الاتفاق الإسرائيلي ـ الفلسطيني: هل هو الطريق إلى الحرية؟
كلمات مفتاحية: 
إعلان المبادىء بشأن ترتيبات الحكم الذاتي المؤقت 1993
السلام
الاحتلال الإسرائيلي
الاستقلال
اتفاق أوسلو 1993
معاهدات السلام
قطاع غزة
نبذة مختصرة: 

 تصف الرسالة الأجواء في قطاع غزة في أعقاب توقيع اتفاق إعلان المبادىء. وتلخصها بالقول إن الإتفاق كان بالنسبة إلى الكثيرين يعني انتهاء قضايا مرتبطة بالاحتلال، وبالنسبة إلى آخرين، كان يعني أن في إمكانهم أخيراً بدء الإعداد لحياة تنسجم مع رغباتهم هم. وكان أيضاً من رأى فيه خدعة أو "شيكاً لم يصرف بعد"، وتمسكوا بمقولة إما الاستقلال وإما لا شيء.

النص الكامل: 

على مدخل مدينة غزة كُتبت عبارة بالدهان الأحمر تقول "مشروع غزة أريحا – نعم للحرية" توسطت عبارات أُخرى تقليدية بتوقيع فئات مختلفة. وتكاد هذه العبارة تكون عنواناً لردات فعل الغزيين تجاه الاتفاق بشأن إعلان المبادئ، الذي وقع في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر الماضي؛ فهي عنوان لآمالهم وطموحاتهم وأحلامهم، وكذلك لإحباطاتهم التي تبعت ذلك. وستبقى على الأرجح عنوان مرحلة مقبلة تستمر بضعة أعوام في الغالب.

لم يعرف قطاع غزة في تاريخه يوماً مشابهاً ليوم الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر: كانت الشوارع تضج بآلاف الناس، كباراً وصغاراً ونساء، بينما غطت سماء القطاع أعلام لا تحصى. كانوا بحاجة إلى أقل ما يمكن ليخرجهم من استسلامهم لوضع استمر أكثر مما يجب. في ذلك اليوم لم يعر الغزيون تفصيلات الاتفاق وفحواه أي اهتمام بل ركزوا على شعار "نعم للحرية"، الذي أملوا بأن يكون فيه خلاصهم وانعتاقهم. والدليل على ذلك أن قليلين تخلوا عن ثورة الشارع في ذلك اليوم، ولو للحظات، ليستمعوا إلى خطاب رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات في البيت الأبيض، أو ليقرأوا الرموز التي أحاطت بذلك الاحتفال وأبعادها في المدى البعيد بالنسبة إلى قضية شعب ووطن وحق تحولت إلى أشياء أُخرى ولا زالت تتحول.

بالنسبة إلى الكثيرين، كان الاتفاق يعني انتهاء قضايا مرتبطة بالاحتلال استمرت معلقة باستمرار الاحتلال. وبالنسبة إلى آخرين، كان يعني أن في إمكانهم أخيراً بدء الإعداد لحياة تنسجم مع رغباتهم، لا مع ما هو مسموح وممنوع. لكن هناك أيضاً من رأوا في الاتفاق خدعة أو "شيكاً لم يُصرف بعد"، وتمسكوا بمقولة إما الاستقلال وإما لا شيء. هؤلاء كان بعضهم قد جلس على حافة طريق في مخيم الشاطىء يوم الثالث عشر من أيلول/ سبتمبر وقال جزء منه إن توجهه إسسلامي وأكد جزء آخر انتماءه إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. ومن بعيد كانت تأتيهم أصوات الأهازيج وأبواق السيارات والزغاريد. لم تجذبهم، لكنها لم تمنحهم ما يمكنهم من الخروج لمعارضتها، فجلسوا ينتظرون ما سيتبعها على الأرض. 

الانعتاق من الضرائب والسجن

أحمد شعبان، في الثلاثين من عمره، يعمل نادلاً في مطعم للأسماك يعرف بـ"ليدو" على شاطىء مدينة غزة. بعد حصوله على شهادة الثانوية العامة غادر قطاع غزة أول مرة في حياته وتوجه إلى الاتحاد السوفياتي ليدرس الهندسة الميكانيكية، لكنه عندما عاد بعد أربعة أعوام من الدراسة بهدف الزيارة منعته السلطات الإسرائيلية من السفر ثانية. وعندما بدأت الانتفاضة قبل ستة أعوام انضم إلى شبان كثيرين في سنه لمقاومة الاحتلال، ثم سًجن ستة أشهر بتهمة تصنيع "مسامير النينجا" (مسامير معكوفة ترش في الشوارع لثقب إطارات سيارات الجيش الإسرائيلي) ثم أُطلق بكفالة. وحتى اليوم، لا زال أحمد ينتظر محاكمته بعد أن قيل لمحاميه مرة إن الجندي الذي كان يفترض أنه الشاهد الوحيد على قضيته ربما يكون قتل في جنوب لبنان. لكن أحداً لم يؤكد ذلك.

يقول أحمد: "الاتفاق جاءنا من عند الله. فمنذ سنة 1988 وأنا أنتظر المحاكمة وأن يعيدوا لي قيمة الكفالة وهي 5 آلف شيكل (1700 دولار تقريباً). كل شيء في حياتي مرتبط بهذه القضية، بما في ذلك تصريح العمل لإسرائيل. فحتى العام الماضي كنت أعمل في مطعم في بات يام قرب تل أبيب ولكنهم منذ أن فرضوا علينا التصاريح أصبحت من الممنوعين لأني مرتبط بقضية لم تنته بعد في المحاكم العسكرية. الشيء الوحيد الذي بت أفكر فيه منذ أن وقع الاتفاق هو أن تلغى هذه المحاكمة أخيراً. وذلك ليس الشيء الوحيد فمجرد أن أتخيل أن الجيش سيزاح عنا ولن نراهم في شوارعنا وبيوتنا بتاتاً هو أمر يستحق الانتظار برأيي. نريدهم أن يخرجوا من حياتنا كلياً وأن لا نرى جندياً واحداً في القطاع. يوم التوقيع على الاتفاق كنت في المطعم ولكن الكل خرج فخرجت معهم إلى الشوارع. لم يبق منا أحد لم يهتف ولم يرفع علماً. اعتقدنا أن كل شيء انتهى: إن منع التجول الليلي سيرفع وسيبقى المطعم مفتوحاً حتى الليل والمحلات في الأسواق ستفتح طيلة النهار بدل إغلاق الساعة الثالثة وأننا أخيراً سنتمكن من الخروج والدخول بحرية إلى القطاع وأن نزور الضفة كما نريد. اريد أن أشاهد القدس مرة أُخرى فأنا لم أشاهدها منذ سنوات وحتى أريحا لا نعرفها ومعظم الناس لا يعرفها سوى أنها موقع ما على الخريطة أصبح اسم غزة مرتبطاً بها."

لكن القضية المعلقة والمحاكمة ليستا همّ أحمد الوحيد. فالهم الآخر الذي يقلقه ويقلق كثيرين غيره من الناس هو هَمّ الضرائب.

"كان والدي تاجر قطع غيار للسيارات، وكان يملك محلاً في مدينة غزة. في يوم قرروا أن يفرضوا عليه ضريبة قيمتها 66 ألف شيكل ولم يتمكن من دفعها، فنحن لا نملك شيئاً في غزة. العائلة أصلها من يافا وبيتنا الذي نسكن فيه بالإيجار وليس ملكنا فمن أين سندفع؟ وعندما توفي والدي انتقلت الضرائب التي فرضت عليه إلى اسمي بصفتي أكبر أبنائه فورثونا إياها ولا زالوا يطالبون بها. ولكن بعد أن ينفذ الاتفاق سيغادروننا ولن نرى وجه مأمور الضرائب بعدها. وإذا جاءنا مأمور ضرائب فلسطيني يطالب بها من جديد لن ندفع ببساطة لأن ليس لدينا ما ندفع به. سننام في الشارع إذا اضطرنا الأمر. ولكن كل الناس تعتقد أن الضرائب ستلغى وسيزاح هم آخر عنا."

وكغيره من الناس، لا يفكر أحمد في العودة إلى الوراء واستكمال حياته من حيث توقفت قبل أن يتدخل الاحتلال فيها. فدراسة الهندسة التي قطعها لم تعد تستهويه، بل أصبح يحلم كيف سيتحول شاطىء غزة، بالإمكانات التي يتيحها الاتفاق، إلى "جنة":

"إن تحول الشاطىء إلى جنة ليس أمراً مستحيلاً. لقد عملت في المطاعم الإسرائيلية على شواطىء تل أبيب. والطبّاخ في هذا المطعم تعلم الطبخ هناك أيضاً. ولدينا من الخبرة ما يفوق الشهادات التي يمكن أن نحصل عليها. وشاطىء غزة يمكن أن يصبح أحلى بكثير من شواطىء بات يام نفسها. المهم أن تأتينا سلطة وطنية تهتم بتطوير البلد. كل ما لدى الإسرائيليين لدينا بل نحن الذين قدمنا عملنا لهم ليصبحوا ما أصبحوا عليه. فقد عندما يسمح لنا بالنزول إلى الشاطىء واستخدامه للمطعم سترون ما سيصبح عليه: مقاعد بحرية ممدودة وشمسيات ملونة والناس تسبح في البحر ثم تعود إلى مقاعدها لتأكل وتشرب. كل هذا نحن محرومون منه الآن لأن الجيش الإسرائيلي يمنعنا من استخدام الشواطىء، وعلينا أن نبتعد بالبناء عنها مسافة. وهم الذين لهم السيطرة الكاملة عليها الآن. ولكن عندما تصبح لنا سنجعلها 'الريفييرا' الفلسطينية. الفرق الوحيد مع المطاعم الإسرائيلية هو أنها تقدم مشروبات كحولية. وهذه جزء من الحرية الشخصية لا يستطيع أحد أن يقيدها وعلينا أن نحترمها. في البداية سيكون من الصعب على الناس تقبل ذلك لأننا مجتمع عربي ووجود حماس سيعقد الأمور ولكن البداية فقط ستكون صعبة وبعد ذلك سيعتاد الناس. سيبقى عندنا إسلاميون مثل أي بلد آخر مثل مصر والأردن ولكن لن يستطيعوا أن يتحكموا بحياة الناس."

عندما افتتح مطعم "ليدو" خلال الصيف الفائت تحمس سكان غزة له لأنه على الطراز الغربي، الذي صنعت ديكوراته بدقة واختير له الخيزران الغزي أثاثاً، وسيطر اللونان الأبيض والأخضر على داخله وخارجه. وعلى الرغم من القلق النفسي بسبب الوضع الأمني الذي لم يتغير حتى بعد توقيع الاتفاق واضطرار المطعم إلى إقفال أبوابه في الثامنة مساء، فإن ذلك لم يمنع أغلبية من الطبقة المتوسطة من الشعب من ارتياده. في البداية حرص أصحاب المطعم على عدم تجاوز الحدود المعمول بها في القطاع، على الصعيد الاجتماعي. ففتحت قاعة المطعم الداخلية للشباب بينما خصصت ساحته الخارجية للعائلات. وفي يوم دخله ستة شبان من نشطاء حركة حماس، كما ميزهم أحمد،  واعترضوا على دخول فتيات إلى المطعم من دون غطاء للرأس. وبعد نقاش ومشاورات وجدل اقتنع الدخلاء بأنهم لا يستطيعون أن يفرضوا غطاء الرأس داخل المطعم ما دامت الفتيات في صحبة عائلاتهن. أما اليوم، فقد أصبح شائعاً مشاهدة فتيات بلباس غربي حديث يدخلن إلى المطعم بلا غطاء للرأس ومن دون تدخل أحد. بل إن الفاصل بين قاعتي المطعم اختفى، وأصبح الكل يتجمع في قاعة واحدة. وتولد أمر واقع، كما يقول أحمد، وأصبح اختلاط الناس شيئاً عادياً.

وماذا عن يافا؟ يجيب أحمد: "ليس لدينا طابو لا غيره لنرجع إليها. الوالد فقط هو الذي كان يفكر بالعودة قبل وفاته. ولكن أراضينا أصبحت لهم وبنوا عليها عمارات ولم تعد لنا. نحن كشعب يريد أن يعيش، إذا لم نضح لن نحصل على شيء. لا توجد إمكانية الآن سوى لدولتين. غزة والضفة ستصبحان دولة رغماً عنهم. حتى لو أعطونا متراً من الأرض في رفح، أي في آخر بقعة في القطاع، سنحولها إلى دولة. هذا لن يمنعونا عنه."           

لم نأخذ بقدر ما أعطينا

على بعد بضعة كيلومترات  من مطعم "ليدو" كانت أم خالد تنظف مدخل بيتها في مخيم الشاطىء للاجئين، وعلى الرغم من حياتها الصعبة التي عرفت خلالها السجن مع أولادها السبعة، فإن القوة لم تنقصها لا في نشاطها المنزلي ولا في أفكارها. قالت:

"نحن رافضون للاتفاق. ماذا أعطونا مقابل التوقيع؟ نصف أريحا ونصف غزة والمستعمرات لا زالت قائمة. يريدون أن ينسحبوا من المعسكرات (المخيمات) ليقفوا على الطريق. يقولون لنا سيبقون خمس سنوات ولكنهم كذابون. نحن نعرف اليهود ولا نثق بهم. يقولون الشرطة الفلسطينية ستأخذ مكان الجيش الإسرائيلي ولكن بدون أسلحة. بماذا إذن؟ بالعصي؟ وما الذي سيتغير علينا؟ لا شيء فإذا أرادوا هم (الإسرائيليون) أحداً يرسلون الشرطي العربي ليحضره لهم."

سألت أم خالد: ماذا تريدين؟

قالت: "أريد أن ينسحبوا عنا. وبعد ذلك أريد أن أعود إلى عسقلان. يكفي ما عشناه حتى الآن. ابني البكر خالد أصبح الآن في الأربعين من عمره قضى منها أول مرة 14 عاماً في السجن. حكموه مؤبداً لأنه كان زعيم 'الشعبية' في المخيم. هدموا بيتنا الذي كنا نسكن فيه ثم أطلقوه مع المحررين في عملية تبادل الأسرى. لم تمض أشهر حتى أعادوا اعتقاله. مضى عليه أربع سنوات في معتقل النقب وسيخرج بعد شهرين. ضحكوا علينا عندما قالوا سيطلقون جميع الأسرى والمعتقلين من السجون، فأخرجوا الأعمى والأعرج والمريض. هكذا يتعامل اليهود ونحن نأخذهم على كلامهم. وقعوا الاتفاق وتنازلوا عما تنازلوا عنه ولم يتغير شيء في حياتنا. قبل أسبوع جاء الجيش يفتش في بيتنا. قلبوا الفراش والملابس وطلبوا من الشباب أن يصطفوا عند الحائط. خرج زوجي يصرخ: هُوّي إحنا فدائية؟ قالوا إنهم يبحثون عن مطاردين ولم يجدوا أحداً عندنا. حتى أنا أخذوني إلى السجن وبقيت شهرين هناك لأني قدمت الطعام للشباب، أصدقاء أولادي عندما كان الجيش يلاحقهم. لم يبق سوى البنات لم يدخلوه في عائلتنا.... يريدون أن أنتظر خمس سنوات لأرى إذا كان الجيش سيخرج؟ سأكون قد مت. ولكن مش مهم. القائد الذي لا يحضر لنا حكم كويّس يُقتل.... المهم أن لا يقتلوه وتقوم الدنيا ولا تقعد."

إلى جانب أم خالد جلست زوجة ابنها نجلاء، ابنة التاسعة والعشرين. تذكرت يوم الثالث عشر من أيلول/سبتمبر. قالت:

"نحن الفلسطينيين مساكين. كنا قبل ذلك بيوم واحد في جنازة لشهيد ثم في اليوم التالي خرجنا نطبل ونغني. الناس عاشت الكثير من الأسى وتبحث عن أي شيء يفرحها. ليفرحوا، ولكن على شيء حصل فعلاً ليس على شيك لم يصرف بعد، وعندما يصرف سنصرفه من بنك الاحتلال. لم يجر سوى توقيع بحبر على ورق، وفعلت الناس ما فعلته. فماذا سيفعلون إذن لو حصلنا على شيء فعلاً؟ هل سيصعدون إلى السحاب؟ كنت سأتفجر في ذلك اليوم مما رأيته. كنت في سيارة أجرة في طريقي إلى الطبيب. أوقفت السائق، وقلت للذين انتشروا في الشوارع: "لماذا تطبلون والجندي يقف أمامكم؟ أحسست بسكاكين تمزقني والناس لا يهمها شيء. لا أحب أن نظهر بمظهر الرعناء الخفيفين. لا زال لدينا حقوق عند اليهود أضعاف أضعاف ما وقعوا عليه، فننتظر حتى نحصل على شيء منها. حتى زوجي قال إهدأي واتركيهم ولكني لم أستطع. لم نأخذ شيئاً بقدر ما أعطينا. ماذا عن المعوقين والذين بعاهات. هم أيضاً قدموا الكثير فماذا أخذوا، الشهداء لا زال يسقطون الواحد تلو الآخر حتى بعد توقيع الاتفاق. هذا السلام فرقنا ولن يوحدنا بعد اليوم. تصوروا أننا فقدنا حتى إمكانية أن نتحد."

سألت: هل ياسر عرفات خائن في نظركن؟ ترددن ثم قالت نجلاء: "لا نستطيع أن نقول خائن ولكن الأكيد أنه هزّأنا. وقّ بسرعة كأنه يريد أن يخلّص نفسه. إنه صاحب نفسه قصير." وقالت أم خالد: "عندما قال أنور السادات خذوا الضفة وغزة قلنا عنه خائن. الآن يقولون غزة وأريحا... يا ناس بلاش فضيحة."

لكن على الرغم من جميع المساوىء التي تعددها أم خالد ونجلاء في الاتفاق فقد بدين كغيرهن من الناس: تقبلن بأمر أصبح واقعاً لن يعيد أحداً إلى الوراء ولكن مستقبله لا زال مفتوحاً لتغييره أو لتحسينه. قالت نجلاء: "ربما تكون إيجابية الاتفاق أننا سنتمكن أن نبني مصانع وشركات بحيث لا يعمل شبابنا في إسرائيل. ربما نتمكن من السفر بعد أن منعنا سنوات طويلة لأن أفراد من عائلاتنا في السجن. ربما أتمكن أن أفتح حضانة للأطفال خاصة بي دون حاجة إلى طلب إذن من الاحتلال. وربما تنظف المخيمات ولا نعود نسير في طرق تغطيها مياه المجاري ويكون لنا أسواق مثل الناس وشوارع نظيفة وبيوت مثل باقي الآدميين. وربما نصبح نتحكم في حياتنا بأنفسنا ولا نتحرك بأمر إسرائيل ربما... ولكن خوفي من الذي سيحكمنا. لن يختلف حكمه عن باقي الدول العربية ولن يحقق لنا ما نريد. حتى أتباعه سيسيطرون على كل شيء ولن يدعوا أحداً يحكم معهم. عرفات سيحكم بنفسه ولن يشاور أحداً وليس هذا ما نتمناه. نريده أن يتشاور مع غيره دون أن يأخذ رأي إسرائيل في حياتنا وشؤوننا." 

هم يحلمون وفي إمكاننا نحن أيضاً أن نحلم

يقول توفيق أبو غزالة، 55 عاماً، المحامي في مدينة غزة، "إن الاتفاق بداية وليس نهاية. وعلى رغم الاعتراف المتبادل فلن يتحقق السلام بين ليلة وضحاها. الطرفان في حاجة إلى كثير من الوقت ريثما يشعر الطرفان بشكل متساوٍ أن كل منهما يحظى بحقوقه ويعيش حراً في كيانه المستقل. ونهاية السلام لا يمكن أن تعني غزة وأريحا بل هذه المقدمة فقط لاعتراف ليس بأمر واقع بل بالحق. وما شاهدناه في شوارع غزة يوم الثالث عشر من أيلول/سبتمبر كان رد فعل طبيعياً للحاجة إلى هذا التغيير وهذا السلام بما يعنيه. إن رفع علم فلسطيني لأول مرة بحرية كان يعني بالنسبة للناس في ذلك اليوم أكثر من مجرد قطعة قماش بأربعة ألوان. إنه هويتهم التي صودرت منهم خلال نصف قرن عادت إليهم. منذ ذلك الحين أصبح لنا الحرية لنختار الحياة التي نعيشها. صحيح أن الكل لا زال غامضاً والأمور تفتقد إلى الوضوح ولكني شخصياً آمنت دائماً أن الانسحاب آت لا محالة ولن يبقى الاحتلال إلى الأبد. صحيح أن الكل حدث بشكل دراماتيكي. ولكن الناس هنا هي التي فرضت التوصل إلى اتفاق. ومن يدري ربما جاء الثالث عشر من كانون الأول/ ديسمبر بانقلاب آخر وبأوسلو ثانية. لقد شاهدت ذلك يحدث بأم عيني عام 1956. في المساء استدعى الحاكم العسكري القادة في القطاع وحذرهم أن إسرائيل باقية في القطاع ولن تعيده إلى مصر ويومها قال: نحن باقون إلى الأبد. ولكن في الصباح استيقظنا لنرى أن الجيش الإسرائيلي اختفى من الشوارع. كان ذلك في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي دافيد بن – غوريون. فما المانع أن يحدث ذلك الآن أيضاً؟"

ويتفهم أبو غزالة اعتراضات أشخاص، مثل أم خالد ونجلاء في مخيم الشاطىء. وهي اعتراضات تشاركهن فيها زوجته رباب. لكن رده الذي يشرحه بهدوء هو كما يلي: "بعض الناس تتحدث بعواطفها. ولكن بمجرد أن يبدأ الجيش الإسرائيلي بسحب قواته سيتحتم علينا أن نشغل رؤوسنا بأقصى سرعة لمدة 24 ساعة يومياً. عندها يجب أن نبدأ التفكير بالبناء لا بالذي هدم وضاع. حتى في المجال القانوني سنخرج القانون الفلسطيني من ثلاجته وستختفي المحاكم العسكرية لتحل محلها المحاكم الفلسطينية الخاضعة لقانوننا نحن. سنغتنم الفرصة لنبني مجتمعنا من نقطة الصفر في كافة المجالات في مدارسنا كما في مستشفياتنا. سنرث وضعاً صعباً للغاية ولكن لن نرفض الفرصة لبنائه من جديد. البعض يخشى على حقوق الإنسان ولكني أنا القانوني أقول لا يوجد مجال للخوف. لن يكون من السهل على أحد حتى سلطة وطنية فلسطينية أن تتعدى على حقوق شعب كهذا لأن شعباً عاش كما عشنا سيقف أمام كل من يحاول ذلك."

وأمام اعتراض زوجته رباب، كغيرها من الناس، على أن الاتفاق أقل كثيراً مما قدم الشعب الفلسطيني، وما زال عليه أن يقدم بانتظار أن تأتي المراحل بالحد الأدنى الذي يمكن أن يقبل به، يقول أبو غزالة: "يجب أن نتوقف عن كوننا محترفي إضاعة الفرص. لم تبق فرصة منذ النكسة إلا وأضعناها، وفي كل مرة نعود لنطالب بما هو أقل. دعونا نحلم. الإسرائيليون يحلمون بإسرائيل تمتد من بغداد حتى النيل، فما المانع أن نحلم نحن أيضاً. إذا كما نملك أن نحلم. وفي هذه الأثناء لنبنِ أنفسنا ونَرَ بعد 20 عاماً كيف سيصبح قطاع غزة؟".