بعض التحديات الاستراتيجية العربية
كلمات مفتاحية: 
تسوية النزاعات
ميزان القوى
الأمن الإقليمي
السياسة الأميركية في الشرق الأوسط
نبذة مختصرة: 

يواجه الجانب العربي جملة من التحديات الاستراتيجية البعيدة الأثر، ومن أهمها: تصحيح الخلل في ميزان القوى بين العرب وإسرائيل؛ ضمان الالتزام الأميركي حيال التسوية السياسية؛ تطوير نظام عربي إقليمي جديد؛ تثبيت شرعية المخاوف العربية الأمنية؛ دمج دول الجوار في البنية الأمنية الجديدة؛ ضمان التوازن "الداخلي" في البنية الإقليمية؛ الحفاظ على المصالح العربية غير الأمنية.

النص الكامل: 

بغض النظر عن الوجهة المستقبلية للمفاوضات العربية – الإسرائيلية، ومدى تأثرها بالأحداث الطارئة (مثل نتائج الانتخابات الإسرائيلية والأميركية)، يمكن القول إن الجانب العربي كان، ولا يزال، يواجه جملة من التحديات الاستراتيجية البعيدة الأثر، والضاغطة على طيف عريض من الخيارات والمواقف العربية السياسية والتفاوضية. وإذا كان من الصعب تحديد ملامح الرد العربي المحتمل على هذه التحديات، أو كيفية معالجتها ضمن الإطار العام لعملية السلام، فإنه يبقى من المهم بمكان محاولة تشخيص طبيعة المأزق الاستراتيجي العربي وتحليل مكوناته. ويبدو بعض أهم هذه التحديات على النحو التالي:

(1)  تصحيح الخلل

        في ميزان القوى بين العرب وإسرائيل

              من البديهي أن تعكس نتائج أية مفاوضات، بالضرورة، ميزان القوى القائم بين الأطراف المتفاوضة. وضمن الأوضاع الحالية والمرئية، من الواضح أن ميزان القوى الإقليمي يرجح إلى مصلحة إسرائيل، لا بسبب تفوقها العسكري النوعي على أي طرف أو تكتل عربي فحسب، بل نتيجة واقع الأمر على الأرض. وبكلام آخر: تدور المفاوضات في وضع يحاول فيه الجانب الأضعف في المعادلة دفع الجانب الأقوى نحو التخلي عن شيء مادي وملموس (أي الأرض العربية المحتلة) في مقابل التزامات معنوية وسياسية يصعب تقدير صلابتها ومدى ديمومتها، بحسب وجهة النظر الإسرائيلية. هكذا، فالجانب العربي ليس قادراً على فرض انسحاب إسرائيل بقوته العسكرية الذاتية، أو عبر التلويح بما هو "أسوأ" في حال عدم تجاوب إسرائيل مع المطالب العربية كما أنه لم يجد، حتى الآن، وسيلة كفيلة بـ"إقناع" إسرائيل بمبادلة الأرض بالسلام، إنْ كان ذلك عبر أدوات الضغط السياسية، أو الدبلوماسية المعهودة، أو أساليب العمل غير المباشر – مثل الانتفاضة والمقاومة المسلحة.

من هنا، يمكن القول إن أحد أهم التحديات الاستراتيجية العربية هو كيفية ترجمة الخلل في ميزان القوى مع إسرائيل إلى مكاسب سياسية حقيقية، من خلال المفاوضات. وضمن الأوضاع القائمة والمرئية، تبدو الخيارات العربية في التعامل مع هذا التحدي محدودة في الأحوال كافة. فالخيار التقليدي للطرف الأضعف، في مثل هذه المعادلة، هو العمل على جذب قوة خارجية قادرة ومستعدة للضغط على الخصم المباشر، وبالتالي ردم الخلل في ميزان القوى وتصحيحه. لكن، وبعد زوال الاتحاد السوفياتي (الحليف "الطبيعي" السابق للعرب، على الرغم من محدودياته)، فإن القوة الخارجية الوحيدة المرشحة لمثل هذا الدور، أي الولايات المتحدة، غير مستعدة أو معنية بتصحيح ميزان القوى لمصلحة الجانب العربي، بل إنها ملتزمة من حيث المبدأ، ومنذ أعوام عديدة، "ضمان التفوق النوعي الإسرائيلي" الذي يشكل أساس الخلل. والأكثر من ذلك، أن النظرة الأميركية السائدة تفيد بأن هذا الخلل بالذات هو من أهم ما يدفع الجانب العربي إلى طاولة المفاوضات؛ فمن دون "الخلل"، يصبح لدى الجانب العربي "أوهام" أنه يمكن اللجوء إلى خيارات أخرى ترى الولايات المتحدة فيها خطراً على إسرائيل، وعلى فرص السلام والاستقرار في المنطقة بصورة عامة.

يستتبع هذا، أن تصحيح الخلل لن يتم على يد الولايات المتحدة في وقت ليست هنالك أية احتمالات لقيام قوة عربية ذاتية، أو كتلة خارجية أخرى قادرة على ضبط الوضع الاستراتيجي لمصلحة الجانب العربي. وتبقى الولايات المتحدة – مهما تكن هوية الإدارة في واشنطن – غير معنية بـ"تسليم" إسرائيل قسراً للجانب العربي، تعويضاً من عجز العرب عن تحقيق أهدافهم بأنفسهم. وعلى الرغم من أن الموقف الأميركي يبدو أقرب إلى الحد الأدنى المقبول عربياً مما هو إلى المواقف التي اتخذتها إسرائيل حتى الآن، فإن احتمالات الضغط الأميركي المستقبلي على الأطراف العربية ليست، بالضرورة، أقل من احتمالات الضغط على إسرائيل. ومن شأن أي "لين" إسرائيلي في الجلسات التفاوضية المقبلة أن يزيد في حافز الولايات المتحدة على دفع العرب نحو تنازلات جديدة. كما أن التشدد الإسرائيلي المستمر – وللمفارقة – قد يؤدي إلى النتيجة نفسها، باعتبار أن الولايات المتحدة قد ترى أنه "لن يمكن الحصول على ما هو أفضل"، من الإسرائيليين، في مثل هذه الحال.

هكذا، يتضح أن التناغم العربي – الأميركي، وإنْ كان لا بد منه من أجل دفع عجلة السلام إلى الأمام، قد لا يشكل أكثر من وسيلة للتضييق على هوامش المبادرة الإسرائيلية في المديين القريب والوسيط على الأقل. وهذا يدفع إلى اعتبار الدور الأميركي – في أفضل الحالات – بمثابة أداة لوضع سقف للتجاوزات الإسرائيلية وللتطرف الإسرائيلي، ضمن الإطار العام المبدئي للسياسة الأميركية في المنطقة، أي الأرض في مقابل السلام. وتبقى تفصيلات هذه "المبادلة" عرضة للخلل في ميزان القوى، وخاضعة له.

أما في المدى الأبعد، فإن أهمية الخلل في ميزان القوى قد تتآكل، في حال التوصل إلى اتفاقية سلام شاملة ودائمة بين العرب وإسرائيل. وضمن سلسلة الترتيبات الأمنية المرتقبة المنبثقة من معاهدات السلام (الحد من التسلح، إجراءات تحقق، انتشار قوات أمن دولية، إلخ)، فإن دور القوة العسكرية وأهميتها مرشحان للتضاؤل. كما أن احتمالات اللجوء إلى القوة للأغراض الهجومية أو التوسعية، أو لقلب الأوضاع السياسية القائمة، ستصبح محدودة للغاية وشبه محظورة، باعتبار أن التزام السلام يعني بالذات نبذ القوة كوسيلة لفضّ النزاعات بين الأطراف المعنية. هكذا، فإن السلام – إنْ تحقق – قد يشكل سبيلاً لتحييد قدرة إسرائيل على استغلال تفوقها العسكري النوعي والخلل في ميزان القوى الناجم عنه، وإنْ كان من غير الضروري أن يؤدي ذلك إلى بروز خيار عسكري عربي مصداقي في المقابل. فحالة السلام ستفترض لا إلغاء احتمالات العمل العسكري العربي وحدها، بل العمل العسكري الإسرائيلي أيضاً، وبالتالي قيام "توازن" جديد بين الطرفين بعيداً عن النماذج المستمدة من حالة الحرب السائدة في المنطقة حتى الآن.

(2) ضمان الالتزام الأميركي

      حيال عملية السلام

              مهما تكن محدوديات الدور الأميركي من وجهة النظر العربية، فهناك إدراك عربي عام أن الحفاظ على هذا الدور حيوي لدعم فرص السلام، ولإبقاء المجال مفتوحاً أمام إمكان تحقيق الحد الأدنى المقبول من الأهداف العربية المرجوة من التسوية. وإذا كان الجانب العربي (في ظل الخلل في ميزان القوى) غير قادر على تحقيق أهدافه، اعتماداً على قدراته الذاتية، فإن أحد التحديات الاستراتيجية الأساسية التي يواجهها، يكمن في ضمان التزام المشاركة والرعاية الأميركية المستمرة والفعالة للمفاوضات، وعدم تحولها إلى مجرد وجود رمزي وهامد، أو حتى خروج أميركا من مسار التسوية كلياً في أسوأ الحالات.

              ويمكن القول إن الاهتمام الأميركي الراهن بفضّ النزاع العربي – الإسرائيلي قد جاء نتيجة مباشرة لاندثار "الخطر السوفياتي"، وبالتالي زوال الجمود الناجم عن التنافس المزمن بين القوتين العظميين – ووكلائهما المحليين – في شأن مناطق النفوذ في المنطقة. فمن فتح الطريق أمام الرعاية الأميركية المباشرة لعملية التسوية، وهندستها بما يتوافق مع التطلعات والمصالح الأميركية والغربية عامة، وعقب "نافذة الفرصة" المرئية بعد حرب الخليج، نشطت الدبلوماسية الأميركية نشاطاً لا سابق له من أجل بدء المفاوضات، وضمان شموليتها، وتثبيت أطرها التنظيمية والإجرائية. كما تبلورت مواقف أميركية عملية تجاه أطراف النزاع، كشفت عن نية وجدية غير معهودتين من أجل الوصول إلى حل للنزاع. غير أنه على هذه الخلفية نفسها برز استقرار جديد في الوضع الإقليمي، من وجهة النظر الأميركية. وكان من نتائج ذوبان "الخطر السوفياتي" والحرب ضد العراق، تراجع التهديدات الفعلية والمفترضة للمصالح الأميركية الحيوية. فالإمدادات النفطية (وأسعارها) لا تبدو أنها مواجهة بأخطار حقيقية في الأوضاع الحالية والمرئية؛ وأمن إسرائيل الاستراتيجي يبدو مضموناً إلى أمد غير مسمى؛ وعلاقات أميركا بالدول العربية دخلت عهداً جديداً من التفاهم والتناغم أو، في أسوأ الحالات، الاستعداد للتعايش والبحث عن المصلحة المشتركة.

              وعلى الرغم من الإدراك الأميركي لاحتمالات التحول السريع في الوضع العربي، والمشكلات الاقتصادية والاجتماعية الكامنة داخل أكثرية الدول العربية، وبغض النظر عما قد يبدو أنه خطر جديد من قِبَل الحركات الإسلامية الأصولية، فإن مدى القلق الأميركي الفعلي إزاء تفاعلات المنطقة وتقلباتها قد لا يكون عميقاً ضمن الأوضاع السائدة. وهذا، بدوره، قد ينعكس على مدى الاستعداد الأميركي للمضي في البحث عن تسوية للنزاع العربي – الإسرائيلي، وخصوصاً إذا تبين أن المجهود الأميركي المطلوب في هذا المجال لا يوازي المردود المحتمل، أو أن الحل ما زال غير "ناضج" نتيجة عدم قدرة أو استعداد الأطراف لتقديم المساومات اللازمة لإبرامه.

ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن السياسة الخارجية الأميركية مواجهة بتحديات قاسية في مجالات أخرى حيوية (بل أكثر حيوية من الناحية الاستراتيجية)، وعلى رأسها مسألة التعامل مع الذيول المستمرة لتفكك الاتحاد السوفياتي في الساحتين الأوروبية والآسيوية، والمشكلات الناجمة عن التنافس الاقتصادي بين أميركا واليابان وأوروبا الغربية، إضافة إلى الضغوط الانعزالية المتزايدة داخل الولايات المتحدة نفسها نتيجة ضعف الاقتصاد الأميركي وآثار ذلك في حرية عمل أية إدارة أميركية في تخصيص الوقت والموارد للقضايا الخارجية. والواقع أن إمكان تهميش منطقة الشرق الأوسط في الرؤية الأميركية الاستراتيجية إمكان وارد، لا لأن مصادر التهديد فيها لم تعد واضحة الملامح أو ملحّة من وجهة النظر الأميركية فحسب، بل أيضاً لأن هنالك مناطق ومجالات أخرى قد تفرض نفسها على رأس جدول الأعمال الأميركي المزدحم في كل الأحوال. والمفارقة هنا تكمن في أنه إذا كان تراجع مصادر التهديد هو الذي حرّك الاهتمام الأميركي بإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، فإن غياب مثل هذا التهديد قد يؤدي بالمقدار نفسه إلى "اطمئنان" أميركا حيال إمكان التعايش مع استمرار هذا الصراع في ظل تفاقم الأزمات الدولية الأخرى.

              أما الخيارات العربية في مواجهة هذا الوضع فتبدو، هنا أيضاً، محدودة. فخيار "تصعيد التهديد" يبدو متناقضاً مع إحدى ركائز السياسة العربية الحالية، والقائمة على ضمان حسن النية الأميركية حيال المطالب العربية. كما أن التلويح "بما هو أسوأ" – أي انهيار الوضع العربي تحت وطأة المدّ الأصولي مثلاً – يفتقر إلى المصداقية في الرؤية الأميركية، إضافة إلى كون الدول العربية هي المعنية أساساً بالتصدي لهذا المدّ. أما التسريع المبرح في عملية التسوية فقد يؤدي إلى التنازلات غير المحسوبة، أو غير الضرورية، للجانب الإسرائيلي على حساب المصلحة العربية العامة. والمراوغة والتعطيل العربيان، في المقابل، يثيران خطر الاصطدام مع أميركا، أو فسح المجال أمام إسرائيل للاستمرار في خلق "الحقائق" على الأرض، الذي سيصعب عكسها في مراحل لاحقة.

              الواقع أن مسألة حسن استغلال "نافذة الفرصة"، لإيجاد تسوية، تنطبق على الجانب العربي بقدر ما تنطبق على الرؤية الأميركية لأوضاع المنطقة. فالإدارة الحذرة والمحكمة لعامل الوقت تتطلب قراءة عربية صحيحة لآفاق الاهتمام الأميركي بالمنطقة، كما تتطلب قراءة صحيحة لطبيعة العلاقات الأميركية – العربية، ووجهاتها المحتملة والممكنة. فإذا كانت السياسات العربية غير مستعدة للانضواء تحت المظلة الأميركية العامة، يصبح من الضروري تحديد مدى الاستعداد العربي الفعلي للمضي في عملية السلام التي ترعاها أميركا من دون سواها. أما إذا كان هنالك استعداد للرهان على الموقف الأميركي، فمن الحيوي إدراك معنى ذلك ومستلزماته، حتى لو كان في ذلك تراجع عن التقويم العربي التقليدي لدور أميركا في المنطقة كطرف معاد ومنحاز إلى الجانب الآخر انحيازاً كلياً.

(3) تطوير نظام عربي إقليمي جديد

              أدت حرب الخليج إلى تصدّع النظام الإقليمي العربي القائم منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإنْ كان هذا النظام قد كشف عن هشاشة وضعف مزمنين خلال العقود الماضية. وأمام احتمالات السلام من جهة، أو احتمالات تعثر وانهيار عملية التسوية من جهة أخرى، وفي ظل بروز دور القوى الإقليمية غير العربية وأهميتها، ومع انحسار التيارات القومية العربية وإفرازاتها المختلفة وصعود الوجهات القطرية والكتل المحلية، فإن مسألة إحياء النظام العربي الإقليمي تشكل أحد التحديات العربية الاستراتيجية المركزية.

              وتكمن أهمية النظام الإقليمي العربي في أنه يشكل، من حيث المبدأ على الأقل، أداة لضغط وتصحيح العلاقات العربية – العربية، والحد بالتالي من فرص الصراعات العربية الأهلية أو التدخلات الخارجية في الشأن العربي الداخلي. والسؤال الأكبر هو ما إذا بات هذا النظام، الذي لا يزال يعتمد في الأساس على جامعة الدول العربية وميثاقها، قادراً على استيعاب تحديات المستقبل أو مرشحاً للتطور في هذا الاتجاه، أم أن الأجدر إيجاد إطار آخر أكثر فعالية وملاءمة للأهداف المرجوة منه؟ لن نحاول هنا الإجابة عن هذا السؤال مباشرة، غير أنه يمكن تفحص بعض الانعكاسات المحتملة لعملية السلام على النظام الإقليمي العربي المستقبلي.

              إن إحدى القضايا الأساسية المطروحة، في هذا المجال، هي كيف سيتم الدمج ما بين متطلبات ومستجدات البنية الإقليمية المتوقع نشوؤها، في حال فضّ النزاع مع إسرائيل، وبين النظام الإقليمي العربي المستقبلي، وماذا ستكون آثار المعاهدات الأمنية الثنائية والمتعددة الأطراف، التي لا بد من أن تكون جزءاً مركزياً من الترتيبات الأمنية الجديدة، في الوضع العربي – العربي. فعلى سبيل المثال، من الأرجح أن يكون أحد المطالب الإسرائيلية الأساسية أن تسقط جامعة الدول العربية من ميثاقها بنود معاهدة الدفاع العربي المشترك التي قد تفسر بأنها تمنح شرعية للعمل العربي العسكري ضد الدولة العبرية، وبحيث لا تتعارض أية معاهدات عربية مشتركة، قائمة أو محتملة، مع اتفاقيات السلام مع إسرائيل. لكن، إذا كان من البديهي أن تسعى إسرائيل للحيلولة دون إمكان إحياء الخيار العسكري العربي ضدها، فإن إخضاع التحركات العسكرية والمصالح الأمنية العربية للرقابة أو للموافقة الإسرائيلية قد يشكل إشكالاً حقيقياً في أكثر من حالة: أولاً، في حال بروز خلاف عربي – أجنبي (مع إيران أو تركيا مثلاً)؛  ثانياً، في حال الموافقة  العربية على حق دولة ما في نشر قواتها على أراضي دولة أخرى؛ ثالثاً، في حال إرسال قوات تدخل أو قوات "حفظ سلام" عربية إلى دولة شقيقة (في مواجهة وضع كالاجتياح العراقي للكويت مثلاً).

              هكذا، فالمشكلة هي أن اتفاقيات السلام قد تفرض مشاركة إسرائيلية، مباشرة أو غير مباشرة، في قضايا كانت تُعتبر حتى الآن من صميم أعمال النظام الإقليمي العربي وأهدافه. بل إن إحدى ركائز هذا النظام – على محدودياته – كانت مواجهة إسرائيل والتصدي لها (من خلال المقاطعة الاقتصادية مثلاً)، لا العكس. من هنا، يبدو أن التفكير في مستقبل النظام الإقليمي يتطلب توضيحاً أكبر لوضع ومكانة إسرائيل ضمن البيئة الاستراتيجية العربية، وكيفية التعامل معها، ومدى الاستعداد العربي للتكيف إزاء متطلباتها الأمنية المتشددة والواسعة النطاق، من دون الحد من حرية العمل والحقوق العربية الجماعية في المقابل.

ولا تقتصر مسألة تطوير النظام الإقليمي العربي الجديد على تحديد الموقع الإسرائيلي فيها، في حال التوصل إلى فضّ النزاع العربي – الإسرائيلي. فعملية التعاون والاندماج الاقتصادي (إقامة سوق عربية مشتركة مثلاً)، وإيجاد سبل الربط ما بين التجمعات القطرية في المشرق والخليج وشمال أفريقيا وحوض النيل، تتجاوز قضية الدور الإسرائيلي وتبقى مطروحة حتى في حال فشل مسيرة السلام الحالية. كما أن علاقة النظام الإقليمي العربي بالأنظمة الإقليمية والمؤسسات الدولية الأخرى، مثلاً الأمم المتحدة وأوروبا الموحدة اللتين من شأنهما أن تقوما بدور متزايد الأهمية في المرحلة المقبلة، هي من التحديات المستقبلية التي ستواجه الجانب العربي في كل الأحوال. لكنْ يبقى أن مقتضيات عملية السلام قد تفرض على العرب مراجعة جدية لمفهوم النظام الإقليمي العربي، ولما يمكن تحقيقه من خلاله.

(4) تثبيت شرعية المخاوف العربية الأمنية

              لقد نجحت إسرائيل، إلى حد بعيد، في اختطاف المسألة الأمنية وإبرازها أنها قضية تخص الدولة العبرية من دون سواها في المنطقة. هكذا، فقد تقبّل المجتمع الدولي بصورة عامة الطرح القائل إن رعاية "المخاوف الأمنية الإسرائيلية" هي أحد المفاتيح اللازمة للحل، يوازيها في الطرف الآخر الاعتراف بالحقوق الفلسطينية والعربية المشروعة. لكن الواقع إن المخاوف الأمنية العربية عميقة ومتجذرة ومحقة، وتاريخ الصراع منذ سنة 1948 يدل على أن "ميزان الأمن" (أي تكلفة الحرب والدمار) يميل ميلاً حاداً إلى الطرف العربي نتيجة استخدام إسرائيل المتكرر للعنف والقوة من أجل تحقيق أهدافها السياسية والإقليمية.

              والتحدي العربي هنا هو إيجاد الوسيلة الملائمة لتفسير المخاوف الأمنية العربية وإقناع المجتمع الدولي بها، بما في ذلك الوصول – قدر الإمكان – إلى الإسرائيليين أنفسهم لإقناعهم بأن لهذه المخاوف ما يبررها. ولا تقتصر الغاية من ذلك على الجانب الإعلامي أو المعنوي أو إحراز النقاط في الجدل القائم في هذا المجال، بل انتزاع اعتراف كل الأطراف المعنية بأن التعامل مع المسألة الأمنية يجب أن يكون متوازياً ومتبادلاً لتحقيق الحد الأدنى من التكافؤ، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار في أي حل للنزاع.

              ويكمن الخطر في أن تكريس الرؤية الدولية بأن للمصالح الأمنية الإسرائيلية مكانة خاصة ومتميزة، قد يدفع في اتجاه تكريس "الحقوق الأمنية الإسرائيلية على حساب الحقوق العربية المثيلة في أية اتفاقيات محتملة في هذا المجال.. وهذا، بدوره، يعني أن القيود المفروضة على الجانب العربي ستكون أقصى وأوسع نطاقاً من القيود المفروضة على إسرائيل، بناء على افتراض أن "النية العدوانية" حكر للعرب. وإذا ما عدنا إلى مسألة تصحيح الخلل في ميزان القوى، واحتمال كون معاهدات السلام أداة لذلك، فإنه يبدو أن الخطوة الأولى المطلوبة هنا هي تثبيت مبدأ "التماثل في المخاوف" (على الرغم من التحفظات العربية بشأن مشروعية المخاوف الإسرائيلية)، حتى لو لم يتطلب ذلك تماثلاً ميدانياً كاملاً بالنسبة إلى الترتيبات الأمنية المرتقبة كافة. وبكلام آخر: قد لا يكون من الضروري قيام المناطق المنزوعة من السلاح بالعمق والاتساع أنفسهما، على امتداد الحدود بين إسرائيل والدول المجاورة. غير أن من الضروري ألاّ يتم تحديد مثل هذه المناطق في الجانب العربي وحده. وكذلك قد يكون في الإمكان مبادلة التنازلات العسكرية/ الأمنية في حقل ما، في مقابل التنازلات المقابلة في مجالات مختلفة: أي، مثلاً، الحد من استحصالات صواريخ أرض – أرض العربية في مقابل سقف على استحصالات الطائرات الهجومية الإسرائيلية.

والواقع أن من دون التركيز على تثقيف للمجتمعين الدولي والإسرائيلي بشأن جدارة المخاوف الأمنية العربية، قد تتجه الأمور أكثر فأكثر نحو عملية تجريد العرب من السلاح من طرف واحد. ويدل بعض التطورات الأخيرة، مثل "القلق" الإسرائيلي والأميركي حيال برامج التسلح السورية الجارية، على أن وجهة ضبط السلاح في المنطقة تبدو أنها منصبّة على الجانب العربي فقط، وأن هذه الوجهة مرشحة للتصعيد والتسارع في المستقبل. وإذا كان إبراز الحجة الأمنية العربية غير كفيل، في حد ذاته، للتصدي لمثل هذه التوجهات (التي تحركها اعتبارات أخرى في كل الأحوال)، فإن غياب أية محاولة جادة لتوضيح حقيقة المخاوف الأمنية العربية يساهم، في المقابل، في تسهيل السبيل أمام الطرف الآخر لتحقيق أهدافه.

(5)  دمج دول الجوار

       في البنية الأمنية الإقليمية الجديدة

              إن قيام بنية إقليمية جديدة هو من الشروط اللازمة لإنهاء الصراع العربي – الإسرائيلي، وضمان استقرار المنطقة في المدى البعيد. لكن هناك مشكلة رئيسية تنبع من صعوبة إنشاء مثل هذه البنية، من دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح ومخاوف القوى الإقليمية الكبرى الأخرى، وخصوصاً تركيا وإيران، التي لا تؤدي دوراً مباشراً في ساحة الصراع العربي – الإسرائيلي. وبكلام آخر، وضمن تقاطع وتشابك المصالح والخلافات في المنطقة، سيكون من الصعب بمكان فصل الصراع العربي – الإسرائيلي عن دائرة التوترات الإقليمية الأوسع، أو عزله عنها. فهل سيكون في الإمكان تطبيق اتفاقيات للحد من الأسلحة مثلاً بين العرب وإسرائيل، في وقت تتنامى القدرات العسكرية التركية والإيرانية؟ وإلى أي مدى يمكن الإصرار على منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في الساحة العربية – الإسرائيلية، في ضوء البرامج النووية الإيرانية والباكستانية؟ وماذا بالنسبة إلى احتمال بروز الجمهوريات الآسيوية الإسلامية كقوى نووية فعالة على أطراف منطقة الشرق الأوسط؟

              وما يزيد في تعقيد هذه المشكلات أن عملية دمج قوى الجوار في الترتيبات الأمنية الجديدة تتطلب استعداداً مبدئياً للمشاركة السياسية في عملية التسوية من قِبلها من جهة، واستعداداً لتقبل هذه المشاركة من قِبل الجانبين العربي والإسرائيلي من جهة أخرى. وإذا كانت تركيا معنية بذلك إلى حد ما، فإن حدود المشاركة التركية ما زالت مبهمة إلى حد بعيد. كما أن ليس من الواضح أن إيران مرشحة للمشاركة، المباشرة أو غير المباشرة، في مثل هذه العملية حتى الآن. وفي المقابل، فإن الترتيبات الأمنية التي تستثني أياً من هاتين القوتين، أو كلتيهما، قد تبدو أنها استفزاز لها، ومحاولة لضرب طوق أو حصار حولها، الأمر الذي يشكل أرضية خصبة لقيام النزعات والتوترات الإقليمية الجديدة؛ وهذا ما يتناقض مع هدف قيام بنية أمنية إقليمية، في الأساس.

لكن السعي وراء جذب قوى الجوار إلى البنية المرجوة، قد يتناقض مع المصالح العربية – أو الإسرائيلية المرئية. فهل من مصلحة الدول العربية منح إيران أو تركيا "ميزات" أمنية معينة، وهل من مصلحة أي من هاتين القوتين الحد من حرية عملهما في الساحة؟ وهل يمكن التوفيق بين الترتيبات الخاصة بتوجهات إيران أو تركيا العربية والإسرائيلية، وبين توجهاتهما الآسيوية؟ وإلى جانب هذا كله، وعلى افتراض المشاركة الدولية – وعلى رأسها المشاركة الأميركية – الفعالة والملموسة في الترتيبات الأمنية المحلية، هل سيكون في الإمكان الجمع ما بين الاهتمامات والمصالح الأميركية / الدولية، وبين الاهتمامات والمصالح الإيرانية؟

من وجهة النظر العربية، المطلوب إيجاد نوع من التوازن ما بين المصالح الأمنية الحيوية الخاصة بإسرائيل (ضمان انسحابها، لجم تفوقها) وعدم استثارة عداوات جديدة مع دول الجوار أو الانكشاف أمامها من جهة، أو فسح المجال أمام قيامها بالتعطيل على فرص الحل من جهة أخرى. وهنالك إدراك عربي أنه لا يمكن مثلاً النظر إلى مستقبل أمن الخليج بمعزل عن إيران، كما أنه لا يمكن معالجة أزمة المياه الإقليمية من دون المشاركة التركية. لكن، في المقابل، يجب السعي من أجل عدم تحميل البنية الأمنية الإقليمية أكثر مما يمكن أن تستوعب، من دون ترك الثغرات التي قد تستغلها إسرائيل من أجل تقويض الموقف العربي (الإصرار الإسرائيلي، مثلاً، على عدم تقديم التنازلات الأمنية للعرب بحجة "خطر" الجمهوريات الإسلامية الآسيوية عليها)؛ فالبنية الأمنية الإقليمية لا بد من أن يكون لها حدود جغرافية وسياسية وعملية، ولو كانت غير مثالية.

(6)  ضمان التوازن "الداخلي"

في البنية الإقليمية

              بالإضافة إلى ضمان التوازن بين متطلبات الساحة العربية – الإسرائيلية وبين المصالح والمخاوف الأمنية لدول الجوار، فإن أحد التحديات الاستراتيجية العربية هو الحفاظ على توازن عربي "داخلي" كنتيجة لقيام البنية الإقليمية الأمنية الجديدة. وبكلام آخر: إن معالجة المتطلبات الأمنية الإسرائيلية قد ينجم عنها خلل في التوازن بين الأطراف العربية نفسها، بحيث تأتي القيود المفروضة على بلد عربي ما على حساب ميزان القوى القائم بينه وبين الأطراف العربية الأخرى. وفي ظل الخلافات العربية – العربية (غير إفرازات الصراع مع إسرائيل)، فإن إضعاف أحد الأقطار العربية – أو تكتل منها – أمام الأقطار الأخرى قد يساهم في زعزعة الاستقرار المحلي، ويهدد ثبات السلام في المنطقة. كما أنه قد يعزز فرص التدخل الإسرائيلي في النزاعات العربية – العربية، بحجة الحفاظ على الوضع القائم.

              وعلى سبيل المثال، فإن ميزان القوى في المشرق العربي سيتأثر في حال فرض القيود الأمنية القاسية على الأردن، الأمر الذي قد "يندلق" على الوضع الأمني الخليجي ويؤثر فيه. ويمكن القول إن مسألة الميزان العربي الداخلي ترتبط بمدى احتمالات النهوض بنظام عربي إقليمي جديد، يحدد طبيعة العلاقات العربية – العربية، ويثبت وسائل التعامل مع النزاعات العربية الأهلية. غير أن أخطار الاختلال في الميزان العربي تبقى واردة، وهو ما يتطلب تطوير المواقف العربية المشتركة حيال المطالب الأمنية الإسرائيلية، إذا ما كان الهدف الحد من احتمالات هذا الخلل وانعكاساته على الوضع العربي العام.

(7)  الحفاظ على المصالح العربية غير الأمنية

              في حال التوصل إلى تسوية للنزاع العربي – الإسرائيلي، هناك تخوف عربي من ألا تأخذ البنية الكلية للسلام الإقليمي بعين الاعتبار التوازن في المصالح الشاملة بين الطرفين. وبمعنى آخر، وبغض النظر عن الترتيبات الأمنية المرتقبة التي قد تكون في حد ذاتها غير متكافئة، هنالك قلق عربي حقيقي من أن تستغل إسرائيل وضعها الجديد في المنطقة لتوسيع رقعة نفوذها على الصُّعد غير العسكرية، وخصوصاً في المجالين السياسي والاقتصادي. ويذهب بعض التقديرات العربية إلى أن إسرائيل ستسعى لفرض هيمة اقتصادية / تكنولوجية على الأسواق العربية. كما أنها ستجند الأموال الخاصة بها، أو الحليفة لها، بغية التحكم في الموارد العربية واختراق البنى الاقتصادية – الاجتماعية واستغلالها لمصلحتها. ويزيد الخلل، في ميزان القوى، في حدة هذه المخاوف وفي احتمال قيام إسرائيل بمحاولة "إملاء" سياساتها على الأطراف العربية – وخصوصاً الضعيفة منها – من أجل السيطرة وضمان تبعيتها.

من هذا المنظور، فإن الخوف هو من قيام نمط من العلاقات غير المتماثلة بين الطرفين، أساسه الاستغلال الإسرائيلي غير المضبوط للضعف العربي، في أوضاع السلام ومن دون القدرة العربية على التصدي لمثل هذا الوضع بالسبل العسكرية أو السياسية المعهودة. وعلى خلفية الاقتناع العربي الواسع بالأغراض الإسرائيلية التوسعية، ودور إسرائيل كرأس حربة للأطماع الخارجية، يصبح السلام كأنه سيؤدي إلى تعاظم إسرائيل كقوة إقليمية كبرى، وذلك باستبدال التوسع الإقليمي المباشر (أي عبر ضم الأرض) بقوة السلاح، بالتوسع والتغلغل في الأعماق العربية بالوسائل "السلمية" الأخرى.

والواقع أنه لا يمكن الاستخفاف بأهمية وعمق هذا التصور العربي، الذي يعود لينعكس على الرؤية العربية للسلام، بل على مدى المصلحة العربية الفعلية في التوصل إلى حل سلمي مع إسرائيل، في الأساس. وإذا كان في مثل هذا التقويم العربي لفرص إسرائيل في بسط نفوذها وسيطرتها على المنطقة بعض المبالغة، من حيث قدرة إسرائيل عملياً على اختراق الأسواق العربية والتحكم فيها، وإرغام العرب على الانصياع لمشيئتها السياسية، فإن التحدي هنا يكمن في تطوير الرؤية العربية لطبيعة وشكل نسيج العلاقات الاقتصادية – السياسية – الاجتماعية التي قد يفرزها السلام إنْ تحقق. وعلى سبيل المثال، تدل التجربة المصرية على أن قدرة "الاختراق الإسرائيلية محدودة في وجه المناعة العربية الحكومية والشعبية، وأنه يمكن الحد من غايات إسرائيل في هذا المضمار إنْ توفرت الإرادة الكافية لذلك. أما الأطراف العربية الأضعف من مصر، والأكثر انكشافاً أمام إسرائيل فيمكن حمايتها عبر توطيد أطر التعاون العربي – العربي الاقتصادي. كما أنه قد لا يكون من المستحيل توظيف القدرات العربية الاقتصادية لـ"اختراق" إسرائيل نفسها، في حال التعامل الاقتصادي المفتوح بين الطرفين. لكن، لعل الأهم من ذلك هو أن إسرائيل نفسها قد تكون مرشحة للتغيير والتبديل، في المدى الوسيط أو المدى البعيد، في إثر "تطبيع" وضعها في المنطقة. وفرص استيعابها كدولة شرق أوسطية "عادية"، في نهاية المطاف، ليست بالضرورة أقل من فرص هيمنتها على المنطقة. فالنظرة المتشائمة لقدرة العرب على هضم إسرائيل، قد توازيها نظرة متفائلة لإمكان تذويب أخطارها ضمن المحيط الجغرافي والبشري العربي.