سويد. "عملية الليطاني 1978: نظرة استراتيجية" (بالعربية)
النص الكامل: 

عملية الليطاني 1978: نظرة استراتيجية

ياسين سويد. بيروت: مركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث والتوثيق، 1992.

 

لم تكن "عملية الليطاني"، التي جرت في الجنوب اللبناني خلال الفترة من 14 إلى 21 آذار/ مارس 1978، سوى منطلق الاستراتيجية الإسرائيلية تجاه لبنان لتحقيق أطماع إسرائيل المتمثلة في الاستيلاء على جزء من الأراضي اللبنانية (الشريط الحدودي) وقسم من مياه الجنوب اللبناني، التي طالما طمعت إسرائيل بالاستيلاء عليها منذ نشأتها سنة 1948. وقد مهّدت "عملية الليطاني"، التي أطلقت القيادة الإسرائيلية عليها الاسم الرمزي "حجر الحكمة"، لعملية أكثر طموحاً في أهدافها وأكبر حجماً وفاعلية هي عملية "سلامة الجليل" سنة 1982، التي كادت تؤدي إلى "ترتيبات أمنية" تضع لبنان كله في دائرة الاحتلال الإسرائيلي فعلياً. ولهذه الأسباب، رأى العميد الدكتور ياسين سويد، الضابط المتقاعد في الجيش اللبناني وصاحب مؤلفات عسكرية عدة، أبرزها يتعلق بالفن العسكري الإسلامي والتاريخ العسكري اللبناني، "أهمية استعادة ‘عملية الليطاني’  بعد مرور أربعة عشر عاماً على حدوثها، وبعدما تجاوزتها أحداث أكثر خطورة منها، وأهمها اجتياح عام 1982." وضمن هذا المنظور الاستراتيجي تتأتى أهمية هذا الكتاب (110 صفحات من الحجم الصغير) المقسَّم إلى ثلاثة فصول، عرض المؤلف في أولها المقدمات التاريخية للعملية، وتناول في ثانيها العمليات العسكرية، وأوضح ثالثها النتائج الجغراسياسية من حيث الأرض والسكان والمياه. ثم أورد ثبتاً بالمراجع المستخدمة في البحث ضم 22 كتاباً باللغة العربية، وكتاباً واحداً باللغة الإنكليزية، وكتابين آخرين باللغة الفرنسية، واشتمل على كتب عامة في الفكر والاستراتيجية العسكريين بصفة عامة، مثل كتاب كلاوزفيتز "في الحرب"، وكتاب أندريه بوفر "مدخل إلى الاستراتيجية العسكرية"، وكتب أُخرى تتناول الاستراتيجية الإسرائيلية بصفة عامة باعتبارها الاستراتيجية المعنية بالبحث مثل كتاب غازي ربابعة "الاستراتيجية الإسرائيلية للفترة 1948 - 1980"، وكتاب محمود عزمي "دراسات في الاستراتيجية الإسرائيلية"، وكتب توثيقية لبنانية مهمة مثل "كتاب أبيض: وثائق اتفاق جلاء القوات الإسرائيلية"، الذي أصدرته وزارتا الخارجية والإعلام اللبنانيتان سنة 1983، وكتب أُخرى تناولت عملية الليطاني: رواية العدو الصهيوني عن حرب الجنوب آذار/ مارس 1978" المترجم عن العبرية. هذا بالإضافة إلى عدد من الدوريات المهمة، مثل مجلة "شؤون فلسطينية" (العدد 77، نيسان/ أبريل 1978، والعدد 79، حزيران/ يونيو 1978)، و "نشرة مؤسسة الدراسات الفلسطينية" (مثلاً المجلد 8، العدد 4، نيسان/ أبريل 1978). وثبت المصادر هذا يكسب، في حد ذاته، الكتاب أهمية خاصة بالنسبة إلى الباحثين المعنيين بموضوع السياسة والاستراتيجية الإسرائيليتين في الصراع العربي - الإسرائيلي عامة، وتجاه لبنان والمقاومة الفلسطينية خاصة.

يتناول الباحث في الفصل الأول، ذي العنوان "المقدمات التاريخية"، تطور تاريخ الأطماع الصهيونية في لبنان عامة وفي جنوبه خاصة، منذ سنة 1860 تقريباً، أي منذ أن قال المفكر الكاثوليكي الفرنسي إرنست لاهارين، السكرتير الشخصي للإمبراطور نابليون الثالث، إن أفضل وسيلة لحل ما كان الغرب يسميه "المسألة الشرقية الجديدة" هي "استعادة ‘مملكة يهوذا’ القديمة التي يجب أن تمتد ‘من السويس إلى خليج أزمير’ حيث تشتمل على جبل لبنان كله" (ص 15) مروراً بمطالبة "المنظمة الصهيونية العالمية" مؤتمر الصلح في فرساي سنة 1919، عقب الحرب العالمية الأولى، بأن تكون حدود فلسطين (بوصفها المكان الذي ستقام فيه الدولة اليهودية الموعودة) من جهة الشمال من "نقطة على شاطىء البحر الأبيض المتوسط بجوار مدينة صيدا، وتتبع مفارق المياه عند تلال سلسلة جبال لبنان، حتى تصل إلى جسر القرعون" (ص 16) الأمر الذي تعارض مع مصلحة فرنسا المنتدبة على سوريا ولبنان، فتمسكت بالحدود المتفق عليها مع بريطانيا في اتفاقية سايكس - بيكو سنة 1916، التي بموجبها يمر الحد الشمالي لفلسطين بـ "’الزيب’ شمال عكا حتى ‘الطابغة’ شمال طبريا" (ص 17). ولذلك ضغطت المنظمة على الرئيس الفرنسي آنذاك لتعديل هذه الحدود، لكنه تمسك بموقف فرنسا من الاتفاقية واكتفى بتقديم وعد إلى مندوب المنظمة الصهيونية، ناحوم سوكولوف، بـ "استخدام بعض مياه لبنان من ‘دون’ أية تنازلات إقليمية" للدولة اليهودية المزمع إنشاؤها في فلسطين! (ص 17، 18). بيد أن بريطانيا كانت سنة 1918 قد ضمّت، بفضل الجنرال اللنبي، بحيرة الحولة وسهلها إلى فلسطين خلافاً لاتفاقية سايكس - بيكو.  ثم استمرت في الضغط على فرنسا حتى نجحت في تعديل هذه الحدود جزئياً سنة 1920، بحيث أصبحت على بعد بضعة أميال شمال خط سايكس - بيكو: شرقاً إلى نقطة غرب المالكية، وشمالاً نحو المطلة، الأمر الذي أدخل المستوطنات اليهودية القائمة في الجليل الأعلى ضمن حدود فلسطين الواقعة تحت الانتداب البريطاني. وعند صدور قرار تقسيم فلسطين عن الأمم المتحدة سنة 1947، أُدخل الجليل الأعلى ضمن حدود الدولة العربية الفلسطينية المفترضة. لكن إسرائيل حرصت على الاستيلاء عليه خلال حرب 1948، ومن ثم أصبحت حدودها ملاصقة تماماً لحدود لبنان، حيث مطامعها في أرضه ومياهه. ويعرض المؤلف بعد ذلك تصريحات لعدد من المسؤولين الإسرائيليين، في مراحل مختلفة، تعبِّر عن هذه المطامع في الجنوب اللبناني، أرضاً ومياهاً. ففي سنة 1956 عرض بن - غوريون على فرنسا، في أثناء الإعداد للعدوان الثلاثي على مصر، أن "يتم نقل الحدود اللبنانية حيث ‘يذهب قسم لسوريا، أما القسم الثاني، حتى الليطاني، فيذهب لإسرائيل. ويقام على ما تبقى من الأرض (اللبنانية) دولة مسيحية" (ص 20). وفي سنة 1967 قال موشيه دايان إن حدود إسرائيل "طبيعية" مع "جميع جاراتها"، باستثناء لبنان (ص 21). وصرح ليفي إشكول سنة 1968 أن إسرائيل قُسمت ثلاث مرات، كان أولها عندما وضِع نهرا الحاصباني وبانياس خارج حدودها! (ص 21)

إن إعادة تذكير القارىء العربي، باستمرار، بسجل التاريخ الاستعماري في تقسيم المنطقة العربية عشوائياً، وفقاً للمصالح الإمبريالية الغربية، وتذكير القارىء اللبناني، بصورة خاصة، بجذور الجهود الصهيونية المتواصلة من أجل الحصول على معظم مياه الجنوب اللبناني وأرضه، ضرورة قومية وواجب وطني على الباحثين والكتّاب السياسيين والاستراتيجيين والتاريخيين العرب لإنعاش ذاكرة الأُمة العربية وشعوبها حيال حقيقة مواقف ومخاطر السياسات الإمبريالية والصهيونية في المنطقة. وهو ما ساهم الباحث فيه بإيجاز جيد في هذا الفصل المهم من كتابه.

وفي الفصل الثاني المتعلق بالعمليات العسكرية، وهو يشكل أغلبية البحث (53 صفحة)، يعرض المؤلف طوبوغرافية مسرح العمليات، والوضع العام قبل عملية الليطاني، وميزان القوى بين القوات الإسرائيلية المعدَّة للاشتراك في  العملية والقوات الفلسطينية واللبنانية الوطنية المشتركة (حيث لم يكن هناك أي أساس عملي للمقارنة أو للتوازن في القوى). ثم يوضح المهمة القتالية للقوات الإسرائيلية، التي كان هدفها الرئيسين إسرائيل قُسمت ثلاث مرات، كان أولها عند

 إبعاد القوات الفلسطينية عن الحدود اللبنانية - الإسرائيلية، وتدمير أكبر قدر ممكن من عناصر ومواقع ومخازن أسلحة المقاومة، بغية خلق حزام أمني بطول 100 كلم وعرض يراوح بين 7 و 10 كلم، بقيادة ضابط لبناني مسيحي، وذلك في مرحلة أُولى من العملية، ثم تعميق الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب حتى مجرى الليطاني في مرحلة ثانية، على أن يتم التوصل فيما بعد إلى تغيير الوضع في الجنوب وإنهاء نشاط المقاومة الفلسطينية فيه ثم في لبنان كله. وافترضت القيادة السياسية العسكرية الإسرائيلية أن تدفع هذه العملية السوريين "إلى تسوية مع إسرائيل" تتعلق بوضع المقاومة الفلسطينية في الجنوب اللبناني. وتنفيذاً للهدف المذكور حرصت القيادة الإسرائيلية منذ اليوم الأول للعملية على توضيح محدودية الهدف الجغرافي الموضوع لها. وذلك ضمن نطاق ما عُرف بـ"الخط الأحمر"، وهو نهر الليطاني والمناطق الواقعة إلى الشمال منه، وتوضيح الهدف العسكري بأنه يستهدف قوات المقاومة الفلسطينية فحسب من دون غيرها من القوات العربية الموجودة شمال "الخط الأحمر" المذكور. كما هدفت العملية إلى وضع حد لتعاون اللبنانيين، في الجنوب خاصة، مع المقاومة الفلسطينية، وإعداد الأوضاع الملائمة لتحقيق توسع إسرائيل في الجنوب اللبناني في المستقبل، إضافة إلى رفع الروح المعنوية للجيش الإسرائيلي التي هزتها حرب سنة 1973، والتلويح مجدداً للدول العربية المنتشية بإنجازات تلك الحرب بفاعلية القوة العسكرية الإسرائيلية.

وانتقل الباحث بعد ذلك إلى عرض أسلوب قتال القوات الإسرائيلية، فأوضح أن هذه القوات اتبعت خطة المضي على مهل برفقة النيران، "الكثير من النيران" بحسب قول قائد العملية أفيغدور بن غال (ص 44)، والتنسيق الكامل والدمج المتدرج بين نيران الأسلحة البرية والجوية والبحرية، ثم التقدم بعد الاطمئنان إلى أن المساندة النارية، المختلفة المصادر، قد مهدت للقوات الوصول إلى أهدافها من دون خسائر تذكر. وقد استخدم الإسرائيليون في هجماتهم هذه الكثير من الأسلحة الجديدة مثل المقاتلات "ف - 15"، والقنابل الذكية، والقنابل العنقودية، والدبابات ميركافا، مستفيدين في ذلك من دروس حرب 1973.

أما القوات الفلسطينية، فقد لجأت إلى القتال ضمن مجموعات صغيرة، من دون الاعتماد على الدفاع الثابت، وعمدت إلى أسلوب حرب العصابات المتحركة والمناورة خلف العدو واستخدام الألغام، التي سبّبت ثلثي الخسائر البشرية الإسرائيلية، والقذائف الصاروخية المضادة للدروع، إلخ، متفادية الانسحاق أمام قوة الهجمات الإسرائيلية ونيرانها الكثيفة، وعاملة على التراجع المتدرج في الوقت ذاته.

وقد بدأت القوات الإسرائيلية عمليتها، في المرحلة الأُولى، بالتقدم على خمسة محاور رئيسية تتجه جميعاً من الغرب إلى الشرق، وأنهتها خلال 4 أيام. ثم بدأت المرحلة الثانية من العملية بالتقدم على أربعة محاور رئيسية، حيث وصلت القوات الإسرائيلية في 21 آذار/ مارس 1978 (يوم وقف إطلاق النار تنفيذاً للقرار رقم 425 الذي أصدره مجلس الأمن في 19 آذار/ مارس) إلى مشارف صور الجنوبية وإلى مواقع قريبة جداً من الضفة الجنوبية لنهر الليطاني. وبذلك بلغ عمق التقدم الإسرائيلي في أراضي الجنوب اللبناني نحو 20 كلم، ثم تم التراجع لاحقاً إلى الشريط الحدودي (7 – 10 كلم). وقد دمج الباحث المرحلتين من دون توضيح الفواصل بينهما، باعتبار أن إعلان هدف العملية في المرحلة الأُولى كان دعائياً فحسب لكسب المناورة السياسية الخارجية دولياً وإقليمياً. وجاء تناول محاور التقدم مفصلاً بصورة توثيقية (ص 50 – 63)، مع الإشارة إلى أبرز المعارك والتكتيكات المطبقة خلالها، وذلك بصورة تجعل هذا القسم من البحث مرجعاً موجزاً لأي باحث أو قارىء معني بدراسة هذه العملية.

وفي مجال نقد العملية وتقويمها، بحث المؤلف في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية المطبقة في هذه العملية (ص 70 – 77)، فقال إنها اشتملت عدة استراتيجيات أهمها:

1 - استراتيجية الردع المباشر وغير المباشر، 2 - استراتيجية المناورة الخارجية، 3 - استراتيجية المناورة الداخلية، 4 - استراتيجية المراحل، 5 - استراتيجية الهجوم المباشر وغير المباشر، 6 - استراتيجية "الخرشوفة" أو "القضم المتتابع"، 7 - استراتيجية الإطباق أو مناورة "الكماشة".

وفيما يلي، نورد بعض الملاحظات النقدية الموجزة بقدر الإمكان:

1 - يتضمن كل مخطط استراتيجي، عادة، مزيجاً من أسلوبي العمل والردع اللذين يشكلان وجهي عملة واحد متكاملين متبادلي التأثير في الأداء التنفيذي، من أجل تحقيق الهدف الاستراتيجي العام لأية عملية في مرحلة معينة من الصراع بين طرفين. ويدخل كلٌ من مفهومي العمل والردع ضمن الاستراتيجية الشاملة التي تتوسط السياسة والاستراتيجية العسكرية. ومن ثم، فإن استراتيجية الردع - مع افتراض استخدامها بمعزل عن العمل - لا تدخل إطار الاستراتيجية العسكرية الصرفة المنظِّمة لأية عملية عسكرية إلا بمعنى تحديد الإطار العام لمدى وأهداف العملية على مستوى الاستراتيجية العليا. والحديث عن استراتيجية للردع منفصلة عن العمل العسكري يعني محاولة قهر إرادة الخصم من دون الاضطرار إلى الاستخدام الفعلي للقوة العسكرية، وهذا افتراض لم يحدث في عملية الليطاني أو في غيرها من العمليات الإسرائيلية المضادة للمقاومة الفلسطينية. وقد أشار الباحث ضمناً إلى الأهداف الردعية المباشرة وغير المباشرة للاستراتيجية الإسرائيلية الشاملة، التي حكمت العملية إذ قال إن إسرائيل استخدمت استراتيجية الردع المباشر ضد المقاومة الفلسطينية "كفرضية بديلة للهدف الأساسي، وهو تدمير المقاومة تدميراً كاملاً." واستخدمت استراتيجية "الردع غير المباشر" ضد الحركة الوطنية اللبنانية المساندة للمقاومة الفلسطينية وضد سوريا حتى "تجرها إلى دور مساند لها في ضربها للثورة الفلسطينية" (ص 70). لكن تناول مقولة استراتيجية الردع على هذا النحو المعزول عن استراتيجية العمل، وباعتبار أنها جزء من الاستراتيجية العسكرية لا الاستراتيجية الشاملة، يضعف جدوى وفاعلية التحليل الاستراتيجي للعملية، ويُحدِث لدى القارئ التباساً وغموضاً في المفاهيم الاستراتيجية.

2 - إن مفهوم "المناورة الخارجية، يدخل الجانب السياسي من مفهوم "المناورة غير المباشرة" المتعلقة بالاستراتيجية غير المباشرة، وفقاً لتعريفات الاستراتيجي الفرنسي الجنرال أندريه بوفر. وتهدف المناورة الخارجية إلى تأمين الغطاء السياسي العالمي (أو الإقليمي إن أمكن) اللازم للعملية العسكرية المعنية، التي يعرِّفها بوفر بـ "المناورة الداخلية" العسكرية في المنطقة محل الصراع المباشر بين الطرفين، وذلك كله قبل وخلال تنفيذ العملية العسكرية. ويتم ذلك عبر الحصول على دعم وتأييد الحلفاء والأصدقاء وتحييد غيرهم، ومحاولة إعطاء الخصم فكرة سيئة عن معركته وجعله يشكل في المبدأ الذي تستند قضيته إليه، وبالتالي يتوفر للطرف المعتدي هامش جيد لحرية العمل العسكري في المنطقة الجغرافية المعنية. من هنا، فإن هذه المناورة لا تدخل ضمن الاستراتيجية العسكرية المباشرة، وإنما تُعدُّ جزءاً من الاستراتيجية الشاملة للعملية متصلاً بجانبها غير المباشر. وقد تناول الباحث مضمون استخدام إسرائيل لهذه المناورة، لكن من منطلق اعتبارها جزءاً من الاستراتيجية العسكرية، ومن دون التوضيح اللازم لمفهومها وعلاقته غير المباشرة بالاستراتيجية العسكرية.

3 - تناول المؤلف مفهوم "المناورة الداخلية" وما سماه "استراتيجية المراحل"، بمعنى "اعتماد الوسائل الإعلامية الداخلية لإقناع الرأي العام المحلي بصواب الأعمال التي تنوي الدولة القيام بها" (ص 72). وهذا أمر مغلوط فيه، لأن مفهوم المناورة الداخلية ينصرف إلى مجمل العملية العسكرية المنفَّذة في المنطقة المعنية بعد اكتساب حرية العمل وفقاً لنجاح المناورة الخارجية، كما سبق أن أوضحنا. وتتحكم في هذه المناورة "ثلاثة عوامل متحولة، تكميلية ورئيسية، هي: القوى المادية والقوى المعنوية والزمن" على حد تعبير بوفر. ومن ثم، يمكن أن تأخذ المناورة الداخلية أشكالاً مختلفة بحسب اختلاف العوامل المذكورة. فعلى سبيل المثال، إذا كانت القوى المادية متفوقة كثيراً على قوى الخصم، والمناورة الخارجية تسمح بهامش محدود نسبياً لحرية العمل العسكري، فإن المناورة الداخلية تتحقق من خلال تحقيق هدف جزئي بسرعة كبيرة ثم التظاهر بالتوقف قبل القيام بعملية أخرى، أو استكمال العملية الأصلية، فتتحقق المناورة من خلال تحقيق أهداف متتالية، يبدو كل واحد منها هدفاً متواضعاً نسبياً في حد ذاته. وهذه هي المناورة التي يسمّيها بوفر "مناورة الخرشوفة" أو "القضم المتتابع" للأهداف. ولذلك، فإن "استراتيجية الخرشوفة" التي ذكرها الباحث في فقرة مستقلة إنما تشكل النموذج الذي اختارته إسرائيل لتنفيذ مناورتها الداخلية في عملية الليطاني، وفي غيرها من العمليات المماثلة. وهي ليست، في الوقت ذاته، مفهوماً مستقلاً عن المفهوم الذي ذكره بشأن "استراتيجية المراحل"، التي تعد بمثابة تسمية أُخرى لاستراتيجية "الخرشوفة". وبالتالي لم يكن هناك داع إلى تناولها في فقرة منفصلة، فضلاً عن خطأ دمجها نظرياً في مفهوم المناورة الداخلية التي لا تتخذ دائماً، بالضرورة، شكل استراتيجية المراحل أو "الخرشوفة".

4 - أطلق الباحث اسم "استراتيجية الإطباق" أو "مناورة الكماشة" على مختلفة حركات التطويق التي نفذها الجيش الإسرائيلي خلال العملية، بحيث بدت تلك الحركات استراتيجية قائمة بذاتها ضمن مختلفة الاستراتيجيات العسكرية التي نفذتها إسرائيل في عملية الليطاني. والواقع أنه ليس هناك مصطلح عسكري خاص بمناورات التطويق يُعرف بـ "استراتيجية الإطباق" أو "الكماشة"، بل إن مناورات الالتفاف والتطويق تدخل ضمن الاستراتيجية العسكرية المطبقة في أية عملية عسكرية، التي قد تكون محكومة باستراتيجية تقرّب مباشر أو غير مباشر.

إن الإكثار من استخدام مصطلح الاستراتيجية يحدث البلبلة والغموض في فهم الأبعاد الاستراتيجية لعملية الليطاني، وهو أمر كان من الأفضل للباحث تجنبه.

في الفصل الثالث من الكتاب تناول المؤلف النتائج الجغراسياسية لعملية الليطاني. فقد أسفرت العملية، ثم امتناع إسرائيل من تطبيق القرار الدولي رقم 425 - الصادر وفقاً للباب السادس من ميثاق الأمم المتحدة الذي يقضي بحل المنازعات حلاً سلمياً - عن احتلال إسرائيل نحو 1100 كيلومتر مربع من أرض الجنوب اللبناني، أي 10 في المئة من مساحة لبنان. وأسفر أيضاً عن وضع مسالة الحدود مع لبنان محل تفاوض عند التسوية من موقع الأمر الواقع.

أما من حيث نتائج العملية بالنسبة إلى السكان، فقد أدت العملية إلى نزوح نحو 285 ألف شخص، منهم 220 ألف لبناني و 65 ألف فلسطيني. وقد أورد المؤلف بيانات إحصائية للباحث علي فاعور تتعلق بالهجرة من الجنوب اللبناني في الفترة 1975 – 1989، وهي بيانات ذات قيمة وثائقية مهمة في هذا المجال.

وتعرض الباحث أخيراً لجهود إسرائيل في سبيل الحصول على حصة من مياه الليطاني، عن طريق تركيب مضخات مياه كبيرة قرب النهر تستطيع أن تضخ سنوياً نحو 150 مليون متر مكعب. ويضيف هذا الفصل أبعاداً جديدة إلى الفصل الأول من حيث أنه يربط تاريخ الأطماع الصهيونية في أرض ومياه الجنوب اللبناني بما تم تطبيقه فعلاً منذ اجتياح سنة 1978، الأمر الذي يجعل البحث مساهمة مهمة في إلقاء الضوء المركز على هذا الموضوع البالغ الخطورة من موضوعات ماضي الصراع العربي - الإسرائيلي وحاضره ومستقبله.

السيرة الشخصية: 

محمود عزمي: باحث في الشؤون الاستراتيجية.