سياسة ألمانيا النازية تجاه قضية فلسطين (كما تعكسها مراسلات الحاج أمين الحسيني)
كلمات مفتاحية: 
النازية
ألمانيا
الحرب العالمية 1939-1945
التاريخ الفلسطيني 1918-1948
الدولة اليهودية
الاستقلال
أمين الحسيني (الحاج)
المراسلات
نبذة مختصرة: 

غاية الدراسة عرض جذور مراسلات الحاج أمين الحسيني قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، وعرض ظروفها السياسية والحربية ثم تحليلها، وبالتالي تقويم أهميتها التاريخية والسياسية. وتخلص الدراسة إلى تقسيم نشوء وتطور علاقات الحاج أمين بأجهزة الحكم النازي إلى ثلاث مراحل مركزية. كما تخلص إلى أن "المسألة اليهودية" ـ بالمفهوم النازي ـ لم تقم بأي دور في مراسلات الحسيني ومفاوضاته مع تلك الأجهزة حتى منتصف سنة 1943.

النص الكامل: 

إن غاية هذا البحث هو عرض جذور مراسلات الحاج أمين الحسيني قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها، وعرض ظروفها السياسية والحربية، ثم تحليلها، وبالتالي تقويم أهميتها التاريخية والسياسية. فقد غلب الطابع السياسي والغرض الدعائي على الكثير من الدراسات،(1)   واكتفى بعض الدراسات الأُخرى بمنهجية انتقائية معينة.(2)   وزعم البعض أن الحسيني أيد سياسة إبادة اليهود وحث عليها، معتمداً هذا البعض في زعمه على رواية فسلسني (Wisliceny)، مساعد أيخمان (Eichmann)، خلال محاكمات نورنبرغ (Nuernberg) لمجرمي الحرب بعد الحرب العالمية الثانية.(3)    وعلى الرغم من أن الدراسات التاريخية المتأخرة لسيرة الحسيني أثبتت أن رواية فسلسني افتقرت إلى دعم تاريخي وثائقي، فإنها أكدت أن الحسيني "لم يُسَرّ فقط بمنع اليهود من الهجرة إلى أرض إسرائيل، بل نعم براحة أيضاً" من "الحل النهائي للنازيين".(4)    أما الدراسات العربية فما زالت في مرحلة الطفولة، تنجح أحياناً، لكنها تتعثر في أغلب الأحيان، لأسباب متعددة. فدراسة بيان الحوت عانت مرض "الدفاع" "بكل وسيلة" بدلاً من أن تتقدم خطوة إلى الأمام، كما حققت ذلك في مجالات أُخرى.(5)   أما الدراسات الصهيونية، فقد انهمكت في إعداد "لائحة الاتهام" للحسيني، وبذلك خططت بين الأمانة التاريخية وأخلاق البحث العلمي وبين الغايات السياسية الآنية. وليس ما تردد من دعوة الحسيني إلى "الحل النهائي"، كما "اكتشفها" مركز روزنتال  مؤخراً خلال مؤتمر مدريد سنة 1991، سوى استمرار للماضي في البحث عن "لوائح اتهام".(6)   

1 - ألمانيا النازية والحركة الوطنية الفلسطينية حتى سنة 1939

لا يمكن الحديث عن علاقات بين الحاج أمين الحسيني وبين غيره من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية قبل نشوب أعمال المقاومة المسلحة للانتداب البريطاني، عقب الإضراب العام سنة 1936. فبعد تسلُّم الحزب النازي للسلطة وتعيين هتلر مستشاراً لألمانيا في 30 كانون الثاني/ يناير 1933، قام الحسيني في 21 آذار/ مارس 1933 بتهنئة فولف (Wolff)، القنصل الألماني في القدس، بـ "الحكم الجديد في ألمانيا"، واكتفى فولف بـ "التهنئة" من دون تعقيب، وانتهز الحسيني فرصة اشتراك فولف في حفلة مسيرة النبي موسى في نيسان/ أبريل فأعرب له عن معارضة العرب "إرسال اليهود الألمان إلى فلسطين."(7)   وكانت إشارة الحسيني هذه أقرب إلى ملاحظة عابرة منها إلى سياسة رسمية؛ إذ لا توجد أدلة لاحقة تكشف عن احتجاجات ضد سياسة التهجير الألمانية.

من ناحية أُخرى، لم تبد ألمانيا النازية أي اهتمام بالفلسطينيين حتى 1937/1938، كما أن ممثليها في القدس ويافا لم يسعوا لتفعيل سياسة ألمانيا في فلسطين. فقد بذل رايخرت (Reichert)، ممثل وكالة الأنباء الألمانية في فلسطين رسمياً والعامل في جهاز الاستخبارات الألمانية عملياً، جهودا لتنمية علاقاته بشخصيات عربية - كصاحب جريدة "الدفاع" - ويهودية على حد سواء. وتكشف حادثة يوسف فرنسيس، مراسل "الأهرام" في يافا، في حزيران/ يونيو 1933 عن موقف فولف ودائرة الشرق في وزارة الخارجية الألمانية من أطراف الصراع العربي - الصهيوني في فلسطين. فحين عرض فرنسيس توزيع منشورات ومواد دعاية نازية في فلسطين، سارع فولف إلى التحذير من سياسة نشر مواد من هذا القبيل، وذلك في مذكرة إلى وزارة الخارجية في 27 حزيران/يونيو 1933:

لا شك في أن الميول الوطنية العربية، التي يمكن أن تأخذ شكلاً ما من أشكال الوطنية الاشتراكية (الألمانية)، ستوجه ضد اليهود في هذه البلاد بالدرجة الأولى، وضد الحكومة البريطانية نظراً إلى دعمها الوطن القومي اليهودي... وهكذا، يظهر لي أن ما يثير المخاوف هو أن أصبح عرضة للشكوك بالتدخل في السياسة المحلية... ما عدا ذلك لست بحاجة إلى أن أؤكد أنه يبدو لي مثيراً للمخاوف إلى درجة كبيرة (بالإضافة إلى ما سبق) أيضاً، بالنظر إلى المصالح الاقتصادية الألمانية في فلسطين... أن أقوم بخطوات يُنظَر إليها كتحزب سياسي موجه ضد اليهود في البلاد لمصلحة العرب في فلسطين.(8)

أبدى شميدت - رولكه (Schmidt-Rolke)، رئيس دائرة الشرق في وزارة الخارجية الألمانية، موافقة وزارة الخارجية "الكلية" (in Vollem Umfange) في 7 تموز/يوليو 1933 على ما جاء في مذكّرة فولف، وحذر من أي شكل من أشكال الاتصال في سبيل تعاون سياسي مع العرب. ونبَّه شميدت - رولكه إلى أن العرب ليسوا "أهلاً للثقة السياسية" وإلى أن "أية خطوة نحوهم سيصل خبرها إلى ‘لندن وباريس’ في أسرع وقت."(9)  ولم يكتف شميدت - رولكه بالموافقة على خطوة فولفن بل أصدر في 31 تموز/يوليو 1933 تعليمات بهذه الروح إلى الدبلوماسيين الألمان في كل من القاهرة، وبغداد، وبيروت، ولندن، وباريس، وجنيف.(10) 

هكذا، وضعت دائرة الشرق في حزيران/يونيو وتموز/يوليو 1933، بمبادرة من فولف، أُسس السياسة الألمانية المتعلقة بأطراف الصراع في فلسطين بصورة خاصة وبالوضع السياسي السائد آنذاك في أقطار المشرق العربي بصورة عامة.

رجعت رغبة وزارة الخارجية الألمانية في المحافظة على الوضع القائم إلى ثلاثة عوامل مركزية: جهود فولف للوصول إلى اتفاق عام بين أجهزة الحكم النازي وبين الحركة الصهيونية، وهي جهود تكللت بالنجاح في عقد اتفاقية الترانسفير في آب/أغسطس وسياسة الترانسفير فيما بعد؛(11) رغبة ألمانيا النازية في تحقيق أهدافها السياسية بموافقة بريطانية؛(12) موقف هتلر، والإيديولوجية  النازية بصورة عامة، تجاه حركات الاستقلال في المستعمرات.(13)

جاء الإضراب العام في نيسان/أبريل 1936 والثورة الوطنية الفلسطينية بمعطيات جديدة. ولعل فوزي القاوقجي كان أول من توجه إلى غروبا (Grobba)، سفير ألمانيا في بغداد، وحاول إقناعه بعقد صفقة أسلحة يتم تمويلها بقرض تسدده اللجنة العربية العليا. لكن غربا لم يترك لدى القاوقجي أدنى شك في أن ألمانيا لن تقوم بعمل يعرض العلاقات بين ألمانيا وبريطانيا للخطر.(14) واجتمع عزة دروزة ومعين الماضي إلى غروبا في كانون الثاني/يناير 1937. وردَّد غروبا أمامهما ما سبق أن قاله للقاوقجي. وشارك بلغر (Pilger)، الذي خلف شميدت - رولكه رئيساً لدائرة الشرق، غروبا في وجهة نظره، مؤكداً أنه "لا يمكن الرد على أية مساعدة رسمية مهما يكن نوعها بالإيجاب."(15) وخلاصة الأمر لأأن القيادة السياسية الفلسطينية وجب عليها أن تكتفي بـ "شعور العطف" والتضامن الكلامي فقط.

وصلت الشائعات بشأن عزم لجنة بيل على التوصية بإقامة دولة يهودية وضم باقي أجزاء فلسطين إلى شرق الأردن إلى دوائر وزارة الخارجية الألمانية في وقت مبكر من مطلع سنة 1937. وفاجأت هذه الشائعات دوائر الحزب النازي بصورة خاصة. فقد اعتقد إيديولوجيو الحزب - وخصوصاً هتلر وروزنبرغ - اعتقاداً جازماً أن ليس لليهود قدرة طبيعية على بناء دولة، وذلك لأسباب لا نريد التعرض لها هنا. ولم تصطدم سياسة الترانسفير حتى منتصف سنة 1937 بمعارضة تذكر لدى دوائر الحزب؛ ليس ذلك فقط، بل وجدت تأييداً وتشجيعاً لدى بعض هذه الدوائر في وزارة الداخلية والشرطة. وعندما تأكدت دوائر وزارة الخارجية من صحة الشائعات بخصوص إقامة دولة يهودية، أصدر وزير الخارجية فون نويرات (Von Neurath) مذكرته المشهورة في 1 حزيران/يونيو 1937، التي أكد فيها معارضة ألمانية إقامة دولة يهودية. وأصدر إلى المبعوثين الدبلوماسيين الألمان تعليمات بإبداء "تفهم" أكثر من ذي قبل للرغبات العربية، لكن من دون إعطاء "وعود محددة".(16)    هل شكلت مذكرة فون نويرات نقطة تحول في السياسة الألمانية، وخصوصاً إعلان مشروع بيل فيما بعد أكد إفلاس الإيديولوجية النازية بخصوص عدم قدرة اليهود الطبيعية على بناء دولة؟ ماذا كان يمكن أن تكون ردة الفعل الألمانية لو أن القيادة السياسية العربية قبل مبدأ التقسيم وطالبت بإقامة دولة خاصة؟

لا يمكن الإجابة عن السؤال الثاني؛ إذ إن أية إجابة لا تتعدى حدود التكهنات غير التاريخية. في أية حال، واصلت القيادة الفلسطينية جهودها للحصول على مساعدات عسكرية ألمانية. فقد زار عوني عبد الهادي غروبا في 17 تموز/يوليو 1937، وأطلعه على نية تجديد المقاومة المسلحة قريباً، وعلى ما تحتاج المقاومة إليه من إمدادات. لكن غروبا، بناء على تعليمات وزير خارجيته، عرض "تفهماً" و "مشاعر العطف" الألمانية.(17)   ولم يجد عبد الهادي بديلاً سوى الاكتفاء بذلك. كما قام الحاج أمين الحسيني بزيارة القنصل الألماني في القدس دولي (Doehle)، الذي خلف فولف، وطلب منه رسالة توصية لأحد مساعديه، أمين العلمي، لزيارة برلين؛ إذ يبدو أن الحسيني قرر إرسال العلمي لإجراء محادثات مباشرة في برلين؛ ولم تجد رغبة الحسيني حماسة خاصة لدى دولي، لكن الأخير أعلن استعداده لإرسال توصية عامة كالتي تُرسل بشأن أي زائر. ولم ينتظر الحسيني رد وزارة الخارجية الألمانية، وسافر العلمي إلى برلين من دون تنسيق. وفي الواقع، فإن زيارة مبعوث فلسطيني إلى برلين لقيت معارضة شديدة لدى كل من فايتسكر (Weizsaecker)، سكرتير وزارة الخارجية، وفون هنتغ (Von Hentig)، الرئيس الجديد لدائرة الشرق.(18)   وليس غريباً أن زيارة العلمي لبرلين لم تسفر عن نتائج أفضل من توجهات الآخرين. ومع ذلك، قام وفد من اللجنة السورية لمناصرة الشعب الفلسطيني بزيارة القنصل الألماني في بيروت، زايلر (Seiler)، في بداية أيلول/سبتمبر 1937. وطُرحت مسألة شراء الأسلحة مرة أُخرى. ويبدو أن زايلر مال إلى تلبية طلب الوفد السوري، لكن فون هنتغ ذكّر زايلر بأن ألمانيا جمدت جميع طلبات الأسلحة إلى الشرق "بسبب الأحداث الأخيرة في فلسطين."(19) وكانت ملاحظة فون هنتغ إشارة صريحة، لا إلى سياسة عدم التدخل في شؤون بريطانيا في فلسطين فحسب، بل أيضاً إلى أن نشوب الثورة كان العامل في رفض ألمانيا تصدير السلاح إلى مستعمرات بريطانيا.

أصبحت سياسة عدم التدخل الألمانية معروفة لدى الساسة الفلسطينيين منذ أواخر صيف 1937. وعندما زار وفد فلسطيني زايلر في كانون الثاني/يناير 1938، اقتصر طلب الوفد على المساعدات المالية. لكن الحاج أمين الحسيني لم يكتف بفشل جميع محاولات التأثير في سياسة عدم التدخل الألمانية؛ فأرسل الدكتور سعيد إمام إلى برلين في كانون الأول/ديسمبر 1937، بالتنسيق مع الكتلة الوطنية السورية. وكان الدكتور إمام عضو النادي العربي في دمشق، الذي كان بدوره على علاقات بالمبعوثين الألمان وبرئيس الخلية النازية في بيروت. كذلك زار الدكتور إمام ألمانيا مبعوثاً من قِبل مجلس الرقابة التابع للمكتب العربي الوطني في دمشق.

جاء الدكتور إمام إلى برلين وفي جعبته عرض مفصّل لتعاون عربي - ألماني. واشتمل العرض على تعهدات من قِبل الجانب العربي وعلى تسعة تعهدات طالب بأن تتعهد ألمانيا بها. وارتكزت أُسس التعاون على ضرورة تنسيق إعلامي متبادل، ودعم حركة التحرر" العربية، والعمل من أجل المصالح الاقتصادية الألمانية ، والدعاية لمصلحة ألمانيا في حال نشوب حرب، ومكافحة الشيوعية، ومقاطعة البضائع والمنتوجات اليهودية، ومواصلة العنف في المستعمرات، ومكافحة الجهود الرامية إلى إقامة "الدولة اليهودية".(20)  

لم تسفر زيارة الدكتور إمام عن نتائج تستحق الذكر سوى أنها أضافت محاولة فاشلة جديدة إلى سابقاتها. وصوغ العرض بتعابير لغوية منسجمة مع الذوق  اللغوي للنازيين لم يجْدِ نفعاً. والجدير بالملاحظة أن العرض لم يتعرض لبريطانيا كيلا يثير لدى موظفي وزارة الخارجية الألمانية الشكوك في أن غاية طلب المساعدات موجهة ضد بريطانيا. ويبدو واضحاً أن القادة السياسيين العرب وصلوا إلى اقتناع بأن أجهزة الحكم النازي تعارض أية سياسة يمكن أن تؤدي إلى أي شكل من أشكال الصدام مع بريطانيا.

استمر هتلر يعتقد أن ثمة إمكاناً لتحقيق تطلعاته التوسعية في وسط أوروبا وشرقها بموافقة بريطانيا، مهما يكن شكلها، حتى نهاية سنة 1937 وبداية سنة 1938. ولذا، فإن من الطبيعي أن يعارض هتلر أي شكل من أشكال الدعم والتأييد للحركة الوطنية الفلسطينية يتناقض ومصلحة ألمانيا. وفي الواقع، فإن سياسة عدم التدخل الألمانية شملت جميع أقطار المشرق العربي؛ فقد رفضت ألمانيا النازية أن تبيع العراق والعربية السعودية ومصر أسلحة وعتاداً عسكرياً من دون ضمان موافقة بريطانيا. وما عدا ذلك، فإن ما تم بيعه كان لبّى طلبات العراق والسعودية بصورة جزئية فقط، واقتصر على الأسلحة الخفيفة في أغلب الأحيان.(21)   وعندما بدأ هتلر سياسة بسط النفوذ والتوسع في أوروبا "على الرغم من بريطانيا"، وليس بموافقتها، في أواخر سنة 1937 وبداية سنة 1938، شهد العالم العربي في المشرق تحولاً طفيفاً في السياسة الألمانية.

انعكس هذا التطور في السياسة الألمانية بانتهاء مرحلة "شعور التعاطف" والتأييد الشفهي للقضايا العربية، ومنها القضية الفلسطينية، وبدأت مرحلة تفعيل السياسة الألمانية وتنشيطها. فقد بدأت أجهزة الاستخبارات العسكرية - كانارِس (Canaris) بصورة خاصة - بإقامة علاقات اتصال ببعض السياسيين العرب، ومنهم الحسيني، في الشرق ومصر. كما أبدت أجهزة الحكم النازي اهتماماً أكبر بشؤون الشرق؛ فأخذ مبعوثوها الدبلوماسيون يكثفون الاتصالات بالعناصر العربية المناهضة لبريطانيا في القاهرة وبغداد على نحو خاص. ومن الأرجح أن بعض الأسلحة التي بيعت للسعودية قد وجد طريقه إلى فلسطين.

لكن تفعيل ألمانيا لسياستها خارج أوروبا ت وفي حالتنا هنا، الشرق - جاء وسيلة ضغط لتحقيق أهداف سياسية داخل أوروبا. ولم يشكل هذا التنشيط تعبيراً عن اهتمام مباشر بالشرق أو عن إضعاف لسيطرة إنكلترا وفرنسا والحلول محلهما. من ناحية أُخرى، فإن بعض الإمدادات اليسيرة - قليل من المال وكمية محدودة من الأسلحة - التي وصلت إلى فلسطين جاء متأخراً ولم يكن له تأثير خاص. فقد استطاعت بريطانيا قمع الثورة الفلسطينية وبسط سيطرتها العسكرية شبه التامة منذ أواخر سنة 1938. وانتقلت الثورة من مرحلة المد إلى مرحلة التمزق والتأكل الذاتي، وعمت الضائقة الاقتصادية قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني. 

2 - الحركة الوطنية الفلسطينية أمام مفترق طرق: 1939 - 1940

كان من نتائج ازدياد حدة التوتر في أوروبا بعد مؤتمر ميونيخ في أيلول/ سبتمبر 1938 أن بدأت الحكومة البريطانية تراجع سياساتها في مستعمراتها؛ فدعت زعماء الحركة الصهيونية والحركة الوطنية الفلسطينية إلى إجراء محادثات في لندن. ولا تهمنا تفصيلات محادثات لندن في مطلع سنة 1939 أولاً، وإعلان "الكتاب الأبيض" فيما بعد، على الرغم من أهميتها في حد ذاتها؛ ما يهمنا هنا هو أن تردد ألمانيا النازية - وإيطاليا طبعاً - في تقديم المساعدات الفعالة لم يخل من أثر في موقف بعض زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية، عندما طُرح الكتاب الأبيض للنقاش داخلياً. فقد زار عوني عبد الهادي برلين بعد مؤتمر لندن، وحل ضيفاً على وزارة الإرشاد والدعاية، وقابل مساعد سكرتير وزارة الخارجية الألمانية، فورمان (Woermann)، للتداول معه. وترك لنا فورمان تقريراً مفصلاً عن مجرى المحادثات.(22) ومع أن فورمان امتنع من إبداء موقف محدد من القضية الفلسطينية، بسبب نقد عبد الهادي لإيطاليا على الأرجح، فإننا نميل إلى الاعتقاد أن عبد الهادي اقتنع بضرورة قبول الكتاب الأبيض وبعدم جدوى "البديل الألماني" أداة ضغط على بريطانيا؛ فقد عاد من أوروبا وأيد الكتاب الأبيض.

لم يترك الفتور الألماني أثره في عبد الهادي فقط، بل شمل أمين العلمي أيضاً. فقد زار العلمي ألمانيا في أيلول/سبتمبر 1937، ولم تسفر زيارته عن نتائج تستحق الذكر. وبالتأكيد، كان مطلعاً على الاتصالات بين قادة من الحركة الوطنية العربية وبين زايلر في بيروت . ويبدو أن شكوكه بشأن جدوى "الورقة الألمانية" أصبحت معروفة لدى الدوائر السياسية الفلسطينية والعربية، وطبعاً لدى الحاج أمين الحسيني. فلم يكتف العلمي بقبول الكتاب الأبيض، بل حاول هو وجورج أنطونيوس التوسط بين الحسيني ومسؤولين في الحكومة البريطانية لإيجاد حل وسط يرضي الطرفين. وعندما زار رئيس دائرة الشرق في وزارة الخارجية الألمانية، فون هنتغ، بيروت ودمشق فيما بعد، في مطلع سنة 1941، واجتمع إلى عدد من الزعماء العرب - وإلى مبعوثين يهوديين من حركة ليحي على الأرجح - عارض الحسيني أية اتصالات بين فون هنتغ والعلمي، خوفاً من وصول مضمونها إلى لندن.(23)

لا شك في أن رفض بريطانيا رئاسة الحاج أمين الحسيني للوفد الفلسطيني خلال محادثات لندن في شباط/فبراير 1939 زاد في عدائه لها. لكن ميل الكثير من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى قبول الكتاب الأبيض وغياب أربعة أعضاء من اللجنة العربية العليا حين درست اللجنة الكتاب الأبيض بعد إعلانه في أيار/مايو 1939 أكداً له ضرورة أخذ الحلول الوسطية في الاعتبار عند اتخاذه خطواته السياسية. لذا، فقد قبل وساطة العلمي وجورج أنطونيوس شرط أن تسمح أجهزة حكومة الانتداب برجوع مؤيديه إلى فلسطين من دون تقديمهم للمحاكمة. وبذل العلمي وأنطونيوس جهوداً كبيرة لإقناع العاملين في شؤون فلسطين في الحكومة البريطانية، لكن من دون نجاح. ورأى الحسيني بذلك دليلاً آخر على سياسة بريطانية ترمي إلى تقويض مكانته السياسية، وواصل سياسة الاتصال بوكلاء ومبعوثي ألمانيا النازية، خلال إقامته في لبنان وبعد هروبه إلى العراق في تشرين الأول/أكتوبر 1939. هل شكلت شروط الحسيني خطوة تكتية لكشف موقف بريطانيا منه ومن مؤيديه أم فثبات إصرار بريطانيا على عدم التنازل أمام معارضيه؟ ماذا كان يمكن أن تكون ردة فعله لو أن بريطانيا قبلت بعض شروطه؟ هذان سؤالان يبقيان رهن التكهن، ومن الصعب الإجابة عنهما. مهما يكن من أمر، فلا شك في أن رفض العاملين في شؤون فلسطين في الحكومة البريطانية تقديم أي تنازل، ولو كان محدوداًن ساهم في اقتناع الحاج أمين الحسيني بأنه لم يبق بديل من "الخيار المحوري".

عندما وصل الحسيني إلى بغداد في تشرين الأول/أكتوبر 1939، لم يكن تأثير الأزمة الأوروبية وانفجارها في أيلول/سبتمبر 1939 في القوى السياسية في العراق بأقل حدة من تأثيرها وانفجارها في أيلول/سبتمبر 1939 في القوى السياسية في العراق بأقل حدة من تأثيرها في القوى السياسية الفلسطينية. فقد زاد انتصار دولتي المحور، وطبعاً ألمانيا قبل كل شيء، في التنافس الدبلوماسي بين دولتي المحور من جهة وبريطانيا من جهة أخرى لاستمالة مختلفة القيادات السياسية العربية. وأصبحت بغداد مسرحاً لحرب دبلوماسية بين أطراف الصراع العالمين وخصوصاً بعد وصول المفتي إلى بغداد في تشرين الأول/أكتوبر 1939. وحاول كل طرف استمالة القوى السياسية المتصارعة هناك. ووقف نوري السعيد على رأس المنادين بالوقوف إلى جانب بريطانيان فقطعن بوصفه رئيساً للحكومة، العلاقات الدبلوماسية بألمانيا حينما نشبت الحرب. أما العناصر الراديكالية ت كناجي شوكت ويونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني من المدنيين، ومن عُرفوا بالضباط الأربعة أو بـ "الحلقة الذهبية"، وعلى رأسهم سعد الدين الصباغ - فلم تكتف بنقد اتفاقية 1936، بل طالبت نوري السعيد بأن يحافظ على "استقلال" العراق. طبعاً، قوبل قطع العلاقات الدبلوماسية بألمانيا بالرفض أو بالنقد بين أوساط التيارات السياسية الراديكالية. لكن هذه التيارات افتقرت إلى شخصية مركزية للتوفيق بينها وتوحيدها في اتجاه سياسي واضح. ومع أن الكيلاني احتل مكانة مركزية، فقد اعتبره بعض العناصر الراديكالية معتدلاً.

جاء المفتي إلى بغداد بعد فشل وساطة العلمي وأنطونيوس، ووجد في بغداد تربة خصبة لمواصلة خطواته السياسية المقبلة. وساهمت شخصيته في توحيد التيارات السياسية الراديكالية العراقية بقيادة رشيد عالي الكيلاني.(24)

عرف نوري السعيد أن تفاهماً بين بريطانيا والحاج أمين الحسيني ضروري لتطويق التيارات السياسية العراقية ذات التوجهات السياسية نحو دولتي المحور، وخطوة مهمة لتوحيدها وتجنيدها تأييداً لبريطانيا. وقد بذل جهوداً في هذا الاتجاه بوصفه وزيراً للخارجية في حكومة الكيلاني (نيسان/أبريل 1940 - كانون الثاني/يناير 1941) لكن رشيد عالي الكيلاني والحاج أمين الحسيني وأصلاً سياسة الاتصال بمبعوثي دولتي المحور في بغداد وأنقره من دون أن يرفضا وساطة نوري السعيد كلياً.

في صيف 1940، شهد العراق نشاطاً دبلوماسياً لم يعرفه منذ أعوام عدة. وعكس هذا النشاط تأثر العراق المباشر والعميق بالأحداث العسكرية والسياسية التي صاحبت وتلت هزيمة فرنسا العسكرية. وكانت بريطانيا أبدت استعدادها لإجراء تعديلات في اتفاقية 1936 تتعلق بتحديد عدد القوات البريطانية التي يحق لها أن ترابط في العراق. من ناحية أُخرى، زاد سفير إيطاليا في بغداد، غبرئيلي (Gabrielli)، في نشاطه بعد إعلان إيطاليا الحرب على دول الحلفاء في 10 حزيران/يونيو 1940. وأثار عدم قطع العلاقات الدبلوماسية بإيطاليا حفيظة الحكومة البريطانية على حكومة الكيلاني. ولم تكتف حكومة الكيلاني بعدم قطع العلاقات بإيطاليا، بل واصلت اتصالاتها بغبرئيلي. وأصبحت السفارة الإيطالية حلقة الوصل بين حكومة الكيلاني ودولتي المحور.

لا تهمنا هنا العلاقات العربية - الإيطالية. إن ما يهمنا هو أن المبعوث الإيطالي في بغداد، غبرئيلي، سلَّم الحكومة العراقية مذكرة في 7 تموز/يوليو 1940 جاء فيها أن وزير الخارجية الإيطالي، تشيانو (Ciano)، بعث إليه بتعليمات لإعلام الحكومة العراقية بأن "إيطاليا تعترف بالاستقلال التام والوحدة الإقليمية لسوريا، ولبنان، والعراق، وسائر البلاد الخاضعة للانتداب البريطاني" في المشرق العربي.(25)  وسبقت مذكرة غبرئيلي مشاورات بين الأوساط والدوائر السياسية العربية، بمبادرة من الحسيني والكيلان، انتهت بالاتفاق على أن يسافر ناجي شوكت إلى أنقرة لإجراء مفاوضات مع سفير ألمانيا فيها، فون بابن (Von Papen)، لضمان استقلال البلاد العربية بعد الحرب. فعقد الكيلاني جلسة لحكومته في 19 حزيران/يونيو لإقرار زيارة نوري السعيد وناجي شوكت إلى أنقرة، من أجل إجراء محادثات مع الحكومة التركية تتعلق باتفاقية سعد أباد الثنائية. ولم يكن إرسال نوري السعيد سوى وسيلة لتمويه الهدف الحقيقي: إجراء محادثات مع فون بابن. وطلب الحسيني من ناجي شكت تسليم فون بابن رسالة منه حملت تاريخ 21 حزيران/يونيو 1940.

إن مقابلة نص رسالة الحسيني بتلك التي سلمها الدكتور إمام في كانون الثاني/يناير 1937 على قدر من الأهمية لمتابعة موقف الحسيني وتطور علاقاته بأجهزة الحكم النازي: ففي حين أن الحسيني تجنب عرض "تعاون" عربي - ألماني ضد بريطانيا في أواخر 1937، فقد بدت أوضاع الحرب سانحة لعرض هذا "التعاون" الذي حمل تعبير "العدو المشترك". وكان الحسيني قد أوضح الغرض السياسي المباشر في أواخر سنة 1937: "مكافحة الجهود الرامية إلى إقامة دولة يهودية." ولم يكتف بذلك في رسالته في 21 حزيران/يونيو 1940، بل ادعى أن فلسطين "تكافح الديمقراطيات واليهودية العالمية منذ أربعة أعوام." إننا لا نعرف إلى أي مدى أخذ فون بابن رسالة الحسيني مأخذ الجد، وخصوصاً أن بابن لم ينتم إلى الحزب النازي ولم يأخذ بإيديولوجيته السياسية والعرقية. ومن الأرجح أن الحسيني أراد بذلك مخاطبة رجال الحكم في برلين، لا مخاطبة فون بابن. وانتقل الحسيني إلى تحديد غايته المباشرة من رسالته: "أن ينال الشعب العربي ... استقلاله وتحرره الكامل" وأن يستطيع "إقامة وحدته" بعد "الانتصار" النازي، على أن يرتبط بـِ "معاهدة صداقة وتعاون" مع ألمانيا.(26)  ومن الواضح أن ضمان "استقلال" الشعب العربي "وإقامة وحدته" سيؤديان، من وجهة نظر الحسيني، إلى عدم قيام الدولة اليهودية؛ لذا، فإن الحسيني لم يهتم اهتماماً خاصاً بالمطالبة بمعارضة إقامة الدولة اليهودية، كما فعل في الرسالة التي حملها الدكتور إمام في كانون الثاني/يناير 1937.

خلاصة الأمر: إن غاية دعوة الحسيني إلى تبني "البديل الألماني" هي استقلال "الشعب العربي" و"إقامة وحدته".

لم تسفر محادثات شوكت - فون بابن عن نتائج ملموسة. وفي الواقع، فإنها أثارت الشكوك وعدم الثقة في وزارة الخارجية الألمانية نتيجة للنقد الحاد الذي وجهه ناجي شوكت إلى مطامع التوسع الإيطالية في حوض البحر المتوسط. وانعكست هذه الشكوك في مذكرة فورمان في 21 تموز/يوليو 1940. ووجدت ملاحظات فورمان قبولاً لدى المسؤولين.(27)

رأى نوري السعيد أن تفاهماً بين بريطانيا واللاجئين السياسيين الفلسطينيين، وعلى رأسهم الحسيني، ضروري لاحتواء المعارضة العراقية للوجود البريطاني في العراق. فواصل اتصالاته بمسؤولي وزارة الخارجية البريطانية، اعتقاداً منه أن تنفيذ بعض بنود الكتاب الأبيض المتعلقة بإقامة مؤسسات إدارية فلسطينية يمكن أن يشكل حلاً وسطاً بين موقف الحكومة البريطانية وموقف المعارضة الفلسطينية. لكن وزير الخارجية هاليفاكس أصر على تأجيل تنفيذ بنود الكتاب الأبيض الإدارية إلى ما بعد الحرب، وأكد، مع ذلك، تمسك الحكومة البريطانية بسياسة الكتاب الأبيض. وانتهت هذه الاتصالات بإرسال نيوكمب إلى بغداد في تموز/يوليو للوقوف على ما كان يجري فيها.

جاءت زيارة العامل في وزارة الدعاية البريطانية، نيوكمب، لبغداد في تموز/يوليو، عقب محادثات شوكت - فون بابن. وكان نيوكمب يلمّ إلماماً واسعاً بمشكلات الشرق العربي. وقد أجرى محادثات مع الكيلاني ونوري السعيد والحسيني.(28)  وطُرح الكتاب الأبيض على بساط المحادثات من جديد، وخصوصاً البنود التي تناولت "إعداد" فلسطين، على الصعيد الإداري، لاستقلال في المستقبل. ويبدو أن نيوكمب أبدى تفهماً معيناً للمطالب العربي والفلسطينية بصورة خاصة، إلا إنه لم يكن يملك تخويلاً رسمياً من أجهزة الحكم البريطانية لإجراء مفاوضات مع الجانب العربي. لذا، لم تكن أهداف زيارته ومحادثاته في بغداد سوى محاولة أُخرى لإقناع الدوائر العربية، والفلسطينية خاصة، بالاكتفاء بالأمر الواقع. ولم تساهم محاولات نوري السعيد ووساطة قائد القوات البريطانية في الشرق العربي، ويفل، في الوصول إلى حد ترضى به حكومة لندن وحركات الاستقلال العربية.

يرى الكثير من الدارسين أن رفض الكتاب الأبيض من قِبل الحسيني شكل نقطة تحول في تاريخ فلسطين. ولا شك في ذلك إلى حد بعيد؛ وخصوصاً إذا أخذنا في الاعتبار القيود الجديدة التي فُرضت في شباط/فبراير 1940 على بيع الأراضي في معظم أنحاء فلسطين. لكن يبدو لنا أن أجهزة الحكم البريطانية لم تر في رفض الحاج أمين الحسيني ومؤيديه للكتاب الأبيض الكلمة الأخيرة. لذلك، فقد اكتسبت زيارة نيوكمب في منتصف سنة 1940 أهمية خاصة؛ إذ إنها لم تكن سوى محاولة أخيرة لإقناع المعارضة العربية والفلسطينية بالاكتفاء بالكتاب الأبيض وقيود بيع الأراضي في مطلع سنة 1940. ووقفت القيادة الفلسطينية باستراتيجيتها السياسية أمام مفترق طرق: الاكتفاء بما عرضته بريطانيا أو الانحياز إلى دولتي المحور بصورة نهائية. وقد عنى رفض الإنذار البريطاني الأخير، والذي أخذ شكل زيارة نيوكمب ومواصلة سياسة الاتصال بمبعوثي دولتي المحور، أن لا عودة إلى المفاوضات مع بريطانيا. ومن ناحية أُخرى، أكدت مفاوضات نيوكمب ووساطة نوري السعيد - ويفل إصرار أجهزة الحكم في لندن على مواصلة استمرار تجميد الوضع في الشرق العربي، وفي فلسطين بصورة خاصة، إلى ما بعد الحرب. هل درست القيادة الفلسطينية، وخصوصاً دوائر الحسيني، البعاد السياسية للخيار المحوري؟ لا نعرف ذلك، نظراً إلى أن نشر المادة الوثائقية يحمل طابعاً انتقائياً ضيقاً.

3 -  عثمان حداد بين برلين وروما، 1940 - 1941

جاءت زيارة عثمان كمال حداد الأولى إلى دولتي المحور في آب/أغسطس - تشرين الثاني/نوفمبر 1940، عقب فشل بعثة نيكومب السياسية ورسالة غبرئيلي في 7 تموز/يوليو، التي تضمنت تعهداً باحترام الاستقلال "التام" للبلاد العربية الواقعة تحت السيطرة البريطانية، بالإضافة إلى سوريا ولبنان. وعلى الرغم من أن محادثات شوكت - فون بابن لم تسفر عن نتائج عملية، فإنها عكست رغبة في التقارب بين الحكومتين. ودارت مشاورات بين التيارات السياسية العربية التي مالت إلى التعاون مع دولتي المحور، تم بعدها الاتفاق على إرسال عثمان حداد لمواصلة المفاوضات في برلين وروما. ومن الأرجح أن قرار إرسال عثمان حداد، سكرتيراً خاصاً للمفتي، جاء بمبادرة من الحسيني، لكنه وجد قبولاً لدى الكيلاني أيضاً.(29)   وبعث الحسيني في 22 تموز/يوليو برسالة توصية إلى فون بابن خول حداد بموجبها "إجراء مفاوضات أولية من أجل تعاون وثيق بين البلاد العربية" وبين دولتي المحور.(30)    وبذلك، جعل المفتي نفسه وغيره من القيادات العربية ناطقين باسم البلاد العربية من دون تخويل أو تفويض، إذ أرادوا بذلك أن يعِّبروا عن آمالها بالاستقلال.

سافر عثمان حداد إلى أنقرة، ومنها إلى برلين، باسم مستعار هو توفيق علي الشاكر، وحمل في أوروبا اسم ماكس مولر. وعرض حداد الخلافات داخل الحكومة العراقية خلال محادثاته مع فون بابن في 6 آب/أغسطس، ووعد بالعمل على إقصاء نوري السعيد. كما أعرب حداد عن رغبة الحكومة العراقية في إعادة العلاقات الدبلوماسية بألمانيا. ولم ينس طبعاً ذكر الضغوط البريطانية على حكومة الكيلاني. وأكد عزم القيادات العربية على إشعال الثورة في فلسطين بعد إقامة حكومة وطنية في سوريا. لكن أهم ما جاء في لقاء حداد - فون بابن هو ذكر "المحادثات العربية - الإيطالية" و "التأكيدات الخطية" الإيطالية بشأن استعداد إيطاليا للاعتراف بـ "الاستقلال التام" للبلاد العربية الواقعة تحت "الحماية" أو تحت "الانتداب".(31)   ولا شك في أن حداد عنى مذكرة غبرئيلي التي تحمل تاريخ 7 تموز/ يوليو 1940.

أوكلت وزارة الخارجية الألمانية إلى غروبا، صاحب الخبرة الدبلوماسية الواسعة بشؤون الشرق العربي، أمر المفاوضات مع حداد؛ فأجرى غروبا أول لقاء مع حداد في 27 آب/أغسطس 1940، ووزع محضر اللقاء على عدد كبير من موظفي وزارة الخارجية: رئيس دائرة الشرق، ملخرز (Melchers)، وهابخت (Habicht)، ورنتلن (Rintelen)، ومساعد سكرتير وزارة الخارجية، فورمان، وسكرتير وزارة الخارجية، فايتسكر، من دون أن يتعرض لمذكرة قدمها حداد إلى وزارة الخارجية الألمانية.(32)     وعلى الرغم من تشابه النصوص، فإنها متباينة في بعض جوانبها.

يمكننا درس المواقف العربية والألمانية بأربع وثائق يختلف بعضها عن بعضها الآخر في جوانب معينة: محضر محادثات غروبا - حداد؛ مسودة إعلان طالَبَ حداد بأن تتبناه إيطاليا وألمانيا، وبأن تعلناه أساساً لسياستيهما؛ المذكرة التي حملها حداد ونسبها فايتسكر إلى المفتي؛ صيغة خاصة أرسلها فايتسكر إلى سفير ألمانيا في إيطاليا، مكنزن (Mackensen).(33)

كشفت محادثات حداد - غروبا عن الصراع الدائر داخل الحكومة العراقية، وعن قيام لجنة عربية عامة ضمت شخصيات عربية من بلاد عربية مختلفة: رشيد عالي الكيلاني، وناجي السويدي، وناجي شوكت، ويونس السبعاوي، وغيرهم من العراق؛ وشكري القوتلي وزكي الخطيب من سوريا؛ ويوسف ياسين وخالد الحوت من العربية السعودية، بالإضافة إلى المفتي، رئيس اللجنة.(34)   كما أبلغه عزم الحكومة العراقية على تنحية نوري السعيد من منصب وزير الخارجية وتصميمها على الوقوف في وجه الضغوط البريطانية ورغبتها في تجديد العلاقات الدبلوماسية بألمانيا، والتعاون مع إيطاليا وألمانيا على التنقيب واستغلال الموارد الطبيعية عامة، والنفط خاصة.

تناولت المذكرات السالفة الذكر: استقلال البلاد العربية؛ رغبتها في الاتحاد؛ تنظيم العلاقات والتعاون مع إيطاليا وألمانيا؛ القضية الفلسطينية.

اختلفت المذكرة التي نسبها فايتسكر إلى الحسيني عن غيرها بمطالبتها باعتراف رسمي إيطالي - ألمانيا بـ "الاستقلال التام" للبلاد العربية كلها. ولم تكتف هذه المذكرة بالمطالبة بالاعتراف باستقلال البلاد التي ذُكرت في مذكرة فايتسكر، بل طالبت أيضاً باستقلال بلاد تسكنها أكثرية عربية. واختلفت صيغة مذكرة فايتسكر عن الأُخريين بذكرها "الاعتراف بالاستقلال التام لدول عربية" من دون أن تذكر بلاداً عربية تسكنها أكثرية عربية. كما أنها لم تتعرض لبلاد عربية أُخرى بصورة مفصلة، كما جاء في الرسالة المنسوبة إلى المفتي وفي مسودة الإعلان الألماني - الإيطالي المقترح والمرفق بمحضر محادثات غروبا - حداد.

وكشفت الوثائق كلها عن استعداد الجانب العربي لمنح إيطاليا بعض الامتيازات في مصر والسودان من أجل تسهيل اتصالات إيطاليا بمستعمراتها في شرق إفريقيا، لكن المذكرة التي نسبها فايتسكر إلى المفتي عارضت بشدة "أية أهداف استعمارية" تمس استقلال مصر والسودان التام. وبينما اكتفت مذكرة فايتسكر بذكر الاعتراف بحق"الدول العربية في إقامة اتحاد (Einheit)"، وطابقت بذلك الرسالة المنسوبة إلى المفتي (unité nationale)، فقد أضافت المذكرتان الأُخريان "كما يرغبونها"، أي كما يقررها العرب من دون تأثير خارجي. كما أشارت بوضوح إلى ضرورة صدور تعهد إيطالي بالامتناع من وضع أية عراقيل تمنع هذه الوحدة أو تمس بها.

يرجع اكتفاء فايتسكر بذكر "دول" عربية، وليس "الدول أو "البلاد" العربية، إلى الاتفاقيات السرية بين إيطاليا وألمانيا ابتداء من اتفاقية 19 حزيران/يونيو واتفاقية 7 تموز/يوليو 1940. لذا فقد أهمل بعض الشروط التي جاءت في الرسالة المنسوبة إلى الحسيني وفي مسودة الإعلان كما حررها غروبا. ولم يتكلم فايتسكر عن "البلاد"، بل عن "دول" عربية، تاركاً أمر البلاد العربية الأُخرى التي لم تكن قد حصلت على استقلال موضوعاً للمساومات السياسية.

واختلفت المذكرات المذكورة آنفاً في موضوع "المسألة اليهودية". ففي حين أن المذكرة المنسوبة إلى الحسيني طالبت أيضاً بصدور إعلان صريح ترفض إيطاليا وألمانيا بموجبه شرعية "الوطن القومي اليهودي" كلياً، فإن ذلك لم يرد في المذكرات الأُخرى، فاكتفى فايتسكر بذكر "حق البلاد العربية في حل مسألة العناصر اليهودية [المقصود "المسألة اليهودية"] في فلسطين وفي البلاد العربية بحيث تؤخذ مصالح العرب الوطنية والشعبية" بعين الاعتبار، وكما "حُلت في ألمانيا وإيطاليا."(35)  ولم تبدُ مسألة شرعية "الوطن القومي اليهودي" ذات أهمية خاصة في نظر فايتسكر لأن ألمانيا لم تعترف سابقاً بوجود شرعية كهذه. لكن شرط الحسيني بحلها كما حُلت في ألمانيا وإيطاليا شكّل أغرب بند في مسودة الإعلان، وخصوصاً إذا تذكرنا أن موسوليني لم ير في يهود إيطاليا "مسألة" تستوجب "الحل"، وأن فلسطين قامت بدور في "حل" المسألة اليهودية في السياسة الإيطالية سابقاً. وبينما كان حداد يجري المحادثات مع موظفي وزارة الخارجية، كانت عصابات الغستابو وشرطة الدولة السرية تزج باليهود في السجون ومعسكرات الاعتقال بصورة مفتعلة لحمهلم على ترك ألمانيا والهجرة إلى فلسطين. وعندما أبدت إيطاليا معارضتها لاستخدامها طريق عبور، حاول موظفو جهاز الحكم النازي إقناعها بالعدول عن ذلك.(36)

وفي الواقع، فقد شكل ما سُمّي آنذاك "المسألة اليهودية"، أهم تناقض بين المصالح الألمانية والمصالح العربية. كما أن المذكرة المنسوبة إلى الحسيني اختلفت عن غيرها بوعدها المحافظة على الأماكن المقدسة المسيحية وضمان حرية نشاط الإرساليات المسيحية المختلفة، مراعاة للمصالح الدينية الإيطالية بصورة خاصة. لكنها أصرت، كما جاء في غيرها من الوثائق، على أن تعلن إيطاليا وألمانيا أن أكثر ما تصبو الدولتان إليه هو توثيق العلاقات بين العرب ودولتي المحور، وازدهار البلاد العربية.

تعود أهمية موضوعات المادة الوثائقية هذه إلى كونها موضوع جميع المحادثات بين حداد وأجهزة الحكم الفاشستي في إيطاليا والحكم النازي في ألمانيا، ومحور المفاوضات بين الحسيني والكيلاني من جهة، ودولتي المحور فيما بعد من جهة أُخرى. ويظهر واضحاً أن الحاج أمين الحسيني لم يتكلم باسم فلسطين فقط، بل باسم العرب، وأراد بذلك إنجاز ما كانت تصبو التيارات السياسية القومية العربية إليه. ويمكن تصنيف الأهداف السياسية إلى أهداف بعيدة المدى - كما جرى عرضها أعلاه - وأهداف قصيرة المدى أخذت تعبيرها في طلب حداد تزويد العراق بالعتاد العسكري من دون تأخير، وإقامة حكومة وطنية في سوريا، وإشعال مقاومة مسلحة فلسطينية ضد بريطانيا.

وجدت مقترحات حداد صدى إيجابياً لدى سكرتير وزارة الخارجية، فايتسكر، الذي أصدر في 9 أيلول/سبتمبر 1940 تعليمات إلى سفير ألمانيا في روما، مكنزن، تقضي بدراستها مع وزير الخارجية الإيطالية تشيانو.  وطلب فايتسكر من مكنزن إبلاغ وزارة الخارجية الإيطالية أن ألمانيا لن تقوم بأية خطوة من دون موافقة إيطالية. وأراد فايتسكر بذلك توكيد التزام ألمانيا تعهداتها نحو إيطاليا. وبينما كان مكنزن يجري محادثات مع مسؤولي وزارة الخارجية الإيطالية، وصلت من أنقرة برقية فون بابن التي كشفت أمر رسالة غبرئيلي المؤرخة في تموز/يوليو 1940. وأحدث أمر رسالة غبرئيلي إرباكاً في وزارة الخارجية الألمانية لما كشفته من تعهدات إيطالية للحكومة العراقية. فأسرع فايتسكر في الإبراق إلى مكنزن لاستقصاء حقيقة أمر رسالة غبرئيلي. لكن تشيانو نفى حقيقة مذكرة غبرئيلي، وادعى أنها "وهم خالص" (Reine Phantasie).(37)  ومما زاد وزارة الخارجية الألمانية ارتباكاً أن حداد أكد لمساعد سكرتير وزارة الخارجية فورمان أنه قرأ مذكرة غبرئيلي بنفسه. وعندما تحقق وزير الخارجية ربنتروب من صحة أمر المذكرة أصدر أوامره بإعداد صيغة بيان مشترك في 24 أيلول/ سبتمبر 1940. وتلا فايتسكر صيغة البيان في اجتماع مع حداد، بعد مشاورات مع إيطاليا. وعبّر البيان عن "اهتمام ألمانيا البالغ" بمتابعة جهود البلاد العربية لـِ "نيل استقلالها"، وأكد البيان "مشاعر الصداقة للعرب" و "تعاطف ألمانيا الكامل مع طموحاتهم" إلى الاستقلال ومع رغبتهم في "احتلال مكانة بين شعوب الأرض تليق بأهميتهم التاريخية والطبيعية."(38)

أوضح حداد لفايتسكر الدوافع الموضوعية لميل التيارات السياسية العربية المناهضة لبريطانيا إلى التعاون مع دولتي المحور. فأكد حداد أن الصراع الدامي آنذاك سينتهي بتقسيم العالم مجدداً. ولم ينس العرب ما خلّفته اتفاقية سايكس - بيكو من "تجارب مريرة" بعد أن نكثت بريطانيا وعودها. ومن الواضح أن الدافع الحقيقي إلى التعاون مع دولتي المحور هو تلافي معاهدة سايكس - بيكو جديدة.(39)

وبذلك، كشفت محادثات حداد جهل التيارات السياسية العربية المناوئة لبريطانيا لما كان قد تم بين روما وبرلين من اتفاقيات سرية.

اكتفى حداد بالبيان، إذ كان لا بد من الاكتفاء به. ولم يتضمن البيان اعترافاً بحق البلاد العربية في "الاستقلال التام". وبدت إيطاليا معارضة شديدة لأية إشارة إلى حق العرب" في "الاتحاد"، كما ورد في المذكرة العربية. وأدرك حداد أن بياناً كهذا لا يتعدى التعبير عن "حسن النية" في أفضل الأحوال. وفي الواقع، فإن البيان لم يعكس تطوراً جديداً في السياسة الألمانية منذ مذكرة فون نويرات المشهورة في بداية حزيران/يونيو 1937. والشيء الجديد في الأمر هو أن البيان كان رسمياً ومكشوفاً، خلافاً للتعليمات الدبلوماسية التي كانت في الماضي سرية وداخلية. فقد أذيع البيان من إذاعة باري الإيطالية ومن إذاعة برلين في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1940، ولم ينشر في الصحف إلا في كانون الأول/ديسمبر 1940. وعلى الصعيد العملي، فإن محادثات حداد في برلين أكدت حاجة الحكومة العراقية إلى المساعدات المالية والعتاد العسكري، وأبدت دولتا المحور استعدادهما لتقديم المساعدات.

هكذا، رجع حداد إلى بغداد في 28 تشرين الأول/أكتوبر 1940 من دون التوصل إلى خطوات عملية فيما يتعلق بحاجة العراق إلى المساعدات الاقتصادية، ومن دون التوصل إلى صيغة رسمية بشأن مستقبل البلاد والدول العربية بعد الحرب.

تعود محدودية أهمية إعلان 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1940 إلى عاملين رئيسيين: الالتزامات الألمانية تجاه إيطاليا نتيجة دخول إيطاليا الحرب، وما أسفرت عنه محادثات هتلر - موسوليني، ومحادثات تشيانو - ربنتروب - هتلر، من اتفاقيات سرية ضمنت اعتراف ألمانيا بمجالات المصالح الإيطالية في البحر المتوسط، ورفض القيادة السياسية الألمانية - هتلر قبل كل شيء - جعل حوض البحر المتوسط ساحة حرب مركزية. فقد حاول بعض جنرالات هتلر، مثل يودل (Jodl)، إقناعه بضرورة توثيق التعاون العسكري بين كلتا الحليفتين، ودعا البعض الآخر - وخصوصاً الأميرال ريدر (Raeder) - إلى جعل حول البحر المتوسط ساحة حرب مركزية في مناسبات عديدة، لكن من دون نجاح.(40)      هكذا، فإن العالم العربي لم يحتل أهمية خاصة في الاستراتيجية الحربية الألمانية. كما أن قدرة العرب على المساهمة الحربية كانت محدودة جداً. ولذا، اكتفى البيان بالتضامن المعنوي فقط، وأُهملت المطالب السياسية بسبب المعارضة الإيطالية، على الرغم من مذكرة غبرئيلي بتاريخ 7 تموز/ يوليو 1940.

4 - الحسيني، وأزمة الحكم في العراق، ورحلة حداد الثانية، 1940-1941

ارتبطت رحلة حداد الثانية إلى روما وبرلين بأزمة حكومة الكيلاني في أواخر كانون الأول/ ديسمبر 1940. فقد أكدت إذاعةُ بيان دولتي المحور الذي تم التوصل إليه خلال زيارة حداد الأولى شكوكَ الحكومة البريطانية في صحة الاتصالات بين حكومة الكيلاني والحسيني وبين دولتي المحور. وفرضت بريطانيا قيوداً اقتصادية على تجارة العراق، وجمدت أرصدة الحكومة العراقية من العملات الصعبة المودعة المصارف البريطانية. وأكد سفير الولايات المتحدة في بغداد، كْنابنشوه (Knabenshue)، لحكومة الكيلاني عزم الولايات المتحدة على تقديم جميع المساعدات والدعم إلى بريطانيا. وفي الواقع فإن توكيد كنابنشوه كان تحذيراً غير مباشر لحكومة الكيلاني لردعها عن سياسة الاتصال بدولتي المحور. وقامت تركيا بدور كان أقرب إلى التهديد منه إلى التحذير.(41)

وكان سفير بريطانيا في بغداد، نيوتن، قد استدعى عبد الإله، الوصي على العرش، ونوري السعيد، عقب إذاعة بيان دولتي المحور في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 1940، واتهم حكومة الكيلاني بالتآمر مع دولتي المحور وبالعداء لبريطانيا. واعتبر عدم قطع العلاقات بإيطاليا توكيداً لذلك. ويبدو أن اجتماع شوكت - فون بابن أصبح مكشوفاً، فاعتبر أن إذاعة البيان جاءت نتيجة لاتفاق سابق لإعلانه.(42)

خلاصة الأمر: إن إقالة أو استقالة حكومة الكيلاني كانت الوسيلة الوحيدة لكسب رضا نيوتن، ورضا الحكومة البريطانية طبعاً. ففهم عبد الإله ونوري السعيد ما رمى نيوتن إليه.

دفعت حدة التوتر بين حكومة الكيلاني وبريطانيا كبار ضباط الجيش العراقي إلى إجراء دراسات تتعلق بحاجات الجيش من الأسلحة. وكان مجلس الدفاع الأعلى قد ألف لجنة خاصة من كبار الضباط لدرس أوضاع الحرب ومواقف الدول الأُخرى - وخصوصاً الاتحاد السوفياتي - منها ودرس حاجات العراق الحربية. واجتمع الكيلاني إلى غبرئيلي في 20 كانون الأول/ ديسمبر 1940 وأبلغه حاجات العراق العسكرية في ضوء توصيات اللجنة. وأصدرت وزارة الخارجية الإيطالية إلى سفيرها في برلين، زامبوني (Zamboni)، تعليماتها المتعلقة بدرس طلبات العراق العسكرية مع مسؤولي وزارة الخارجية الألمانية. وقام زامبوني بزيارة فورمان في 23 كانون الأول/ ديسمبر، وقدم له تفصيلات بشأن حاجات العراق الحربية.

وجرت بين الكيلاني والحسيني مشاورات قرر الاثنان في إثرها إرسال حداد إلى روما وبرلين مرة أُخرى لإجراء محادثات مع أجهزة الحكم هناك. وغادر حداد بغداد في 22 كانون الثاني/يناير 1941، عشية اقتراب أزمة حكومة الكيلاني من ذروتها.

لا شك في أن الضغوط البريطانية كانت الدافع المباشر إلى إرسال حداد مرة أُخرى لإجراء محادثات جديدة في روما وبرلين. لذلك، يمكن القول إن رحلة حداد الثانية كانت ردة فعل مباشرة تجاه الضغوط البريطانية، وخصوصاً أن عبد الإله ونوري السعيد اعتقدا أن من الضروري إسقاط حكومة الكيلاني لتجنب الصدام مع بريطانيا. كما أن مسألة تزويد العراق بالسلاح احتلت الآن أولوية خاصة. لكن الأهداف السياسية البعيدة المدى لم تفقد أهميتها.

تم ترتيب زيارة حداد بالتنسيق مع غبرئيلي في بغداد، على أن يزور حداد روما أولاً، ويجري محادثات هناك، ويواصل بعد ذلك رحلته إلى برلين.

مر حداد بأنقرة، واجتمع إلى فون بابن هناك، وواصل رحلته إلى روما في 29 كانون الثاني/ يناير. ووصل برلين في 12 شباط/ فبراير 1941، واجتمع إلى غروبا، سفير ألمانيا السابق في بغداج، في 18 شباط/ فبراير، وسلّمه رسالة من الحسيني إلى "الزعيم" - أي إلى هتلر - هذه المرة.

تضمنت رسالة الحسيني عرضاً تاريخياً لتقسيم المشرق العربي بين إنكلترا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى. وعرض الحسيني أعمال كلتا الدولتين القمعية ضد الحركات السياسية التي نادت باستقلال البلاد العربية أو بتوحيدها. كما أشار إلى الأهمية الاستراتيجية للبلاد العربية في الشرق كحلقة وصل بين بريطانيا والهند. وتناول كل بلد على حدة كي يبرز ما تميز به من غيره ويبرز الجهود المحلية لنيل الاستقلال. ومن الطبيعي أن يفرد لفلسطين مكاناً كما فعل بالنسبة إلى غيرها من بلاد المشرق العربي. وأعاد الحسيني "كُره" العرب "العام" لـِ "الإنكليز واليهود" إلى نشوء "المشكلة الفلسطينية ووقوفهم عقبة أمام تشكيل الوحدة القومية" بعد أن بدأ اليهود يحاولون إقامة دولة - "حلمهم" في النص - "في فلسطين وفي البلدان العربية المجاورة." من هنا، حدد الحسيني أهدافه السياسية التي تلخصت في إفشال - "قطع دابر" في النص - "هدف الصهيونيين" ومؤيديهم (Les vis des sionistes)، أي منع إقامة الدولة اليهودية. ودعا الحسيني في نهاية رسالته، باسم "أقوى تنظيم عربي" وباسمه، إلى "التعاون المخلص الوثيق" " على جميع الأصعدة".(43)

لا شك في أن صوغ الحسيني لرسالته جاء ليلائم أذواق مسؤولي وزارة الخارجية الألمانية مع أن الرسالة موجهة إلى هتلر نفسه؛ إذ عكست الرسالة جهل الحسيني معايير هتلر العرقية عندما وضع اليهود والإنكليز في قالب واحد.

عقد حداد سلسلة من الاجتماعات مع مسؤولي وزارة الخارجية، كان أهمها الاجتماع إلى فورمان في 26 شباط/ فبراير 1941. وقدم حداد مشروع اقتراح تمت بلورته خلال مشاورات بين القيادات العربية في بغداد، على ما يظهر. وتناولت محادثاته مع فورمان ما دعاه الأخير "الرغبات" السياسية العربية، والإمدادات العسكرية للعراق، والمساعدات المالية.

تضمنت المطالب السياسية العربية: "الاعتراف بالاستقلال التام" للبلاد العربية المستقلة وشبه المستقلة - مصر، والسودان، والعربية السعودي، واليمن؛ الاعتراف التام باستقلال البلاد التي هي تحت الانتداب والحماية البريطانيين - فلسطين، وشرق الأردن، والكويت، وعمان، وحضرموت؛ إعلاناً ألمانياً - إيطالياً بعدم معارضة "الاستقلال التام" لسوريا ولبنان. وأقرّت مسودة المطالب ببعض المصالح الإيطالية الخاصة في السودان نظراً إلى أن السودان واقع بين ليبيا والمستعمرات الإيطالية في شرق إفريقيا، إلا إنه اشترك موافقة مصر في حالة منح إيطاليا أية امتيازات خاصة. وشملت المطالب العربية الاعتراف بحق العرب في إقامة وحدة فيدرالية "طبقاً لرغباتهم" "وبالشكل الذي يتفقون عليه"، وبتعهد دولتي المحور عدم إقامة عراقيل أمام قيامها. وأفردت صيغة المطالب العربية بنداً تناول الصراع الصهيوني - الفلسطيني، فطالب باعتراف دولتي المحور بعدم شرعية "الوطن القومي اليهودي" في فلسطين وبإقرار "حق فلسطين والبلدان العربية الأُخرى" "في حل مسألة العناصر اليهودية في فلسطين والبلدان العربية" "طبقاً لمصالح العرب القومية" "وبالطريقة التي تحل بها المسألة اليهودية في دولتي المحور." وطالب الجانب العربي بـ "عدم السماح بالهجرة اليهودية إلى البلدان العربية." وعلى الرغم مما يثير هذا البند من تساؤلات وعدم وضوح، فقد لخص نص البيان هدف هذا البند الخاص بـِ "المحافظة على الوضع الحالي" في فلسطين، أي المحافظة على الأغلبية العربية، عندما تعرض نص البيان لإجمال سياسة دولتي المحور العامة فيما يتعلق بـ "الشعب العربي".(44)

لم تختلف المقترحات العربية الجديدة عن المقترحات السابقة، التي شكلت موضوع محادثات حداد خلال آب/ أغسطس - تشرين الأول/ أكتوبر 1940 من حيث الجوهر، وكانت التغييرات طفيفة. فقد حددت المقترحات الجديدة البلاد العربية. وبينما حدد الاقتراح الأول "حل المسألة اليهودية"، كما سبق أن حُلت في ألمانيا وإيطاليا، أشارت المسودة الجديدة إلى حلها "كما تحل في دولتي المحور." ومع ذلك، أشار النص إلى ضرورة الاعتراف بـ "الوضع القائم (Status quo) في فلسطين" والمطالبة بمنع الهجرة. وأكد ذلك أن "حل المسألة اليهودية"، كما تصوره الحسيني، هو وقف الهجرة [اليهودية] في المستقبل وترحيل من هاجر إلى فلسطين.

لم تصطدم المطالب العربية بالمصالح الألمانية وتطلعات الحكم النازي التوسعية بصورة مباشرة. لكن ضرورة أخذ مصالح إيطاليا والحكومة الفرنسية وإسبانيا، وحتى مصالح تركيا في الاعتبار، اقتضت سياسة ألمانية حذرة ومتحفظة. وأبرز فورمان، مساعد سكرتير وزير الخارجية الألمانية، النتائج السلبية في حال اعتراف ألمانيا باستقلال سوريا ولبنان التام مثلاً: إذ أوضح لحداد أن خطوة كهذه ستدفع القوات الفرنسية المرابطة هناك إلى الانضمام إلى حركة المقاومة الفرنسية برئاسة ديغول. ووعد فورمان بدرس المطالب العربية.(45)

لم ير فورمان في تقريره المهم في 7 آذار/ مارس 1941 تضارباً بين المطالب العربية والمصالح الألمانية. فقد اقتصرت الأخيرة على النفط وتأمين طرق مواصلات لأغراض اقتصادية. لكنه من ناحية أُخرى، شك في جدوى هذا التعاون بين الطرف العربي والطرف المحوري، نظراً إلى الصعوبات في المواصلات. واعتقد أن قوة عظمى فقط - الاتحاد السوفياتي - يمكن أن تضمن سياسة حربية فعالة ضد بريطانيا.(46)  وشارك فايتسكر وجهة نظر فورمان في تقويمه لجدوى التعاون مع ما دعاه فورمان "الحركة العربية".(47)  وكانت وزارة الخارجية الإيطالية قد حذرت من تفعيل القوى العربية المناوئة لبريطانيا، نظراً إلى اعتقادها أن عملاً كهذا سينتهي بانتصار بريطاني.(48)   هل لفت مسؤولو وزارة الخارجية نظر حداد إلى الصعوبات اللوجستية في مد العراق بالسلاح، أو إلى مدى ضآلة أهمية أية خطوة ضد بريطانيا من دون مساعدة قوى عظمى فعّالة؟ لا يذكر حداد لنا في مذكراته شيئاً من هذا القبيل. إذ إن ما يذكره هو أن دولتي المحور وعدتا ببذل ما وسعهما لمد العراق بالعتاد العسكري والمساعدات المالية.

وبينما كان حداد يواصل محادثاته مع الدبلوماسيين الألمان، سقطت وزارة الكيلاني في نهاية كانون الثاني/ يناير 1941. وبذلك، فقدت محادثات حداد كل قيمة عملية. فقد ألّف طه الهاشمي الحكومة الجديدة، واشتدت الضغوط البريطانية لإبعاد ضباط "الحلقة الذهبية"، وخصوصاً سعد الدين الصباغ وكامل شبيب، عن بغداد. وازدادت حدة الاستقطاب السياسي في العراق بين الداعين إلى التعاون المطلق مع بريطانيا في صراعها ضد دولتي المحور وبين القوى والتيارات السياسية المعارضة. ومن هنا، كان مصير أية سياسة وسطية، كالسياسة التي حاول الهاشمي السير بها، الفشل.

وعندما رجع حداد من زيارته الثانية لروما وبرلين إلى بغداد في 25 آذار/مارس 1941، كانت وزارة الخارجية أصدرت تعليماتها لدرس إمكانات مد العراق بالمساعدات العسكرية. وكان فايتسكر أعد مسودة مذكرة جوابية على رسالة الحسيني إلى هتلر، وأرسلها إلى وزارة الخارجية الإيطالية في 11 آذار/مارس، للمشاورة.

 هكذا ترك حداد برلين في الأسبوع الثاني من آذار/ مارس من دون أن تسفر محادثاته عن نتائج عملية مباشرة. ويبدو أنه اكتفى بوعود وتعهدات شفوية لمد العراق بالأسلحة وتقديم المساعدات المالية للحركة العربية. أما الأهداف السياسية، فقد بقيت معلَّقة. ومع أن مذكرات الحسيني التي نشرت حتى الآن لا تكشف عن ردّة فعله، فإن القيادات العربية لم تجد خياراً آخر سوى الاكتفاء بالوعود والتعهدات الشفوية المقدَّمة في آذار/مارس 1941 لتفادي تصفيتها على المسرح السياسي في العراق. فقد أدى سقوط حكومة الكيلاني في نهاية كانون الثاني/يناير إلى إضعاف مركزها السياسي.

ليس هناك علاقة مباشرة بين موضوعنا هذا وبين الأحداث السياسية - فشل حكومة الهاشمي في احتواء الاستقطاب السياسي في العراق - والانقلاب العسكري الذي أتى بحكومة الكيلاني (نيسان/ أبريل - أيار/ مايو 1941)، وما تلا ذلك من تدخل عسكري بريطاني انتهى بإسقاط حكومة الكيلاني بالقوة. ولعل الجدير بالذكر هو أن محاولة دولتي المحور - طبعاً ألمانيا بصورة خاصة - التدخل العسكري في الصراع الحربي بين بريطانيا والعراق انتهت إلى الفشل لأسباب متعددة. وانتهى الأمر بهروب زعماء الانقلاب وكثيرين من السياسيين الفلسطينيين - وعلى رأسهم الحاج أمين الحسيني - إلى إيران. واستطاعت إيطاليا تهريب الحسيني إلى أوروبا في تشرين الأول/ أكتوبر 1941؛ ونجحت أجهزة الاستخبارات الألمانية في تهريب الكيلاني بعد ذلك بشهر واحد.

هكذا دشن تهريب الحسيني إلى دولتي المحور مرحلة جديدة في حياته السياسية.

5 – الحاج أمين الحسيني بين روما وبرلين

عندما وصل الحسيني إلى روما في تشرين الأول/ أكتوبر 1941، كان لديه تصور واضح لعلاقات تعامله مع دولتي المحور في المستقبل. فقد علّق أنفونسو (Anfuso) في وزارة الخارجية الإيطالية، في لقائه سفير ألمانيا في روما، بسمارك (Bismarck)، أن "المفتي ... يعرف بالضبط ما يريده."(49)   وبعد سلسلة من الاجتماعات مع قادة الحكم الفاشستي، كموسوليني وتشيانو وعدد من مسؤولي وزارة الخارجية الإيطالية في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر 1941، وخلال محادثاته مع بسمارك في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر، عرض المفتي خططه السياسية والعسكرية والتنظيمية: 1 - بيان سياسي من دولتي المحور تتعهد الدولتان بموجبه الاعتراف بالاستقلال التام والسيادة الكاملة لبلاد المشرق العربي ودوله. 2 - إقامة فرقة عربية من العرب الراغبين في الانضمام إليها ومن أسرى الحرب العرب. 3 - تنظيم العرب المقيمين في دولتي المحور وفتح مكاتب رسمية لتوجيه النشا السياسي.(50)    وكان بعض العرب يقيم في دولتي المحور، كما كان كثير من الطلبة يتابع تحصيله العلمي في الجامعات والمؤسسات الدراسية هناك. ومن ناحية أُخرى، شرع فلمي (Felmy) في إقامة مفرزة عربية قرب أثينا.

وباختصار، يمكن القول إن الحسيني أراد أن يجعل من نفسه ومن غيره من السياسيين العرب حلفاء لدولتي المحور.

احتل استصدار البيان السياسي أولوية خاصة لدى المفتي، وذلك لأسباب واضحة؛ فقد اعتقد المفتي أن صدور بيان سياسي سيجذب عدداً كبيراً من العرب إلى مشاريعه التنظيمية والتجنيدية الأُخرى. وسلم المفتي سكرتير وزارة الخارجية الإيطالية، أنفوسو، صيغة أولى تضمنت مطالبه. واجتمع الأخير إلى سفير ألمانيا في روما لدرس نص الحسيني في 5 تشرين الثاني/ نوفمبر 1941.

عرّفت مسودة البيان الحسيني بـ "المفتي الأكبر لفلسطين" و "أحد أهم الممثلين لحركة استقلال الشعوب العربية". ونادى البيان بما يلي:

  • أن تضمن دولتا المحور جميع ما يمكن من دعم لكفاح البلدان العربية التي تعاني من السيطرة البريطانية أو من الاضطهاد (البريطاني) حالياً من أجل تحريرها.
  • استعداد دولتي المحور للاعتراف بالسيدة الكاملة وبالاستقلال التام للبلدان العربية في الشرق الأدنى التي يحتلها البريطانيون حالياً، تلبية لرغبة العرب. وأن تعلنا موافقتهما على إزالة الوطن القومي اليهودي (النص: "المجال الحيوي القومي اليهودي").

وأشار النص إلى ضرورة عقد محادثات لتوقيع معاهدة صداقة فور صدور البيان، كذلك وجب على دولتي المحور توكيد احترام استقلال البلاد العربية التي نالت استقلالها حديثاً.(51)    ولم يتضمن البيان أحد المطالب الأساسية للمفتي الذي اشترط عدم معارضة إيطاليا وألمانيا إقامة وحدة أو اتحاد بين البلاد العربية في حالة قررت هذه البلاد إقامة اتحاد كهذا. ومن الأرجح أن يكون هذا عائداً إلى إدراك الحسيني معارضة إيطاليا المبدئية لذلك.

واصل المفتي جهوده لاستصدار بيان لضمان استقلال البلاد العربية بعد الحرب. فزار برلين واجتمع إلى غروبا في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 1941. وكان غروبا قد عُيِّن مرافقاً للمفتي خلال إقامة الأخير في برلين. وقدم المفتي تقريراًً ضمّنه رواية عن حزب يحمل اسم "حزب الأمة العربية". وسرد المفتي تاريخ تأسيسه، وارجع تأسيسه إلى سنة 1911 في باريس أولاً. كما روى المفتي لغروبا أن قيادة الحزب أُسندت إلى فيصل آنذاك ثم غليه بعد وفاة الأخير. وواصل المفتي رواية نشاطه السياسي في فلسطين والعراق.(52)  

ارتدت رواية الحسيني عن وجود تنظيم عربي عام بقيادته أهمية خاصة خلال إقامته في ألمانيا وإيطاليا، وشكلت فصلاً آخر من فصول جوانب العلاقات بينه وبين أجهزة الحكم النازي في ألمانيا. فقد أثارت بينه وبين الكيلاني وغروبا خلافاً دام طوال أعوام إقامته، ولا يمكننا تناولها هنا بالتفصيل. لكن ما يهمنا هنا هو أن المفتي أراد من روايته أن يجعل من نفسه العنوان الوحيد فيما يتعلق بشؤون المشرق العربي. وفي الواقع، فإن تصور الحسيني السياسي وخططه التي جاء بها، كما تعرضنا لها سابقاً، استدعت توحيد القيادات السياسية العربية لتنظيمها سياسياً - فيما يتعلق بالمدنيين السياسيين العرب - وعسكرياً، كما دعا الحسيني.

اجتمع المفتي إلى كبار مسؤولي وزارة الخارجية - فورمان وفايتسكر وربنتروب - خلال تشرين الثاني/ نوفمبر وكانون الأول/ ديسمبر 1941، لضمان موافقة ألمانية على مشاريعه وخططه. وطرح المفتي مسألة ضمان حق دول المشرق العربي وبلاده في الوحدة. ومن الأرجح أن معلومات تتعلق بموقف مسؤولي وزارة الخارجية المبدئي المؤيد قد تسربت إليه. فقد أعد فورمان في 6 تشرين الثاني/نوفمبر 1941 - أي بعد وصول المفتي إلى برلين بزمن قصير - تقريراً عاماً عاد فيه إلى فحوى تقريره المشهور في 7 آذار/ مارس. وعاد فورمان في تقريره الجديد إلى ما ذهب إليه سابقاً من أن مصالح ألمانيا "الرئيسية" تقتصر على "تأمين النفوذ الألماني على مصادر النفط في المشرق العربي." وأكد فورمان بذلك عدم وجود تناقض أو تضارب بين مطالب المفتي والأهداف السياسية الألمانية في المشرق العربي. وباختصار، فقد أيد فورمان تلبية طلبات المفتي من ناحية مبدئية، وإصدار بيان استجابة لرغبة المفتي.(53)   وفي الوقت عينه، عكس تقرير فورمان الخلافات الجوهرية بين الموقف الإيطالي والموقف الألماني. ورفع ربنتروب إلى هتلر مذكرة أيد فيها وجهة نظر مساعد سكرتيره.

وصلت سلسلة لقاءات المفتي كبار السياسيين الألمان إلى ذروتها في اجتماعه المشهور إلى هتلر في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر 1941. ماذا كان موقف هتلر؟

عرض هتلر الأوضاع الحربية والسياسية السائدة آنذاك، وعرض الصعوبات السياسية والعملية الماثلة أمام إعلان بيان وفقاً لرغبة الحسيني. فأشار إلى إمكان انضمام القوات الفرنسية في شمال إفريقيا إلى قوات المقاومة الفرنسية، كما أبرز بُعد القوات الألمانية عن حدود العراق. ومن هنا، فإن أي إعلان هو سابق أوانه من وجهة نظره، ولن يعدو كونه "إعلاناً أفلاطونياً" نظراً إلى الصعوبات التي وقفت آنذاك أمام تحقيقه. لكن هتلر أكد أن "ساعة التحرير ستدق" عندما تخترق الجيوش الألمانية جبهة القفقاس وتقترب من إيران. وطلب هتلر من المفتي أن يعتبر وعده هذا بمثابة "وثيقة" غير مكتوبة وعد الوفاء بها عندما تتوفر الأوضاع الموضوعية.(54)

وهكذا، وضع هتلر حداً لجميع المداولات في وزارة خارجيته. وبدا أن جهود الحسيني للحصول على موافقة ألمانية لإعلان البيان قد باءت بالفشل.

لكن وصول الكيلاني في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1941 ومطالبته بإصدار بيان مماثل يضمن استقلال العراق بعد الحرب لم يقابلا برفض قاطع. فقد بعث ربنتروب إلى الكيلاني في 19 كانون الأول/ ديسمبر 1941 برسالة تهنئة أكد فيها "استحقاق" العراق لـ "كامل سيادته واستقلاله التام"، وعبَّر عن أمله برجوعه إلى العراق "رئيساً"، بعد "تحريره" من الاحتلال البريطاني.(55)   ولم يكتف الكيلاني فيما بعد بما جاء برسالة التهنئة، بل قدم صيغة رسمية عُرفت باسم "الاتفاقية" (Abbkommon)، تضمنت طلب الكيلاني أن تتعهد دولتا المحور بالاعتراف الرسمي باستقلال العراق استقلالاً تاماً بعد الحرب.

لا شك في أن الحسيني شعر بخيبة الأمل؛ فقد لاح له أن الكيلاني استطاع خلال أُسبوعين إنجاز ما عجز هو عن تحقيقه طوال شهرين، ولا سيما إذا تذكرنا جهوده الخاصة لاعتباره الناطق باسم العرب. ومع أن الحسيني ظل يعتبر نفسه العنوان الرئيسي لأي توجه محوري فيما يتعلق بالشؤون العربية، فقد وافق على تحرير صيغة جديدة أعد الكيلاني نصها وعُرفت باسم "المحضر" (Protokoll). وقد حمل "المحضر"، الذي أصبح فيما بعد أساس المفاوضات مع دولتي المحور، توقيع شخصيات عربية أُخرى كعادل أرسلان وأبو غنيمة وإسحاق درويش.(56)

تضمن "المحضر" مطالبة الكيلاني والحسيني بضمان "كل مساعدة" ممكنة للبلاد العربية، التي "تعاني من السيطرة والاحتلال البريطانيين حالياً"، "في كفاحها من أجل التحرير". وطالب "المحضر" أيضاً دولتي المحور بالاعتراف بـ "الاستقلال" الكامل للبلاد العربية في المشرق "والواقعة تحت الاحتلال أو السيطرة حالياً، و"بسيادتها الكاملة". وشمل "المحضر" المطالبة بموافقة دولتي المحور على "اتحاد" البلاد العربية إذا "قررت" هذه البلاد ذلك. وبالتالي، "تعلن الحكومتان، الألمانية والإيطالية، استعدادهما لتقديم موافقتهما على إزالة الوطن القومي اليهودي في فلسطين." كما طالب "المحضر" باعتراف دولتي المحور بـ "الاستقلال التام والسيادة الكاملة" للدول العربية المستقلة حالياً. ومن ناحية أُخرى، فقد عبَّر "المحضر" عن استعداد الكيلاني والحسيني لعقد "اتفاقية" مع دولتي المحور باسم البلاد الواقعة تحت الاحتلال والسيطرة البريطانيين.

يمكن اعتبار "المحضر" أدق نص للمطالب العربية؛ إذ صاغه الحسيني والكيلاني بصورة شخصية. ومن ناحية أُخرى، لم يتضمن "المحضر" شيئاً جديداً، بل إنه رجع إلى مطالب الحسيني الأصلية بصورة جوهرية. أما التغييرات الطفيفة، فقد تركزت في نقطتين رئيسيتين: تجنب "المحضر" ذكر أسماء البلاد العربية؛ ولم يخص إلغاء "الوطن القومي اليهودي" ببند خاص منفرد، وأُضيف إلى البند العام الذي تناول ضمان استقلال البلاد العربية الواقعة تحت السيطرة البريطانية. ورجع التغيير، على الأرجح، إلى اعتقاد الحسيني أن "الوطن القومي اليهودي" هو جزء من مشكلة البلاد التي هي تحت السيطرة البريطانية، وليس مشكلة خاصة مختلفة.

جدد الحسيني نشاطه لدى وزارة الخارجية الألمانية للحصول على تعهد رسمي بشأن مستقبل البلاد العربية بعد الحرب. ولما أصبحت المعارضة الألمانية معروفة لديه بعد اجتماعه إلى هتلر، راح يفتش عن شكل آخر. ووجد الحسيني أن مراسلات مكماهون وشريف مكة أو رسالة بلفور إلى روتشيلد يمكن أن تشكل مثالاً يحتذى به. فطرح الحسيني الاقتراح في اجتماع له مع غروبا في 11 كانون الثاني/يناير 1942.(57)   وطرح الحسيني مجدداً فكرة تبادل الرسائل في اجتماع إلى فايتسكر في 26 كانون الثاني/ يناير. وفي الوقت نفسه، عرض ما قام به من جهود للتقارب مع دولتي المحور، وهو ما جعل فايتسكر يشعر بالإحراج والضيق، ودفعه إلى لفت نظر غروبا إلى تذكير الحسيني بعدم حاجته إلى "الوعظ" و "الإقناع".(58)   لكن اقتراح تبادل الرسائل لم يكن أوفر حظاً من اقتراح إعلان بيان عام بشأن مستقبل بلاد المشرق العربي ودوله بعد الحرب. وترك الفتور المحوري، والألماني منه خاصة، شعوراً بالمرارة واليأس، إلى حد أن الحسيني هدد برفض دعوة السفر إلى إيطاليا للقيام بالدعاية ضد دول الحلفاء. وكانت وزارة الخارجية الإيطالية وجهت إليه وإلى الكيلاني دعوة إلى زيارتها في بداية شباط/ فبراير 1942. لكن زيارة لإيطاليا يمكن أن تتيح له الفرصة لتحقيق ما فشل في تحقيقه في برلين، فبدت روما له العنوان.

هكذا، ترك المفتي برلين وتوجه إلى روما في 7 شباط/ فبراير 1942. هل ينجح في روما فيما فشل بشأنه في برلين؟

لم تنقطع الاتصالات بين مسؤولي وزارة الخارجية الإيطالية ووزارة الخارجية الألمانية منذ بداية تشرين الثاني/ نوفمبر 1941، عندما أصبحت مشاريع الحسيني معروفة لدى قادة الحكم الفاشستي في إيطاليا. وتناولت الاتصالات درس صيغة الإعلان بحيث تجد قبولاً لدى الحسيني وتأخذ المصالح الإيطالية بعين الاعتبار. فقد وجدنا أن مسؤولي وزارة الخارجية الألمانية لم يعترضوا على إصدار بيان بشأن مستقبل المشرق العربي من حيث المبدأ. لكن الموافقة المبدئية الألمانية اصطدمت بمعارضة إيطالية: فقد عارضت إيطاليا إضافة "التام" و "الكامل" بعد "الاستقلال" و "السيادة" للبلاد العربية ودولها المستقلة. وعندما قدمت صيغة "المحضر" واقتُرحت أساساً لاتفاقية رسمية بين دولتي المحور وبين الكيلاني والحسيني، أشار مسؤولو الخارجية الإيطالية إلى أن الاتفاقيات تعقد بين دول لا بين دول وأفراد.

استطاع الحسيني والكيلاني التغلب على المعارضة الإيطالية بعد سلسلة من المفاوضات مع قادة الحكم الفاشستي في إيطاليا، لكن ضمن إطار التحفظات الإيطالية، ونزولاً عند الرغبة الإيطالية. غير أن المعارضة الألمانية ظلت حجرة عثرة، بعد أن أصبح قرار هتلر هو سياسة ألمانيا الرسمية. وأخذت الشكوك ومشاعر خيبة الأمل تنتاب الزعيمين العربيين. وهدد الحسيني بمغادرة دولتي المحور واللجوء إلى المجر. وفي 13 شباط/ فبراير 1942، أبلغ فيتيتي (Vitetti) رئيس البعثة الألمانية في روما، بسمارك، أن لا بد من القيام بشيء ما لتبديد "الشكوك العميقة" حيال سياسة إيطاليا وألمانيا ولحاجة الحسيني والكيلاني الماسة إلى "شيء ما في اليد".(59) ولصرف أنظار الحسيني والكيلاني ريما تنتهي المداولات الداخلية بين وزارة الخارجية الإيطالية ووزارة الخارجية الألمانية، نظَّمت وزارة الخارجية الإيطالية للحسيني رحلة إلى شمال إيطاليا.

حاول هتلر، خلال اجتماع في سالزبورغ في أواخر نيسان/ أبريل، إقناع موسوليني وتشيانو بعدم اتخاذ قرار نهائي. لكن إلحاح الحسيني المتواصل، واقتناع وزارة الخارجية الإيطالية بضرورة منح السياسيين العربيين "شيئاً ما في اليد" لدوافع وأسباب متعددة، استوجبا القيام بعمل ما. ومما زاد في تذمر الحسيني، وربما في غضبه، الرسائل المتبادلة بين الكيلاني ووزارتي الخارجية الألمانية والإيطالية في 25 و 31 آذار/ مارس 1942 بشأن ضمان استقلال العراق بعد الحرب. ونجحت وزارة الخارجية الإيطالية أخيراً في إقناع وزارة الخارجية الألمانية بضرورة تبادل رسائل مماثلة بشأن بلاد المشرق العربي ودوله. وتم الاتفاق على نص، وذلك بعد مداولات متعددة دارت بشأن صيغته. وتم تبادل الرسائل بين الحسيني والكيلاني وبين ربنتروب في 28 نيسان/أبريل 1942، وبينهما وبين تشيانو في 28 نيسان/ أبريل و 3 أيار/ مايو 1942.

صيغت الرسائل على نحو يلبي الرغبات الإيطالية ورغبات الحسيني والكيلاني بصورة جزئية. فقد أشار نص رسالة دولتي المحور إلى استعداد دولتي المحور لدعم البلاد العربية التي هانت آنذاك "الاضطهاد" البريطاني في صراعها ضد بريطانيا. وأكد نص الرسالة أيضاً اعتراف ألمانيا وإيطاليا بالاستقلال والسيادة لبلاد المشرق العربي وموافقتهما على اتحاد هذه البلاد، إذا رغبت في ذلك، وعلى "إزالة الوطن القومي اليهودي في فلسطين."(60)   وهكذا، لم يتضمن النص الاستقلال "الكامل" والسيادة "التامة"، وذلك نزولاً عند رغبة الإيطاليين. كما أن أمر الاتحاد لم يتم الاعتراف به، بل "الموافقة" عليه، ومن الأرجح أن السياسيين الإيطاليين اعتقدوا أنهم سيستطيعون ترويض "رغبة" البلاد العربية في الاتحاد طبقاً لسياستهم. أما طلب الحسيني موافقة دولتي المحور على إلغاء شرعية الوطن القومي اليهودي، فقد ووفق عليه من دون تردد. إذ عارضت وزارة الخارجية الألمانية مشروع التقسيم منذ أن اقتُرح أول مرة سنة 1937. ومن المشكوك فيه أن معارضة الحسيني إقامة "الوطن القومي اليهودي" فاقت معارضة ألمانيا النازية، على الرغم من اختلاف الدوافع والأهداف. ولم يبد موسوليني حماسة خاصة له منذ زمن بعيد.

هكذا اعتقد مسؤولو وزارة الخارجية الألمانية أن ألمانيا حققت رغبات المفتي.

لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة إلى المفتي. ويكفي أن نتذكر كيف أتى المفتي إلى روما بتصور واضح لمشاريعه: بيان سياسي، وتنظيم العرب في إطار سياسي بقيادته، وبناء قوة عسكرية لاستعمالها عند الحاجة.

جاء دور تنظيم العرب في إطار سياسي بقيادته، وبناء قوة عسكرية. وأدى العمل من أجل تحقيق ذلك إلى صراع مرير مع غروبا والكيلاني؛ كما أن إقامة قوة عسكرية ذاتية اصطدمت بمعارضة ألمانيا. فقد أقامت القيادة الألمانية وحدة عسكرية عربية بقيادة فلمي في سانيون، قرب أثينا، وأقامت مركزاً للتدريب عُرف باسم "مركز التدريب الألماني - العربي". واستمر الخلاف بين الحسيني ووزارة الخارجية وقيادة المفرزة العربية ومركز التدريب طوال سنة 1942 ومطلع سنة 1943. وأدت الخلافات إلى استياء مسؤولي وزارة الخارجية الألمانية. وقامت بنقل غروبا من منصبه راعياً للشؤون العربية إلى باريس، من دون أن تنجح في تلبية رغبات الحسيني. كما أن توقف قوات رومل في العلمين وعجز القوات الألمانية عن اختراق جبهة القفقاس قللا من أهمية المفرزة العربية. والأرجح أن الشكوك في كسب الحرب كانت قد بدأت تساور هتلر، الذي أرسل إلى ربنتروب في 12 أيلول/سبتمبر 1942 مذكرة عكست شكوكه العميقة في قدرة الآلة الحربية الألمانية على تحقيق طرد البريطانيين من المشرق العربي. وأمر هتلر مسؤولي وزارة خارجيته بالكف عن إعداد خطط يصعب تنفيذها.(61)

لكن جهود المفتي للحصول على اعتراف رسمي بوحدانية قيادته ناطقاً باسم العرب استمرت، على الرغم من عدم أهميتها العملية في ضوء تطورات الحرب. وقد حاول الحصول على اعتراف كهذا عندما عزم على الانضمام إلى قوات دولتي المحور في شمال إفريقيا في نهاية سنة 1942، لكن من دون نجاح، وقوبل عرضه للتوسط بين دولتي المحور وبين باي تونس بردة فعل فاترة. وعاد إلى الفكرة مرة أُخرى عندما استدعته قوات الأس الأس، (Shultz Staffel) أو (SS)، في منتصف سنة 1943 لتنظيم المسلمين وتجنيدهم في يوغسلافيا للحفاظ على الأمن الداخلي فيها. لكن الطلب رفض. وفي الواقع، فإن أي شكل من أشكال الاعتراف فّقَد كل أهمية سياسية، وانقلب إلى أداة دعائية فقط. 

نتائج وملاحظات

يمكن تقسيم نشوء وتطور علاقات الحاج أمين الحسيني بأجهزة الحكم النازي إلى ثلاث مراحل مركزية: 1933 - 1937؛ 1937 - 1940؛ 1941 - 1945.

تميزت المرحلة الأولى بمجاملات دبلوماسية اكتفى كل طرف بها، بسبب عدم وجود مصالح مشتركة أو دواع إلى إيجاد مصالح مشتركة. وفي الواقع، فإن مصالح ألمانيا النازية ومصالح الشعب العربي الفلسطيني كانت متناقضة أشد التناقض، نظراً إلى اتفاقية الترانسفير وسياسة تهجير يهود ألمانيا. وعلى الرغم من ذلك، فإن الدارس لن يجد أية مذكرة نقد أو احتجاج ضدهما، لا من الحاج أمين الحسيني ولا من أي تيار آخر من تيارات الحركة الوطنية الفلسطينية.

اختلفت المرحلة الثانية عن المرحلة الأولى بعد انتشار الشائعات بشأن تقسيم فلسطين وإقامة الدولة اليهودية. فقد أكد مشروع إقامة الدولة اليهودية إفلاس الإيديولوجية النازية - وخصوصاً هتلر وروزنبرغ - التي روَّجت فكرة عدم قدرة "اليهودية" الطبيعية على إقامة دولة وبنائها، ولا سيما أن سياسة ألمانيا النازية اليهودية مهدت لقيام الدولة بصورة غير مباشرة عن طريق تهجير يهود ألمانيا. ومن ناحية أُخرى، فقد أيقن هتلر أنه لن يستطيع تحقيق مشاريعه التوسعية بموافقة بريطانية منذ أواخر 1937. وبذلك، زالت الأسباب لعدم تفعيل السياسة الألمانية وتنشيطها. ومن ناحية أُخرى، استدعت الثورة الفلسطينية تأمين السلاح والعتاد العسكري. وفي هذه المرحلة، اعتقد الحسيني وغيره من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية أنه يمكن استغلال الاستقطاب السياسي في أوروبا لتحقيق غاياتهم السياسية والحربية الملحة. لكن مدى وحجم "حاجة" هذا الطرف إلى الآخر اختلفا. فالتفعيل والتنشيط السياسي لم يكونا يعنيان "التدخل" الفعال من وجهة وزارة الخارجية الألمانية، بينما استدعت حاجات المقاومة الفلسطينية للوجود البريطاني حلولاً ملحة وبحجم كبير. من هنا، فقد فشلت جهود الحسيني في "إيجاد" مصالح مشتركة لتأمين المساعدات المنشودة. ودفع الفتور الألماني الكثير من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية إلى الاقتناع بعدم جدوى "الورقة الألمانية" أو بمحدوديتها. ويكفي أن نعود ونذكر كيف رجع عوني عبد الهادي من أوروبا وأيد الكتاب الأبيض على الرغم من زيارته لبرلين.

إن ما تميزت المرحلة الثانية به من المرحلة الأولى هو اقتراب الأزمة الأوروبية من الانفجار، وما أسفر انفجارها في أيلول/ سبتمبر 1939 عنه من معطيات جديدة. وذكّرت الحرب العالمية الثانية  - الحسيني بالحرب العالمية الأولى وما انتهت إليه من تقسيم جديد للعالم. وفي الواقع، فإن الحسيني لم يكن وحده الذي لم تخنه ذاكرته. فقد علق بن - غوريون فيما بعد على ما يمكن أن يؤول الصراع العالمي إليه بقوله إن الحرب العالمية الأولى قد عادت على "اليهودية" بوعد بلفور، وإن الحرب العالمية الثانية ستؤدي إلى قيام الدولة اليهودية. ويكفي أن نذكر ما أشار حداد إليه خلال محادثاته مع فايتسكر من أن العرب يريدون تجنب سايكس - بيكو جديدة. ومن هذا المنطلق، يمكن اعتبار زيارة نيوكمب تهديداً للحسيني بسايكس - بيكو جديدة إذا لم يكتف الحسيني بما عرضته بريطانيا عليه. لكن الانتصار الألماني السريع على الجبهة الغربية، وفشل الحسيني في الحصول على "إنجاز" سياسي وعلى تنازل بريطانيا فيما يتعلق بالسماح لمؤيديه بالرجوع إلى فلسطين زادا في شكوكه حيال نيات السياسة البريطانية. والأرجح أنه في صيف سنة 1940 اعتقد اعتقاداً جازماً أن ثمة إمكاناً لانتصار ألماني نهائي.

لم تعد القضية الفلسطينية تحتل الأولوية. طبعاً لم تفقد القضية أهميتها في نظر الحسيني، بل أصبحت جزءاً من القضية العربية. هنا اختلف الحسيني عن الكيلاني. وبينما رأى الكيلاني "القضية العراقية" بجانب "القضية العربية"، اعتبر الحسيني "القضية الفلسطينية" في "إطار القضية العربية". وبينما قدم الكيلاني نص "الاتفاقية" التي تناولت مصير العراق بعد الحرب إلى جانب نص "المحضر" أو "البروتوكول"، الذي تناول مصير المشرق العربي - بالاشتراك مع الحسيني - فإن الحسيني لم يخص فلسطين في كثير من النصوص حتى ببند خاص - وبالتحديد بند إلغاء الوطن القومي اليهودي. وأُدرجت "المشكلة الفلسطينية" في الفقرة، أو ضمن البند الذي تطرق إلى مصير المشرق العربي بعد الحرب. ويرجع ذلك إلى شخصية الحسيني السياسية التي اصطبغت بالازدواجية الفلسطينية والعربية في آن معاً، وإلى رؤيته إلى نفسه خليفة لفيصل، كما جاء في روايته عن إقامة "حزب الأمة العربية". ومن المرجح أنه اعتقد أنه سينجح حيث فشل الشريف حسين بعد الحرب العالمية الأولى. وعموماً، فإن مغامرة الحسيني عرفت الكثير من الفشل والقليل من النجاح.

لم تقم "المسألة اليهودية" - بالمفهوم النازي - بأي دور في مراسلات الحسيني ومفاوضاته مع أجهزة الحكم النازي حتى منتصف سنة 1943. وعندما بدأت تتسرب إلى الحسيني أنباء السماح لبعض اليهود - الشيوخ والأطفال بصورة خاصة - بالهجرة من هنغاريا وبلغاريا ورومانيا منذ ربيع 1934، قدم الحسيني احتجاجاً إلى وزارة الخارجية الألمانية. طبعاً، أثار ذلك مسألة مكانة الحسيني في سياسة ألمانيا اليهودية. ومع أن هذه المكانة تحتاج إلى دراسة منفصلة، فإننا نكتفي هنا بملاحظة وكالة الأنباء الألمانية على قيام سفينة طوربيد ألمانية بإغراق السفينة مفكور (Mefkure) التي كان على متنها نحو 800 يهودي، قرب الشواطئ التركية: إن ضرب السفينة جاء "ردة فعل" على قطع تركيا علاقاتها الدبلوماسية بألمانيا من دون أن تكون لرغبات المفتي في منع الهجرة إلى فلسطين أي دور.

 

* كُتب هذا المقال على هامش دراسة عامة، هي في قيد المراجعة، تتناول سياسة "ألمانيا النازية وفلسطين 1933 – 1945".

 

المصادر:

(1) يمكن اعتبار دراستي بيرلمان وشختمان من الأمثلة الكلاسيكية في هذا المجال:

Maurice Pearlman, Mufti of Jerusalem: The Story of Haj Amin El-Husseini (London, 1947); Joseph B. Schechtman, The Mufti and the Fuehrer: The Rise and Fall of Haj Amin El-Husseini (New York, 1965).

(2) Lukasz Hirszowicz, The Third Reich and the Arab East (London, 1966).

(3) استمرت هذه التهمة تهيمن حتى على أفكار الدارسين فيما بعد:

Gerald Fleming, Hitler and the Final Solution (Berkeley: University of California Press, 1984).

(4) تسفي البيلغ، "المفتي الأكبر" (بالعبرية) (تل أبيب، 1989). مقابل ذلك، أنظر:

Philip Mattar, The Mufti of Jerusalem: Al-Haj Amin al-Husayni and the Palestinian National Movement (New York, 1988).

(5) بيان نويهض الحوت، "القضية والمأساة السياسية في فلسطين"، طبعة ثانية (عكا، 1984).

(6) ادعى معهد روزنتال أنه عثر على وثيقة "جديدة" تثبت أن الحسيني دعا إلى "الحل النهائي". وعلقت جريدة Washington Post على ذلك في ظروف انعقاد مؤتمر مدريد. وسارعت وسائل الإعلام الإسرائيلية ـ "يديعوت أحرونوت"مثلاً ـ إلى نقل الخبر. وفي الواقع، فإن الوثيقة المشار إليها ليست وثيقة "جديدة تم اكتشافها".

(7) من فولف إلى وزارة الخارجية في 20 نيسان/ أبريل 1933:

PA (Politisches Archiv-Bonn): Abt. III, Politik 2, Bd. 1, L356584.

(8) الملف نفسه والمصدر نفسه.

(9) NA (National Archives-Washington): T 120, Roll 4028, L 015478-79.

(10) NA: T 120, Roll 4028, L 015478-79; L 015280-81.

(11) خطت الدراسات بشأن اتفاقية الترانسفير خطوة كبيرة على الرغم من عدم تناولها بعض جوانبها ـ وخصوصاً دور سام كوهن ممثلاً للحركة الصهيونية في إحدى مراحل المفاوضات الألمانية / الصهيونية. وبقي تطور سياسة الترانسفير موضوعاً للبحث، نكتفي بذكر أفضل مرجعين، على ما نعتقد:

Lenni Brenner, Zionism In the Age of Dictators (Connecticut, 1983); Edwin black, The Transfer Agreement (London, 1984).

(12) Francis R. Nicosia, The Third Reich and the Palestine Question (London, 1985), pp. 67-76.

(13) Adolf Hitler, Mein Kamph, Trans. by Ralph Manheim (Boston, 1976), pp. 284-300, 614; Nicosia, Ibid., pp. 76-82.

(14) Nicosia, Ibid., p. 102.

(15) من بلغر إلى غروبا في 25 شباط/فبراير 1937:

PA: Pol. Abt., Politik 2, Bd. ., 1, L 019870-71.

(16) PA: Chef A/0., 86, 51639-40.

(17) PA: Pol. Abt. Politik 2, Bd., 373527-30.

(18) ADAP: Service D, Bd. V. رقم 568، ملاحظة رقم 5 لتقرير من دولي إلى وزارة الخارجية في 22 تموز/يوليو 1937. أنظر أيضاً: مذكرة فون هنتغ في 29 تموز/يوليو 1037، المصدر نفسه، رقم 569. لا شك في أن موقفي فايتسكر وفون هنتغ هما نتيجة تعليمات وزير الخارجية فون نويرات. فقد بعث غروبا بتقرير في 17 تموز/يوليو 1937 أبلغ فيه وزير خارجيته طلباً عراقياً أن تعلن ألمانيا رفض مشروع التقسيم رسميا. وكانت ملاحظة فون نويرات أن إعلاناً كهذا "لا يأتي في الحسبان... نريد أن نبتعد عن نقاش كهذا." المصدر نفسه، رقم 567، ملاحظة رقم 1.

(19) رسالة فون هنتغ في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1937: PA: Pol. Abt. Politik 5, Bd. 2.

(20) ADAP (Akten Zur deutschen Politik 1918-1945): Vol. V, Serie D. Bd. X, Nr. 576.                                                             

       وثلاثة ملحقات ص 654-656؛ دافيد يسرائيلي: "الرايخ الثالث وأرض ـ إسرائيل" (بالعربية) (رامات غان، 1974)، ص 202-402.

(21) أنظر: Nicosia, op. cit., 180-193, specially app. 14

(22) PA: Buero UTs. 370128-29.

(23) Hirszowicz, op. cit., p. 130.

(24) تفصيلات في:

Majid Khadduri, Independent Iraq: A Study in Iraqi Politics (second ed.) (London and Oxford, 1969), pp. 162-182; Hirszowicz, Ibid., pp. 74-95.                                                                                                                                              

(25) Khadduri, Ibid., p. 181; Hirszowicz, Ibid., pp. 90-91.

(26) NA: T 120, Roll 1299, 481555-56.

(27) PA; Buero St. S., Bd. 1, 50687-88.

(28) Hirszowicz, op. cit., p. 81.

(29)  Khadduri, op. cit., pp. 177-181.

(30) ADAP; Serie D, Bd

(31) Ibid., Nr. 289.

(32) ليس أمر هذه المذكرة واضحاً لأنها لا تحمل توقيعاً، وقد كُتبت بالفرنسية. واعتقد كل من خضوري وهرتسوفيتش أن محررها هو حداد  نفسه، لكن حداد يذكر أنه كان يعرف الألمانية، فلماذا كتبت بالفرنسية؟ ومن الممكن أن الحسيني هو صاحب هذه المذكرة: إذ اعتاد الحسيني كتابة رسائله بالفرنسية. ومما يزيد في غموض هذه المذكرة أن حداد ذكر في مذكراته ما يلي: "وقد دبجت مع الهر ‘غروبا’ مطاليبنا وعدلت بعضها في ضوء إرشاداته." ولا يذكر حداد أمر هذه الوثيقة. ونسب فايتسكر هذه الوثيقة، كأساس للصيغ الأخرى، إلى المفتي في مذكرته إلى مكنزن في 9 أيلول/سبتمبر. أما بشأن النص الأصلي، الذي "دبجه" حداد مع غروبا، والتعديلات التي أجراها عليه، فراجع:

ADAP: Serie D, Bd. X, Nr. 403.

والأرجح أن التعديلات ذُكرت في حواشي الوثيقة المذكورة. ومما يزيد في أهمية هذه الوثيقة أن فايتسكر اعتمدها أساساً لتوصياته وتعليماته. قابل  بالمصادر والمراجع التالية:

عثمان كمال حداد، "حركة رشيد عالي الكيلاني سنة 1941" (صيدا، 1950)، ص 29؛

NA; Roll 1299, 1481571-74; Khadduri, op. cit., pp. 184-185; Hirszowicz, op. cit., pp. 8-84.

(33) (1)  المحضر ومسودة الإعلان في:

ADAP: Serie D, Bd. X. Nr. 403.           

(2) NA: T 120, Roll 1299, 481566-68.

(3) برقية فايتسكر إلى مكنزن في 9 أيلول/سبتمبر 1940:

          NA: T 120, Roll 1299, 481571-74; PA: St. S., Bd. 1, 50215-17.

وترجمة خضوري لمسودة الإعلان ليست دقيقة أحياناً. أنظر:

         Khadduri, op. cit., pp. 184-185.

(34) يميل هرتسوفيتش إلى الاعتقاد أن حداد تطرق إلى أمر تأليف اللجنة لرفع شأن الحسيني في نظر مسؤولي وزارة الخارجية الألمانية، وأنه ذكر بعض الشخصيات، كرشيد عالي الكيلاني ويوسف ياسين، من دون أن يكونوا أعضاء في اللجنة.

       Hirszowicz, op. cit., p. 83.

(35) ADAP: Serie D., Bd. X, Nr. 403 (ملحق جانبي آخر ـ مسودة اقتراح).

  Na: T 120, Roll 1299, 481566-68 أنظر أيضاً:

Fritz Grobba, Maenner und Maechte im Orient (Zuerich, 1967), p.197.     

[....] ترجمة خضوري ليست دقيقة؛ فقد صيغت هذه النقطة بلغة الماضي. وواصل هرتسوفيتش الخطأ نفسه؛ إذ إن في النص الألماني:

“Wie die Judenfrag in den Laendern Deutschalnd und Italien geloest worden ist.”     

ويطابق النص الألماني النص الفرنسي، الذي نسبه فايتسكر إلى الحسيني، بغض النظر عن صحة ذلك:

“au’était résolue cette question juive dans les pays de l’axe.”     

(التشديد من المؤلف):

Khadduri, op. cit., p. 185; Hirszowicz, op. cit.,  p. 83.    

(36) نورد هنا مختارات فقط من المادة الوثائقية.

1) رسالة من المبعوث الألماني في لاتفيا في 8 شباط/فبراير 1940:

    PA: Inland II A/B, Bd. 2, 83-24.         

2) رسالة من مولر، مساعد هايدريخ في جهاز الغستابو وشرطة الدولة السرية، إلى بيلوشفانته في وزارة الخارجية في 21 أيار/مايو 1940. طلب مولر من بيلوشفانته العمل لدى إيطاليا لتلغي القيود الأخيرة على هجرة اليهود عن طريق إيطاليا. واستمرت الاتصالات الدبلوماسية بين الدولتين لتمكين اليهود من الهجرة عبر إيطاليا طوال فترة إقامة حداد. المصدر نفسه والملف نفسه.

3) برقية من بسمارك ـ روما ـ إلى وزارة الخارجية في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1940 رداً على برقيتها في 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1940.

         PA: Inland II A/B, Bd. 3, 83-24.

تحتوي المجلدات 2، 3، 4، مادة مفصلة بشأن استعمال إيطاليا طريق عبور للهجرة اليهودية إلى فلسطين بصورة خاصة. وكشف تقرير سري طويل أعدته دائرة جوازات السفر في أثينا عن دور ألمانيا الفعال في تنظيم وتشجيع الهجرة إلى فلسطين. وفي 25 تشرين الثاني/نوفمبر 1940، رفع موظفو وزارة الخارجية البريطانية تقريراً إلى هاليفاكس، الذي بدوره لفت نظر رئيس الوزراء إلى آلية الهجرة، وأكد الموظفون أولئك أن الهجرة غير الشرعية "تجري بتواطؤ ألماني" (In German Complicity). وكشف التقرير السري عن أسماء بعض الوكلاء          كالأخوين يوسف وحاييم ستورفر (Joseph and Haim Storper). وقد عمل أحدهما "رئيساً للجنة الاستيطان لكل أوروبا" وعمل الآخر "رئيساً للطائفة اليهودية في بوخارست". كما أشار التقرير إلى أن رابطة من الصداقة تربطه بهتلر وأنه يعمل وكيلاً للغستابو. أنظر:  PREM          4/51/1.  

(37) ADAP: Serie D., Bd. X1.1, Nr. 190.

(38) Ibid.

(39) Luther Gruchmann, “Die Verpassten Strataegischen Chancen,” der Achsen-Maechte, in: Viertelijahrshefte, 18, 1970, pp. 457-475.                                                                                                                                                           

(40) Robert Melka, The Axis and the Arab Middle East, 1930-1945 (Diss, Minnesota, 1978), pp. 143-144; Hirszowicz, op. cit., pp. 104-105.                                                                                                                                                             

(41) Melka, Ibid., pp. 141-144; Hirszowicz, Ibid.

(42) PA: Buero RAM, 23, 28171-75.

(43) لا تحمل مسودات الاقتراحات العربية أي توقيع. أنظر:

Grobba, op. cit., pp. 207-209.     

(44) ADAP: Serie D, Bd. X11.1, Nr. 68.

(45) PA: Buero St. S., Bd.`, 50761-777.

(46) ADAP: Serie D, Bd. X``.`, Nr. 159.

(47) PA: Buero RAM 23, 28181-82.

(48) ADAP: Serie D, Bd. X11.1, Nr. 68.

(49) NA: T 120, Roll 1298, 482652.

(50) Ibid., 482665-67.

(51) Ibid., 482064.

(52) PA: Handakten Ettel, 304317-20.

(53) PA: Buero des St. S., Bd. 1, 50882.

(54) PA: Buero des St. S., Bd. 1, 51012-13; PA: RAM. 21835-54. 28364-66; Fleming, op. cit., pp. 101-103; Hirszowicz, op. cit., pp. 218-221.                                                                                                                                                                

(55) Buero RAM, 2835-54; PA: Buero des St. S., Bd., 50983.

(56) PA: Buero des St. S., Bd., 51003-06.

يمكن اعتبار "المحضر" أدق صيغة للمطالب العربية. فقد صاغه الكيلاني والحسيني. وبينما صاغ مسؤولو وزارة الخارجية الألمانية مطالبة الحسيني بإلغاء الوطن القومي اليهودي عن طريق "إزالة المجال الحيوي واليهودي"، فقد استعمل الكيلاني والحسيني التعبير المألوف. أما استعمال تعبير "المجال الحيوي"، فقد عاد إلى القاموس اللغوي الذي كان سائداً في التعابير اللغوية للنازيين.

(57) PA: Buero RAM 28295.

(58) PA: Buero des St. S., 51011-14.

هناك  أهمية خاصة لدلالات رغبة الحسيني الجديدة عند درس الخلافات بينه وبين غروبا والكيلاني؛ فقد اقترح الحسيني أن يكون هو العنوان عن الجانب العربي، ورجع مراراً إلى قصة "حزب الأمة العربية"، ليؤكد أن قيادة التنظيم قد آلت إليه بعد وفاة فيصل.

(59) NA: T 120 Roll 283, E 260582-83.

(60) PA: Buero RAM, 28184-90; NA: T 120, 2483, E 260991-92.

(61) أنظر: مذكرة هيفل (Hewel)  في 12 أيلول/ سبتمبر 1942:

   PA: Hanaklen Ettel, 390831.

السيرة الشخصية: 

عبد الرحمن عبد الغني: أُستاذ في جامعة بير زيت في الضفة الغربية.