كيف دمّر الإسرائيليون حيّ التفاح في غزة
كلمات مفتاحية: 
قطاع غزة
الجيش الإسرائيلي
هدم المنازل
شهادات
نبذة مختصرة: 

رسالة من غزة عن السياسة الجديدة لسلطات الاحتلال بهدم منازل فلسطينيين، مستخدمة الصواريخ المضادة للدبابات، بناء على اشتباه في وجود شبان مطلوبين فيها. ووصلت إلى حد تدمير حي التفاح بأكمله في نيسان/ أبريل 1993. وتقوم الرسالة على أقوال شهود عيان وتقارير مركز غزة للحقوق والقانون وبعض المصادر الإسرائيلية.

النص الكامل: 

تعتبر السياسة الجديدة التي بدأت السلطات الإسرائيلية انتهاجها في الأشهر الأخيرة، بهدم منازل فلسطينيين، مستخدمة الصواريخ المضادة للدبابات بناء على اشتباه في وجود شبان مطلوبين فيها، آخر ابتكارات إسرائيل في سجل العقوبات الجماعية. وقد طبقت هذه السياسة أو مرة في تموز/يوليو 1992 في قطاع غزة، بدءاً بهدم منزل ثم اتسع نطاقها إلى عدة منازل في آن واحد، إلى أن دُمّر في نيسان/أبريل الماضي ولأول مرة حي بأكمله هو حي التفاح في مدينة غزة.

وأحصى مركز غزة للحقوق والقانون، وهو عضو في لجنة الحقوقيين الدولية (جنيف)، ست عشرة عملية من هذا النوع في الأشهر الستة الأخيرة من سنة 1992، وأربع عمليات في كانون الثاني/يناير من السنة الحالية، وعمليتين في شباط/فبراير وثماني عمليات في آذار/مارس. وقال مدير المركز، المحامي راجي الصوراني، إن في 50% من الحالات لم يتم العثور على مطلوبين في المنازل التي دمرت، وفي الحالات التي وُجدوا فيها فإن الجنود قضوا عليهم قبل أن يمنحوهم الفرصة للاستسلام. وأضاف "إنهم (الجنود) يتصرفون كأنهم يحملون حكم إعدام ويسعون لتنفيذه في أي مكان يجدون المطلوب فيه"، مشيراً إلى أن الاتفاقات الدولية تحتم على السلطة المحتلة أن تدعو المطلوبين الذين تبحث عنهم إلى الاستسلام قبل أن تلجأ إلى أي تصرف آخر. وأشار الصوراني إلى أن الخطورة، بعد الهجوم بالصواريخ الذي تعرض حي التفاح له يوم 30 نيسان/أبريل الماضي، تكمن في أن "الأمر تحول إلى لعبة يانصيب فلا أحد يعرف متى وأين سيضربون في كل مرة ومَنْ مِنْ السكان سيشرد من منزله بسبب وبدون سبب."

وعل الرغم من مرور أسبوعين على الهجوم الذي تعرض الحي له، فإن رائحة الدخان كانت لا تزال تنبعث من تحت الدمار ومن الأثاث المحترق، بينما لفّ السواد واجهات المباني. بعض هذه المباني كان ما زال منتصباً كهياكل لمبانٍ، وبعضها الآخر بدا من إحدى واجهاته أنه نجا من الدمار، لكن ما أن تظهر واجهة أُخرى للعيان حتى يتضح أنها إنما تقف كخلفية لديكور لا شيء يلقاها من الناحية الأُخرى. أما الحي بأكمله فبدا أنه خارج من حرب أهلية، استُخدمت فيها القذائف والقنابل اليدوية والديناميت، على الرغم من أن العملية التي تعرض لها لم تستمر إلا يوماً واحداً.

جلست أم فايز على عتبة المنزل، أو ما بقي منه، تقطّع الخضروات وتهيّىء طعاماً في مطبخ بدائي أعدّه لها زوجها من الصفائح المتبقية بعد انطفاء الحريق الذي شب في المبنى الذي كانا يقيمان في طبقته الأولى، بينما كان يقيم ولداهما وعائلتاهما في الطبقتين الثانية والثالثة منه. وروى زوجها محمد الشرفا (60 عاماً) أحداث ذلك اليوم. قال:

سمعنا صوت طرقات على الأبواب وقال الجيران إن الجيش يحاصر الشارع ويريدنا أن نخرج. كانت الساعة اقتربت من السادسة. قالوا في مكبرات الصوت إن على الجميع أن يخرج واتركوا جميع الأبواب والنوافذ مفتوحة وكذلك أبواب الخزانات ولا تأخذوا شيئاً معكم فخرجنا. بعضنا كان في ملابس النوم والبعض بالجلاّبية. كان الحي يعج بمئات الجنود وربما حتى آلاف. وأخذونا نحن الرجال فقط في باص للجنود ونقلونا إلى مخزن يبعد مئتي متر عن الشارع الذي نسكن فيه. هناك قيدوا أيدينا وعصبوا أعيننا وأجلسونا على الأرض حتى الساعة السابعة مساء. كان الوقوف ممنوعاً ومن يريد أن يذهب إلى دورة المياه عليه أن يرفع يده فيصحبه جندي ويعيده. من هناك كنا نسمع صوت إطلاق رصاص وألغاماً تنفجر وصواريخ وأصوات طائرات مروحية تحلق فوقنا. في البداية لم يخطر على بالنا حجم العملية التي كانوا يقومون بها واعتقدنا أن ما نسمعه عبارة عن قنابل صوتية أو ربما أنهم يقومون بتدمير منزل واحد وجدوا مطلوباً مختبئاً فيه. وبقينا على هذا الحال حتى المساء دون أن نعلم ما جرى لنسائنا وأولادنا.

وتروي أم فايز، من جهتها، ما حدث بعد خروج كل النسوة من منازلهن وتجميعهن مع أولادهن في الشارع. قالت:

في البداية قامت المجندات الإسرائيليات بتفتيشنا خوفاً من أن يكون أحد المطلوبين متنكراً بزي امرأة ثم دفعنا الجنود إلى الأمام قائلين: إذهبوا من هنا. وفرضوا حظر التجول على المنطقة كي لا يتمكن أحد من الاقتراب أو رؤية ما كانوا في صدد القيام به. فذهبتُ عند أحد أقربائي في حي الشجاعية وهو أقرب حي إلى منطقة التفاح. حاولت أكير من مرة أن أتقدم في الشارع لأرى ما حل بزوجي وماذا يحدث لبيتي ولكنهم في كل مرة منعوني. ومن على سطح منزل أقاربي كنا نسمع صوت الانفجارات ورأينا الدخان يتصاعد من فوق البنايات والمروحيات تحلق فوق رؤوسنا ولكن لم يكن باستطاعتنا تمييز البيوت عن بعضها ولم يخطر ببالي أن بيتي هو من بين البيوت التي جرى لها ما جرى.

قبل ساعة من انتهاء العملية في مساء ذلك اليوم، قام الجنود بفك قيود الرجال في ذلك المخزن، لكنهم واصلوا احتجازهم ساعة أُخرى قبل أن يغلقوا الباب على من فيه ويغادروا المكان عند الساعة السابعة. فتح المحتجزون، وبينهم شبان وكبار في السن، الباب وخرجوا يستطلعون ما يدور في الخارج، فلم يجدوا أثراً للجنود الإسرائيليين. فساروا في اتجاه منازلهم، أو ... بقايا منازلهم.

في الوقت ذاته، كانت أم فايز تسير مع السائرين نحو منزلها. اقتربتْ من الشارع فرأت النيران تتصاعد من نوافذ منزل جيرانها. وقد بدا منزلها أنه نجا من الدمار. لكنها عندما اقتربت أكثر لم تكد تتعرف على بيتها، ولا على بيت ابنها. كان السواد يلفهما، والردم بسبب الدمار يملأ الأزقة. قالت.

عندما رأيت حالة البيوت صدمت فأُغمي عليّ ولم أصحُ على نفسي إلا على فراش المستشفى في اليوم التالي. لم أتذكر أني رأيت زوجي أمام المنزل فسألت فقالوا إنه كان هناك ولكني لم أره. لم أر أحداً ولم أتعرّف على أحد. كل ما رأيته هو شقاء العمر متفحماً أمامي.

صعد أم فايز سلالم البناية تقود زوارها إلى الطبقة العلوية. أما أبو فايز فقال: "أنا اتركوني هنا. ليس فيّ من القلب لأصعد فوق ولست أقوى على مشاهدته مرة أُخرى." كانت رائحة الدمار تملأ المكان، والجو عابقاً بالدخان. الشظايا اخترقت جدران السلالم، أما باب البيت فكان متفحماً وكذلك الأثاث في داخله. في إحدى الزوايا كانت بقايا ثلاجة اخترقتها قذيفة على ما يبدو، فتركت فجوة في أحد جوانبها. كل شيء أسود بلون الفحم، حتى أسلاك الكهرباء.

قالت أم فايز وهي تنظر حولها:

لم يمض على انتهاء البناء سوى ثماني سنوات. ابني عدنان هو الذي بنى هذا المنزل بعد أن عمل في العراق 6 سنوات وعاد ليسكن فيه. أما الطابق السفلي فكنت أجهزه لابني زياد لأزوجه فيه. اشتريت له غرفة النوم ولكني لم أجد له عروساً بعد. وأين سأجدها الآن فحتى الفلوس التي احتفظت بها وهي ثمانية آلاف دينار لأزوجه فيها وأذهب للحج بما يتبقى منها احترقت مع الأثاث. احترقت الفلوس واحترق الذهب فلو قالوا لنا خذوا ذهبكم معكم لكنت أخذته ولكنهم قالوا اتركوا كل شيء وراءكم ولا تأخذوا شيئاً معكم. عندما عدنا قلت للأولاد ربما الجنود سرقوهم فقالوا لا بل احترقوا مع كل شيء أو دفنوا تحت الأنقاض.

وبعد جولة بين الدمار عادت أم فايز لتجلس على عتبة منزلها. في النهار تقضي يومها تطبخ لنفسها ولزوجها، وتحرس القليل الباقي الذي وُضع في خيمة تبرعت لهما بها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين. وعندما يحل الليل يذهبان عند أقاربهما، إذ لا يجرؤان على النوم في الخيمة خوفاً من أن تنهار عليهما وهما نائمان. أما الأولاد فتبعثر بعضهم عند الأقارب أو الأصدقاء، ومنهم من يبحث له عن منزل يؤويه وأولاده.

كانت درجة الدمار التي لحقت بالمباني متفاوتة، إذ كان في الإمكان تفقّد بعضها بمختلف طبقاته، وبعضها الآخر دُمّرت السلالم المؤدية إلى طبقاته العليا، لكن كان في الإمكان رؤية ما جرى في داخله عبر المباني المجاورة. وهكذا تفقّد، على سبيل المثال، محمد زيارة منزله ومنازل أشقائه الذين كانوا يسكنون في المبنى نفسه، وذلك عبر الفجوات التي خلفتها الانفجارات في جدران بيته وبيت جاره. نظر محمد من بعيد إلى داخل المنازل من دون أن يستطيع الوصول إليها: جدران واقفة وما بينها منهار ... أجهزة تلفزة متفحمة أو اخترقها الرصاص... وحتى "المزهرية" الزجاجية انصهرت وعادت إلى حالتها الأولية... أنابيب المياه ما زالت تنقط، ومصباح إحدى الغرف لا يزال مشتعلاً بمعجزة. ومن المعجزات أيضاً أن دالية العنب على السطح ما زالت ممتدة وأوراقها خُضراً، وقفص الأرانب ما زال في مكانه لكن من دون حياة فيه. أما على واجهة البناية فعُلِّقت لافتة كتب عليها "ممنوع الاقتراب - خطر. جمعية المهندسين".

لم يكن هناك أحد في حي التفاح ليشهد عما حدث خلال اثنتي عشرة ساعة. لكن مركز غزة للحقوق والقانون الذي قام بتوثيق العمليات العسكرية التي من هذا النوع، أورد الوصف التالي لسير العمليات بناء على ما خبره في مناطق أُخرى:

في المرحلة الأولى تقوم القوات الإسرائيلية بإطلاق نيران الأسلحة الأوتوماتيكية ويصاحب ذلك إطلاق النار من الرشاشات الثقيلة وبإلقاء القنابل اليدوية ويتم قصف المنازل المستهدفة بالقذائف المضادة للدبابات. وتتراوح الأضرار المادية للمنازل في هذه المرحلة بين التدمير الكامل للجدران والأرضيات والأسقف إلى فتحات بأحجام مختلفة في الجدران وتصدعات وتكون آثار إطلاق الرصاص واضحة على الجدران في كل المنازل. وفي المرحلة الثانية يدخل الجنود إلى المنازل وفي أغلب العمليات يتحركون من غرفة إلى أُخرى وهم يطلقون الذخيرة الحية على كل الأماكن التي يعتقد بإمكانية اختباء أشخاص فيها: الخزانات والأسرّة وأماكن التخزين وخلف البواب... وخلال هذه المرحلة من العملية يتم قلب الأثاث والمواد التموينية والأغراض المنزلية رأساً على عقب وغالباً ما تطلق عليها النيران. نفس الأمر يتم مع الأغراض الشخصية مثل الصور والكتب ولعب الأطفال وأجهزة التلفزيون والراديو والعديد من الأغراض المذكورة يتم تقطيعها بالسكاكين. 

وأضاف تقرير المركز في شأن العملية التي تمت في حيّ التفاح:

إن الدمار للمنازل كان مروعاً وباستثناء الهجوم الواسع النطاق الذي وقع في خان يونس بتاريخ 11 شباط (فبراير) 1993 فإنه الهجوم الأول الذي يستخدم فيه الديناميت على هذا النطاق الواسع في حي التفاح حيث تم تدمير 22 شقة بواسطة الديناميت ونتيجة ذلك فإن عشرين عائلة يزيد عدد أفرادها عن مئة تُركوا دون مأوى. ويبدو أن الحرق الشديد نتج عن استخدام مواد حارقة حيث أن النيران في بعض المنازل كانت شديدة لدرجة أن الأواني الزجاجية انصهرت (...) كما منعت القوات الإسرائيلية عربات الإطفاء من الدخول لإطفاء الحرائق الناجمة عن الهجوم العسكري.

وعلى جدران معظم المباني كُتبت عبارات تخليد لشاب أطلق بعض الكتابات عليه "الرقيب" زكريا الشوربجي. وعلى جدار في حديقة محمد الشرفا، غطته بقع قاتمة قال سكان الحي عنها إنها بقايا دماء، كُتب بالدهان الأحمر: "هنا مكان استشهاد أسد المقاومة أبو يحيى - زكريا الشوربجي في اشتباك مسلح - دمك طاهر أيها الرقيب". ووُقّعت بتوقيع "كتائب عز الدين القسام"، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس.

لم يعلم أحد كيف قتل زكريا الذي قال عنه أحد من عرفوه في سجون الاحتلال سنة 1988، عندما تحول من ناطق باسم الجهاد الإسلامي في المعتقل إلى ناطق باسم حماس، إنه كان مطلوباً من سلطات الاحتلال منذ ستة أشهر فقط، ومنذ ذلك الحين أصبح يتجول مسلحاً متنقلاً من مخبأ إلى آخر. وهو أصلاً من مخيم جباليا للاجئين، وكان يزور أقارب له في حي التفاح ويختبىء عندهم.

أما بيان الجيش الإسرائيلي الذي نُشر في تلك الليلة، فجاء فيه أن القوات الإسرائيلية ألقت القبض خلال خروج السكان من منازلهم على مطلوبين هما: المعتصم جهاد سليمان المغاري من حركة فتح، وربيع زيدان الحواجري من الجهاد الإسلامي، وأن كليهما كان مسلحاً. وأضاف البيان أن "عدة طلقات أُطلقت على الجنود بعد عدة ساعات وخلال قيامهم بتفتيش المنازل فاقتحم الجنود المبنى وعندما استمر إطلاق النار ردوا على مصادرها فقتلوا زكريا الشوربجي وهو عضو بارز في حماس وقام بعدة هجمات على الجيش الإسرائيلي ووجد رشاش من نوع كلاشينكوف بجوار جثته."

وذكر مركز غزة للحقوق والقانون، في تقاريره عن العمليات العسكرية التي من هذا النوع منذ بداية هذه السنة، أن الجيش الإسرائيلي شن هجمات في كانون الثاني/يناير من هذه السنة، تم خلالها تدمير منازل 44 أُسرة، واعتقل خلالها شخصان يعتقد أنهما "مطلوبان"، إضافة إلى اثني عشر شخصاً آخر. وقتل شخص مسن (60 عاماً) خلال هذه العمليات قالت مصادر فلسطينية إنه كان يعاني الطرش ولم يسمع صراخ الجنود، وقال الجيش الإسرائيلي أنه يحقق في مقتله.

وقامت القوات الإسرائيلية بهجمتين من هذا النوع، في شباط/فبراير الماضي، تم خلالهما تدمير اثني عشر منزلاً، وأُصيب 16 منزلاً بأضرار بالغة، واعتقل ثلاثة من السكان الذي أخلوا منازلهم، إضافة إلى اثنين من "المطلوبين" لم يكونا مسلحين.

وجرت ثماني عمليات من هذا النوع، في آذار/مارس الماضي، تم خلالها تدمير أحد عشر منزلاً، وأُصيب 26 منزلاً آخر بأضرار تراوحت بين تحطيم أثاث وإطلاق النار عليه، وبين تصدعات بالغة في الجدران والسقوف. وأعلنت السلطات العسكرية اعتقال أربعة أشخاص خلالها، قالت إنهم استسلموا بعد أن أطلقت القذائف على منزل كانوا فيه. كما جرى اعتقال تسعة آخرين، قالت إنهم قدموا العون للمطلوبين.

وقالت مصادر عسكرية في حينه إنه في إحدى هذه العمليات التي جرت في دير البلح، في آذار/مارس، وتم خلالها اعتقال الأشخاص الأربعة، تم العثور على مخبأ للأسلحة وُجد فيه بندقيتان من نوع م - 16، وبندقية من نوع كلاشينكوف، ورشاش من نوع كارل غوستاف، وثلاثة مسدسات، وثلاث قنابل يدوية، وكمية من المتفجرات.(1)

وأمام هذه الحصيلة من الأضرار والدمار نتيجة هذه العمليات، و "النجاح" المحدود الذي تحققه القوات الإسرائيلية في كل مرة في حربها ضد "مطلوبين"، محاولة إلقاء القبض عليهم في حالات نادرة، أو القضاء عليهم في أغلب الحالات، فإن التساؤل الذي يطرحه حقوقيون ومعنيون بحقوق الإنسان هو: إلى أي حد يمكن أن تذهب إسرائيل في إنزال العقوبات الجماعية بسكان مدنيين يفترض، بحسب اتفاقية جنيف الرابعة، أن يكونوا تحت الحماية في محاولتها إلقاء القبض على أشخاص مطلوبين، ولا سيما أن الضغوط التي تمارس على السكان امتدت من ممارسة الضغوط على عائلة المطلوب إلى المسّ بالمجتمع كله؟

في شباط/فبراير الماضي، دافع رئيس أركان الجيش الإسرائيلي عن سياسة تدمير المنازل، التي يُعتقد بوجود "مطلوبين" فيها بواسطة الصواريخ المضادة للدبابات، قائلاً إن هذا الأسلوب مبرر إذا كان يخلق وضعاً يرفض فيه بعض الفلسطينيين تقديم المأوى لمطلوبين، أو يوافق فارون على الخروج من مخابئهم من دون مقاومة.(2)

وعندما بدأ الجيش الإسرائيلي استخدام هذا الأسلوب في السنة الماضية، أورد أحد العسكريين الإسرائيليين في منطقة غزة التبرير التالي: "... قتل الرقيب دورون ديريزي خلال اقتحام مبنى في خان يونس كان إرهابيون مسلحون يختبئون فيه. ومنذ ذلك الحين قررنا عدم اقتحام المباني كي لا نعرض حياة جنودنا، أو حياة المدنيين في هذه المباني، للخطر. إذ إن أي إرهابي يختبئ في منزل يتفوق علينا في معرفة المبنى من الداخل أكثر منا." وتابع الضابط الإسرائيلي: "نحن لا نعاقب السكان، لكن علينا أن نتذكر أن قسماً من هؤلاء السكان يقدم العون للإرهابيين عبر تقديم المخبأ لهم. وعندما يتم تدمير ممتلكات أبرياء فإنهم يتلقون تعويضاً من الإدارة المدنية."(3)

لكن المحامي راجي الصوراني، الذي يمثل مركزه 90% من العائلات التي تضررت خلال هجوم حي التفاح، قدم شكوى مكتوبة إلى السلطات الإسرائيلية يطالب فيها بإجراء تحقيق في الأضرار والخسائر والمفقودات، وتعويض العائلات المتضررة بسبب الهجوم. وقال الصوراني: "إن ما جاء في رد المدعي العسكري للمنطقة الجنوبية هو أن الجنود تصرفوا بشكل قانوني وأن لا حاجة لإجراء تحقيق وأن على السكان التوجه إلى الضابط المسؤول عن التعويضات في الإدارة المدنية." وتابع المحامي الغزي، في تحليله لقانونية هذا الرد: "إن السلطات تعتبر موضوع التعويضات كعمل خيري تمنحه للفلسطينيين وليس كحق قانوني ذلك أن اعتباره حقاً يتطلب منها الاعتراف بمسؤولياتها عن الأضرار الحاصلة وهي تنفي هذه المسؤولية. وإذا كان (رئيس الأركان) باراك يتحدث عن تعويض أشخاص لا علاقة لهم بمسلحين فكيف بالإمكان إثبات وجود هذه العلاقة أو نفيها؟."

وتحت تبريرات "الضرورة العسكرية"، يلاحَظ أن الهجمات على منازل السكان الفلسطينيين وعلى أحيائهم، بدءاً باستخدام القذائف المضادة للدبابات، وانتهاءً بتدمير المنازل عن طريق استخدام الديناميت بعد التأكد من عدم وجود مطلوبين فيها وبشكل غير مبرر، تشير إلى أن هذه الهجمات ستتواصل، وسيتسع نطاقها في المستقبل. والمثير في استخدام هذا الأسلوب من العقوبات الجماعية هو أنه استُخدم أول مرة في الشهر الأول لتسلم حكومة حزب العمل السلطة بعد نجاحه في الانتخابات البرلمانية في حزيران/يونيو 1992.

 

المصادر:

(1) Jerusalem Post, March 21, 1993.

(2) Ibid., February 10, 1993.

(3) Ibid., November 20, 1992.