نحو تنمية التخطيط والحكم المحلي في فلسطين الدولة
كلمات مفتاحية: 
الحكم المحلي
المجتمع الفلسطيني
التخطيط الاقتصادي
القيود على البناء
نبذة مختصرة: 

تهدف الدراسة عرض بعض القضايا المتعلقة بالحكم المحلي والتخطيط الحيزي الشامل الذي يتطلب علاجاً فورياً من أجل التخفيف من معاناة السكان واستقطاب مبادرين اقتصاديين يعملون على تطوير المجتمع الفلسطيني. فتعرض الوضع القائم من حيث السكان والانتشار الجغرافي، والخلل الذي تعانيه السلطات المحلية، وغياب مخططات هيكلية لمعظم البلدات إلا ما وضع لتقييد البناء العربي. ثم تعرض سياسة مقترحة في هذا المجال. وتشتمل الدراسة على قائمة مراجع بالعبرية والعربية والإنكليزية.

النص الكامل: 

مدخل 

أدت المفاوضات الدائرة بين إسرائيل والفلسطينيين، ممثلين بمندوبي منظمة التحرير الفلسطينية (م.ت.ف.)، إلى توقيع اتفاق مبادئ يقرر بداية الحكم الذاتي في قطاع غزة وأريحا أولاً، ثم يسري على باقي أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. وسيرافق تنفيذ الاتفاق الحاجة إلى حل قضايا كثيرة متعلقة بالأمن، والأرض، والحدود، والاقتصاد، والمجتمع، وطابع السلطة المركزية والمحلية. وستعقد اجتماعات بين طواقم كثيرة، إسرائيلية وفلسطينية وعربية أُخرى، للبحث في هذه القضايا وكيفية حلها، وفي العلاقات المستقبلية بين الفلسطينيين والدول العربية وإسرائيل.

يدل البحث في المواد المكتوبة والمطروحة على جدول الدراسة والنقاش أن هناك اهتماماً قليلاً بقضايا تخطيط وتطوير البلدات في الكيان الفلسطيني المستقبلي، ومن ضمنها القضايا المتعلقة بتطوير الحكم المحلي والتخطيط الحضري الإقليمي. ويتركز الاهتمام على أطر السلطة المركزية المستقبلية.

إن هدف هذه الدراسة عرض بعض القضايا المتعلقة بالحكم المحلي والتخطيط الحيزي الشامل الذي يتطلب علاجاً فورياً من أجل التخفيف من معاناة السكان، واستقطاب مبادرين اقتصاديين يعملون على تطوير المجتمع الفلسطيني. إذ إن بناء وسائل في الحكم المحلي على نحو متواصل سيتيح تحقيق أهداف التطوير الاقتصادي الشامل والمتوازن، وسيخفف العبء عن كاهل السلطة المركزية، وسيحقق استقراراً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. أما تأجيل معالجة القضايا المحلية والبلدية فإنه سيؤدي إلى تأخر تنفيذ المهمات الملقاة على السلطة المركزية، حيث أن قيادة السلطة المركزية المتوقعة تتميز بخبرة في القضايا السياسية والعسكرية أكثر منها في القضايا المدنية، بما في ذلك التخطيط الحضري والحكم المحلي.

ستواجه السلطة المركزية التي ستقام في الكيان الفلسطيني المستقبلي أوضاعاً متردية للبنية التحتية والخدمات المقدمة في البلدات الفلسطينية، وغياب سلطة محلية ذات قدرة على التخطيط والتطوير. ويعاني كثير من البلدات الصغيرة غياب أية بنية تحتية وخدمات، وعدم توفر إطار منظم لسلطة محلية. وتفتقر هذه الأماكن إلى سلطات لوائية أو إقليمية. أما الجهاز القائم، والذي يعمل على تخطيط البلدات، فإنه يتميز بمنهج  تخطيط ضابط ومحدد ولا يبتكر طرقاً جديدة لتوجيه التطوير المستقبلي للبلدات. وسنفصِّل فيما يلي هذه الأوضاع، موضحين أن من شأن استمرار وجود منهج التخطيط هذا أن يشكل حاجزاً ملحوظاً أمام مهمة السلطة المركزية في الكيان الفلسطيني المستقبلي: تنمية المجتمع الفلسطيني وتطويره.

 الوضع القائم السكان الفلسطينيون

يقدر عدد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1992 بنحو 2,2 مليون نسمة. ولا تتوفر إحصاءات دقيقة بشأن عدد السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة (المناطق). فالمصادر الفلسطينية تقول إن عدد السكان في المناطق، بما فيها القدس الشرقية، يبلغ 2,239,000  نسمة. أما الإحصاءات الإسرائيلية (المكتب المركزي للإحصاء، 1993)، فقررت أن عدد سكان المناطق، بما فيها القدس الشرقية، بلغ 1,828,000 نسمة سنة 1991، يسكن 35% منهم في قطاع غزة والباقون يسكنون في الضفة الغربية. وأغلب السكان الفلسطينيين من المسلمين، ويشكل المسيحيون 5% من مجموع عدد السكان، ويتمركزون في مدن رام الله والقدس وبيت لحم. ويقل سن أكثر من نصف السكان عن 17 سنة، و 4% منهم فقط فوق سن 65 سنة. ويعيش ربع السكان (حتى سنة 1992) في المدن، ويعيش 55% في القرى، ويعيش الباقون (أقل من خُمس السكان) في مخيمات اللاجئين. وكان معظم هؤلاء اللاجئين قبل الخروج من تجمعات سكنه سنة 1948 من أصل قروي.

يتميز الوضع الديموغرافي لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة بأنه ملائم للمجتمعات النامية. إذ يبلغ معدل النمو الطبيعي 3,3% وحتى سنة 1991 كان يولد في الضفة الغربية 46,1 مولوداً لكل ألف نسمة، وفي قطاع غزة 56,1 مولوداً لكل ألف نسمة. ووصلت نسبة الزيادة السنوية إلى دول الخليج ودول الغرب، وهي الهجرة التي تطورت بصورة ملحوظة في الخمسينات والستينات ثم تقلصت بعد سنة 1967 لأسباب، منها فتح فرص للعمل في إسرائيل، وخصوصاً أمام القرويين القاطنين قرب الخط الأخضر. وفي فترة 1987 - 1991 (خلال الانتفاضة)، تزايدت الهجرة إلى الدول الغربية، وخصوصاً في أوساط المتعلمين وذوي القدرات الاقتصادية. لكننا نشهد منذ سنة 1991 عودة المهاجرين من الكويت، ولا سيما بعد حرب الخليج. وقد ساهمت هذه الهجرة في زيادة عدد السكان في الضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1992 بنسبة 2% (برغوثي، وآخرون، 1993).

الانتشار الجغرافي

يسكن 35% من السكان الفلسطينيين في قطاع غزة، ويسكن الباقون في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية. ويجد الفاحص للانتشار الجغرافي أن هذا الانتشار متوازن بصورة عامة، ما عدا في منطقة أريحا الفارغة نسبياً (يسكن فيها 1,8% من عدد سكان الضفة الغربية و 1% من عدد سكان الكيان الفلسطيني). أما المناطق الأُخرى، فإن التوزيع السكاني المزدحم فيها متشابه.

ينتشر السكان في شبكة بلدات متدرجة من حيث الحجم وعدد السكان. ويبلغ عدد البلدات 537 بلدة - كثير منها بلدات صغيرة. ويسكن ربع سكان الضفة الغربية وقطاع غزة في تجمعات سكانية يقل عدد سكان كل منها عن 5000 نسمة، وتشكل 83% من التجمعات السكانية. في مقابل ذلك، فإن 40% من سكان الضفة الغربية يقطنون في 2,4% من مجموع عدد البلدات. 

 

 

يوجد في الضفة والقطاع تدرج في حجم المدن المركزية التي تخدم مدناً صغيرة وقرى زراعية كبيرة. والمدن المركزية هي: نابلس في الشمال، والقدس في الوسط، والخليل في الجنوب. وتتمثل مدن الدرجة الثانية - مدن فرعية - في الشمال في: يعبد، وقباطية، وطوباس، وعرابة، وطولكرم، وقلقيلية. وفي الوسط تقع مدن: رام الله، والبيرة، وبني زيد، وبير زيت، وأريحا، وبيت لحم، وبيت ساحور، وبيت جالا. أما مدن الجنوب فهي: حلحول، ويطا، ودورا. وفي قطاع غزة رفح وخان يونس.

وفي كل منطقة من هذه المناطق مخيمات لاجئين يسكن فيها 380 ألف نسمة. وفي قطاع غزة أكبر تجمع لسكان المخيمات، حيث يسكن 272 ألف لاجىء، يشكلون 71,57% من مجموع اللاجئين في الكيان الفلسطيني.

من الجدير ذكره أن جزءاً من السكان القرويين المنتشرين في ظهير المدن المركزية والمدن الفرعية هو من البدو الذين يقطنون في خيم أو خِرَب أو قرى صغيرة تابعة لبلدات أكبر. وتدل المعطيات على أن 3% من السكان يقطنون في 160 تجمعاً صغيراً، يقل عدد سكان كل منها عن 5000 نسمة.

إن التوزيع الجغرافي للسكان هو نتيجة لعملية التنامي المرتبطة أصلاً بأسباب تمنع الهجرة الداخلية وتركيز السكان في مدينة مركزية واحدة، كما هو الأمر في كثير من الدول النامية. ويعود سبب عدم تركيز الفلسطينيين في مدينة واحدة إلى الفترة التي سبقت إقامة دولة إسرائيل، عندما كان الكيان الفلسطيني جزءاً من فلسطين الانتدابية، التي قسمت بعد حرب سنة 1948 إلى ثلاثة أقسام هي: إسرائيل، والضفة الغربية، وقطاع غزة. وأصبحت عمان عاصمة لضفتي المملكة الأردنية، وقد هاجر قسم من مواطني الضفة الغربية إليها، وتنامت وأصبحت أكبر مدن المملكة، ومقر المركز الاقتصادي والسياسي والإداري، بينما بقيت مدن الضفة الغربية مدناً صغيرة، وهاجر جزء من سكانها إلى عمان العاصمة، وأوجد فيها توازن هجرة سلبياً. أما قطاع غزة الذي انتقل إلى السلطة المصرية فقد وصل إليه كثير من اللاجئين، فبات مكتظاً بسبب استيعابهم، وهم يشكلون 35% من مجموع السكان.

وقد أدى النقص في فرص العمل، وغياب التنمية الاقتصادية - في مقابل تنامي فرص العمل في الأردن، وإمارات الخليج، ومصر، ودول الغرب - إلى هجرة بعض السكان الفلسطينيين إلى خارج المناطق. وفي مقابل ذلك، فإن قصر المسافة بين المدن والبلدات، والقدرة المحدودة للتشغيل فيها لم يشجعا القرويين على السكن في المدن، كما أن الثمن الاقتصادي والاجتماعي للهجرة باهظ. وعليه، فقد أدت هذه الأمور إلى استمرار توزيع السكان في القرى والمدن الصغيرة التي واصلت استيعاب التكاثر الطبيعي في عدد السكان.

وعقب احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة سنة 1967، فُتحت فرص العمل في إسرائيل، وحدث تطور في الزراعة التقليدية في القرى. وقد أدت هذه الأمور إلى تطور "اليَوْمَمَة" (السفر إلى أماكن العمل والعودة إلى مكان السكن يومياً)، في مجالات العمل في إسرائيل. وفي المقابل، فإن المدن الفلسطينية الكبيرة لم تقدم أماكن سكن أو فرص عمل تجذب سكان القرى للهجرة إليها. وساهم خوف القرويين من مصادرة أراضيهم من قِبل الحكم العسكري، ورغبتهم في العيش في محيطهم الاجتماعي والثقافي، في تقليص الهجرة الداخلية إلى المدن المركزية، وتم استيعاب التكاثر الطبيعي في القرى نفسها. وكبر بعض البلدات وأصبح أماكن سكن قروية كبيرة، مثل سيلة الحارثية، واليامون، ودير الغصون. وقد تضخمت هذه القرى من دون استيعاب هجرة داخلية إليها. وأصبح بعض المدن، وخصوصاً رام الله والبيرة، مع الزمن هدفاً للهجرة الداخلية، ولا سيما من قبل المثقفين، لكن هذه الهجرة كانت بنسب قليلة.

ونتيجة لهذه التطورات، احتفظ توزيع السكان بنمطه الجغرافي المميز بوجود مدن متوسطة ومدن صغيرة، وبتكاثر عدد القرى، المنتشرة في كل منطقة، باستثناء منطقة السفوح الشرقية لجبال نابلس والخليل وشمالي غور الأردن. ويعود سبب عدم الاكتظاظ في هذه المناطق إلى الظروف المناخية والطبوغرافية الصعبة فيها.

إن دراسة صفات السكان ومميزاتهم من ناحية السلوك الديموغرافي (العمالة، ومجال العمل، والتركيبة القطاعية والثقافية، والتجربة الإدارية البلدية، وحاجات الخدمات، والبنية التحتية) تكشف أن السكان الفلسطينيين هم في معظمهم مجتمع قروي أصلاً، على الرغم من سكنى بعضهم بصورة رسمية في مجتمعات حضرية ومخيمات اللاجئين. وعلى الرغم من وجود بلديات في مدن مثل طوباس، وقباطية، وعنبتا، وبني زيد، وبير زيت، وسلواد، ودورا، وبيتونيا، فإنها بقيت قرى كبيرة تضخمت نتيجة للتكاثر الطبيعي أصلاً، لكنها بقيت قروية في طابعها وجوهرها، على الرغم من اعتبارها مدناً من الناحية البلدية لاعتبارات لا علاقة لها بطابع المدن بالضرورة. أما بخصوص المخيمات، فإن معظم سكان مخيمات اللاجئين جاء من قرى كانت قبل سنة 1948 قائمة داخل دولة إسرائيل الحالية. ويعيش السكان القرويون في مخيمات للاجئين، مثل مخيمات: العروب، وجنين، ونور شمس، وعسكر، والرمال، في ظروف سكن متدنية، بلا بنية تحتية  وخدمات أساسية، ولا أي طابع حضري على الرغم من وجود بعض المخيمات في أطراف المدن أو في أواسطها.

والطابع القروي للسكان الفلسطينيين يستلزم استعداداً خاصاً وأن يؤخذ في عين الاعتبار هذه الميزات عند طرح سياسة تطوير القرى وإقامة سلطات محلية، أو مع تشكيل سلطة مركزية في الكيان الفلسطيني المستقبلي. ويجب أن تتناسب مؤسسات التخطيط الحيزي والحكم المحلي واللوائي، التي ستتطور في المستقبل القريب، مع ميزات السكان في المناطق. 

أطراف باقية

قبل سنة 1967 لم يتطور أي مركز سياسي أو اقتصادي أو إداري في الضفة الغربية وقطاع غزة. وقد حددت سياسة التنمية في هذه المناطق جهاتٌ رسمية في الدولة الأردنية أو الدولة المصرية اللتين فضلتا تطوير مدنهما المركزية على تطوير الأطراف الفلسطينية، ونذكر هنا بصورة خاصة الأردن، الذي قام بتطوير الضفة الشرقية ممثلة بعاصمتها عمان والمدن الأُخرى، وأبقى الضفة الغربية مجتمعاً قروياً وغير متطور، ولم يتطور فيها حتى جهاز لوائي يدير أو يطبق سياسة تطوير شاملة. أما السلطة في القاهرة، فلم تعر اهتمامها لما يحدث في قطاع غزة؛ إذ كان هناك حكم مدني يدير الحياة التي تركزت في إيجاد حلول للقضايا المستعجلة، ولم يطبق سياسة التطوير. ونتيجة لذلك بقي القطاع غير متطور، وكان بقاء الضفة والقطاع في وضع الأطراف باستمرار نتيجة لطابع السكان القرويين التقليديين في معظمهم، وللسياسة التي اتبعتها الدول التي سيطرت على الكيان الفلسطيني وحدّت من إمكان التطوير فيه.

وحتى بعد سنة 1967، لم يتطور في الضفة الغربية وقطاع غزة مركز اقتصادي مهم، واستمر اعتبار هذه المناطق أطرافاً للأردن ومصر، على الرغم من تبعيتها وظيفياً لهاتين الدولتين، وتبعيتها أيضاً لإسرائيل التي سيطرت عليها، وأدارتها إدارة مركزية. وعلى الرغم من الاهتمام بأمور تطوير المناطق الآهلة في المجالس المحلية القائمة، فإن هذه التطورات كانت محدودة من نواحي القدرة، وامتلاك الوسائل، والإمكانات. وعلى الرغم من بدء نمو مدن، مثل نابلس، وجنين، ورام الله، وطولكرم، وقلقيلية، والخليل، فإنها لم تصبح مراكز اقتصادية وإدارية مهمة، بل بقيت مدناً لوائية صغيرة. وحتى القدس الشرقية، التي يعتبرها الفلسطينيون مركزاً للكيان الفلسطيني، فقد تطورت كمنطقة وسط. ومع أن القدس أصبحت مركزاً اقتصادياً وإدارياً مهماً في إسرائيل، فإن الجزء الشرقي من المدينة بقي القسم الأضعف في العاصمة، سواء من الناحية الاقتصادية أو من ناحية التشغيل ومستوى الخدمات والبنية التحتية. 

سلطة محلية تعاني الخلل

هناك عامل آخر أثر في عدم الاهتمام بالتطوير الإقليمي في الكيان الفلسطيني، وهو المتعلق بالحكم المحلي. فقد ساهم الأردن ومصر مساهمة منخفضة المستوى في تطوير حكم محلي (شهوان، 1993). وبعد سنة 1967 أعاقت إسرائيل، بواسطة الحكم العسكري، تطوير حكم محلي في هذه المناطق. ومنذ سنة 1967 أقيم مجلس محلي واحد في الضفة الغربية ومجلسان في قطاع غزة، مع أن السكان الفلسطينيين تضاعف عددهم تقريباً خلال الأعوام الـ 25 الأخيرة، ومروا في مرحلة حضرية في بعض المجتمعات القروية، الأمر الذي استلزم وجود سلطة محلية تدير التطوير وتنشىء خدمات حيوية للسكان. والآن، يوجد 25 مجلساً بلدياً في الضفة الغربية، و4 مجالس بلدية في قطاع غزة. وبالإضافة إلى ذلك يوجد 84 مجلساً محلياً في الضفة الغربية، و9 مجالس في قطاع غزة؛ أي أن 22% من المناطق الآهلة بالسكان تتمتع بمجالس محلية فقط، وتدار المناطق الباقية بواسطة المخاتير. وفي قليل من هذه القرى لجان محلية لا تتمتع بأي وضع قانوني، لكنها تمثل السكان أمام الحكم العسكري. أما في مخيمات اللاجئين، فإن هناك لجاناً تطوعية محلية تنسق عملها مع ممثلي الأمم المتحدة فيها، وتشارك في تقديم الخدمات للسكان اللاجئين، وتمثلهم عند الحاجة. وجزء كبير من المجالس القروية المعلن عنها لا يعمل، وهو مثل السلطة الناقصة؛ ففي قباطية لا يوجد رئيس سلطة، وفي نابلس تدار البلدية بواسطة طاقم موظفين بلا رئيس، ونصف المجالس القروية لا يعمل، وخصوصاً خلال الانتفاضة، لأن بعض رؤساء المجالس القروية اتُّهم بالتعاون مع الحكم العسكري الإسرائيلي، فاستقال هؤلاء من مناصبهم، وجُمدت أعمال المجالس القروية الأُخرى. أما النصف الآخر من المجالس القروية فيدار بواسطة رؤساء لا يتلقون رواتب. وعموماً، فإن السلطات المحلية العاملة في الضفة الغربية وقطاع غزة تعاني عدم القدرة على نقل التطوير إلى حدود مجالسها، وذلك بسبب عدد من الأمور الداخلية والخارجية، التي يتعلق بعضها بالسلطة المحلية نفسها، ويتعلق بعضها الآخر بالسكان، وبالسلطة المركزية وطريقة تعاملها مع السلطة المحلية.

والجهاز العامل في السلطات المحلية ضعيف من الناحية المهنية وصغير من الناحية العددية، وهو لا يستطيع تقديم الحاجات للعدد المتزايد من السكان. وفي الاستطلاع الذي أُجري سنة 1991 بشأن حجم القوى العاملة في السلطات المحلية، اتضح أن 13 بلدية من مجموع 29 بلدية تشغِّل كل واحدة منها أقل من 20 عاملاً. وعلى سبيل المثال، فإن بلدية سلواد تشغِّل 6 عمال، وتشغِّل بلدية بني زيد 8 عمال. وبلديات أربع فقط تشغِّل أكثر من 100 عامل، مثل بلدية نابلس، حيث يعمل فيها 461 عاملاً، وبلدية غزة التي يعمل فيها 422 عاملاً (الجرباوي، 1992). ويحُول الوضع المالي السيىء للسلطات المحلية (أنظر أدناه) دون تشغيل عدد ملائم من العمال بمستوى مهني مقبول، ويحول دون العمل الإضافي المعتاد. ويدل البحث الذي أُجري بشأن العمال في السلطات المحلية على النتائج التالية: مستوى تعليم منخفض، وتركيبة تنظيمية ليس لها دور واضح، وعدم وجود عمل يضم طواقم، وتنسيق ومراقبة ضئيلان، واستخدام محدود، وشؤون وأواليات إدارية تقليدية، وعدم وجود تخطيط (شهوان، 1993). ويسيطر رئيس المجلس على الجهاز الصغير وغير المهني، وهو الذي يحتكر جميع الصلاحيات في يديه، ويتخذ القرارات في معظم الأمور، فيقوم، مثلاً، بتقرير السياسة وتعيين الموظفين، ويعطي التعليمات لتنفيذ الأمور بحسب رأيه. ويعزى التركيز المفرط للصلاحيات إلى كون رئيس المجلس وأعضاء مجلس البلدية هم في الحقيقة موظفون جرى تعيينهم ولم يجر انتخابهم، لأنه لم تجر انتخابات منذ سنة 1976. وقد بقي من رؤساء المجالس البلدية من الذين انتُخبوا سنة 1976 اثنان هما رئيسا بلديتي طولكرم وبيت لحم. أما الباقون فقد تم تعيينهم من قبل الحكم العسكري بعد إقالة رؤساء المجالس البلدية المنتخبين. وأدى ذلك إلى تعيين موظفين لأسباب تتعلق بالقرابة لا بكفاءاتهم المهنية. أي أن احتكار الصلاحيات هو نتيجة مباشرة لعدم وجود إطار قانوني يحدد صلاحيات رئيس المجلس ولعدم وجود طابع ديمقراطي راسخ في المجتمع. وقد ساهمت الأوضاع السياسية هي الأُخرى في احتكار الرئيس للصلاحيات نتيجة للعلاقة المباشرة بين السلطة المحلية، ممثلة برئيسها فقط، وبين السلطة المركزية.

تعتبر الموارد المحدودة عاملاً أساسياً في إضعاف السلطة المحلية. فمن المعروف أن دخل السلطة المحلية في المدن يأتي من ثلاثة مصادر أساسية: الضرائب المفروضة على الأملاك، والضرائب المفروضة على أعمال السكان والميزانيات التي تقدمها السلطة المركزية، والهبات المقدمة من الدول العربية أو من م.ت.ف. وتدل الأبحاث التي أُجريت على الدخل من الضرائب أن هناك صعوبة في الجباية. فمثلاً، تجبي مدينة نابلس ما بين 30% و 40% من الديون المستحقة على السكان، وتقل نسبة جباية الديون في مدن أُخرى، مثل خان يونس وطولكرم، عن 60% من حجم الديون. وبسبب انخفاض الأنشطة الاقتصادية والمهنية في المدن، فإن نسبة الضرائب المجباة من سكانها تكون منخفضة. ونظراً إلى الوضع الاقتصادي المتردي للسكان، فقد تقلصت قدرتهم على تسديد ديونهم للسلطات المحلية. وهناك نطاق واسع من الإعفاء من الضرائب البلدية يقدمه رؤساء المجالس إلى السكان. وهذه الأمور كلها ساعدت في تقليص حجم الدخل للسلطات المحلية.

ولا تقدم السلطة المركزية (الحكم العسكري) موارد كبيرة للبلديات. ففي سنة 1986 بلغت الميزانيات المقدمة من السلطة المركزية 33% من الدخل العادي للبلديات. وفي سنة 1989 تلقت بلدية طولكرم 6,9% فقط من ميزانيتها، بينما تلقت بلدية خان يونس 1% من ميزانيتها. وفي السنة نفسها لم تموّل السلطة المركزية مطلقاً بلديتي رفح ودير البلح في قطاع غزة، وبلدية يعبد في الضفة الغربية. وبلغت نسبة ميزانية التطوير لسنة 1986، المقدمة من السلطة المركزية إلى السلطات المحلية، 48% من ميزانيتها العادية في تلك السنة. ومن أجل المقارنة، فإن نسبة ميزانية التطوير سنة 1969 بلغت 97% من دخل المجالس المحلية.

وفي العقد الأخير قللت الدول العربية و م.ت.ف. بصورة كبيرة مساعداتها المقدمة إلى المجالس المحلية؛ ففي سنة 1982 كان 97% من ميزانيات التطوير في البلديات يأتي من اللجنة الأردنية - الفلسطينية المشتركة. لكن هذا الرقم هبط إلى الصفر عند بعض البلديات. وبدلاً من تمويل من قِبل الدول العربية و م.ت.ف.، بدأت جهات دولية، مثل الأونروا وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية (UNDP) والوكالة الأميركية للإغاثة في الشرق الأدنى (ANERA)، تمويل مشاريع في أماكن السكن، لكن المبالغ المقدمة قليلة ولا تغير وضع المجالس المحلية من الناحية الاقتصادية.

وقد ساهم الوضع المالي المتدهور والإدارة المالية الضعيفة في المدن في عدم إنجاز المشاريع للمجالس، وفي انخفاض مستوى التطوير فيها. وعليه، فإن المجالس البلدية لم تبادر إلى تطوير مشاريع جديدة بل اهتمت بـ "إطفاء الحرائق". وكان التطوير موجهاً في الأصل إلى تقديم خدمات أساسية متوفرة لا إلى إقامة خدمات جديدة أو تطوير بنية تحتية طبيعية.

وتقوم الإدارة التقليدية بدورها في السلطة الإدارية التي تقدم الخدمات، وهي هيئة غير قائمة أصلاً على أسس مهنية مبادرة. وفي المقابل، فإن السكان ينظرون إلى المجالس المحلية نظرة سلبية، الأمر الذي يؤدي إلى تقليل التعاطف معها، وإلى عدم الانصياع لأوامرها وطلباتها.

ولم تنجح تجربة رؤساء المجالس المحلية المنتخبين سنة 1976 في إيجاد تمثيل على مستوى لوائي وقطري. وقام الحكم العسكري بإقالة عدد من رؤساء البلديات، مثل رؤساء بلديات نابلس، والبيرة، ورام الله، وحلحول، والخليل، وعيّن بدلاً منهم موظفين محليين. وعزز هذا التطور الموقف المحلي الذي يعتبر السلطة المحلية ذراعاً للحكم العسكري، وأدى إلى تراجع التطوير وزيادة تعلق السلطة المحلية بالسلطة المركزية. وفي الأعوام الخمسة الأخيرة لم تكن المجالس القروية تمارس عملها بصورة مستقلة تقريباً، فالمشاريع القليلة التي نفذت في القرى تمت بمبادرة من الحكم العسكري، وبواسطة ضباط قيادة لوائيين يحددون المشاريع ويعملون على تنفيذها.

ولم تعمل السلطات المحلية التقليدية على تطوير أدوات تخطيطية لبلورة حدود مجالسها وتوسيعها. وتم التطوير بصورة عفوية ومن دون توجيه هيكلي. وكان العمل الهيكلي الأساسي في مجال التخطيط المحدود يهدف إلى تقليص الأراضي التي تنتشر القرى وأماكن السكن عليها، ولم يبذل أي جهد لتطويرها. والمبادرة إلى إعداد مخطط هيكلي لا تأتي عن طريق المجلس المحلي في أغلب الأحيان. ويعتبر تدخل السلطة المحلية في تحضير المخططات تدخلاً متدنياً، كما سنرى ذلك لاحقاً.

تخطيط البلدات

إن عدم وجود سلطة محلية في أغلب القرى، وضعف السلطة المحلية القائمة في المدن والمجالس القروية، ساهما إلى حد كبير في إعاقة إعداد مخططات هيكلية محلية لمعظم البلدات. وفي البلدات التي وضعت لها مخططات هيكلية محلية، وجدت فوارق كبيرة بين المخطط والواقع. ويعتبر السكان أن التخطيط الهيكلي هو أداة في يد السلطات تقيد بها إمكانات تطوير البلدات، وتصادر الأراضي أو تمنع السكان من استعمالها. وهذه المخططات لا تساهم في تطوير البلدات وازدهارها. والمخططات التي تمت الموافقة عليها لقسم من القرى لا تتيح تطوير المواقع المعنية، مع الأخذ في عين الاعتبار الأفضليات النسبية من حيث الموقع الجغرافي وموقع البلدة في سلم التدرج للمدن والقرى. لذلك، فإن هذه المخططات الهيكلية لا يمكن أن تكون أساساً تخطيطياً يتلاءم مع رغبة أجهزة التخطيط الفلسطينية في الوقت الذي ستعمل على تطوير شامل للكيان الفلسطيني المستقبلي. وهذه الفرضية سنناقشها فيما يلي، وسنحاول التركيز خلال البحث على الوضع التخطيطي وعلى صفات ومميزات المخططات المصادق عليها للبلدات الفلسطينية، وعرض مقترحات لسياسة تخطيط حيزي في ضوء حاجات السكان الفلسطينيين ورغباتهم، مع بذل جهود لتقليص الضائقة في مجال البنية التحتية والسكن والعمل والخدمات.

لقد بدأ التخطيط المقنن للبلدات الفلسطينية مع قيام الانتداب البريطاني، حيث صدر سنة 1921 قانون بناء المدن الملزم بإعداد مخططات هيكلية للمدن.

وتم تنفيذ المخططات عملياً عندما وضعت مخططات هيكلية محلية للقدس، ونابلس، وطولكرم، والخليل، وغزة. وقبل الموافقة على قانون بناء المدن سنة 1936، تم وضع مخططات هيكلية لمعظم المدن في المناطق، لكن القرى لم تحظ بمثل هذه المخططات. ونص قانون بناء المدن عند إقراره سنة 1936 على أنه يجب إعداد مخططات لوائية لستة ألوية في البلد. وحددت المخططات الهيكلية اللوائية الانتدابية قواعد لإصدار رخص بناء في الأماكن القروية. وحتى سنة 1948 وضعت مخططات هيكلية لـ8 قرى فقط (لبيدوت، 1977).

وخلال فترة الحكم الأردني للضفة الغربية والحكم المصري لقطاع غزة، لم توضع مخططات هيكلية محلية للقرى باستثناء المخطط الهيكلي لقرية الطيبة في لواء رام الله سنة 1956. وفي مقابل ذلك، فإن القرى التي أصبحت من الناحية البلدية مدناً خلال العهد الأردني وضعت لها مخططات هيكلية، مثل بني زيد، ويعبد، وقباطية. وبصورة عامة، فإن السلطة الأردنية والسلطة العصرية لم تعيرا اهتماماً لمخططات هيكلية للبلدات. وواصل الجهاز التشريعي والتخطيطي الاعتماد على المخططات اللوائية الانتدابية عند إصدار رخص بناء في القرى. وذلك لأن المخططات اللوائية الانتدابية لم تحدد استعمال أراض معينة في القرى، مثل الطرق والأبنية العامة. واستمر تطور القرى بصورة عفوية على الرغم من إعطاء رخص بناء.

ولم يبادر الحكم العسكري الإسرائيلي الذي سيطر على المناطق منذ سنة 1967 إلى إعداد مخططات هيكلية محلية للقرى. وحتى سنة 1971، أوْلى الحكم العسكري اهتماماً قليلاً لموضوع التخطيط، وبقيت أجهزة التخطيط مرتبطة بعمّان. ومنذ أن صدر الأمر العسكري رقم 418 في 23/3/1971، الذي يعطي قائد المنطقة صلاحيات لإجراء تغييرات في تركيبة وعدد مؤسسات التخطيط الهيكلي القائمة على أساس قانون التخطيط الأردني رقم 79 لسنة 1966، تجددت أعمال التخطيط في المناطق، فأقيم مجلس التخطيط الأعلى بدلاً من اللجنة اللوائية التي عملت خلال فترة الحكم الأردني في القدس ونابلس، وخدمت السكان في الضفة الغربية. وتجددت أعمال اللجان المحلية الحيزية من أجل إصدار رخص بناء في القرى اعتماداً على المخططات اللوائية في إبان الانتداب، وعلى المخططات الهيكلية المحلية في المدن. لكن الحكم العسكري لم يبادر خلال السبعينات إلى إعداد مخططات هيكلية محلية للمدن والقرى، باستثناء بلدة سلفيت سنة 1974. وفي نهاية السبعينات بادر الحكم العسكري إلى إعداد مخططات هيكلية محلية للقرى بواسطة مخططين إسرائيليين. وجرت هذه المبادرة بالتعاون مع مكتب التخطيط المركزي في مستوطنة بيت إيل، قرب رام الله. وفي الثمانينات شُرع في إعداد مخططات لوائية جديدة للمواقع في قطاع غزة، وكانت هي أيضاً من قِبل مخططين إسرائيليين. وفي المقابل، بدأت المبادرة إلى وضع مخططات هيكلية لوائية لمنطقة وسط الضفة الغربية الكائنة حول القدس. وقام بتخطيطها مكتب تخطيط إسرائيلي، وتم إيداعها سنة 1982. كما وضعت مخططات لوائية جزئية لشبكة طرق في المناطق، والتي تعتبر جزءاً من المخطط الهيكلي القطري للطرق في إسرائيل (ت م أ 3)، وسمي المخطط "الأمر العسكري رقم 50: مخطط لوائي للشوارع في  يهودا والسامرة".

وتم إيداع هذا المخطط سنة 1983. وبمراعاة تعليمات مخطط منطقة الوسط، والأمر العسكري رقم 50، وبداية إعداد المخططات الهيكلية المحلية لـ 183 قرية في الضفة الغربية، نجد أن هدف هذه المخططات هو تقييد توسع البناء والتطوير في القرى. ففي حين أن المخططات الهيكلية اللوائية زمن الانتداب سمحت بالبناء في المناطق الزراعية، فإن المخططات الهيكلية المحلية الجديدة منعت ذلك. وفي الثمانينات بدأ وضع مخططات هيكلية محلية من قبل مخططين إسرائيليين  لمدن رام الله، والبيرة، وبيت لحم، وبيت جالا، وبيت ساحور، ونابلس، وقلقيلية، وجنين. ويمكن القول إنه بدأت يقظة اتجاه المخططات الهيكلية في القرى والمدن في المناطق، وخصوصاً بمبادرة من الحكم العسكري، الذي أصبح إدارة مدنية سنة 1982، وبالتعاون مع مكتب التخطيط المركزي. ويقوم بوضع هذه المخططات أصلاً مخططون إسرائيليون، مع مشاركة محدودة للسكان المحليين (خمايسي، 1989؛ Coon, 1990).

ويشير البحث في وضع المخططات الهيكلية إلى أن من بين 29 مدينة في المناطق صودق على مخططات هيكلية لبلديات مدن أربع، بعد سنة 1967. والمخططات الهيكلية لمدينتي الخليل وغزة مصادق عليها منذ سنة 1944. أما مدن نابلس، ورام الله، والبيرة، وبيت لحم، فليس لها مخططات هيكلية جديدة مصادق عليها. وقد تمت المصادقة على مخططات هذه المدن القائمة سنة 1966، بينما لم تتم المصادقة على المخططات التي بدأ العمل بها في الثمانينات. وأما مخططات المدن الأخرى (19 مدينة)، فهي في مرحلة الإعداد أو المصادقة. وهناك مدن ليس لها مخططات هيكلية، مثل يعبد، وعنبتا، وعرابة.

وفيما يتعلق بالقرى، فهي ليست أفضل حالاً؛ إذ أن هناك 170 مخططاً هيكلياً مصادقاً عليها للقرى، أعدها مكتب التخطيط في الإدارة المدنية، وسميت هذه المخططات "مخططات هيكلية محلية جزئية". كذلك تم إعداد حدود لـ 170 قرية أُخرى استعداداً لوضع مخططات هيكلية خاصة لتحديد مجال البناء (إعلان من ممثل المستشار القضائي للحكومة، محكمة العدل العليان 93/1593 بتاريخ 22/6/1993). ولقد اعتبرت لجنة التنظيم المركزية "المخططات الخاصة" مرحلة مسبقة لإعداد مخططات هيكلية وتفصيلية للقرية، حيث كانت المخططات الخاصة تهدف إلى تحديد منطقة البناء السكني في القرية، (وذلك بحسب ما أشارت المحكمة) (محكمة العدل العليا 93/1598، صفحة/3).

مميزات المخططات الهيكلية

لقد وضعت المخططات الهيكلية بهدف معلن هو تقييد توسع البناء في القرى والمدن، وتحديد قواعد واضحة في إصدار رخص بناء في المساحة المبنية من البلدة. وهناك هدف ثانوي لهذه المخططات هو تخصيص أراض للأبنية العامة. والفكرة التخطيطية والأسلوب ومضامين المخططات الهيكلية، وحتى الأسباب، مشابهة لتلك المخططات المفصلة - لمجال البناء - التي أُعدّت للقرى العربية في إسرائيل سنة 1957 (خمايسي، 1990)، عندما كان الحكم العسكري مفروضاً عليها. وقد وضعت المخططات الهيكلية من دون إجراء استطلاعات ومسوحات فيزيائية أو الأخذ في عين الاعتبار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، أو دراسة ملكية الأراضي، أو وضع برنامج لحاجات البلدة، باستثناء الأخذ في الحسبان الزيادة المتوقعة في عدد السكان، اعتماداً على تقدير عدد سكان القرية الحالي. ولم يبذل المخططون جهداً لوضع برنامج لاستعمال الأراضي العامة، وأراض للسكن، وأراض للمواقع التجارية، وما شابه ذلك. وقد تقلص تخطيط استعمالات الأرض في المخططات الهيكلية إلى اقتراح ثلاث مناطق سكن، تختلف فيما بينها باكتظاظ البناء والارتدادات، ورسم استخدام الأراضي العامة القائمة فقط.

وكما ذُكر، فإن المخططات الهيكلية وضعتها دائرة التنظيم المركزية في الإدارة المدنية بمبادرة من السلطة المركزية، وأعدَّ موظفو هذه الدائرة معظم هذه المخططات بأسلوب فوقي. لكن عدداً صغيراً من المخططات وضعها الفلسطينيون، مثل مخططات قرى بيت فجار وحوسان والخضر. ولا تختلف هذه المخططات كثيراً عن المخططات التي وضعها موظفو مكتب التخطيط في الإدارة المدنية، وذلك بسبب التوجيهات التي أصدرها مكتب التخطيط المركزي للمخططين الفلسطينيين، الذين أُلزموا بالتخطيط في إطار حدود المخططات التي قررتها الإدارة المدنية قبل إعداد المخطط التفصيلي أو قبل أية عملية تخطيطية في حدود القرية؛ حيث أن حدود المخطط ومساحته واستعمالات الأراضي يتم استخلاصها من حاجات القرية، التي يمكن معرفتها من خلال استطلاع الأوضاع فيها ودرسها. لذلك، فإن مجال الحرية التخطيطية المهنية للمخطِّط الفلسطيني كان محدوداً. كما حُرم السكان التدخل والمشاركة في وضع المخططات. ولم يقدم السكان اعتراضات على المخططات على الرغم من أنها تمس بهم كثيراً، وهم بذلك عبّروا عن احتجاجهم على المخطط وعلى من أعدّه، وطريقة إعداده، وتصديقه وتطبيقه. ولم يكن تدخل موظفي البلدية في وضع المخططات فعالاً. ويبدو أن هذا الموقف جاء نتيجة إحساسهم بأن تأثيرهم في المخططات محدود. ولم يكن لدى بعض موظفي البلديات خبرة تخطيطية أو رقابة على عملية تخطيط المدينة.

إن في الضفة الغربية وقطاع غزة سبع لجان محلية إقليمية للتخطيط والبناء، تقدم خدمات تخطيط ورخص بناء للقرى. أما في المدن، فإن المجلس البلدي يقوم بدور لجنة تنظيم محلية، وهو يصدر رخص بناء في منطقة نفوذه، أما مؤسسات التخطيط فيسيطر عليها موظفو الإدارة المدنية. واللجنة المركزية في مجلس التخطيط فيسيطر عليها موظفو الإدارة المدنية. واللجنة المركزية في مجلس التخطيط الأعلى ولجنة المراقبة ليس فيهما أي فلسطيني. والتمثيل الفلسطيني في هذه اللجان - التي تصدر رخص بناء - محدود جداً، وهو قائم أصلاً في اللجان الفرعية أو اللجان المحلية الإقليمية. وتعمل هذه اللجان بناء على توجيهات مكتب التخطيط المركزي ومختلف أجهزة الإدارة المدنية. وبما أن المبادرة في ذلك تأتي من السلطات العليا، فإن مؤسسات التخطيط تبعد متخذي القرارات التخطيطية عن حل قضايا المواطنين، ولا تعتبر هذه الهيئات جديرة بتمثيل ملائم لمصالح المواطنين في مؤسسات التخطيط.

لقد حافظت مؤسسات التخطيط للحكم العسكري الإسرائيلي على المصالح الإسرائيلية، وعلى المستوطنات في المناطق. فعلى سبيل المثال، تم توجيه حدود ملكية قرية فلسطينية وتحديدها بحسب اعتبارات عدة، مثل المحافظة على خطوط المواصلات، ومنع البناء على جنبات الطرق بارتداد كبير، والمحافظة على أرض خالية حول المستوطنات القائمة أو المخطط لها، ومنع توسيع القرى الفلسطينية في المناطق المغلقة لضرورات أمنية، وهو أمر تحدده طواقم عسكرية، ومنع التوغل في أراضي الدولة وأراضي حماية الطبيعة والمناطق الثرية والأراضي التي يديرها القيم العام على أراضي الغائبين، والمحافظة الشديدة على الأراضي الزراعية أو الأراضي غير المتطورة. وقد ساهمت هذه الأمور في تقليص الأراضي المعدة لتطوير القرى الفلسطينية، وفي عدم وضع مخططات هيكلية محلية لها. وأبقى المخططون كثيراً من بيوت السكن القائمة خارج الحدود المقترحة للبلدة، مثل قريتي سيلة الحارثية وكفر الديك؛ أي أن التخطيط لم يستجب للحاجات الفورية، مع أن هذه المخططات كان يجب أن تقدم حلولاً لمستقبل البلدات بعد نحو عشرين عاماً. وقد قلّص التخطيط، الذي أُعِد للبلدات الفلسطينية من اتساع البلدة من وجهة النظر المحلية المبدئية. ولم يكن في أوساط المخططين أي توجه لوائي إقليمي أو قطري واسع لدى إعداد مخططات البلدة. ولم يقترح المخططون استعمال أراض ملائمة لاستعمالات فوق محلية، تخدم مجموعة من البلدات المحاذية أو منطقة كاملة. وأوجد هذا الوضع عزلاً بين البلدات لأنه تم إلغاء شوارع محلية تربط بين البلدات، ومنعَ ذلك بناء متواصلاً يربط بينها، على الرغم من التقارب الجغرافي بين هذه البلدات. وفي المقابل، فقد أوجد الوضع ازدواجية في المعايير. وذلك من خلال دمج قرى قريبة في مخطط واحد، على الرغم من أنه لا يوجد مبرر تخطيطي مهني لذلك، وخططت استعمالات أراض لفعاليات تخدم أكثر من بلدة واحدة، مع أن بعض هذه البلدات قرى كبيرة وبلديات تخدم ظهيراً من القرى المحاذية التي تعتمد عليها في الخدمات.

وساهم الاتجاه المحلي الضيق في تطور ظاهرة نسخ الحل التخطيطي المقترح ونقله إلى عدد من القرى. وقد حدد في كل قرية ثلاثة أنواع من مناطق السكن، ووضعت شبكة طرق رئيسية فقط، وأشير إلى الأبنية العامة القائمة فحسب، ولم تقترح أبنية جديدة. وحتى نظام المخططات الهيكلية نُسخ ولم يتغير فيه سوى اسم البلدة وجدول مساحات الأراضي، أما باقي التخطيط فهو موحد. وظاهرة النسخ التخطيطي تشير إلى عدم وجود عمق ودراسة في العملية التخطيطية، وإلى تبني حل تخطيطي سريع لا يأخذ في عين الاعتبار الحاجات والمميزات الخاصة بالبلدة، ولا يستثمر الأفضليات الكامنة فيها، مع إعطاء تعبير تخطيطي واضح في خرائط المخطط ونظامه.

ليس للمخططات التي أعدت للبلدات الفلسطينية أهداف اقتصادية، مثل تخصيص مناطق صناعية وواجهات تجارية لمحلات. فقد كانت فكرة التخطيط التي كانت دافعاً للمخططين هي المحافظة على الطابع القروي في البلدات الفلسطينية. والجدير بالذكر أنه قد اقتُرح في مخططات بعض المدن مراكز صناعية وتجارية ومواصلات، إلا إن هذه المقترحات تفتقر إلى تفكير في الأهمية الاقتصادية لهذه الاستعمالات. أما القرى والمدن الصغيرة، فإن تخطيطها بني على أساس أنها "عنابر للنوم"، حيث أن اقتصاد سكانها وعملهم متوفران خارج البلدة، إذ يذهبون يومياً إلى العمل ويعودون للنوم في بلدتهم. لذلك لم يُقترح إقامة مناطق تشغيل فيها تمكن من إقامة فعاليات اقتصادية. ولم تأخذ المخططات التي وضعها الحكم والإدارة المدنية في عين الاعتبار حاجات المواطنين فيما يتعلق بالأبنية العامة. ووضع المخططون في نظام المخطط بنداً يلزم أصحاب الأراضي الذين يملكون أكثر من دونمين وضع مخطط مفصل وعيني ومحدود يلتزم صاحب الأرض بموجبه تخصيص ربع الأرض للأغراض العامة. وتكمن الصعوبة الكبيرة في تنفيذ هذا البند وتطبيقه في أن أصحاب الأراضي الذين يملك كل واحد منهم أكثر من دونمين عددهم قليل في المنطقة المعدة للتطوير، أو في المنطقة المشمولة بالمخطط الهيكلي المقترح أو المصادق عليه للتطوير. ونتيجة لذلك بقيت البلدة من دون بنية تحتية من الأراضي الملائمة لإقامة الأبنية العامة عليها مستقبلاً.

وفي مقابلة مع واضعي المخططات في الإدارة المدنية اتضح أنهم يعرفون مميزات المخططات التي وضعوها للبلدات الفلسطينية، ويعرفون أيضاً أن الاتجاه التخطيطي الذي تمت ممارسته يأتي من أعلى، وأن هذه الجهة لا تأخذ في عين الاعتبار بصورة كافية حاجات السكان، وملكيتهم للأرض في هذه البلدات. لكنهم يصرحون بأن هذه المخططات خطوة أولى لوضع بنية تخطيطية للقرى، ستكون حافزاً للسكان ولممثليهم للمبادرة إلى إعداد مخططات هيكلية محلية، تعدل وتحسن المخططات التي وضعتها الإدارة التخطيطية في الحكم العسكري والمدني. لكن الحقيقة على الأرض تتمثل في عدم وجود جهات بلدية تبادر إلى وضع مخططات من الأسفل. أما المدن التي فيها مجالس قروية وبلدية، فإنها تتحرك للمبادرة إلى إعداد مخططات هيكلية جديدة أو إلى تغيير مخططات اقترحتها وصادقت سلطات التخطيط عليها.

تأثير أبعاد التخطيط في تطوير البلدات

نتيجة لماهية التخطيط، وللطابع المحدد، والضابط المنتهج حتى الآن في وضع مخططات هيكلية محلية في البلدات الفلسطينية، برز عدد من الأبعاد هي:

أ - تحديد البناء في المنطقة المبنية التي ليس فيها بنية تحتية ملائمة، والأبنية قديمة ومتداعية والطرق ضيقة وغير معبدة. وزيادة البناء في هذه المنطقة تثقل على البنية التحتية القائمة، وخصوصاً في النواة المكتظة في القرى، وذلك في ضوء زيادة عدد السكان، وارتفاع نسبة مالكي السيارات، وزيادة الطلب على السكن الحديث. وليس لهذه الأمور جميعها مكان يكفي في المنطقة المقلصة المسموح بالبناء فيها. وكل من لا يملك أرضاً خاصة للبناء في هذه المنطقة يتعرض لضائقة سكنية، وذلك على خلفية سوق أراض شبه مجمدة في القرى وقلة الاتجار بالأراضي، وغياب متعهدين يقومون ببناء مبان سكنية. وفي مقابل ضائقة الأراضي وقلة أبنية السكن، لم يعرض المخطط توسيعاً للمنطقة المسموح بالبناء فيها، الأمر الذي أدى، وسيؤدي، إلى زيادة أسعار الأراضي.

ب - إن النقص في الأراضي المخصصة للأغراض العامة يعرقل إقامة بنية تحتية للأبنية العامة في أماكن ملائمة، وذلك من حيث نوع الخدمة ومجموعة السكان موضوع هذه الخدمة.

ج -  إن النقص في الأراضي المخصصة للاستعمالات الاقتصادية، مثل المناطق الصناعية والتجارية، قد قيّد مبادرات لفعاليات اقتصادية، وتطوير أساس اقتصادي محلي في كثير من البلدات. ونتيجة لذلك، انتقل كثيرون لـ "اليوممة" في حقوق العمل في الخارج، وخصوصاً في إسرائيل. وتقليص مجالات العمل في الخارج سيؤدي في المستقبل إلى زيادة البطالة في ضوء عدم توفر فرص عمل محلية.

 سياسة مقترحة بدائل متوقعة

إزاء الوضع القائم في جهاز تخطيط البلدات، تتطلب الحاجة إعادة تنظيم هذا الجهاز في الكيان الفلسطيني المستقبلي، وذلك من أجل الاستجابة للطلبات المتزايدة للسكن، ولأماكن العمل وللخدمات. إذ إن التركة التخطيطية لا تتيح تنفيذ سياسة تخطيط وتطوير مبادرة في البلدات. وعليه، يجب الاستعداد من أجل تخطيط مجدد لشبكة البلدات على المستوى المحلي الإقليمي والقطري، وبناء سلطة محلية تقود التخطيط والتطوير، من التفكير والتخطيط إلى التنفيذ.

وحتى الآن، لا نعلم ما هو طابع النظام السياسي الذي سيقوم في الكيان الفلسطيني، ولا نعلم أيضاً حدود وصلاحيات السيادة الوظيفية والإقليمية التي سيحصل النظام الجديد عليها. كذلك لا يوجد وضوح في الأمور المتعلقة بحجم التطوير الاقتصادي، وسرعة التنمية، وتركيبة قطاعات الاقتصاد وتوزيع مجالاته وحقوله. كذلك لا نعرف حجم ومدى الزيادة في عدد السكان من أجل الاستعداد استعداداً معقولاً للوضع الجديد. وبناء على اتفاق المبادئ الذي وقع في أيلول/سبتمبر 1993، فإن هنالك إمكاناً لإعادة النازحين الذين اضطروا إلى مغادرة الضفة الغربية وقطاع غزة منذ سنة 1967. وليس واضحاً ما إذا كان هناك إمكان لإعادة اللاجئين الذين هُجروا سنة 1948 من المناطق التي أُقيمت دولة إسرائيل عليها. وليس واضحاً أيضاً عدد اللاجئين الذين سيعودون إلى المناطق، وهل ستكون هذه العودة سريعة أم بطيئة، وهل يستمر الاتجاه القائم في انخفاض التكاثر الطبيعي في المستقبل، وهي الظاهرة التي بدأت في الفترة الأخيرة؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة أمر حيوي من أجل الاستعداد من الناحية التخطيطية. وفي هذه المرحلة يمكن طرح التغييرات التالية:

أ -  يبلغ عدد سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الآن نحو مليوني نسمة، ويتوقع أن يرتفع ليبلغ سنة 2020 نحو 3,8 ملايين نسمة، في حال عدم تحقق السلام، وإلى خمسة ملايين نسمة في حال تحققه (كرمون، 1993). أي أن السلام سيؤدي إلى زيادة عدد السكان بنسبة 30% في المناطق التي سيقام الكيان الفلسطيني عليها.

ب -  هل الزيادة في عدد السكان ستتركز في مدينة مركزية واحدة أم أنها ستتوزع على عدة مدن؟ إن إيجاد أماكن سكن سيكون أداة مهمة في يد النظام الفلسطيني من أجل تحديد التوزيع الجغرافي للتزايد السكاني.

ج -  إن زيادة عدد السكان ستؤدي إلى ارتفاع الكثافة السكانية، التي بلغت 260 نسمة لكل كلم2 واحد سنة 1990، وستصبح 683 نسمة لكل كلم2 واحد سنة 2020. ومن المفروغ منه أن الكثافة السكانية في المدن ستزيد عدة أضعاف عن الكثافة في القرى والأطراف. وزيادة كثافة السكان تتطلب استعداداً لتوفير البنية التحتية والخدمات.

د  -  إن تجربة بناء الدول الجديدة المستوعِبة للهجرة - وخصوصاً إسرائيل - يمكن أن تكون بوصلة لسياسة التخطيط الشامل للكيان الفلسطيني المستقبلي. وتدل التجربة على أن العائدين سيكونون في معظمهم ضعافاً من الناحية الاقتصادية، وأن تركيزهم في أحياء سكنية خاصة بهم سيؤدي إلى بروز مشكلات اجتماعية. ومن المهم إدراك هذا الأمر وبلورة سياسة توزيع ملائمة للعائدين.

هـ   مع مرور الوقت، ستحدث تغيرات في مجال القوى العاملة؛ إذ سيزداد عدد طالبي العمل نتيجة لازدياد عدد السكان، وارتفاع عدد النساء الراغبات في العمل والمشاركات فيه مع استعدادهن المتزايد للعمل خارج البيت. وستحدث تغيرات أيضاً في سلم الأعمار تؤدي إلى زيادة نسبية في حجم الأجيال العاملة. وتقدر القوى العاملة في المناطق حالياً بـ 307 آلاف عامل، ويتوقع أن يصل العدد سنة 2020 إلى 1,020,000، أي إلى ثلاثة أضعاف عددها اليوم (بن غور، 1993). ومن الضروري توقع هذه التغيرات، وتخطيط التركيبة الفرعية للعمال، وتوزيعهم على أماكن عمل في محيط المراكز الحضرية، ذلك لأن لكل فرع عمل مزاياه الحيزية، التي يجب أن تؤخذ في عين الاعتبار عندما يتم التخطيط في البلدات الفلسطينية.

 تخطيط مطور بدلاً من تخطيط مقيد وضابط

كما أسلفنا، فإن التخطيط المعمول به اليوم في مناطق الكيان الفلسطيني هو، بماهيته، تخطيط فيزيائي موجَّه من سياسات هدفت إلى تقييد امتداد البناء إلى الأطراف، وخصصت أراضي قليلة للاستعمالات العامة. لذلك، فإن التخطيط الفيزيائي المقنن المعمول به حالياً لا يتلاءم في ماهيته مع أوضاع تطوير سريع. وإن استثمار الموارد الكثيرة المتوقعة من جهات فلسطينية وعربية ودولية سيشجع التطوير من خلال إقامة مشاريع اقتصادية، وزيادة عرض أماكن سكنية، وتوفير خدمات وبنية تحتية تستهلك أراضي في البلدات، وخصوصاً في المدن الكبيرة. وإن عدم وجود مخططات مطورة وموجهة تأخذ الاستثمارات وحاجات السكان في عين الاعتبار، سيضع عراقيل أمام التطوير أو أمام تنفيذ مشاريع من دون تنسيق. وإن عدم التخطيط وعدم التنسيق سيعززان الازدواجية، وإهدار الموارد، والتطوير غير المتزن. وهناك من يؤمن بقوة السوق، التي تنظم التطوير بما يتلاءم مع حاجات المبادرين وبحسب قواعد العرض والطلب، لكن التجارب التي جمعت حتى الآن تدل على أنه في غياب توجيه القطاع العام، بما في ذلك استثمارات عامة، وإقامة البنية التحتية بحسب تخطيط مسبق، ستزداد المشكلات الحيزية حدة.

عندما تكون أوضاع التطور معتمدة أصلاً على توفير السكن، وعلى سيطرة سياسية من قِبل دولة أُخرى تسعى لتثبيت أو للحفاظ على الوضع القائم، وعلى الاهتمام بتوفير حاجات السكان المحليين الفورية والحيوية - في ظل أوضاع كهذه - عمل التخطيط المحدد والضابط المخطط على تقييد التطوير على الرغم من معارضة السكان وممثليهم. أما في عهد السلام، الذي ستبرز خلاله قيادة محلية تطالب بتوجيه التطوير للبلدات، وسيزداد المبادرون والمستثمرون المطالبون بفرص وشروط التطوير، فيجب الانتقال من التخطيط المقيد والضابط إلى التخطيط المطور، الذي يوجه خطوات تطوير البلدات، بهدف إيجاد شبكة سكانية حيزية ناجعة ومتوازنة.

إن تبني التخطيط المقيد والضابط سيؤدي إلى تأييد عملية التخطيط في أوساط السكان الفلسطينيين. كما أنه سيحث على إعداد المخططات المحلية، اللوائية والقطرية، بسرعة، وهي مخططات لن تتركز في المجال الفيزيائي فقط، بل إنها ستعبّر عن الحاجات في مجالات الاقتصاد والمجتمع، والخدمات والبنية التحتية، من خلال تخصيص أراض للاستعمالات المختلفة. وإن مخططات استعمال الأراضي التي ستُعد على أساس أسلوب تخطيطي مطور تتيح وضع مخططات وظيفية، وبرامج لتنفيذ التخطيط الفيزيائي. ويجب أن تشتمل المخططات الجديدة التي ستوضع في البلدات الفلسطينية على المناطق والأجزاء القديمة والجديدة في البلدات. وفي المناطق القديمة يجب الاهتمام بعملية الترميم وتحسين أماكن السكن والبنية التحتية المختلفة، لأن البنية التحتية القائمة قديمة وتضر بالبيئة. ويجب، خلال العمل في إطار إعادة البناء، الانكباب على تطوير بنية تحتية وخدمات تشمل شبكة طرق تستجيب للحاجات المستقبلية.

تأهيل قوى عاملة مهنية في مجال التخطيط

إن الحاجة إلى المخططات والتطوير تستلزم بناء جهاز مؤسسات منظم، يبادر إلى وضع المخططات ويناقشها بمشاركة محلية، وتكون وظيفته كذلك الرد على المخططات، وفي نهاية الأمير يصادق عليها أو يرفضها. وهناك حاجة إلى بناء جهاز تخطيطي على المستوى المحلي، واللوائي، والقطري، يتيح تنسيقاً بين مختلف مستويات التخطيط، وفي مختلف المناطق. وهذه الخطوة لا تقل أهمية عن أعمال التخطيط نفسها. وكما ذُكر، فإن جهاز المؤسسات المنظم والمخطط، والقائم الآن في إطار الحكم العسكري، هو جهاز مركزي يدار بواسطة ممثلي الحكم نفسه. وتعد تجربة الفلسطينيين في التخطيط الشامل في المناطق محدودة ومقتصرة على الطواقم التي تعمل في التخطيط في المدن الكبيرة. وسيكون تطوير كفاءات للإشراف على مخططات مختلفة وشاملة أمراً حيوياً للمؤسسات التي ستدير الكيان الفلسطيني المستقبلي.

وعلى الرغم من وجود عدد من مكاتب التخطيط الفلسطينية المحلية حالياً. فإن هذه المكاتب تنقصها التجربة في مجال التخطيط الحيزي للبلدات والمناطق. ويقوم مخططون غير فلسطينيين (إسرائيليون وأوروبيون) بوضع مخططات في الضفة الغربية وقطاع غزة. ويمكن التوقع أن المخططين غير الفلسطينيين سيستمرون في وضع المخططات الهيكلية وغيرها، وربما ينضم إليهم مخططون من الدول العربية. لكن يجب الاهتمام بتأهيل كادر من المخططين الفلسطينيين، إذ إن هذا الأمر سيؤدي إلى زيادة تدخل المواطنين المحليين في تخطيط وتطوير المحيط الذي يعيشون فيه - وهي المهمة التي لم تكن متاحة لهم منذ وقت طويل - ويتم تأهيل كادر من المخططين المحليين من خلال فتح مساق لتدريس التخطيط في إحدى الجامعات الفلسطينية، أو بتشجيع دراسة التخطيط في جامعات ملائمة في العالم. وفي المقابل يجب المبادرة إلى إقامة ورش تأهيل عملي للمخططين لإكسابهم خبرة عملية على الأرض، وتوجيه أصحاب المهن، أكانوا فلسطينيين أم غير فلسطينيين، فيكتسب المخططون الفلسطينيون المحليون، مع الوقت، خبرة وكفاءة مهنية عالية تؤهلانهم لبلورة مهنة التخطيط.

 تأسيس سلطة محلية ذات قدرة على التخطيط

يدعي رؤساء السلطات المحلية وموظفوها في المناطق أن غياب التخطيط المحلي للبلدات يعود إلى أن أجهزة التخطيط مركزة ومحتكرة من قِبل السلطة المركزية؛ فهي التي تحد من تطوير البلدات وتمنع المبادرة إلى وضع مخططات من قِبل السلطات المحلية. وليس من المتوقع أن تحل هذه القضية بسهولة بعد قيام مؤسسات مستقلة في الكيان الفلسطيني المستقبلي. وستشتد المنافسة بين السلطة المركزية والسلطة المحلية في مجال السيطرة على مسؤوليات التخطيط وصلاحياته، وخصوصاً في المدى القصير. فالسلطة المركزية تريد بناء إطار سياسي جديد يواجه أوضاع مجتمع تقليدي اعتاد الانصياع للأوامر الصادرة من أعلى، وهي ذات تجربة قصيرة في إدارة مؤسسات حكم مدني. وفي الوقت نفسه، يتميز السكان بمبادرات عامة محدودة. وفي المقابل، ترغب السلطة المركزية الجديدة في تثبيت نفسها من الناحية السياسية والإدارية، وفي قيادة التطور السريع المطلوب للسكان الذي من شأنه زيادة تركيز الصلاحيات وإبقاء معظم الصلاحيات التخطيطية في أيدي السلطة المركزية. وثمة ظواهر وعوامل أخرى ستساعد في إحداث هذه التطورات.

ومن المتوقع أن يكون معظم الزعماء من خارج الضفة الغربية وقطاع غزة، وهم ذوو خبرة في المجالات العسكرية والأمنية والسياسية، لا في مجالات الإدارة المدنية. ومن المعقول الافتراض أنهم سيعملون على تقوية مركزهم في الكيان الجديد وإبقاء صلاحيات كبيرة في أيديهم. كما أن السلطة المركزية ستركز في يدها معظم الموارد المالية التي ستقدم إلى عملية التطوير؛ لذلك يتوقع ظهور حكم مركزي. وفي المجال المحلي، فإن السلطة المركزية ستقوم بتعيين موظفين كثيرين للإشراف على تطوير البلدات والمناطق، الأمر الذي سيعزز تعلق السلطة المحلية بالسلطة المركزية ويقلل من تدخل السلطة المحلية في أعمال التخطيط. وستكون المبادرة إلى التخطيط في البلدات في أيدي السلطة المركزية، وخصوصاً في واقع بداية الطريق للسلطة الفلسطينية، حيث أنه لا يوجد حتى الآن مجال لتوزيع السلطة ونقل مسؤولية التخطيط والتطوير الحيزي إلى السلطات المحلية.

ويبدو أن الخطوة الضرورية المرغوبة في المرحلة الأولى في مجال بناء السلطة المحلية هي تعزيز دور البلديات القائمة، وذلك من خلال منح صلاحيات لرؤساء المجالس المحلية والجهاز المهني الذي يسيطر على الموارد المطلوبة للتخطيط والتطوير. وفي هذه المرحلة لا يُتوقع إعلان بلديات جديدة، بل دمج عدة قرى لتصبح مدينة. وفي المقابلن يجب تفعيل المجالس القروية القائمة، بغعطائها صلاحيات، وتوسيع مسؤولياتها وأجهزتها، وبواسطة تخصيص الأموال لها. أما القرى التي ليس فيها مجالس قروية، فتعين السلطة المركزية موظفين يتمتعون بصلاحية إعداد مخططات هيكلية محلية يصادق عليها من قِبل سلطات التخطيط اللوائية. وهذه الطريقة ستوازن بين إبقاء الصلاحية والقوة في أيدي السلطة المركزية من جهة، وتخويل صلاحيات للسلطة المحلية من جهة أُخرى. وفي المقابل يبدأ تطوير على المستوى الإقليمي بواسطة جهاز التخطيط الجديد.

لكن مع مرور الوقت يجب الاهتمام بتقليص تجاهل السلطة المركزية للسلطة المحلية في مجال التخطيط والبناء في الكيان الفلسطيني المستقبلي. أما على المستوى المحلي والقطري فيجب أن تناط مهمة التخطيط والتطوير بالسلطة المحلية التي ستؤهل لهذا الغرض الموظفين العاملين حالياً في السلطات المحلية، واستيعاب موظفين جدد ذوي كفاءة لتعزيز السلطة المحلية، حيث أن القوى العاملة المدربة في المجالس ستساهم في تقليص تدخل السلطة المركزية وفي زيادة تطوير البلدات.

وهناك علاقة قوية بين مستوى التطوير في البلدات وبين القوة الإدارية للسلطة المحلية؛ فالقوة الإدارية للسلطة المحلية تجعلها هيئة مبادرة تعمل على أساس مهني، لتطوير خدمات وأماكن عمل داخل البلدات، وبذلك تزيد السلطة المحلية في دخلها الذاتي، وتحقق استقراراً اجتماعياً داخل البلدة نفسها، وتحدث تطوراً في محيط البلدة. وكما هو معلوم، فإن التطوير الحثيث يتطلب تخطيطاً حيزياً من أجل تحقيق أهداف السلطة المحلية والسلطة المركزية معاً.

وفي الأعوام الأولى، ستبقى المشكلات التي يعانيها الحكم المحلي القائم في البلدات الفلسطينية، والمتمثلة في: تركيز زائد للصلاحيات، نقص في الموارد الذاتية، جهاز إداري صغير وضعيف؛ تجربة قصيرة في الحكم المحلي في القرى. لكن يجب اتخاذ خطوات تؤدي إلى تطوير سلطة محلية، وإضافة شرائح حاكمة، ومع مرور الوقت، إلى استقرار الحكم والاستقرار في الحكم المحلي يؤدي إلى استقطاب مبادرين ومستثمرين يريدون الاستثمار في إقامة مصانع في مختلف البلدات، وبذلك تزداد فرص العمل للقوى العاملة المحلية. ونتيجة لهذه الاستثمارات، سيزداد الدخل الذاتي للمجالس المحلية. وعلاوة على ذلكن فإن تطوير سلطات محلية ذات قدرة تخطيطية هي مهمة حيوية من شأنها أن تترك آثاراً إيجابية في النمو الاقتصادي والاجتماعي في الكيان الفلسطيني. 

الحاجة إلى مخططات قطرية

إن التخطيط القطري واللوائي سيضطر إلى المحافظة على تدرج في حجوم البلدات الفلسطينية وتوزيعها. وقد دلت تجارب الدول النامية على أنه عندما يُعلن إقامة إطار إقليمي مستقل وتحديد مدينة العاصمة، التي تتنامى فيها مراكز السلطة والخدمات الإدارية والمالية، فإن هجرة مكثفة إلى هذه المدينة المركزية ستحدث، وسيتطور نمط استيطاني (مدينة رئيسية) في مقابل بلدات صغيرة موزعة، وستتكون فجوة بين المناطق والمدن داخل الدولة. ومن أجل تحقيق الهدف المتمثل في توزيع استيطاني متدرج ومتوازن، فإن الأمر يتطلب في المرحلة الأولى وضع مبادئ لإعداد مخططات هيكلية قطرية لانتشار السكان، وتحديد توزيع مراكز حضرية، ومدن مركزية، ومحميات طبيعية، ومراكز تشغيل، ومنطقة صناعية، وتخصصات إقليمية، وإقامة شبكة طرق. وستستوعب المدن المركزية قسماً كبيراً من السكان في المستقبل، حيث سيتطور فيها معظم الفعاليات الإدارية والاقتصادية. لذلك يجب تركيز الاهتمام من أجل التخطيط للمدن المركزية والشروع فيها كمهمة أُولى. ونشهد الآن ظاهرة بناء كبيرة في المدن المركزية مثل غزة، والخليل، ورام الله، والبيرة، ونابلس. ويقوم هذا البناء على أسس وقواعد تخطيطية قائمة لا تعير اهتماماً كافياً للبنية التحتية المطلوبة. فالمخططات الموجودة للمدن المركزية التي تصدر بموجبها رخص هي مخططات قديمة. فمثلاً وضع المخطط الهيكلي لمدينتي الخليل وغزة سنة 1944، ووضع المخطط الهيكلي لنابلس سنة 1966 وشمل جزءاً من المدينة فقط. كما أن المخطط الهيكلي لمدينة أريحا وضع في بداية الستينات على اعتبار أنه موقع سكني زراعي. ولا بد من وضع مخطط موجه للتطوير في مدن بيت لحم ورام الله والقدس، التي أصبحت مدنا كبيرة - "متروبلين" [أو"متروبوليس" Metropolis]. والمدن المركزية، التي يحدث فيها معظم التطوير والطلب على السكن، تعاني أوضاعاً طبيعية وفيزيائية غير سهلة تصعّب إمكان تليين المخططات وإيجاد حلول تخطيطية بتكاليف معقولة. وينقص هذه المدن أراض مخصصة للصناعة، والتجارة، والتربية والتعليم، والمواصلات، والاستعمالات المدنية الأُخرى. ويستلزم تطوير هذه المدن تخصيص أراض لسد العجز الحالي بواسطة تخصيص أراض للاستعمالات العامة في المستقبل تكون ملائمة للحاجات من ناحية البنية التحتية والخدمات.

وإزاء الزيادة المتوقعة في عدد السكان، يجب المحافظة على بعض المراكز الحضرية الموزعة في محيط المناطق، والمحافظة على التدرج الحضري القائم، والحيلولة دون تركيز زائد للسكان في مدن الدرجة الأولى في التدرج القائم.

كذلك يستحسن أن يُنتهج داخل مدن الدرجة الأولى مدى معين للتوزيع الداخلي، ويستحسن توزيع عرض المساكن الجديدة التي سيبادر إليها على أطراف المدن القائمة، وذلك لتسهيل إمكان استيعاب مهاجرين وعائدين من القرى والبلدات. (مثلاً، لتوزيع عرض السكن الجديد في الأحياء السكنية التي ستقام في المساحات الواسعة في غرب رام الله، مع توزيع أماكن السكن المعروضة). ويجب توزيع أماكن العمل، مثل مؤسسات البحث، والجامعات، والمستشفيات، وما شابه ذلك. ومع أن التوزيع سيمس الجدوى الاقتصادية، فإن تبني مثل هذه السياسة ("توزيع المراكز") من شأنه أن يخفف، إلى حد كبير، من التكاليف، ويمنع نشوء فوارق بين المناطق المختلفة في محيط الدولة بين المركز والأطراف أو داخل المدن.

والاستيعاب المتوقع للاجئين العائدين يضعنا أمام سؤال: هل يجب تركيزهم في مناطق منفردة، بما في ذلك إقامة مدن منفردة أو أحياء منفردة في أطراف المدن، أم توزيعهم بصورة موجهة من قبل هيئات الحكم، أم تركهم ينتشرون بمبادرتهم الشخصية وبحسب رغباتهم واعتباراتهم؟ ويبدو أن العائدين يميلون إلى الانتقال للسكن في بلدات حضرية كبيرة، تتوفر فيها بدائل سكن جديدة ومتنوعة في أحياء سكنية تبنى قرب المدن القديمة.

إن عرض سكن مشترك - أو منفرد - للمقيمين والعائدين سيخفف من استيعاب العائدين ودمجهم في المجتمع المحلي. لذلك يجب ألاّ تبنى أحياء أو مدن منفردة للعائدين، بل يجب الاهتمام بتوزيعهم في أماكن سكن، ضمن أحياء صغيرة أو أحياء سكنية كبيرة تكون معروضة على السكان المحليين أيضاً.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن مدن الدرجة الثانية، مثل جنين وقباطية وطولكرم وقلقيلية وحلحول، تحتاج إلى وضع مخططات هيكلية جديدة، تتعامل معها بوصفها مدناً لوائية تخدم قرى زراعية. واعتبار مدن الدرجة الثانية مراكز خدمات لوائية هو الذي يجب أن يوجه برامج استعمال الأراضي في هذه المدن من حيث شبكة المواصلات، والمناطق المعدة للسكن وحجم المراكز التجارية، والمناطق الصناعية. وفيما يتعلق بالقرى المقرر لها أن تصبح مدناً، فإن انتشار المواقع القائمة هو انتشار متناثر، وبعض البلدات الصغيرة - قرى من الدرجة الثالثة على سلّم التدرج - عدده كبير جداً. ونقترح تحسين موقع بعض القرى على سلّم التدرج، وذلك بزيادة عدد البلدات من الدرجة الثانية، وخصوصاً من خلال ضم ودمج عدة قرى متجاورة تتميز بامتداد عمراني متواصل، وجعلها مدينة واحدة. ويمكن تحقيق ذلك بسرعة من خلال التخطيط على المستوى القطري والمحلي، وذلك عبر تخصيص أراض عامة ومساكن أُخرى بين هذه القرى. فاحتمال ازدياد عدد السكان، وتوسيع المناطق المبنية على أراضي القرى المجاورة، واحتمال الحصول على وضع بلدية، كل ذلك سيزيد في استعداد هذه القرى لأن تصبح مدينة واحدة، وخصوصاً القرى التي لا يوجد فيها إطار منتظم لسلطة محلية. ويجب إقامة مراكز تشغيل وخدمات لوائية في كل واحدة من المدن "الجديدة"، ويكون موقع هذه المراكز في الأراضي الخالية الموجودة بين القرى المقترح ربطها في مدينة واحدة. وسياسة توحيد القرى في مدينة واحدة جديرة بأن توجه إعداد برنامج لمخططات هيكلية جديد في المواقع القروية، عندما يتم وضع مخططات عامة جديدة لأراضي الكيان الفلسطيني المستقبلي. وبخصوص المستوى الثالث من المواقع القروية الصغيرة، فإننا نقترح إيلاء انتباه تنظيمي في إطار تخطيطي جديد، وخصوصاً من خلال إقامة أطر إقليمية مشتركة، مثل مجالس إقليمية تقدم خدمات إدارية لهذه القرى، إضافة إلى الخدمات العامة والبنية التحتية. لكن يجب عدم بناء المواقع السكنية في هذه القرى إلا بقدر ما يحتاج السكان إليه، وتُقدَّم الخدمات الصحية، والبنية التحتية، والثقافية، والتربوية، والاجتماعية، بصورة مشتركة على أساس قطاعي وظيفي أو على أساس جغرافي إقليمي بين القرى. وفي هذا الصدد يجب التوقع أن غياب جهاز سلطة محلية في كل قرية من هذه القرى، سيشجع التعاون فيما بينها، لأنه لم تتبلور بعدُ مصالح وتقاليد في هذا المجال.

وهناك مسألة تخطيطية أُخرى مرتبطة بربط المواصلات بين قطاع غزة والضفة الغربية. ذلك لأن الحركة النشطة للمواصلات ستزيد في الطلب على المساكن في منطقة الربط على حدود الضفة الغربية، حيث يتوقع أن تتطور مدينة جديدة من المستوى الثاني، وذلك على قاعدة إحدى البلدات أو عدة بلدات في الجنوب الغربي للضفة الغربية. وستقلص هذه المدينة الجديدة الهجرة من جبل الخليل شمالاً إلى القدس، حيث أن ظاهرة هذه الهجرة ملحوظة حتى الآن. ومن الجدير التخطيط لمدينة أُخرى من المستوى الثاني في الجزء الشمالي من غور الأردن، مقابل جسر دامية. وستساهم هذه المدن في انتشار مدن الدرجة الثانية في منطقة الكيان الفلسطيني.

إن مدينة غزة ستواصل تطورها كمدينة رئيسية في قطاع غزة، ويجب إعداد مخططات رئيسية شاملة لها، توجه تطوير استعمال الأراضي، مع مراعاة مستلزمات ومعوقات فيزيائية بيئية واجتماعية وثقافية. ومن شأن تطوير ميناء في غزة أن يزيد في فرص العمل. وستؤدي التطورات الاقتصادية إلى زيادة الطلب على أماكن السكن. وفي المقابل، سيحدث تحسين للسكن في أواسط السكان اللاجئين من خلال إيجاد إمكانات سكن جديدة. وإن توفير سكن للاجئين هي مسألة تخطيطية حادة ومعقدة، تتطلب التعامل معها على المدى القصير. وفي قطاع غزة، يجري بناء المساكن بالمقاولة من قِبل مجلس الإسكان الفلسطيني، الذي ترتكز أعماله على بناء شقق لمن لا يملكون مساكن، ويتم هذا البناء بصورة تلقائية، من وجهة النظر التخطيط الحيزي، حيث لم يؤخذ في عين الاعتبار، وعلى نحو ملائم، أن إقامة أحياء سكنية مكتظة، ومن دون تنسيق كاف مع أجهزة التخطيط في غزة، ستشكل عبئاً كبيراً على البنية التحتية والخدمات الحالية، وتلحق أضراراً كثيرة بالبيئة وأضراراً بيئية كبيرة في محيط البلدة. وعليه، فإن هناك حاجة ماسة إلى القيام بأعمال تخطيط شامل قبل الشروع في بناء أماكن السكن.

إن التخطيط القطري واللوائي يعبر عن سياسة تطوير المؤسسات المركزية، ويشكل حجر الأساس في تطوير الكيان الفلسطيني. وعليه، يجب الإسراع في صوغ الأهداف لوصف المهمات، وبلورة سياسة شاملة موجهة إلى أعمال التطوير.

خلاصة

إن السلطة المركزية التي ستقام في الكيان الفلسطيني المستقبلي ستكلّف بعدد من المهمات من أجل تأسيس وتثبيت ذاتها، وقيادة التطوير الاقتصادي لسد حاجات السكان. وستقف السلطة المركزية أمام سلطة محلية ضعيفة، وأمام أجهزة تخطيط ومخططات تعمل أصلاً على تحديد التطوير في المدن والقرى. وقد حاولنا في هذه الدراسة أن نشير إلى حيوية تطوير الحكم المحلي وأجهزة التخطيط الحيزي الشامل. ونحن لا نعتقد أن المهمة سهلة، وخصوصاً في أوساط سكان قرويين تقليديين تعودوا أن يكونوا مركزاً ثانوياً غير فعال. لكن المهمة بالغة الأهمية من أجل مواجهة التطورات الخطرة المتوقعة، مثل إعادة اللاجئين بأعداد كبيرة، وهجرة مكثفة من القرى إلى المدن المركزية. ومن شأن جهاز تخطيط حيزي شامل وفعال - يتوقع حدوث تطورات - أن يقلل التطورات والأبعاد السلبية باقتراح خطوات تخطيطية ملائمة.

لقد جاءت هذه الدراسة القصيرة لتوجِّه الانتباه إلى مسائل التخطيط والتطوير المثارة، إزاء البدائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المرتقبة نتيجة إقامة كيان فلسطيني جديد. وكما هو معروف، فإن هذه القضايا يجب تنميتها من خلال اتخاذ خطوات عملية تخفف من الغموض السائد في أيامنا هذه.

 

المراجع

  • بن غور، ي. "اتجاهات ممكنة لتنامي دولة إسرائيل في عهد السلام مع الفلسطينيين والدول العربية استعداداً لسنة 2020، خطة شاملة في سنوات الألفين" (بالعبرية). حيفا: التخنيون، 1993.
  • يرغوثي، م. وآخرون. "البنية والخدمات الصحية في الضفة الغربية: أسس التخطيط للعلاج الصحي، خطة إعلامية وتطوير صحي بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية". رام الله، 1993.
  • الجرباوي، علي."دور البلديات في فلسطين - الدولة". "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 9، شتاء 1992، ص 36 - 84.
  • دائرة الإحصاء المركزية. "الحولية الإحصائية لإسرائيل 1992" (بالعبرية). القدس، رقم 43، 1993.
  • خمايسي، راسم. سياسة التخطيط وهدم الأبنية في الضفة الغربية" (بالعبرية). القدس: الجمعية الفلسطينية الأكاديمية للشؤون الدولية، 1989، ص 82.
  • خمايسي، راسم. "التخطيط والإسكان في الوسط العربي في إسرائيل" (بالعبرية). تل أبيب: المركز الدولي للسلام في الشرق الأوسط، 1990، ص 220.
  • كرمون، ن. استعداد إسرائيل لعهد السلام، إسرائيل 2020 - أقوال لمخطط السلام، (بالعبرية). حيفا: التخنيون، مركز بحث المدن والأقاليم، 1993.
  • لبيدوت، أ. "المخططات الهيكلية الإقليمية في فترة الانتداب: نافذة على أعمال التخطيط الفيزيائي المقنن في أرض إسرائيل" (بالعبرية). القدس: الجامعة العبرية، قسم الجغرافيا، 1977.
  • مئير - برودنتس، م. "التمدن المكتنز في القرى العربية" (بالعبرية). كراسة اتحاد المهندسين المعماريين تخطيط حيّزي، رقم 8 - 9، 1969، ص 4 - 12.
  • شهوان، أ. "الإدارة المحلية في المناطق المحتلة". "شؤون تنموية"، القدس، رقم 3، 1993، ص 2 - 37.
  • Abdeen, Z. and Abu-Liddeh, H. Population Handbook, part I. Jerusalem: Planning and Research Center, p. 154.  
  • A.G. “Development Plans in the West Bank.” GeoJournal, 21 (4), 1990, pp. 363-373.
السيرة الشخصية: 

راسم خمايسي: مخطط مدن ومحاضر في دائرة الجغرافيا في الجامعة العبرية.