في الإمكان الاتصال بهم للحصول على معلومات خاصة بهذه الدراسة قالوا إن تخفيضات جرت منذ مؤتمر مدريد، مع أن التخفيضات كان مردها في بعض الحالات إلى حرب الخليج. من ذلك أن جمعية النجدة الشعبية التي ربما كانت تحظى بأوسع طيف من المانحين الدوليين بين المنظمات المحلية غير الحكومية، تتحدث عن انخفاض نسبته 10٪ سنة 1992 ثم سنة 1993. لكن ثمة دلائل على أن مزاج المنظمات الدولية غير الحكومية آخذ في التغير مع تلاشي الحبور الذي أعقب اتفاق أوسلو.

مستقبل الأونروا

مع أن خدمات الأونروا في لبنان ما زالت تتناقص منذ سنة 1990، فإن موت الوكالة سيكون ضربة قاسية للاجئين، ولا سيما الشرائح الفقيرة منهم، بسبب استبعاد الفلسطينيين من الخدمات العامة والوظائف. فقيمة الوكالة تكمن في الطيف الواسع من الأدوار التي تقوم بها عادة، منها: الإنعاش الاجتماعي، والخدمات الاجتماعية، والإسكان والصحة العامة، والبنى التحتية وخدماتها في المخيمات، والاستخدام، وقدر من الحماية. صحيح أن وجودها يستعمل لاستبعاد الفلسطينيين عن الكثير من برامج المساعدات الأُخرى، لكن هالتها كوكالة تابعة للأمم المتحدة رسمت حدوداً للهجمات على الفلسطينيين في لبنان، التي وسمت تاريخهم. وهي، وإنْ كانت لم تُشكَّل لتمثيل اللاجئين، فإنها تتحدث باسمهم في المحافل الدولية. وقد أتاحت للإنتليجنسيا الفلسطينية إطاراً للعمل من أجل الشعب الفلسطيني. ونظراً إلى أفول نجم م.ت.ف. مع بروز "السلطة الوطنية"، فإن بقاء الوكالة ضروري للاجئين "في الخارج"، باعتبارها الحد الأدنى من الخدمات والتمثيل. إن تصفية الوكالة واللاجئين أمر متضمن في اتفاق أوسلو.

وقد أثارت الخططُ لنقل مقر رئاسة الأونروا إلى غزة، التي أعلنها الأمين العام للأمم المتحدة بُعيد اتفاق أوسلو، قلق اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الذين رأوا فيها خطوة أولى للتصفية. ويتوقع موظفو الأونروا المحليون أن يؤدي النقل إلى تخفيض الخدمات المقدّمة للاجئين "في الخارج"، وإلى تدخل في التعيينات، وإلى تلاشي صندوق التقاعد.

وهذه المخاوف لا تزال مستمرة. ومن الجدير بالذكر أن التخوف من تصفية الأونروا برز أول مرة في لبنان سنة 1992، عندما أصدرت الوكالة بطاقات تسجيل جديدة للاجئين. ونُقل عن مصادر في الأمم المتحدة قولها إن خدمات الأونروا ستحول قريباً إلى عاتق الدولة اللبنانية.[9]

ونظراً إلى كون الولايات المتحدة المساهم الأكبر في تمويل الأونروا، فإن سياساتها موضع تساؤل بصفة خاصة. ومع أن الاجتماع الطارئ للأونروا في عمّان في آذار/مارس 1995 انتهى بتأييد استمرار الوكالة لأعوام خمسة على الأقل، فإن صحيفة "النهار" أشارت إلى وجود معارضة من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. وفي مقابلة أُجريت في عمّان، نفت مساعدة وزير الخارجية الأميركية فيليس أوكلي وجود نيات لدى الولايات المتحدة لتصفية الأونروا، لكنها أضافت أن "الولايات المتحدة تريد مناقشة أسباب العجز في ميزانية الأونروا."[10] ويعزز اليقين بأن الجمهوريين سيخفضون الإنفاق الخارجي المخاوف المتعلقة بمستقبل الأونروا. وفي ضوء مقاربة الولايات المتحدة الشاملة لـ "مشكلة اللاجئين"، فإنه يُنظر إليها هنا على أنها تهدف إلى جعل الأونروا تختفي، أولاً من خلال تفكيك دعائمها القانونية والمؤسساتية، وثانياً من خلال التطوير الاقتصادي للمنطقة، الذي من المتوقع أن يشتت ويمتص القوة العاملة للاجئين. وقد نُشرت أخبار عن بعثات أميركية إلى سورية والعراق، ناقشت مشاريع مقترحة لتوطين فلسطينيين من لبنان والأردن ومن غزة أيضاً، في البلدين المذكورين.

الإطار الإقليمي

مع أن إسرائيل وسورية هما الطرفان الإقليميان الأقوى فيما يخص لبنان وفلسطينيي لبنان، فإن هناك آخرين، وخصوصاً الأردن، يؤدون دوراً. ومنذ أوسلو، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية يجب إدراجها في الإطار الإقليمي، سواء لجهة علاقاتها المباشرة (أو فقدانها) بالفلسطينيين في لبنان، أو لجهة مفاوضاتها المقبلة مع إسرائيل بشأن مصير اللاجئين.

إن موقف إسرائيل المعارض لعودة لاجئي سنة 1948 ليس موضع شك، وينص عليه قانون أقره الكنيست، ويُعاد تأكيده في جميع المنابر ومن كل التيارات السياسية. واستعداد إسرائيل للسماح بعودة عدد قليل من "الأشخاص المشردين" (لاجئون نتيجة حرب سنة 1967) عديم التأثير تقريباً في الفلسطينيين في لبنان، الذين ينتمي معظمهم إلى لاجئي سنة 1948. وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى خطة لم شمل العائلات التي وضعها فريق العمل الخاص باللاجئين، إذ إن أقارب الفلسطينيين "اللبنانيين" يعيشون في إسرائيل، لا في غزة أو أريحا. ولا أحد يتوقع أن تكون السلطة الوطنية الفلسطينية قوية بما يكفي لانتزاع تنازلات من إسرائيل بشأن مسألة العودة، كما أنه لا يبدو أن اللاجئين يشغلون مكاناً عالياً في قائمة أولويات السلطة الوطنية. والسؤال الأكثر إثارة للاهتمام هو فيما إذا كانت إسرائيل، بالإضافة إلى رفض العودة، ستصر على توطين اللاجئين نهائياً من خلال دمجهم في الدول المضيفة، أي من خلال منحهم جنسياتها. ومثل هذا الشرط لن يكون مستساغاً، لا من جانب سورية ولا من جانب لبنان.

من السهل ملاحظة المعارضة السورية للتوطين. فالأزمة التي انفجرت في آب/أغسطس 1994، عندما اتضح أن الحكومة اللبنانية توشك أن تستخدم منحة كندية لفريق العمل الخاص باللاجئين من أجل شراء قطعة أرض كبيرة في إقليم الخروب لإسكان اللاجئين الذين لا بيوت لهم، لم تظهر فقط معاداة اللبنانيين للتوطين، بل أيضاً معاداة سورية له. وقد سحبت سورية لاحقاً موافقتها على إصلاح أوضاع مخيم للاجئين بالقرب من حلب.

ويشكل الأردن نموذجاً لسياسة حيال اللاجئين حازت استحساناً دولياً (وخصوصاً من الولايات المتحدة). فمنذ البداية منح الأردن الفلسطينيين المقيمين به الجنسية الأردنية. ومؤخراً، بإدخالهم في مفاوضاته مع إسرائيل وفي معاهدة السلام التي وقّعها معها، عزز القنوات الثنائية كوسيلة للحل. وثالثاً، قام الأردن بالدمج الكلي للاجئين ذوي الدخل المنخفض في خدماته العامة، واضعاً بذلك الأساس لنقل مهمات الأونروا إلى عاتق الحكومة. كما أن مصر تبنَّت مؤخراً السبيل نفسه، وأعلنت نيتها منح الجنسية المصرية لـ 90.000 لاجئ يقيمون بها. ويضيف وجود الأردن ومصر في اللجنة الرباعية[11]  إلى الضغوط الدولية ضغوطاً إقليمية على لبنان لحمله على السير في الطريق نفسه. وسورية فقط تقف حالياً عائقاً أمام ذلك.

أمّا سياسة السلطة الوطنية الفلسطينية حيال الفلسطينيين في لبنان، فما تتصف به في الأساس هو انعدامها. إن انخفاض اهتمام منظمة التحرير الفلسطينية بالمنطقة بدأ يتضح في تموز/يوليو 1991، عندما لم تصدر أوامر واضحة بالدفاع عن قواعد المقاومة بالقرب من عين الحلوة، عندما تحرك الجيش اللبناني، في إثر اتفاق الطائف، لتجريد جميع الميليشيات غير الرسمية من أسلحتها. وفي وقت لاحق، قطعت م.ت.ف. جميع أنواع المساعدات: مخصصات التقاعد؛ الخدمات المجانية؛ المنح الدراسية؛ الوظائف. وفي الاجتماع الطارئ الذي عقدته الأونروا في عمّان (آذار/مارس 1995)، قال ممثل السلطة الوطنية الفلسطينية، نبيل شعث، بجزم إن الفلسطينيين في لبنان ليسوا من مسؤولية السلطة الوطنية، وإنما من مسؤولية الأونروا.[12] ومع ذلك، فإن عرفات يحافظ على أنصار له في الجنوب، ويُعتقد أنه معني بتعزيز قوة الشرطة التابعة له بمجندين من لبنان.

إن أمل الشتات الفلسطيني بأن تقوم السلطة الوطنية الفلسطينية بخطوة لتأكيد تمثيلها جميع الفلسطينيين، مثلاً بإصدار جوازات سفر، لم يتحقق حتى الآن. والوفد الفلسطيني المرسل إلى اجتماعات فريق العمل الخاص باللاجئين لا يزال مستمراً في تأكيد حق اللاجئين في العودة. لكن لا أحد هنا يعتقد أن قضية اللاجئين هي بين أولويات السلطة الوطنية الفلسطينية، أو أن موقفها التفاوضي في مقابل إسرائيل سيكون قد تحسن عندما تبدأ مناقشة قضايا "الحل النهائي". وفي الحقيقة، فإن استطلاعاً حديثاً للرأي العام يدل على أن معظم الفلسطينيين في لبنان لا يعتقد أن السلطة الوطنية الفلسطينية ستنجز التحول المرجوّ من حكم ذاتي إلى دولة.[13] ومن منظور محلي، فإن السلطة الوطنية الفلسطينية هي قيادة معطَّلة.

وضع الفلسطينيين في لبنان بعد أوسلو

إن المرحلة التي تلت اتفاق الطائف، والتي تسبق تسوية سلمية ممكنة، هي مرحلة انتقالية، تتصف سياسياً بإعادة فرض سلطة الدولة والجيش بالتدريج، وبعلاقات وثيقة بسورية، وبعملية بناء سريعة وفوضوية، وبجهود لجلب استثمارات أجنبية وسياح، وبتنافس شرس واستقطاب اجتماعي - سياسي. ويقوم الفلسطينيون بدور ضئيل في لبنان "الجديد" هذا، وهم مهمشون سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؛ "طائفة" ليس لها مكان معترف به في نظام طائفي، ولم يعودوا طليعة ثورة. الأسس القديمة للتحالفات انهارت، ولم تتبلور أسس جديدة بعد. وفيما يلي أدناه نميّز بين السياسات الرسمية وبين المواقف الاجتماعية غير الرسمية.

السياسات الرسمية

تتخذ السياسات الرسمية اللاحقة لاتفاق الطائف، تجاه الفلسطينيين، ثلاثة أشكال رئيسية: 1) إعادة تأسيس السيطرة؛ 2) رفض التوطين النهائي للاجئين في لبنان؛ 3) إجراءات لإنقاص عدد اللاجئين من خلال ضغوط لدفع أعداد منهم إلى الهجرة. والاثنان الأولان يمثلان سياسة معلنة رسمياً، ويوجد بشأنها إجماع عريض داخل الحكومة وبين الحكومة والقوى السياسية اللبنانية الرئيسية. أمّا سياسة تشجيع الفلسطينيين على الهجرة، فيمكن استنتاجها من نتائجها، لكن لم يجر إعلانها رسمياً. وربما هي موجودة لدى قطاعات في جهاز الدولة، لا في الحكومة نفسها، حيث توجد بالتأكيد فوارق بين القادة الأفراد.

لقد تحركت الحكومة بالتدريج منذ اتفاق الطائف لإعادة فرض سلطتها على الفلسطينيين، بادئة بقيود على الأسلحة وبحصر عمليات المقاومة ضمن المنطقة التي يسيطر حزب الله فيها. وقد ضمن الدعم السوري لهذه الخطوات نجاعتها. إلاّ إن مخاوف الفلسطينيين من أن يعاود الجيش فرض سيطرة، على غرار ما كان سائداً قبل سنة 1969، لم تتحقق حتى الآن. فلا تزال المخيمات مستمرة في التمتع باستقلال ذاتي محدود: الجيش بقي خارج المخيمات، واللجان الشعبية لا تزال تدير شؤون الحياة اليومية. لكن عودة الدولة إلى فرض سلطتها يُلمس في مجالات متعددة كانت أعوام الحرب قد أتاحت للفلسطينيين الذين يحملون بطاقة هوية لاجئ التفلت فيها من بعض التقييدات القانونية. ومنذ صيف سنة 1994، تحركت الشرطة لإغلاق العيادات، والمختبرات، والصيدليات غير المرخصة، أولاً خارج المخيمات، ومؤخراً داخلها. فالأعضاء في النقابات المهنية اللبنانية يمكنهم الحصول على تراخيص. ومؤشر آخر على اتساع سيطرة الحكومة هو طلب وزارة التربية تزويدها بلوائح سنوية كاملة بالتلامذة في مدارس الأونروا.

لقد بعث اتفاق أوسلو حرارة جديدة في مسألة التوطين وزاد في ترجيحه كحل لمسألة اللاجئين، وفاقم بذلك قدرته على خلخلة الإجماع الطائفي الهش الذي تحقق في الطائف. ويستند الرفض الرسمي للتوطين على حجتين: الأولى طائفية، والأُخرى دستورية (طبعاً الاثنتان متشابكتان). وعندما اقترح وزير الخارجية فارس بويز في نيسان/أبريل 1994 ترحيل جميع الفلسطينيين في نهاية المطاف من لبنان، استند إلى "التوازن الطائفي الدقيق" القائم في لبنان.[14] وترتكز الحجة الدستورية إلى اتفاق الطائف الذي نص على استبعاد التوطين.. وقد أُدخل هذا الاستبعاد لاحقاً في نص الدستور الذي وُضع بعد انتهاء الحرب.

وبالنسبة إلى وضع الفلسطينيين، فإن الحكومة مستمرة في تجاهل المناشدات لتحسينه، وهذا في حد ذاته يشكل ضغطاً قوياً باتجاه التهجير. والمحادثات الرسمية بين لبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية التي بدأت سنة 1991، كجزء من "التطبيع" بينهما بعد اتفاق الطائف، والتي طالب الفلسطينيون فيها بإعادة فتح مكتب م.ت.ف.، وباستقلال ذاتي للمخيمات، والأهم من ذلك بحقوق مدنية، عُلِّقت بعد مدريد، بانتظار التسوية الإقليمية النهائية. وتستند الحكومة في رفضها منح اللاجئين الحقوق المدنية إلى حجج مفادها أن فعل ذلك سيثير عداء قطاعات معادية للفلسطينيين، ويعزز التوجه نحو التوطين كحل مفضل دولياً وكخيار عملي فلسطينياً. وتساهم المعارضة السورية لأي خضة في الوضع اللبناني الراهن في إبقاء مسألة الحقوق المدنية في حالة ركود.

أمّا السياسة الرسمية الضمنية حيال اللاجئين، فتظهر في تشديد الضغوط لدفعهم إلى الهجرة. وأشد هذه الضغوط وقعاً هي:

أ) القيود المتعلقة بالمكان والمأوى، وتدهور الأوضاع المادية: إن الازدحام الشديد في المخيمات الناجم عن الحرب والتهجير الداخلي والزيادة الطبيعية قد تفاقم بفعل سلسلة من الموانع الرسمية تجاه: أ) إعادة بناء المخيمات التي دُمرت بفعل الحرب؛ ب) إنشاء مخيمات جديدة؛ ج) البناء على أراض خالية متاخمة للمخيمات؛ د) قيام الأونروا بعمليات إعادة إعمار داخل المخيمات.[15] ومع ذلك فإن عملية إجلاء المهجرين، التي بدأت على نطاق واسع في تموز/يوليو 1994، ما زالت مستمرة؛ ومع أن العائلات التي تم إجلاؤها تلقت تعويضات، فإن المبلغ المدفوع كان غير كاف لشراء منزل بديل حتى داخل المخيمات.[16] وكانت ممانعة الحكومة تجاه قيام الأونروا بإعادة إعمار المخيمات قد ثنت الوكالة عن تنفيذ برنامج أعدت خططه لترميم المنازل، وشبكة الصرف الصحي، وشبكات مياه الشرب والكهرباء. وغالباً ما تنبعث من مياه الشرب رائحة، وكثيراً ما تنقطع. ويزيد في وطأة تدهور شروط السكن في المخيمات التهديد بهدمها؛ فمشاريع الإعمار العامة تهدد حالياً مخيمات شاتيلا وبرج البراجنة وعين الحلوة. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن البطالة والدخل المتدني يرغمان حاملي بطاقة الهوية الخاصة باللاجئين على العودة إلى المخيمات.

ب) رفض منح الحقوق المدنية: من بين هذه الحقوق الأكثر أهمية هو حق العمل؛ ومنذ البداية مُنع اللاجئون الفلسطينيون في لبنان من ممارسة أنواع كثيرة من العمل، وأُلزموا بالحصول على أذونات عمل بالنسبة إلى معظم أنواع العمل الأُخرى.[17] وكما ذكرنا أعلاه، فإن الدولة تحركت لمنع حاملي بطاقات الهوية الخاصة باللاجئين من ممارسة المهن المحظور عليهم ممارستها. كما أنه من الصعب جداً على الفلسطينيين الحصول على أذونات عمل: في سنة 1994 صدر 100 فقط من أذونات العمل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن دخول الفلسطينيين إلى المدارس الثانوية الرسمية مقيد، وهم لا يستطيعون تلقي العلاج في المستشفيات الحكومية، ولا ينتفعون من الضمان الاجتماعي.

ج) عقبات في وجه السفر: مع أن الحكومة اللبنانية تصدر وثائق سفر للاجئين المسجلين لديها، فإنه من الصعب الحصول على هذه الوثائق. وقد يُرفض تجديدها في الخارج أو يتأخر كثيراً، الأمر الذي يمنع حاملها عملياً من العودة إلى لبنان.

د) تخفيض عدد الحاصلين على حقوق الإقامة: بدأت دائرة الأمن العام مؤخراً شطب أسماء الفلسطينيين الذين حصلوا على جوازات سفر أُخرى من قائمة الأشخاص الذين يتمتعون بحقوق الإقامة في لبنان. ويُقال إن نحو 25.000 شخص شُطبت أسماؤهم حتى الآن. وتقول مصادر في المديرية العامة لشؤون اللاجئين الفلسطينيين إن العدد أقل من ذلك كثيراً، وإن هذا الإجراء أُوقف. لكن مصادر فلسطينية تقول إن العمل به ما زال مستمراً.

المواقف اللبنانية غير الرسمية

يعارض معظم اللبنانيين بشدة توطين الفلسطينيين بصورة دائمة. ويصدر الرفض عن جميع الاتجاهات في الساحة السياسية، مع اختلاف في الدوافع والحدة نابع من عوامل طائفية وجغرافية وحزبية. وقد فاقم اتفاقُ أوسلو المشاعر المعادية للفلسطينيين في الأوساط اليمينية والطائفية كونه يجعل توطين اللاجئين بصورة دائمة في لبنان أكثر ترجيحاً. وفي الوقت نفسه، أضعف الاتفاق المذكور المشاعر المؤيدة للفلسطينيين لدى أولئك اللبنانيين الذين أيدوا حركة المقاومة في الماضي؛ إذ إنهم اعتبروا م.ت.ف. مسؤولة عن تفريق الصف العربي.

وقد أسفر استطلاع لمواقف اللبنانيين تجاه مسألة التوطين، أُجري في إثر انعقاد مؤتمر مدريد، عن نتائج ذات دلالات مهمة.[18] أولاً، إن أكثر من نصف الذين استطلع رأيهم (52٪) قال أنه لا يوجد لديه احتكاك بالفلسطينيين. ومع أن نسبة الاحتكاك كانت أعلى بين السُّنة منها بين الطوائف الأُخرى، فإن 42٪ فقط من السُّنة قالوا أن لديهم أصدقاء فلسطينيين. وفيما يختص بالتوطين، عارضه 75٪ من العيّنة، وكانت النسب الأعلى بين الموارنة (87٪)، ثم الشيعة (78٪)، ثم الكاثوليك (78٪)، ثم الأورثوذكس (78٪). كما كانت نسبة المعارضين بين السُّنة والدروز عالية أيضاً (63٪ و71٪ على التوالي)، مع أن معارضتهم كانت لأسباب مختلفة. وتوقع ما يزيد قليلاً عن ثلث مجموع المجيبين فرض التوطين على لبنان، وقال معظمهم (74٪) أنه يعتقد أن ذلك سيكون مضراً بلبنان سياسياً واقتصادياً، بينما أعرب 40٪ عن اعتقادهم أن جماعته الطائفية ينبغي لها أن تقاوم خطوة كهذه عسكرياً. وبما أن مشاعر الغضب يُنفَّس عنها عادة ضد الضعيف أكثر مما ضد القوي، فإن هذه النتيجة تنطوي على دلالات مقلقة.[19] وإحدى نقاط ضعف هذا الاستطلاع هي أنه لا يتحرى مختلف المعاني والدوافع للأجوبة المتشابهة.

هل ضعفت المشاعر المعادية للفلسطينيين بين الطائفتين اللتين لجأتا في أوقات مختلفة إلى استخدام العنف ضدهم؟ لقد لوحظ أن شيئاً من اللين طرأ على المشاعر المارونية المعادية للفلسطينيين، مع تزايد حدة النقد السوري الرسمي لرئيس م.ت.ف. ياسر عرفات. ففي مواجهة قوة أكبر - سورية - أصبح قسم من المارونية السياسية ينظر إلى الفلسطينيين باعتبارهم أهون الشرين. ومع ذلك، فإن قادة التيار المركزي الماروني لا يزالون يبالغون فيما يختص بحجم المجتمع الفلسطيني، ولا يزالون يستغلون توطين الفلسطينيين للتلويح بشبح التقسيم.[20] والبطريرك [صفير] هو أشد خصوم توطين الفلسطينيين، ويدعمه هرم ضخم من المؤسسات الدينية والتعليمية. ولا يزال معظم الموارنة العاديين يحمّل الفلسطينيين المسؤولية عن الحرب الأهلية. ومع ذلك، ثمة أصوات مارونية مغايرة، منها صوت نسيب لحود، النائب الذي يمثل المتن في البرلمان، الذي أدخل لهجة معتدلة وعقلانية في الخطاب الماروني والمتعلق بالتوطين. ويؤكد لحود معارضته للتوطين القسري باعتباره خرقاً للسيادة اللبنانية وتنكراً لحق الفلسطينيين في العودة، ويدعو العرب واللبنانيين إلى تأييد إنشاء دولة فلسطينية. وعندما تقوم دولة فلسطينية، يمكن منح الفلسطينيين في لبنان جواز سفر، ومعاملتهم كسائر الرعايا الأجانب. ويستوحي لحود أيضاً حقوق الإنسان والأُخوّة العربية فيما يختص بمسألة الحقوق المدنية للفلسطينيين.[21] وتشكل مقترحاته دعماً يتجاوز الحاجز الطائفي لمقترحات مشابهة طرحها نواف سلام في "مجلة الدراسات الفلسطينية".[22]

ومثل الموارنة، يظهر لدى الطائفة الشيعية في وقت واحد وعي طائفي واختلافات داخلية في المواقف تجاه الفلسطينيين. إن الشيعة أقل من الموارنة اهتماماً بالمحافظة على النظام الطائفي اللبناني، لكنهم مثلهم - بل ربما أكثر منهم - معنيون بالمحافظة على استقرار الدولة اللبنانية كونهم حصلوا على نصيب واف فيها. وأحد الفوارق الجوهرية بين المارونية السياسية والشيعية السياسية يقوم على التوزع الجغرافي للفلسطينيين. فأغلبية اللاجئين تتركز في الجنوب، وفي الضواحي الجنوبية لبيروت، وفي البقاع، وهي مناطق (باستثناء مدينة صيدا) تسعى الشيعية السياسية لتحويل الأكثرية الشيعية العددية فيها إلى مراكز قوة سياسية، بينما لا يشكل الفلسطينيون تهديداً مشابهاً لقلب الوجود الماروني الجغرافي.

لكن لدى الشيعة أيضاً أصواتاً مغايرة: فحزب الله يسمح لجماعات فلسطينية بالنشاط انطلاقاً من منطقته، والشيخ محمد مهدي شمس الدين حث على التسامح تجاه الفلسطينيين.[23] لكن رئيس المجلس النيابي نبيه بري، أحد أركان الترويكا (الثلاثي) الحاكمة، ينظر بالتأكيد إلى الوجود الفلسطيني من المنظور الرسمي التقليدي.

ولا يستطيع المرء أن يترك مسألة المواقف اللبنانية تجاه الفلسطينيين من دون أن يلحظ دور الصحافة، والإذاعة، والتلفزة في لبنان في مناقشة "المسألة الفلسطينية". إن وسائط الإعلام في لبنان تشكل، إلى حد لا نظير له في العالم العربي، منبراً مستقلاً نسبياً عن الدولة، وعن الزعماء السياسيين/الطائفيين، وعن جمهرة الرأي العام؛ منبراً لا يسيطر مالكوه أو المعلنون فيه عليه كلياً، ومتنفساً للكتّاب والمثقفين. وقد خصصت ثلاث صحف يومية رئيسية - "السفير"، و"النهار"، و"الديار" - مساحات في صفحاتها لمعالجة هموم الفلسطينيين في فترة تتسم بلا مبالاة عامة. وقد أصدرت "السفير" (شباط/فبراير 1995) ملحقاً خاصاً بعنوان: "الفلسطينيون في لبنان". وعرضت محطة تلفزة "المستقبل" (التي يملكها رئيس الحكومة رفيق الحريري) فيلماً قصيراً بشأن الموضوع نفسه، يشدد على أزمة الفلسطينيين في مجال الصحة. كما أنه يُسمح بعقد ندوات وتنظيم معارض فنية وحرفية فلسطينية تحظى بحضور جيد. ومع أن مثل هذه الأمور قليل التأثير في المدى القصير، فيما يختص بعودة الفلسطينيين إلى الاندماج في الحياة اللبنانية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، فإن أهميتها الثقافية والسياسية في المدى البعيد بجب عدم التقليل من شأنها.

ومن الملاحظ، في أي حال، أن معرفة اللبنانيين، حتى المؤيدين للفلسطينيين بينهم، قليلة جداً بالأوضاع التي تعيش فيها الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين. وثمة خرافة يؤمن كثيرون بصحتها، وهي أنه لا يوجد فارق حقيقي بين الفلسطينيين واللبنانيين: "كل من المجتمعين لديه أغنياؤه، وطبقته الوسطى، وفقراؤه"، عبارة تُسمع كثيراً. لكن وجهة النظر هذه تتجاهل سلسلة كاملة من الفوارق، ابتداء من تلك المتصلة مباشرة بهشاشة وضعهم (القيود على العمل، فقدان الحماية القانونية، غياب الضمان الاجتماعي، العقبات أمام الهجرة، غموض المستقبل، إلخ)، وانتهاء بتلك المتصلة بالبنية الاجتماعية. ومع أن من الصحيح أن هناك شريحة فلسطينية غنية، فإن حجمها تضاءل كثيراً بفعل الهجرة، في حين أن القيود القانونية تحد من قدرتها على استخدام جماهير اللاجئين أو مساعدتهم. وبالإضافة إلى ذلك، فإن اتساع الفقر وشدته بين الفلسطينيين لا يشبهان حالهما لدى الفقراء اللبنانيين، ولا حتى العمال المهاجرين الآخرين.

المشهد من عين الحلوة

يصلح مخيم عين الحلوة، شأنه في هذا شأن أي مكان آخر، نموذجاً للتعرف إلى حياة اللاجئين في لبنان اليوم. إن عين الحلوة، الذي يوصف بفخامة بأنه "عاصمة الشتات الفلسطيني" - وصف يبالغ في أهمية استقلاله السياسي الهش - هو في واقع الأمر صورة مصغرة لبؤس اللاجئين، ونموذج إيضاحي لتأثيرات التهجير، وفقدان المأوى، والازدحام الشديد، والبطالة الشديدة، وعدم كفاية المعونات: الفقر، والعنف الداخلي، وفقدان التضامن، وتفكك العائلة، والإجهاد النفسي، والمرض. إن تعداد الأونروا لسكان عين الحلوة هو 35.000 نسمة، لكن القاطنين فيه يقولون إن العدد الصحيح هو الضعف. ولكل من تلقاه فيه مشكلات، والمشكلات كثيفة ومستعصية على الحل، نتيجة هشاشة وضعهم كلاجئين ونتيجة أعوام من الحرب. وما يمنع الروح المعنوية من الانهيار هو فقط منظر تلامذة المدارس بلباسهم المرتب، الذين تزدحم الطرق بهم في أوقات الظهر.

والمخيم حالياً هادئ نسبياً، بعد أن كان ابتلي في أوائل التسعينات بحرب عصابات ("فتح" و"فتح" أبو نضال). لكن المعركة التي نشبت في تشرين الثاني/نوفمبر 1994 واستمرت ست ساعات، عندما هاجم الموالون لـ "فتح" قواعد المنشقين عن التنظيم، كانت نذيراً مقلقاً باحتمالات التقاتل الفصائلي الكامنة تحت السطح. وإذا كان التقاتل لن يحدث الآن، كما يقول الناس، فإن السبب في ذلك هو أن أي جهة خارجية لا مصلحة لها في الوقت الحاضر في إثارة المتاعب. وتقوم حواجز الجيش بتفحص المركبات الداخلة إلى المخيم والخارجة منه، لكن الجيش لم يدخل - بعد. إن عدم بسط السلطة سيادتها على المخيمات له جانبه السلبي: بعد اشتباكات تشرين الثاني/نوفمبر، ظهر وزير الداخلية ميشال المر على شاشة التلفزة ليقول أنه لن يجازف بحياة أي جندي لبناني من أجل وقف القتال في عين الحلوة. وقد وجد المجرمون المطلوبون للعدالة أيضاً ملجأً لهم هنا. ويقول أحد المدرسين إن السلطات تؤمن لهم الحماية في مقابل معلومات يزودونها بها.

فقدان المأوى

لقد أدت الحرب وقيام الحكومة بإجلاء المهجرين عن البيوت التي كانوا يشغلونها إلى تضخم عدد سكان عين الحلوة. وكان الفلسطينيون ينتقلون إلى هناك من الجنوب منذ ما قبل سنة 1982، وكان الضغط على المساحة يزداد مع كل جولة قتال، على سبيل المثال حصارات "أمل" لمخيمات بيروت والرشيدية في فترة 1985 - 1987. وعندما هدمت الجرافات منطقة تدعى "السِكّة" كانت تقطنها 75 عائلة معظمها من الفلسطينيين، انتقل كثير من العائلات إلى "البراكسات،" وهي منطقة سكنية قديمة في الطرف الشمالي من المخيم. والآن "البراكسات" نفسها مهددة بالهدم. وتدفع فِدا، وهي امرأة متزوجة لديها ثلاثة أطفال تحت سن الدراسة، مئة دولار شهرياً كبدل إيجار لغرفة واحدة في "البراكسات،" بعد أن تم إجلاؤها عن "السكّة" في العام الفائت. والآن يريد أصحاب العقار استرجاع الغرفة؛ ويمنحها العقد مهلة شهر واحد للعثور على مكان آخر. ومن المستحيل الاستئجار في المخيم، وشراء منزل هناك يكلف أكثر من 10.000 دولار.

إن حملة الإخلاء التي نفذتها الحكومة، متضافرة مع القيود المفروضة فيما يختص بمساحة المخيم، ولدت اندفاعاً نحو البناء الخاص في المخيمات الموجودة في المدن، مثل عين الحلوة وشاتيلا، أدى إلى جني البعض أرباحاً كبيرة، ومراكمة البعض ديوناً كبيرة. إن دفع تعويضات للعائلات التي تم إخلاء المباني خارج المخيمات منها لم يحل مشكلة فقدان المأوى، بل أخفاها فحسب. ويعثر المرء على العائلات التي تم إجلاؤها، وشطبت من قائمة الأونروا الخاصة بالأشخاص المهجرين بفعل الحرب، في خليط متنوع من أماكن السكن غير الصالحة تقريباً للإقامة.

وتشكل قصة خديجة نموذجاً إيضاحياً ملائماً. إنها في أوائل العشرينات من العمر، تعمل في حقل الخدمة الاجتماعية، ولم تعش في أي منزل أكثر من عامين أو ثلاثة أعوام. وقد اضطرت عائلتها إلى الانتقال من مكان إلى آخر عشر مرات منذ أن تركت فلسطين سنة 1948، وتقيم الآن بكوخ حصل والدها عليه بحكم عمله كحارس مزرعة. وقد تمكنت العائلة ذات مرة من شراء بيت مقام على أرض تابعة للدولة بالقرب من صور، لكن لحقت به أضرار كبيرة خلال الغزو الإسرائيلي للبنان سنة 1982. وبعد أن خرج والدها من معسكر الاعتقال "أنصار"، أعاد بناء البيت، لكن ميليشيات "أمل" أرغمت العائلة على مغادرته خلال حصار مخيم الرشيدية سنة 1986. وقد باع والدها البيت لشراء جوازات سفر كي يهاجر، لكن "لم يقبل أي بلد استقبالنا كمهاجرين لأن والدي لا يتقن أي مهنة."

لقد خلَّفت أعوام من الحرب عدداً غير معروف من النسوة على رأس عائلاتهن. وبعد أن كن سابقاً يتلقين معاشات بصفتهن أرامل شهداء، ويحصلن على خدمات مجانية، وتُعطى لهن الأولوية في العمل في مؤسسات م.ت.ف.، أصبحن الآن جزءاً من شريحة واسعة في مجتمع المخيم مصنفة كشريحة تشكو من "حالة عسر شديد"، وأصبح مستقبل أولادهن في مهب الريح. أم خالد من مخيم النبطية (دمرته غارة جوية إسرائيلية سنة 1974)، توفي زوجها قبل ثلاثة أعوام. في الصيف الماضي أجليت عن "السِكّة". أعارها أصدقاء غرفة في المخيم، لكنها لا تعرف متى سيطلبون استرداد هذه الغرفة. تعمل عندما يتاح لها ذلك - أحياناً يحتاجون إليها في الجمعية المحلية، حيث نعقد اجتماعاتنا، وأحياناً لا يحتاجون إليها. لديها سبعة أطفال تتراوح أعمارهم بين 14 عاماً و3 أعوام.

أرملة أُخرى، وضعية أُخرى. أم محمد امرأة فلسطينية لكنها كانت متزوجة بعامل بناء سوري قُتل قبل سبعة شهور في حادث. لا تعويض. ستة أطفال دون السادسة (ثلاثة منهم توائم). عائلتها لا تقدم لها سوى مساعدة ضئيلة، وهذا مظهر من مظاهر التفكك الاجتماعي الذي أحدثته الحرب. تقول: "أمي يمكن أن تأخذني إلى عندها لكنها لا تستطيع تحمل الأطفال." الغرفة التي تقيم بها في قرية مدمرة فوق المخيم ملك لمسيحيين لبنانيين هربوا خلال معارك مغدوشة (1986/1987)، وسيرجعون عما قريب.

من الناحية القانونية، لا يتمتع الأطفال بحق الإقامة في لبنان أو الحصول على معونات من الأونروا، لكن أم محمد باقية هنا "بسبب من المؤسسات." في سورية لا توجد مؤسسات غير حكومية تقدم مساعدات، وهذا يوازن في نظرها الحق في التعليم والحق في العلاج المجاني الذي كان من شأن أطفالها أن يتمتعوا بهما بصفتهم مواطنين سوريين فيما لو ذهبوا إلى سورية.

لقد كان من الممكن أن تحدث مجاعة حقيقية لولا "المؤسسات" - هذا الدرع المكون من الأونروا، والمنظمات المحلية غير الحكومية، والجماعات الإسلامية. ولا يقدم أي منها الشيء الكثير، لكنها تشكل مجتمعة شبكة أمان تجعل البقاء في قيد الحياة ممكناً. وأكد أشخاص كثيرون أن المؤسسات الإسلامية لا تقدم للعائلة الواحدة أكثر من 100.000 ليرة لبنانية شهرياً (أي نحو 60 دولاراً). أمّا المعونة التي تقدمها الأونروا لـ "حالات العسر الشديد"، فهي ليست نقدية بل عينية، مع أنه قد يكون في إمكان البعض الاستفادة من قروض عمل. وأمّا المنظمات غير الحكومية، فهي تساعد في التعليم المجاني، وتقديم ملابس، وجمع تبرعات من أجل مواجهة أوضاع طارئة، وما إلى ذلك.

وتقول فاتن، البالغة من العمر 11 عاماً والموجودة في مركز "أرض البشر" لرعاية الأطفال المحتاجين إلى حماية من المخاطر، إن أمها موجودة في المستشفى ومصابة بحروق شديدة. وقد توفي والد فاتن عندما كانت في الخامسة من العمر، ولها ثلاث شقيقات وأخ واحد. وأخبرتني مشرفة اجتماعية لاحقاً أن والدة فاتن حاولت الانتحار. لا يوجد في حيازتها وثائق تثبت أنها اشترت غرفة في المخيم، لكن الضربة الأقسى كانت اكتشافها أن ابنها متورط في شبكة دعارة للذكور.

إن أطفالاً مثل فاتن من عائلات شردتها الحرب يجدون من الصعب جداً عليهم أن يدرسوا. إن المركز يستردهم من الأزقة، يطعمهم، وينظم لهم صفوفاً دراسية خاصة. لقد فُصلت فاتن من المدرسة التابعة للأونروا لأنها رسبت في الامتحانات عامين متتاليين. والآن ربما كان لديها فرصة للعودة إليها في الخريف.

وحتى في "البراكسات"، هناك تنوع في المكانة الاجتماعية - الاقتصادية والوضعية العائلية. أم أحمد، التي فقدت زوجها في أثناء الغزو الإسرائيلي سنة 1982 وتقيم الآن مع والديها، تقول إن أصعب شيء عليها هو عدم قدرتها على شراء الأشياء التي يريدها أبناؤها، لأن أطفال الجيران يحصلون عليها. وهذا هو الفارق الكبير بين بؤس اليوم وبؤس أعوام اللجوء الأولى. آنذاك، كان هناك مساواة حقيقية في البؤس؛ وكان الناس متعاطفين. أمّا الآن، فهناك هرم اجتماعي مشدود بقدر قليل من التماسك.

الأزمة الصحية

إن الأمر الأشد وطأة حتى من مشكلات السكن هو أزمة العلاج. وتغطي المساعدة التي تقدمها الأونروا حالياً من أجل العلاج في المستشفى ثلثين فقط من تكلفة السرير، ولا يشمل ذلك أجور الأطباء والفحوصات، أو المعالجة. وبما أن تكلفة العمليات جميعها، باستثناء البسيطة منها، هي في حدود 8000 دولار، فإن الفلسطينيين من ذوي الدخل المنخفض الذين يحتاجون إلى جراحة عليهم إمّا أن يشحذوا وإمّا أن يموتوا. والذين يعانون حالات مزمنة تتطلب علاجاً أو فحوصات مستمرة - مرض الكلي، التلاسيميا، سرطان الدم أو الصرع، على سبيل المثال - لا يجدون مكاناً يذهبون إليه.

إن المستشفيات الثمانية التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني لا تكاد تعمل، وهي تعاني نقصاً شديداً في المعدات، والأدوية والرواتب. ويقول أحد المسؤولين الإداريين في الحقل الطبي إن في مستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني في القاهرة ثلاثة أجهزة لغسل الكلي في خدمة مجتمع تعداده، كحد أقصى، 90.000 نسمة. وفي لبنان، حيث يبلغ تعداد الفلسطينيين 350.000 نسمة، لا يوجد أي جهاز.

وهذا الوضع صعب بصورة خاصة، كونه يتعلق بأطفال، ويؤثر سلباً في مستقبلهم. ويتزايد باطراد عدد الأطفال الذين يشكون أمراضاً خطرة ناجمة، من دون شك، عن الفقر، وشروط السكن السيئة، والتوتر المتراكم خلال فترة الحرب. وتحدثنا أم نزار، مديرة دار حضانة غسان كنفاني، عن حالات لديها: فتاة عمرها خمسة أعوام ضعُف بصرها فجأة؛ طفل عمره أربعة أعوام اضطر الأطباء إلى استئصال إحدى كليتيه؛ صبي برزت فقاعة مائية في رأسه، وآخر يحتاج إلى عملية جراحية معقدة في الأُذن. وكل العائلات التي تخدمها دار الحضانة هذه هي عائلات فقيرة جداً، وكثير منها شُرد بفعل الحرب. ويعمل والد الفتى الذي استُئصلت كليته بائع خضروات متجولاً. ويريد الجراح الذي أجرى العملية 800 دولار. ولدى الأب ثمانية أطفال، وهذه مجرد مدرسة واحدة من مدارس كثيرة.

إن قصة إيمان شامية، كما ترويها والدتها، توضح العناد المطلوب للتعامل مع فقدان الخدمات الصحية للفلسطينيين. في بدايات سنة 1994، أصيبت إيمان، البالغة من العمر 11 عاماً، بمرض سرطان الدم. وارتفعت بسرعة نفقات نقل الدم الذي كانت في حاجة إليه والفحوصات والعلاج الكيمياوي إلى آلاف من الدولارات. واقترضت أم نادر، والدة إيمان، من كل من استطاعت الاقتراض منه، وباعت جميع أثاث منزلها، ولجأت إلى عدد كبير من الجمعيات الاجتماعية، والأشخاص الخيّرين، والوزراء، وحتى قوات الطوارئ الدولية العاملة في لبنان. وأخبرها الأطباء أن إيمان، من أجل أن تعيش، تحتاج إلى عملية زرع نخاع عظم، وهذه لا يمكن إجراؤها في لبنان. وفي الصيف الماضي، عرضت الحكومة الماليزية إجراء العملية مجاناً في ماليزيا، لكن مرت بضعة شهور قبل أن تتمكن والدة إيمان من تدبير المال اللازم للسفر والإقامة. وأخيراً، في كانون الثاني/يناير 1995، غادرت إيمان وشقيقتها المتبرعة بالمادة اللازمة للزرع إلى ماليزيا، وأُجريت العملية في آذار/مارس، بعد أن تأخرت قليلاً نتيجة المضاعفات التي نجمت عن التأخر في السفر من لبنان. والنقطة المهمة في قصة أم نادر هي أنه مع أن الأونروا لم تغط سوى جزء ضئيل جداً من تكلفة معالجة إيمان، فإن أغلبية الهيئات الخيرية اللبنانية التي قصدتها أم إيمان من أجل المساعدة ردتها قائلة: "عندك الأونروا".

إن أزمة العناية الصحية تؤثر في الجميع، لكن قطاعات معينة، منها - الأطفال، والأمهات، والمسنون، والمعوقون - تعاني على نحو خاص. إن المرء في حاجة إلى حيوية وصلات من أجل الوصول إلى كل مصدر من مصادر المساعدة. أمّا المسنون الذين يعانون أمراضاً مزمنة وليس لديهم عائلة فلا يستطيعون تدبر أمورهم، والمعوقون عقلياً يُدفعون إلى آخر الصف. إن الأزمة الصحية قضية تحرك المشاعر بعمق وتثير احتجاجات جماهيرية صاخبة مثل تلك التي واجهها المفوض العام للأونروا، تركمان، عندما زار عين الحلوة مؤخراً. والمسألة الوحيدة التي أثارت مثل هذه التظاهرات الكبيرة كانت وقف م.ت.ف. المساعدات التي كانت تقدمها لعائلات الشهداء.

وعلى الرغم من - أو ربما بسبب - عدد المنظمات غير الحكومية التي تقدم خدمات صحية للفلسطينيين، فإن أي جهة لم تقم بدراسة من أجل رسم صورة عامة للوضع الصحي، كي يكون التدخل أكثر فعالية.

أزمة التعليم

مع أن الأمر هنا أقل بروزاً، فإن تعليم الفلسطينيين في لبنان يتعرض للخطر بفعل التغييرات التي بدأتها مدريد وأوسلو. في المستوى المدرسي المحض، ثمة دليل على أن هناك نسبة أقل من الأطفال في مختلف الفئات العمرية موجودة في المدارس حالياً. ودل مسح حديث على ارتفاع نسبة الأمية بين الفلسطينيين في لبنان، وحده من دون سائر الدول المضيفة.[24] وهناك أيضاً مشكلة تدني مستوى إنجازات المدارس الناجم عن الحرب الأهلية. وهذا أمر لا يمكن عكسه من دون تحسينات رئيسية في المنشآت، وتطوير المناهج المقررة وتدريب المعلمين. ومع توقف المنح الدراسية من م.ت.ف. والأونروا، فإن قليلاً من التلاميذ يستمر في الدراسة في المدارس الثانوية والجامعات.[25]

لكن الأمر الأكثر أهمية هو أن هدف نظام التعليم في الأونروا، كما وُضع في الأصل، بات موضع تساؤل في ضوء سوق العمل التي تستبعد الفلسطينيين ذوي الكفاءات المهنية. وهذه هي حال السوق، لا في لبنان فقط، بل في الخليج أيضاً. وحتى الآن، لم تقدم الأونروا ردّاً على هذه المشكلة أبعد من البرنامج الحالي لدورات التدريب المهني والفني، التي تستوعب عدداً محدوداً من الطلاب، ولا تضمن توفر عمل لهم. وتبلغ الطاقة الاستيعابية لمعهد سبلين، مركز التدريب المهني والفني التابع للأونروا، 600 طالب بدوام كامل؛ وتوفر المنظمات المحلية غير الحكومية أنواعاً متعددة من التدريب لبضع مئات من الطلبة سنوياً بدوام جزئي. لكن هذا لا يشكل حلاً للبطالة الضخمة الكاملة أو الجزئية التي تواجه المجتمع الفلسطيني بأسره. أمّا أولئك الذين لا تستطيع عائلاتهم أن تغطي نفقات تعليمهم في دورات تدريب مهني وفني خاصة، فإنهم يكتفون بالتعلم من خلال ممارسة العمل، في الكراجات وأعمال البناء. وأولئك الآباء الذين ضحوا كثيراً من أجل أن يصل أبناؤهم إلى مستقبل مهني أفضل باتوا مرغمين على إعادة نظر مُرَّة.

العمالة والبطالة

إن التقديرات المتعلقة بالعمالة الفلسطينية لا معنى لها، نظراً إلى عدم توفر مسوحات وإلى اختلاف التعريفات الموضوعة لها. إذا كان المقصود بـ "العمالة" العمل براتب وبموجب عقد ينظم العلاقة بين العامل ورب العمل (إخطار، معاش تقاعد، أو تعويض نهاية الخدمة، تعويض عن الضرر الجسدي الناجم عن حادثة في أثناء العمل)، فإن الرقم 90٪ للعاطلين عن العمل الذي يذكره أحد الباحثين مبرر، لأن قليلين، باستثناء موظفي الأونروا، يتمتعون بمثل هذه الوضعية. ومع أن الازدهار في قطاع البناء الذي رافق مجيء حكومة الحريري حسّن فرص العمل قليلاً، فإن المستفيدين منه هم أولئك الذين لديهم مؤهلات وصلات. إن مخيماً كبيراً مثل مخيم عين الحلوة يوفر مصادر كثيرة لكسب العيش - تجارة، بناء، صيانة مركبات، مؤسسات اجتماعية - لكن إذا لم تتوفر مصادر خارجية، فإن الدخل المتولد يظل قليلاً. وباستثناء عدد محدود من تجار الجملة الكبار، فإن التجار في عين الحلوة يشتغلون في معظمهم برأس مال يكفي فقط لاستئجار دكان صغيرة أو عربة. وغالباً ما تُشترى البضائع بالدين.

وتجد النساء عملاً بسهولة أكثر من الرجال: إنهن يشكلن العمود الفقري لموظفي المنظمات المحلية غير الحكومية، ويفضل اللبنانيون استخدام النساء أكثر من الرجال. وأولئك اللواتي يحملن شهادات تستخدمهن المدارس، والشركات والمحلات التجارية، غالباً بأجور دون الحد الأدنى للأجور؛ أمّا النساء اللواتي لا يملكن مهارة مهنية، فإنهن يعملن في تنظيف المباني. وكثيراً من النسوة العاملات أرامل، أو متزوجات برجال مصابين بعاهات تسببت بها الحرب.

ومع عودة الدولة إلى تأكيد سلطتها، أصبح مخيم عين الحلوة الملاذ الأخير لأصحاب المهن (أطباء، مهندسون، سائقو سيارات أجرة) المحظور عليهم قانونياً ممارسة مهنهم بسبب مكانتهم كلاجئين. والكل هنا متأكدون من أن السلطات ستتحرك قريباً لمنعهم من ممارسة مهنهم، أسوة بما فعلته في مخيمات بيروت.

ويجد المرء أن الرجال البالغين بين الفلسطينيين، العالقين في شباك القيود المفروضة عليهم، عملوا في معظمهم في دول عديدة وأشغال كثيرة. أبو جمال، البالغ من العمر 45 عاماً، ولديه ستة أولاد، تلقى تعليمه كمهندس إلكترونيات في الولايات المتحدة، لكنه لم يستطع الحصول على إذن بالعمل هناك. "لو تزوجت امرأة أميركية لكانوا سمحوا لي بالبقاء، لكني كنت متزوجاً امرأة عربية، ولذلك" - يقول مازحاً - وقد عمل في ألمانيا وليبيا قبل أن يعود إلى لبنان. وهنا اشتغل بـ "أكثر من عشرين وظيفة"، بينها معلم في دورات صيفية، عامل محطة، كاتب في محل تجاري. وعدم القدرة على الحصول على عمل دائم كان مؤلماً بصورة خاصة بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين اضطروا إلى ترك الكويت خلال أزمة الخليج. وقد أخبرتني صديقة أن "العائدين الذين كانوا في معظمهم في الأربعينات أو الخمسينات من العمر، هم أناس في أواسط العمر ومتزوجون. كيف يمكنهم أن يجدوا عملاً؟" وأضافت أن أحد أقرباء زوجها ينتمي إلى هذه الفئة، وهو متزوج وفي أواسط عمره، يعمل مساعد بقال براتب شهري قدره 120 دولاراً.

الضغوط لدفع الناس إلى الهجرة

منذ اتفاق الطائف، توقفت أغلبية الدول التي كانت تمنح الفلسطينيين من لبنان حق اللجوء، ما دام القتال مستمراً، عن فعل ذلك. وأغلق اتفاق أوسلو الأبواب أكثر فأكثر: عدد غير معروف من الأشخاص الذين كانوا ينتظرون أذونات إقامة بألمانيا والدول الاسكندنافية أعيد إلى لبنان. وتطلب دول، مثل كندا وأستراليا، ضمانات مصرفية ومؤهلات مهنية. أمّا الخليج، فهو مغلق في وجه العمالة الفلسطينية المهاجرة من لبنان منذ أعوام. والبلد الوحيد الذي ما زال يرحب بالعمال الفلسطينيين "اللبنانيين" هو ليبيا، لكن الأجور فيه متدنية، وشروط العمل صعبة، والأموال المكتسبة لا يمكن تحويلها إلى الخارج أو الخروج بها من البلد. وفي الحقيقة، فإن إغلاق أبواب الهجرة في وجه الفلسطينيين هو ما يجعل الضغوط اللبنانية لدفع الفلسطينيين إلى الهجرة غير فعالة وغير إنسانية.

وثمة قصص كثيرة تشهد على المتاعب التي يتعرض الفلسطينيون لها في مطار بيروت، سواء في المغادرة أو في الإياب. فالفلسطينيون العاملون في الخارج، الذين يعودون في الصيف لزيارة عائلاتهم، يخضعون لضوابط تلامس المضايقة. وقد روت لي صديقة من صيدا عدة قصص عن المضايقات التي تعرّض لها أفراد من عائلتها وعائلة زوجها: ابن عم احتُجز مدة أربعة أيام بشبهة وضع قنبلة في اليونان؟ صهر أُوقف بينما كان يهم بالمغادرة بشبهة أنه يحمل جواز سفر مزوراً. وهناك آلاف من القصص المشابهة ربما تشير إلى سياسة القصد منها دفع الفلسطينيين إلى عدم العودة إلى لبنان. وشبان كثيرون سُجنوا لدى عودتهم إلى لبنان بعد أن فشلوا في الدخول إلى أي دولة أُخرى.

وحتى الهجرة الناجحة لها جانبها السلبي. لقد التقيت زوجة شابة لديها ثلاثة أطفال، وتعمل من الساعة 8 إلى الساعة 3 مديرة لروضة أطفال. وزوجها يعمل في أبو ظبي، وعندما تزوجا قبل ستة أعوام كانت تنوي الذهاب للعيش معه هناك، لكن منذ حرب الخليج أُوقف في أبو ظبي منح تأشيرات دخول لعائلات الفلسطينيين العاملين فيها برواتب دون مستوى معين. كما لا يجد المهاجرون دائماً عملاً: صديقة لي كانت سابقاً مدرّسة في الأونروا وتعتاش الآن من راتبها التقاعدي، قالت لي إن أمها في حاجة إلى عملية جراحية صعبة، وإن لديها أربعة أخوة في الخارج، لكن واحداً منهم فقط يعمل. وأضافت أن الهجرة خلفت عدداً كبيراً من المسنين الذين يشعرون بالوحدة.

وقصة أخ لخديجة أصغر منها سناً مثال مؤلم للضغوط المؤذية التي تحاصر الفلسطينيين. فمع أنه كان يعمل، فإن العائلة ضغطت عليه كي يهاجر لأنه الابن الوحيد للعائلة، وخافوا على مستقبله. إن الحصول على وثيقة سفر فلسطينية ليس أمراً صعباً، لكن الصعب هو الحصول على تأشيرة سفر. وهكذا غيَّر شقيق خديجة الصورة الملصقة على وثيقة سفر ابن عم له كان قد حصل على تأشيرة سفر. واكتشفت سلطات المطار التزوير، وألقت القبض عليه. وقد أُفرج عنه بعد أن دفعت عائلته كفالة بقيمة 600 دولار، وهو يواجه الآن احتمال محاكمته والحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.

إن تمضية يوم في عين الحلوة يمكن أن يخلف في الذهن صورة شوارع مزدحمة بالحركة التجارية، وشباب مسلحين لا يفعلون شيئاً، والشعارات السياسية المألوفة. ويحتاج المرء إلى تمضية وقت أطول ليستوعب كتلة القصص الفردية التي تشهد على وضع هش ومؤلم لا مهرب منه. وبعد أربعة أيام من الاستماع إلى القصص الكثيرة التي رُويت لي، تيقنت من صحة الملاحظة التي أبدتها خديجة: "لا يوجد أحد ليس عنده مشكلات." وإلّا ماذا يمكن أن يفسر حادثة وقعت قبل أسبوع من زيارتي المخيم، عندما أطلق صبي عمره 16 عاماً النار على ابن عم له يصغره سناً وقتله لأنه كان يمشي محدثاً ضجة على السطح؟

بانتظار رسالة جديدة

بعد مرور أكثر من عامين ونصف عام على اتفاق أوسلو، لا تزال المشاعر المعادية للاتفاق بين الفلسطينيين في لبنان تفتقر إلى تعبير سياسي واضح أو ذي صدقية. وحتى في المخيمات، لم يكن الجميع في البداية معادياً لأوسلو: اعتقد البعض أن الاتفاق سيقود إلى دولة فلسطينية، وأن هذا سيعني جوازات سفر للاجئين الموجودين في الخارج. لكن مع مرور الوقت، تلاشي التأييد لعرفات نتيجة ما شوهد من أحداث في "المناطق المحتلة". لكن "المنظمات العشر" لم تستطع أن تبني على أساس المشاعر المعادية لأوسلو أي شيء قريب من رؤية أو برنامج سياسي جديدين، ولم تتحول الانتقادات إلى عمل. لقد صدرت دعوات إلى عقد اجتماع شعبي لإحياء المجلس الوطني وم.ت.ف.، لكن هذه الدعوات لم تلق صدى جماهيرياً حقيقياً. وأحد التفسيرات لذلك هو أنها صادرة عن الشريحة السياسية إياها التي أنتجت عرفات؛ عن أشخاص عاشوا على حساب عرفات بينما كانوا يدعون أنهم في المعارضة. ويقول بعض الناس إن سورية ضد عقد مؤتمر شعبي. ويقول آخرون إن المشكلة الحقيقية هي أن "المنظمات العشر" تريد أن تطبخ النتائج سلفاً بحيث تضمن استمرارها في القيادة.

وكثير مما يقوله الناس ويفعلونه يعكس وجود فجوة لا سابقة لها بين قدامى الحركة الوطنية وبين الجماهير الفلسطينية. وقد عبّر أحد الأشخاص ممن تمت دعوتهم إلى اجتماع سياسي عن نفوره من الذهاب إليه في هذه العبارة البالغة الوضوح: "إذا كانوا لا يستطيعون أن يعطوني علبة من مسحوق الحليب لأطفالي، فلماذا أذهب وأستمع إلى حديثهم؟" وقال شخص آخر بينما كان يناقش شائعات عن ترحيل جديد للفلسطينيين من لبنان: "فليرسلوني إلى طرابلس، أو حلب، أو تل أبيب! ليس مهماً إلى أين أذهب ما دمت أستطيع أن أطعم أولادي."

ويعتقد كثيرون أن ما يحدث هو دورة انحلال وولادة، ولا يمكن تسريعها على نحو مصطنع. "هذا الجيل بأكمله (من الساسة) ينبغي له أن يرحل"، يقول عضو سابق في الجبهة الشعبية، خاب أمله من تعويض نهاية خدمة مقداره راتب 3 شهور بعد حياة أمضاها في حركة المقاومة، ويؤكد نقطته باقتباس المثل الشعبي: "الفرع الأعوج لا يمكن تصحيحه".

وبعد أن أصبح الفلسطينيون مهمَّشين في واقع السياسات العربية والسياسات اللبنانية والسياسات الفلسطينية، فإنهم في لبنان لا يجدون من يتحالفون معه لمواجهة الجهود الدولية المبذولة لتصفية "مشكلة اللاجئين". إن كل ما حدث منذ سنة 1973 ساهم بحصته في قتل الإيمان بالعروبة. ومنذ انهيار الحركة الوطنية اللبنانية، لا تثير أي جماعة في الساحة السياسية اللبنانية حماسة الفلسطينيين. ومع أنهم يتابعون التطورات السياسية في غزة والضفة الغربية بدقة، فإن الفلسطينيين في لبنان عزلوا بفعل أوسلو عن المشاركة في السياسة الوطنية. وحتى "المعارضة" لعرفات لا تمثلهم، فـ "حماس" والجهاد الإسلامي لم يأتيا إلى ذكر اللاجئين قط. وهاتان الحركتان، اللتان تتمتعان بوجود ضئيل في المخيمات، لديهما رسالة بسيطة وغير جذابة بالنسبة إلى الفلسطينيين في لبنان: "انضموا إلى الحركة الإسلامية اللبنانية." والاستجابة لهذه الرسالة ضئيلة.

إن المعارضة للتوطين شبه عامة، وهي عامل قوي موحِّد في وقت تغيب كل العوامل الأُخرى.[26] وقد شدد كل الناطقين بلسان المخيم الذين التقوا مبعوثي فريق العمل الخاص باللاجئين على حق العودة.[27] ومع ذلك، فإن قلة من الفلسطينيين تعتقد أن "السلطة الوطنية" ستمثل اللاجئين بقوة وحيوية في المفاوضات بشأن الوضع النهائي، أو أن أي قوة إقليمية أو دولية ستصر - في المدى القصير على الأقل - على احترام قرار الأمم المتحدة رقم 194. وفي أوائل سنة 1995، سرت شائعات عن احتمال دفع تعويضات كبديل من العودة، جعلت اللاجئين غير المسجلين يندفعون إلى مكاتب الأونروا مسلحين بالوثائق الضرورية. لكن القيادة - الوطنية والمحلية - ظلت صامتة بشأن هذه المسألة، كما بشأن مسائل أُخرى كثيرة، ولا يوجد أحد لديه فكرة حيال من أين ستأتي الأموال لدفع التعويضات. وفي ظل مثل هذا التشوش، ليس من المستغرب أن يتقاطع الرفض، من حيث المبدأ، للتوطين مع تكيفات براغماتية. فعندما تُناقش الشائعات المتداولة بشأن ترحيل محتمل إلى العراق أو إلى سورية، يبدي بعض الناس اهتماماً بالانتقال إلى بلدين يبدوان في نظره "قريبين"، وحيث من المحتمل أن تكون فرص العمل، والأجور، والخدمات العامة أفضل مما هي عليه في لبنان. ويأمل معظم المستقرين جيداً في عمل في القطاع المهني أو قطاع الخدمات بأن يبقى في لبنان. ويفضل كثيرون الهجرة إلى أوروبا أو إلى أميركا الشمالية لو أن هذا ممكن. ويتضح من الاستطلاع الذي أجراه حسين شعبان أن الأغلبية العظمى (82٪) من المستجوَبين تريد العودة إلى فلسطين. لكن عندما سئلوا عن خيارهم الثاني، اختار 45٪ لبنان، و20٪ أوروبا.

وتدين امرأة شابة بشدة القيادة المحلية والقيادة الوطنية على حد سواء لفشلهما في تهيئة الناس لمعارضة "الزرع": "لقد أصبح واضحاً منذ العام الماضي أن التوطين هو الطبخة التي يعدونها لنا. في العام المقبل سيبدأون بتطبيقه. لكن أياً من القادة لم يقل أو يفعل شيئاً. لقد كنا دائماً نلوم العرب على كل مصيبة تحل بنا، وحان الوقت لأن نبدأ بلوم أنفسنا".[28]

ويتجلى أحد المؤشرات على التكيف البراغماتي في السعي للحصول على الجنسية اللبنانية. فلأول مرة في تاريخهم في لبنان، يسعى فلسطينيون من المخيمات للتجنّس. ويقال إن نصف مخيم برج الشمالي أصبح لبنانياً، وربع عين الحلوة أيضاً.[29] في الماضي، كان اللاجئ الذي يحصل على الجنسية اللبنانية يُتهم في وطنيته. أمّا الآن، فإن الناس يهزون أكتافهم - "يريدون أن يعيشوا!" فالمواطنون على الأقل يتمتعون بحق العمل، والضمان الاجتماعي، والاستشفاء.

لقد تسببت أوسلوا بتصدعات متعددة داخل الحركة الوطنية الفلسطينية: بين "الداخل" و"الخارج"، غزة/أريحا والشتات، السلطة الوطنية الفلسطينية وم.ت.ف./المجلس الوطني، وبين الأفراد الفلسطينيين المفككين بحكم أوضاعهم المختلفة واهتراء المؤسسات الوطنية. ومن علامات فقدان هيكلية مركزية عودة الجمعيات القروية والعائلية. وكان من شأن هذه الظاهرة أن تكون مشجعة لولا حقيقة أن القرى والعائلات الكبيرة فقط هي التي تستطيع أن تنهض بأعبائها. فالناس من القرى الصغيرة أقل قدرة على مساعدة بعضهم بعض، وبالتالي عرضة بسهولة أكبر للتفرق والبحث عن حلول فردية. وهذه الفجوة بين أفراد القرى الصغيرة والكبيرة كانت حركة المقاومة تردمها بآليات إعادة توزيع المنافع - خدمات مجانية، تعويضات، وظائف، منح دراسية، وما شابه ذلك.

ونتيجة وعي الفلسطينيين لأخطار الفترة الحالية، فإن كثيراً منهم لا يعطي الأولوية للمساعدة، أو العمل، أو الحقوق المدنية، وإنما للحاجة إلى مرجع، إلى هيئة تمثلهم في مقابل الأطراف الأُخرى. إن هذه الرغبة في التمثيل الجماعي هي التي تكمن خلف التحركات الحالية لإحياء منظمة التحرير الفلسطينية. ويُخشى من أن يكون هذا الهدف صعب التحقيق، نظراً إلى أن التفكك الحالي للاجئين يلائم كثيراً من اللاعبين الإقليميين. كما أنه من المشكوك فيه أن م.ت.ف.، كما نعرفها، ستناضل من أجل أوضاع أفضل للاجئين.[30] ويجب أن يكون واضحاً أكثر من المستوى الحالي للوضوح أن من مصلحة جماهير اللاجئين مساعدة "المعارضة" في سعيها لإنقاذ المؤسسات الوطنية.

هل تستطيع المنظمات غير الحكومية ملء الفجوة فيما يتعلق بالتمثيل؟ إن السؤال مطروح لأن المنظمات غير الحكومية تشكل البنية الوحيدة التي تعمل لمساعدة الفلسطينيين ذوي الدخل المنخفض على حل مشكلات الحياة اليومية. ويعتقد قاسم عَيْنا، رئيس هيئة المنظمات غير الحكومية المشكلة حديثاً، أن هذه المنظمات لا تستطيع القيام بمهمات ممثل رسمي للفلسطينيين. لكن هناك تحركات لتطوير هياكلها وطريقة عملها. وقد يبرهن اجتماع عقد في عمّان في آذار/مارس الماضي بين منظمات غير حكومية من "الداخل" و"الخارج" عن أنه نقطة تحول حاسمة. فمنه ولدت "المجموعة الفلسطينية في المنظمات غير الحكومية للدفاع عن اللاجئين"، وهي أول بنية توحيدية تولد منذ أوسلو.

ما هي تأثيرات الصعوبات الاقتصادية وغموض المستقبل في النظرة السياسية للناس العاديين؟ إن مقولة رئيسية في الخطاب الوطني الفلسطيني كانت أن الصعوبات والمعاناة تخلق ثورة. ومن هنا بقية المعارضة التي ما زالت موجودة حتى الآن للقيام بحملة من أجل الحقوق المدنية، ومن هنا إهمال الكوادر السياسية القضايا الاجتماعية الحيوية مثل المدارس والعناية الصحية. لكن تجربة الأعوام الخمسة والعشرين الأخيرة فتحت عيون الناس على التوزيع غير المتساوي للمغانم والمعاناة داخل الحركة الوطنية الفلسطينية. وتحتاج هذه التجربة إلى وقت كي تُستوعب جيداً ويتولد منها برامج عمل، لكن الشعارات القديمة باتت من الآن تبدو فارغة، ولا أحد مستعد للاستمرار في الاستماع إليها، وآذان الناس موجهة لالتقاط رسالة لم تتبلور بعد.

 

المصادر: 

[1] انظر نص مسودة الأجندة الإسرائيلية - الأردنية غير الرسمية، التي وضعت في واشنطن بتاريخ 27 تشرين الأول/أكتوبر 1992 في:

Journal of Palestine Studies, vol. xxii, no. 2 (Winter 1993), p. 142.

[2] سهيل الناطور، "أوضاع الشعب الفلسطيني في لبنان" (د.م.: دار التقدم العربي، 1993). التقرير عن البنى التحتية الاجتماعية والاقتصادية الذي قدمته اللجنة الأوروبية إلى فريق العمل الخاص بمشكلة اللاجئين، كانون الأول/ديسمبر 1994، يحتوي على جداول مقارنة بشأن الحقوق القانونية للاجئين في الدول المضيفة، ص 18.

[3] كان توزع اللاجئين المسجلين في سنة 1992/1993 كما يلي: الأردن: 1.072.561؛ غزة: 603.380؛ الضفة الغربية: 479.029؛ لبنان: 328.176؛ سورية: 314.039. وقد أجرى الحسابات يوسف صايغ من أجل تقرير عن لبنان قدم إلى جمعية الرفاه الاجتماعي في نيسان/أبريل 1995، بناء على ميزانية الأونروا لسنتي 1992/1993 و1994/1995. وقد استُثنيت مصاريف الإدارة في فيينا وعمّان. وبالمقارنة مع المعدل الوسطي للدول المضيفة كلها، فإن نصيب غزة من ميزانية الأونروا لسنة 1994/1995 بالنسبة إلى الفرد هو +55٪ مقارنة بـ -2.8٪ للبنان و-21.7٪لسورية.

[4] UNRWA Report, 1994/1995, p. 19.

[5] تقبل المدارس الثانوية الرسمية حصة صغيرة من غير اللبنانيين، لكن لا تتوفر لهم الخدمات الطبية الحكومية ونظام الضمان الاجتماعي.

[6] UNRWA Report, 1992/1993, p. 52.

[7] Refugee Working Group Activity Summary, January 15, 1995.

[8] في مجال التدريب وتوليد الدخل، وهو نشاط ترعاه الولايات المتحدة، فإن ما مجموعه 37 مشروعاً مقسم كما يلي: 12 في الأردن، 11 غير محددة، 9 في غزة والضفة الغربية، 3 في سورية، 2 في لبنان.

[9] بالنسبة إلى نظرة مختلفة للأونروا، انظر:

Hashim Abu Sido and Mona Ghali, "Aid and International Organisation in Palestine: Instruments of Development or of Foreign Policy?" Middle East International, no. 499 (April 28, 1995), pp. 16-17.

ويتهم المؤلفان الدول الغربية باستخدام الأونروا لإضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية.

[10] "الحياة"، 4/3/1995.

[11] أنشئت اللجنة الرباعية، المؤلَّفة من ممثلين عن إسرائيل ومصر والأردن والسلطة الوطنية الفلسطينية، بعد أوسلو من أجل التفاوض بشأن مصير النازحين، وهو مصطلح استخدم للدلالة على لاجئي حرب سنة 1967، الذين يبلغ عددهم 300.000، والذين يقيم معظمهم بالأردن.

[12] انظر: "السفير"، 20/4/1995.

[13] انظر: حسين شعبان، "ماذا يقول الفلسطينيون عن مستقبلهم في لبنان؟"، "السفير"، 2/6/1994.

[14] انظر: المقابلة مع وزير الخارجية فارس بويز المنشورة في "السفير"، 18/4/1994.

[15]بدأت الأونروا في أواخر سنة 1993 تشيد مباني مكونة من عدة طبقات في المخيمات لإسكان الفلسطينيين الذين جرى إجلاؤهم عن المباني التي كانوا يقيمون بها في الساحل والروشة ومناطق أُخرى. لكن جرى تجميد هذا المشروع في أوائل سنة 1994، بعد اجتماع تم بين رئيس الحكومة ومدير الأونروا في لبنان.

[16]مع أن مشروع البناء الذي بدأته الأونروا أوقف، فإن البناء الخاص في المخيمات مزدهر (مع أنه مخالف للقانون). وبسبب من الندرة، فإن أسعار الشقق مرتفعة: من 10.000 دولار إلى 15.000 دولار للشقة المكونة من غرفتين.

[17] الناطور، مصدر سبق ذكره.

[18] Hilal Khashan, "Palestinian Resettlement in Lebanon: Behind the Debate," Montreal Studies on the Contemporary Arab World (April 1994).

    أُجري الاستطلاع في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر !992، وشمل عينة تمثيلية مؤلفة من 986 شخصاً.

[19] اختار كثير من الدروز (36٪) والسّنة (30٪) أيضاً المقاومة المسلحة للتوطين، مع أن النسبة عندهما أقل من النسبة عند الموارنة (56٪) والشيعة (51٪).

[20] في مقابلة أُجريت معه في أثناء "قضية القريعة"، قال وزير التعليم العالي ميشال إده أن عدد الفلسطينيين في لبنان هو 600.000 (ربما ضعف العدد الحقيقي)، وأضاف أن "لبنان يرفض بصورة مطلقة زرع الفلسطينيين في أراضيه لأننا نكون بذلك نجازف بتقسيم البلد."

L’Orient/Le Jour, 1 Septembre 1994.

[21] نسيب لحود، "في مواجهة التوطين: تعزيز سيادة لبنان وقيام دولة فلسطينية"، في ملحق "السفير" عن الفلسطينيين في لبنان الصادر في شباط/فبراير 1995.

[22] نواف سلام، "بين العودة والتوطين: أي حل لمستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان؟"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 19 (صيف 1994)، ص 29 - 48.

[23] في مقابلة أجرتها معه صحيفة "الحياة" خلال قيامه بزيارة للندن في آب/أغسطس 1992.

[24] يوسف ماضي، "الأوضاع الديموغرافية والاجتماعية للفلسطينيين في لبنان"، المكتب المركزي للإحصاءات التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، حزيران/يونيو 1994. ويظهر مسح غير منشور لست مدارس تابعة للأونروا في عين الحلوة  في الفترة 1992 - 1995 نسباً عالية من الاستنكاف عن مواصلة الدراسة.

[25] في أواخر سنة 1993، افتتحت الأونروا صفوفاً للدراسة الثانوية في برج البراجنة (بيروت) تستوعب 85 تلميذاً. ومن الجدير بالذكر أن عدد التلاميذ المسجلين في المراحل التعليمية الثلاث في مدارس الأونروا في سورية يبلغ ضعف العدد المسجل في لبنان، مع أن عدد اللاجئين في لبنان أكبر منه في سورية:

The Report of the European Community to the Refugee Working Group, December 1994, Table 1.20, p. 71.

[26] بحسب استطلاع أجراه حسين شعبان، فإن 70٪ رفضوا التوطين مع اختلاف بسيط بين الطبقات والأجيال. انظر: شعبان، مصدر سبق ذكره.

[27] International Mission to Palestinian Refugee Camps, April 10-15, 1994, Report, Executive Summary, p. 6.

[28] كشف الاستطلاع الذي أجراه شعبان عن مقدار كبير من خيبة الأمل بالقيادة: فقط 14٪ أيدوا سياساتها، بينما قال 49٪ إن وجود اللجان الشعبية أو عدمه لا يحدثان أي فارق.

[29] في مقابلة مع "صوت الوطن" قال صلاح صلاح، من قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إن 27.000 فلسطيني حصلوا على الجنسية اللبنانية، أي أكثر كثيراً من سكان "القرى السبع" (من أصل لبناني، شيعة في الأساس) الذين طالب نبيه بري بمنحهم الجنسية:

L’Orient/Le Jour, 30 août 1994.

[30] قال شفيق الحوت، مدير مكتب م.ت.ف. في بيروت سابقاً، في مقابلة أجرتها معه محطة هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) إن الحقوق المدنية يجب ألاّ تكون أولوية بالنسبة إلى الفلسطينيين، لأن ذلك يمكن أن يجعلهم ينسون الهدف الأهم، الذي هو العودة إلى فلسطين.

السيرة الشخصية: 

روز ماري صايغ: كاتبة وباحثة مستقلة.