الهجرة اليهودية بين أزمة الفرد وتطور المجتمع
كلمات مفتاحية: 
النزاع العربي - الإسرائيلي
الصهيونية
الهجرة اليهودية إلى فلسطين
استيعاب المهاجرين
نبذة مختصرة: 

يتعقب المقال المضاعفات الإيجابية والسلبية التي تتركها الهجرة على المجتمع الإسرائيلي من وجهة نظر المشروع الصهيوني، وأثرها في الصراع العربي ـ الصهيوني. كما تشير إلى الجوانب الخفية من عملية الهجرة والاستيعاب التي يُطحن فيها الفرد والمهاجر وهو يعاني وطأة أزمته الخاصة تحت الرحى الهائلة لطاحونة التطور الاجتماعي والسياسي الناجم عن هذه الهجرة الواسعة النطاق. يستند المقال إلى المصادر الإسرائيلية.

النص الكامل: 

حتى نهاية سنة 1991، سيكون نحو نصف مليون مهاجر يهودي جديد من دول أوروبا الشرقية، ولا سيما من الاتحاد السوفياتي، إضافة إلى مهاجري إثيوبيا، في أطوار مختلفة من عملية الهجرة والاستيعاب في إسرائيل.[1]  وتنطوي هذه الحقيقة على مضاعفات إيجابية وسلبية على المجتمع الإسرائيلي من وجهة  نظر المشروع الصهيوني في فلسطين، كما سيكون لها ولا ريب أثرها في الصراع العربي – الصهيوني الذي وسم المنطقة بكاملها بطابعه منذ ما يقارب نصف قرن من الزمان. وسنحاول، في هذه المقالة البحثية، أن نتعقب أهم هذه المضاعفات، وأن نشير إلى تلك الجوانب الخفية من عملية الهجرة والاستيعاب التي يُطحن فيها الفرد المهاجر وهو يعاني وطأة أزمته الخاصة تحت الرحى الهائلة لطاحونة التطور الاجتماعي والسياسي الناجم، أو الذي قد ينجم، عن هذه الهجرة اليهودية واسعة النطاق.

وبغض النظر عما يمكن أن يوجد من اختلاف في الرؤى بين الأحزاب والقوى السياسية في إسرائيل، بشأن السياسة الواجب اتباعها تجاه الهجرة عامة أو بشأن طرق استيعابها، فإن ثمة إجماعاً صهيونياً عاماً يشمل كل القوس السياسي، على مباركة هذه الهجرة واعتبارها إنعاشاً هائلاً للمشروع الصهيوني، وتثبيتاً لدولة إسرائيل التي "كانت تمر بمرحلة من الانهيار"، "فأعادت الريح إلى الصواري المرتخية"، كما يقول ساريد ويضيف: "لقد فعلت الهجرة العظيمة أمراً عظيماً لنا، إذ أدت استعادة إسرائيل مكانتها كبيت قومي للشعب اليهودي."[2]

من الواضح أن تدفق يهود العالم إلى إسرائيل، وإنْ جاء هذا بقوة الدفع لا بقوة الجذب، يصب دائماً في مصلحة الأيديولوجية الصهيونية التي ترى في تجميع كل يهود العالم في البلاد المقدسة مهمة طبيعية لها، وبالتالي فإن كل إنجاز في هذا الاتجاه يعد بالنسبة إليها تحقيقاً لذاتها. لقد احتدمت المناقشات السياسية في إسرائيل وتركزت لفترة طويلة قبل موجة الهجرة الحالية، ولا سيما في الحملة الانتخابية الأخيرة، على مسألة الصراع الديموغرافي الدائر بين العرب واليهود، والذي شكل هاجساً أساسياً للحزبين الكبيرين من حيث تصورهما لمستقبل إسرائيل ومصير المشروع الصهيوني في ظل التكاثر الطبيعي المطرد للفلسطينيين، والذي بلغ معدله ثلاثة أضعاف معدل التكاثر بين السكان اليهود.[3]   وقد جاءت موجة الهجرة الراهنة هذه لتنعش الآمال بحسم هذا الصراع الديموغرافي في مصلحة اليهود، إذ ارتفع عدد السكان اليهود سنة 1991 بمعدل 6,2% بينما كانت هذه النسبة 1,8% سنة 1989.[4]  وتنطوي هذه الزيادة السكانية على العديد من الفوائد العملية – السياسية والاقتصادية والاجتماعية – يتجاوز الفائدة الأيديولوجية المجردة. فعلى سبيل المثال، شكل الجليل دوماً مشكلة ديموغرافية عسيرة لإسرائيل من حيث أن أغلبية السكان فيه كانت طوال الوقت من العرب. أما الآن، فقد اختلت هذه النسبة مع تدفق 61 ألف مهاجر من أصل 200 ألف للسكن في الجليل سنة 1990، واحتمال أن يتواصل هذا التدفق بنسبة مماثلة سنة 1991 أيضاً.[5]  أما الاستيطان في الأراضي المحتلة منذ سنة 1967، فإن الهجرة الواسعة تغري بالاحتفاظ بهذه الأراضي كاحتياط استراتيجي للإيفاء بحاجة التوسع السكاني. وقد غدت في غاية الشهرة عبارة شمير التي ربط فيها الهجرة الكبرى بأرض إسرائيل الكبرى.

وتختلف موجة الهجرة عن غيرها من الموجات الواسعة التي شهدتها إسرائيل، من حيث نوعية المهاجرين ومستواهم الثقافي والعلمي – ولا سيما المهاجرين السوفيات – بما يعنيه هذا من إضافة نوعية إلى المجتمع الإسرائيلي، من دون أن يُستثمر فيه شيء يذكر. وإذا اعتبرنا أن المجتمع ينفق أكثر من نصف مليون شيكل لتعليم طبيب واحد، فلنتصور ما يوفره قدوم عشرات الآلاف منهم. وكذا بالنسبة إلى المهندسين والمعلمين والطلاب الحاصلين على أسس جيدة أو ممتازة من التعليم.[6]  وقد أفاد وزير الاستيعاب يتسحاق بيرتس بأنه خلال سنة 1990 وصل 21 ألف مهندس، و6100 طبيب، و 4500 ممرضة، و5000 فنان، و8000 معلم، و24 ألف فني.[7]  وعُلم أن 8100 طالب من المهاجرين يدرسون حتى نهاية نيسان/أبريل في الجامعات الإسرائيلية.[8]

وتعتبر الهجرة فرصة ممتازة لإحداث قفزة نوعية في التطور الاقتصادي والعمراني. فمئات الآلاف من الناس يحتاجون إلى زخم عمراني واسع، واستثمار مالي في مشاريع اقتصادية إنتاجية وعلمية، لتوفير أماكن سكن ومصادر رزق لهم. فقد بلغت ميزانية وزارة البناء والإسكان للعام الحالي 6 مليارات شيكل، أو ما يعادل 2,5 مليار دولار، إضافة إلى 8,6 مليارات شيكل في بند توقيع العقود، علماً بأن وزير البناء والإسكان، أريئيل شارون، يؤكد ليل نهار عدم كفاية هذه الميزانية لتغطية مشاريع الإسكان الواسعة التي يتوجب على وزارته القيام بها لإسكان المهاجرين.[9]  ويقول: "إننا نبني اليوم بمعدل 100 ألف شقة في السنة، بينما كنا في الماضي نبني 3 آلاف شقة في السنة فقط.[10]   وقد أفادت وثيقة داخلية لقلم التخطيط في الوزارة، أنه جرى البدء ببناء مساكن على مساحة 14,951 متراً مربعاً في أنحاء إسرائيل كافة.[11]   أما من حيث البناء الاقتصادي أو الاستثمار في مجال البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية الإنتاجية، فقد وافقت اللجنة الوزارية الاقتصادية على مشروع لإقامة بنية تحتية بتكلفة 5 مليارات شيكل، الأمر الذي يوفر أماكن عمل لـ 11,500 عامل.[12]   وإذا كانت عملية توفير مثل هذا الرقم المتواضع من أماكن العمل تفترض أعمالاً ومشاريع اقتصادية بهذا المبلغ الكبير من المال، فلنتصور المبالغ الهائلة التي يجب استثمارها كي تتوفر أماكن عمل لمئات الآلاف، بل لملايين المهاجرين الجدد. ولا يعني هذا أن ينجح الاقتصاد الإسرائيلي في استيعاب هذا القدر الهائل من الاستثمار المالي، بل إنه يعني أن ثمة حوافز قوية تدفع في اتجاه الحد الأقصى الممكن من الاستثمار. أما كيف سيتوفر المال فثمة العديد من الطرق، أهمه الاقتراض من الخارج وتلقي المنح والمساعدات. وبينما يدور جدال في شأن شروط تقديم ضمانات أميركية للحصول على قرض بمبلغ عشرة مليارات دولار،[13]   تستعد إيطاليا لإقراض إسرائيل 110 ملايين دولار لبناء المساكن للمهاجرين.[14]  وستقدم فرنسا قرضاً بقيمة 500 مليون دولار لاستيعاب المهاجرين، بينما ستستثمر 500 مليون دولار أخرى في مشاريع مختلفة لاستيعابهم.[15]   وهذا، طبعاً، ليس نهاية المطاف؛ فثمة السوق الأوروبية، وثمة اليابان، وثمة الجوالي اليهودية واسعة الانتشار في الدول الصناعية الكبرى، وهو ما يعني أن الهجرة تشكل بؤرة اجتذاب لمئات وآلاف ملايين الدولارات للاستثمار في مجالات التنمية كافة.

لقد رفعت الهجرة نسبة النمو في قوة العمل بمعدل 4,8% في الربع الأول من سنة 1991، قياساً بالفترة الموازية من السنة المنصرمة، إذ بلغت 1,697,000 نسمة.[16]   وهذه الزيادة في طاقة العمل الإنتاجية إذا ما اقترنت بالتوسع الاقتصادي والعمراني فإن من المتوقع أن تؤدي إلى ارتفاع كبير في إنتاجية العمل وفي معدل التنمية الاقتصادية. فقد قدر المدير العام لإنتاجية العمل، يوسف دورئيل، أن انتعاشاً بقدر 8% في إنتاجية العمل هذه السنة، لا يكاد يفي بحاجة الاقتصاد.[17]

وتشكل الطاقة البشرية للمهاجرين قوة عسكرية لا يستهان بها. فقد أعفت هذه الطاقة الإطار العسكري من ضرورة تمديد فترة الخدمة العسكرية من عامين ونصف العام إلى ثلاثة أعوام، حتى بات الأمر عرفاً في السنوات السابقة، بحكم تزايد المتطلبات الأمنية. وقد ألغى الكنيست هذا العرف مؤخراً، وأعاد قانون الخدمة إلى سابق عهده.[18]  كما تشكل الهجرة رافداً علمياً وفنياً بحكم الطاقات العلمية والفنية التي تدفقت معها.

وفضلاً عن ذلك تنطوي الهجرة، أخيراً وليس آخراً، على تنوع هائل في النسل مما يحث مستويات الذكاء والجمال للأجيال المقبلة خطوات إلى الأمام.

*    *   *

حتى الآن، يبدو الأمر "سلساً وجميلاً" وكأن كل شيء جاهز ومستعد لاستيعاب هذه الهجرة الواسعة، واستحصال كل الفائدة المرجوّة منها. لكن الواقع غير ذلك تماماً؛ فالصورة المرسومة أعلاه لا تشير إلا إلى الخطوط العريضة والطاقة الكامنة في الهجرة، لا إلى النتيجة النهائية التي لا تحسم إلا على أرض الواقع وبفعل توافق أو تضارب مختلف العوامل المؤثرة فيها. فقد أعرب  ساريد، الذي تفاءل بالفائدة العظيمة للهجرة، عن تخوفه من أن تتحول "النعمة" الكامنة في الهجرة إلى نقمة وكارثة تحل بإسرائيل، إذ يقول: "وإذا – لا سمح الله – اتضح بعد بضعة أشهر أن دولة إسرائيل غير قادرة على أن تكون حتى ملجأ، فإن أفضل أمر يحدث لها سيصبح بعد حين الأمر الأسوأ... وعندما ينقشع الحلم الكبير فإن هذا، أيضاً، سيكون نهاية الصهيونية. وكم من الوقت ستستمر الدولة الصهيونية في الوجود؟"[19]

يقول رئيس حزب العمل، شمعون بيرس: "عندما كان المعراخ في السلطة وكنا نستوعب المهاجرين، لم ينتحر أي منهم، كما أن أياً منهم لم ينقّب في القمامة."[20]  وبغض النظر عما في هذا التصريح من رائحة سياسية واضحة، فإن بيرس يلخص هنا بإيجاز كثيف الأزمة التي يمر المهاجرون بها في رحلة انخراطهم في المجتمع، أو ما يسمى الاستيعاب.

يواجه المهاجر الجديد إلى إسرائيل جملة هائلة من المشكلات التي تتعلق بانخراطه في المجتمع، كعضو صالح، وكمنتج؛ ناهيك بالصعوبات التي ينطوي عليها اقتلاع الذات من مجتمع وبيئة وتاريخ وثقافة معينة، والانتقال دفعة واحدة وبلا مقدمات إلى مجتمع وبيئة وتاريخ وثقافة أخرى. فهذه صعوبات عادية ومفهومة لن نتطرق إليها. وسننشد، أساساً، إلى تلك الصعوبات التي تنشأ عن الواقع الملموس لهجرة جماعات معينة وانخراطها في مجتمع جديد ملموس آخر، في لحظة تاريخية ملموسة، وضمن واقع سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني ملموس.

يعاني المهاجرون الجدد في إسرائيل جملة من المشكلات في مجال الاستيعاب، أهمها السكن والعمل، تانك المشكلتان اللتان تلقيان بعبئهما الثقيل على كواهلهم وتدفعان بهم إلى القيام بأعمال متطرفة مثل: الانتحار، أو الهجرة المضادة، أو المبيت على الطرقات وفي الحدائق العامة، أو التنقيب في القمامة بحثاً عن لقمة العيش، أو ممارسة الدعارة وغيرها من أشكال التدهور الخُلُقي والاجتماعي. ولعل في قصة الطبيب الجراح، سلومون أورمان (46 عاماً)، الذي يعمل في مستشفى سوروكا طبيباً تحت الاختبار، تكثيفاً لا لأزمة السكن فحسب بل أيضاً للعديد من المشكلات التي تشكل مركبات عديدة لأزمة استيعاب المهاجرين بصورة عامة؛ فقد أفادت الصحف بأن أورمان يبيت هو وزوجته منذ أسبوع من نشر الخبر على فرشة في الحديقة العامة في بئر السبع، وذلك بعد أن أخرج مراقبو البلدية الخيمة التي نصبها هناك. وكان قد اضطر إلى مغادرة شقته في إثر رفع صاحبة المنزل إيجار الشقة من 300 دولار إلى 400 دولار في الشهر. وقال أورمان: "إننا نعيش بـ 670 شيكلاً في الشهر نتلقاها كبدل بطالة."[21]   وهذا المبلغ لا يكاد يفي بإيجار الشقة وحدها. وقد علم أن وزارة الاستيعاب قد عرضت عليه السكان في كرفان في قرية زراعية بعيدة. لكن السفر إلى المستشفى من هناك وإليه يكلف يومياً 10 شيكلات، الأمر الذي يعني هو الآخر انتهاب مخصصاته الشهرية.[22]    وتنطوي هذه المشكلة وحدها على عدة مشكلات في آن واحد. فأورمان وكذلك الآلاف من الأطباء، الذين وصلوا في إطار الهجرة، يعانون مشكلة الاختبارات المهنية التي يُلزمون بأدائها فلا يجتازها الكثيرون منهم لصعوبتها، أو يمرون بمرحلة اختبار لا يتقاضون خلالها مرتباً لائقاً. وفي القصة نفسها، مشكلة تتعلق بالبيروقراطية في سلوك السلطات وتضاربها، كما تتعلق بالاستغلال الذي يمارسه المجتمع، ولا سيما أصحاب الشقق وطمعهم المتزايد لرفع إيجارات السكن إلى أرقام خيالية. فقد ارتفعت إيجارات السكن منذ بداية السنة بمعدل 7,5%، وكان هذا هو السبب الأهم للارتفاع في جدول غلاء المعيشة.[23]

وتابعت الصحف، طوال الشهر، مشكلة مجموعة من عائلات المهاجرين السوفيات، فذكرت "معاريف" أن عدد هذه العائلات يبلغ 15 عائلة. وقد وجد أفرادها حلاً أصيلاً لضائقة سكنهم، إذ أقاموا مدينة من الخيام وسط مدينة كرميئيل، بل صعّدوا نضالهم من خلال إعلان الإضراب عن الطعام. وقالوا: "منذ أن وصل الإثيوبيون نسونا، ونحن نتعفن الآن في الخيام الصغيرة."[24]

وبعد أربعة أيام، نقلت صحيفة "حداشوت" أن 25 عائلة تسكن الخيام في كرميئيل من المهاجرين الجدد الذين قدموا قبل عام، ولم يعودوا يستطيعون احتمال دفع إيجار الشقق، إذ لا تغطي السلطات غير إيجار السكن للعام الأول فقط، وهذه عائلات صغيرة (من 2 – 3 أفراد) لا يحق لها بحسب معايير وزارة البناء والإسكان السكن في الشقق المخصصة للمهاجرين في المدينة. ونقلت الصحيفة قصة لينا لوفوت التي تسكن خيمة مع زوجها وطفلها البالغ عامين ونصف العام من عمره. وهي تعمل وتكسب 1000 شيكل في الشهر. وقد طلب صاحب العمارة 600 شيكل إيجاراً للشقة شهرياً، "فاضطررنا، بعد أن عجزنا عن الدفع، إلى ترك الشقة والسكن في خيمة إذ لا حق لنا في شقة بحسب المعايير القائمة." وبين هذه العائلات توجد العجوز بسيا غوتمان (76 عاماً) وقد شاركت في الإضراب عن الطعام، وهي تقول: لا أنوي العودة إلى الاتحاد السوفياتي، لكني لم أكن أتصور أن أسكن خيمة في الأراضي المقدسة. صعب علي جداً بلا طعام ساخن ومرحاض."[25]   وقد أوردت صحيفة "معاريف"، فيما بعد، أن مشكلة عائلات الخيام في كرميئيل قد حلت، لكنها قالت إن عدد تلك العائلات كان 80 عائلة.[26]   وبعد نحو شهر، قالت إنهم نقلوا إلى شقق بلا كهرباء بعد أن وُعدوا بتركيب مولد كهربائي إلى حين ربط الشقق بشبكة الكهرباء، لكن أياً من الأمرين لم يحدث حتى بعد شهر.[27]

أما مشكلة العمل، فهي أكثر تعقيداً وأبلغ أثراً في تجسيد الاستيعاب الحقيقي للمهاجرين. فالمرء لا يمكن أن يعتبر نفسه منخرطاً في مجتمع ما، من دون أن يحتل فيه مكانة إنتاجية تمنحه قيمته أمام نفسه وأمام المجتمع. ولعل في الشعارات التي رفعها المهاجرون الجدد المتظاهرون في القدس : "لا نريد مالاً بل نريد عملاً"، "السكن والعمل الآن، أما الصبر  فبعد ذلك"، دلالة واضحة على ذلك.[28]   وقد أضاف المهاجرون، من حيث الاستخدام، بعداً جديداً إلى مشكلة البطالة المستشرية أصلاً. فقد بلغ عدد المتوجهين إلى مكاتب الاستخدام في أيار/مايو 125,900 عاطل عن العمل، 19,200 منهم من المهاجرين الجدد. وينضم المزيد من المهاجرين الجدد كل شهر إلى صفوف جيش العاطلين عن العمل؛ فالرقم الأخير كان 17,900 في نيسان/ أبريل، أي أنه طرأ عليه ارتفاع بمعدل 7,2% في غضون شهر.[29]

وتكثف قصة العالم فاليري فيسبارو (74 عاماً)، وهو العالم ذو الشهرة العالمية في أبحاث السرطان، أزمة العمل للمهاجرين على نحو خاص. فهو يعمل في جامعة بن – غوريون في بئر السبع، لكن لا في أبحاث السرطان بل حارساً ليلياً. ويوقل فيسبارو، في محاولة ساخرة لإخفاء مرارته، إن ما يواسيه هو أنه يعمل بالقرب من المختبر وإنْ كان لا يتمكن حتى من دخوله.[30]

وتحدثت الصحف عن أن وصول آلاف المهاجرين الإثيوبيين، ضمن عملية شلومو، قد وفر العديد من أماكن العمل للمهاجرين السوفيات. ومن المحظوظين الحاصلين على وظائف في أعمال الصيانة والطبخ والشطف في فندق  يردين في نهاريا، الذي تحول إلى مركز لاستيعاب الإثيوبيين، كان ثمة بروفسور في الكيمياء وأطباء ومهندسون من المهاجرين السوفيات.[31]

من المؤكد أن الغبن الذي ينطوي عليه العمل في مجال أدنى مكانة من مؤهلات الإنسان، أفضل حالاً من انعدام العمل على الإطلاق والاضطرار إلى ما يهين الكرامة ويسحق النفس. فقد تحدثت الصحف، مراراً وتكراراً، عن ظاهرة بيع المهاجرات الجدد أجسادهن بأبخس الأثمان لسد رمقهن. كما تحدثت عن أشخاص محترمين يضطرون إلى البحث في القمامة عن لقمة يقتاتون بها؛[32]   وعن المهاجرات الجدد اللواتي لا يتورعن عن استخدام غرفة غسل الأموات في مقبرة أور عكيفا منزلاً للدعارة؛[33]    وعن ذاك الشاب (إيغور زوغوتربوف، 34 عاماً) الذي اضطر، وهو عازف روك شعبي، إلى الغش والسرقة بعد أن سرقت منه أغراضه وأمواله ووثائقه كلها، وبقي بلا أدنى شيء فاقتحم مكاتب الاستيعاب وسرق هويتي مهاجر وزيّف اسمه للحصول على قروض من المصرف. وبعد أن حكم القاضي بالسجن عليه، قال: "ليس لي مكان أذهب إليه أو أي شيء أملكه، ومن الأفضل البقاء في السجن حيث يمكنني أن أضمن وجبة أقتات بها."[34]   وعن ذاك الطبيب الشاب الذي يئس من إيجاد عمل فتدهور إلى درك الإدمان، وعُثر عليه يترنح من وطأة الخمر في أزقة شارع ديزنغوف.[35]

هذا، وقد دفعت الضائقة الاقتصادية التي يعانيها المهاجرون بالعديد من النساء إلى إجهاض أنفسهن لقناعتهم بعجزهن عن إعاشة رضّعهن. وقد اتسعت هذه الظاهرة حتى دفعت جمعية "إفرات" الأصولية إلى إغراء المهاجرات بعدم الإقدام على الإجهاض، وذلك بدفع 1000 دولار لكل مهاجرة تتنازل عن عزمها على الإجهاض.[36]

وقد غدا لجوء المهاجرين إلى الانتحار، هرباً من أزمتهم الذاتية، ظاهرة مقلقة. حتى إن وزارة الاستيعاب ألفت لجنة خاصة لـ"طمس" هذه الحقيقة والخروج باستنتاجات لخّصها الوزير بيرتس بأنه "على الرغم من عدد المنتحرين، فلا مجال للحديث عن ظاهرة انتحار في أوساط المهاجرين الجدد." ومع ذلك، فقد وصفت محافل في الوكالة اليهودية نتائج أعمال اللجنة بـ"الهراء".[37]   وفي اليوم نفسه صدرت صحيفة "هآرتس" بعنوان كبير يقول إن "معدل الانتحار أعلى كثيراً في أوساط الرجال المهاجرين في سن 40 – 49 عاماً"، إذ يبلغ 16,9 لكل 100 ألف نسمة، بينما يبلغ المعدل في أوساط إجمالي السكان القدامى 4,6 لكل 100 ألف نسمة.[38]

وينطوي الإحصاء الأخير على حقيقة يلمسها كل من يتابع الصحف الإسرائيلية، إذ تتكرر المأساة على نحو متواتر ويعود أغلبها، إنْ لم يكن جميعها، إلى حالة الاكتئاب الشديد التي يجد المهاجر نفسه فيها في إثر هبوط كاسح في تقديره لنفسه ولدوره في المجتمع وفي الأسرة نتيجة انعدام قدرته على إيجاد عمل. فقد انتحرت ريفا رحلين نتيجة مخاض الاستيعاب. وقال ذووها إنها كانت تكثر مؤخراً من القول: "لقد مَلَلْت. لم أعد أستطيع رؤية ابنتيّ، وهما طبيبة ومهندسة كهرباء، تبحثان عن خرقة مسح الأرض فقط."[39]  وانتحر البروفسور يوري ليبرمان (61 عاماً)، وهو من كبار العلماء المهاجرين المتخصصين بالجيولوجيا والفيزياء، وكتب في رسالته الأخيرة أنه قرر وضع حد لحياته لأنه "لم يعد يجد فيها أية جدوى."[40]   أما توسيا كرايتسكي (55 عاماً)، فقد انتحرت بسبب صعوبات الاستيعاب والحنين إلى الاتحاد السوفياتي، حيث كانت تعمل ممرضة، فوجدت نفسها فجأة بلا عمل وفي حال إحباط يائس.[41]   وغيرهم، وغيرهم الكثيرون ممن يشكلون مآسي شخصية أليمة.

وقد يكون حظ بعض المهاجرين، من حيث الانخراط في المجتمع، أوفر من حظ غيرهم إذ يجدون عملاً ما يسدون به رمقهم بدل الإذلال والمهانة والمعاناة جراء الاكتئاب القاسي. لكن هؤلاء يتعرضون لتقليد بات ثابتاً وتاريخياً، تستغل بموجبه كل موجة من المهاجرين السابقين موجات الهجرة الجديدة، فتمارس عليها سلسلة من الخدع وأشكال الاستغلال. وقد استنتجت مينا تسيمح، من استطلاع أجرته في أوساط المهاجرين، أن هؤلاء يشعرون بأنهم فريسة سهلة للإسرائيليين الذين يستغلون وضعهم، إذ تبين لها أن 45% منهم يعتقدون أن الآخرين يخدعونهم عند شراء حاجاتهم، أو عند الحصول على الخدمات. ويعتقد 80% منهم أنهم يحتاجون إلى استشارات قانونية كضرورة أساسية للاستيعاب في البلد.[42]

ويتعرض المهاجرون خلال العمل لأشكال بشعة من الاستغلال؛ فقد نقلت صحيفة "دافار" قصة مهاجر في العشرين من عمره، يعمل صباحاً في البناء لقاء 7 شيكلات في الساعة، بينما يعمل مساء في متجر عام. وقد سقط والده في فخ إعلان نُشر في الصحف يبحث عن مهندسي أدوات كهربائية، فتوجه مثل الكثيرين غيره إلى العنوان، حيث أُعطوا أدوات لإصلاحها على سبيل الاختبار، وقيل لهم "اذهبوا ونحن نستدعيكم"، و"هذا وجه الضيف".[43]  وتحدثت الصحيفة نفسها عن اختراع جديد – قديم ابتكره أصحاب المطاعم في تل أبيب لاستغلال المهاجرين الجدد استغلالاً فاحشاً؛ فقد عمدوا إلى استخدام المهاجرين في مجال النظافة وغسل الأواني من دون الاتفاق معهم على الأجر، وبعد نحو عشرين يوماً يعطونهم مبلغاً زهيداً من المال لا يتجاوز معدله الشيكلين في الساعة. وفي حال الرفض، فثمة الكثيرون منهم ينتظرون الدور بفارغ الصبر.[44]

والأكثر إيلاماً، قصة فكتوريا لفينسكي (23 عاماً) التي هربت من شقتها بحقيبة صغيرة بعد أن هددها صديق صاحبة الشقة بالطرد من غرفتها إذا لم تنم معه. وكانت فكتوريا تعمل صحافية في بلدها الأم. وعندما رتب لها بعض الأصدقاء المبيت هي وطفلها الصغير في غرفة في إحدى الشقق، عانت الأمرين جرّاء استغلال صاحبة الشقة التي لم تسمح لها باستخدام الهاتف أو آلة الغسيل، ولا بترك ابنها في البيت كي تتوجه إلى معهد تعليم اللغة. أما صديق السيدة فلم يكتف بمتعته بل عرض السيدة على أصدقاء له كأنها مومس، فذعرت وهربت على الرغم من أنها دفعت إيجار الشقة سلفاً.[45]

ويعاني المهاجرون نتيجة غربة نفسية – اجتماعية ونتيجة العنصرية الطائفية، بل الدينية أحياناً. فالمهاجرون يأتون إلى وسط جديد لا يكادون يعرفون فيه أحداً، ومن الطبيعي أن يحسوا بمشاعر الغربة والاغتراب. لكن هذه المشاعر تتكثف عندما لا يكون الوسط متعاطفاً على نحو خاص. وتبرز هذه المشاعر خصوصاً في أوساط المهاجرين من إثيوبيا. فقد أشار تقرير مراقبة الدولة رقم 38 إلى أن أغلبية أبناء الطائفة يعانون في إسرائيل جرّاء صعوبات خطرة، تتمثل في انعدام قدرتهم على شراء الشقق، والاختلاف في العقلية. وحتى بعد فترة طويلة من وصولهم إلى إسرائيل، تجدهم يعانون الانعزال الاجتماعي وخيبة الأمل الشديدة من عدم تمسك الإسرائيليين بقيمة الوفاء بالعهد، وهو الأمر البالغ الأهمية بالنسبة إليهم، ناهيك بتعبير زنجي أو تعال هنا المستخدم إشارة إلى العبيد وقليلي القيمة، والذي لا يتوانى الإسرائيليون عن استخدامه معهم.[46]

وعندما وصل الإثيوبيون، ضمن عملية شلومو، استمرت الصحف وطوال أكثر من شهر، تتناقل أخبارهم: من حيث نسبة الأمراض في أوساطهم، والحجر الصحي الذي فرض عليهم، واستنكارهم لذلك بقولهم: "نتطلع من الشبابيك فنرى الناس يتراكضون بينما تقول الحكومة إنه لا يسمح لنا بالخروج"؛[47]   أو من حيث الاستخفاف بهم وإعطاؤهم مصروف جيب بدل سلة الاستيعاب الاعتيادية، أو ما يقدر بعُشر قيمتها؛[48]   أو من حيث منع أطفالهم الذين نقلوا إلى المدارس الداخلية من مشاركة آبائهم في تناول الطعام المقدم لهم في الفنادق – مراكز الاستيعاب التي نزلوا فيها؛[49]   أو من حيث الفضيحة التي عمت البلد عن الطريقة المهينة التي استُخدمت في نقل 150 من المهاجرين الإثيوبيين من كرفاناتهم في الخضيرة لإسكان عائلات إثيوبية كثيرة الأولاد فيها، مع ما رافق عملية النقل من صراخ وبكاء هستيري حتى أطلقت الصحف عليها تسمية الترانسفير الإجباري.[50]   وهذه مجرد جوانب مختلفة لظاهرة النظرة الفوقية التي تميز موقف الإسرائيليين إجمالاً من المهاجر الجديد من أصل إثيوبي.

ولا تقتصر مظاهر التشنج بين المهاجرين القدامى والجدد على الإثيوبيين؛ فقد نقلت "دافار" خبراً عن سلسلة أعمال عنف في المدرسة الراقية "هجمناسيا هعفريت" في رحافيا في القدس، حيث أقدم طلاب في الصف التاسع على ضرب الصبي ل. ش. (14 عاماً)، وهو مهاجر سوفياتي جديد، ضرباً مبرحاً بلا أي سبب ظاهر، على مرأى من عشرات الطلاب الذين جلسوا على الحواجز الحديدية من دون أن يتدخلوا.[51]

ومع أن المجتمع الرسمي يحث الإسرائيليين على التعاون والترحيب بالمهاجرين الجدد، ومع أنه يسعى لإبراز حالة النشوة العامة التي تغمر الناس في إثر تزايد موجات الهجرة، أو في إثر عمليات مثيرة للانطباع كعملية "شلومو" مثلاً، إلا إن الناس العاديين سرعان ما تخبو لديهم حالة النشوة ويعودون إلى ممارسة حياتهم الطبيعية التي تجد في المهاجرين الجدد عبئاً إضافياً على المجتمع سيلقي عليه بمزيد من الأحمال. وكثيراً ما انطلقت من أفواه الناس العاديين، ولا سيما ممن يعيشون الضائقة السكنية أو الاقتصادية، عبارات مثل: "يعطون الروس الشقق، أما نحن فنبقى طي النسيان."[52]

ولننظر في الحكاية التالية: الشيخان حنه ويعقوف سلوفسكي (81 عاماً و 83 عاماً) مهاجران كفيفان لم يُوجد في كل بئر السبع التي أجر فيها 3500 شقة للمهاجرين، سوى شقة في الدور الخامس لإيوائهما! ويشتكي الشيخان ضيق الشقة منذ عام، من دون أن يتمكنا حتى من النزول للتنزه، لماذا؟ لأنه لا يوجد من يساعدهما في ذلك، ناهيك بأن عقد الإيجار سينتهي بعد شهرين ولن يكون لديهما مكان يذهبان إليه.[53]

ويعتبر الموضوع الصحي مصدراً لمشكلة مهمة تضاف إلى معاناة المهاجرين الجدد؛ فمن المعروف أن تكاليف العلاج الصحي في إسرائيل باهظة جداً، ومن لا يتوفر له تأمين صحي لتغطية هذه التكاليف، سيجد نفسه أمام صعوبات صحية واجتماعية لا تطاق. ويذكر أن الدولة تغطي التأمين الصحي للمهاجرين في نصف العام الأول فقط،[54]  لكن عندما لا يتوفر لهم مجال للعمل والكسب، وبالتالي الاشتراك في أحد صناديق المرض، فإنهم يبقون بلا تأمين صحي. وعلم أن 70 ألف مهاجر جديد، أو ما يقارب ثلث المهاجرين الذين وصلوا سنة 1990، هم بلا تأمين صحي.[55]

 أما بالنسبة إلى الإثيوبيين، فإنهم يشاركون إخوانهم السوفيات في المشكلة نفسها، إلا إنهم يعانون فضلاً عن ذلك أمراضاً جديدة لم يعهدوها في بلدهم الأصلي. فقد أشار بحث طبي في أوساطهم إلى أنهم سرعان ما يصابون بأمراض المجتمع الغربي، من ارتفاع في ضغط الدم والسكري والكولسترول في الدم، كما أن هذه الأعراض تظهر عليهم حتى من دون وجود السمنة.[56]

وتشتد أزمة المهاجرين عندما تضرب  البيروقراطية في الدولة أطنابها: فقد بيّن استطلاع للرأي العام أن 60% من المهاجرين يعتقدون أن البيروقراطية أكثر  فساداً في إسرائيل منها في الاتحاد السوفياتي نفسه.[57]

ومؤشرات البيروقراطية في إسرائيل، ولا سيما في مجال الهجرة والاستيعاب، لا تعد ولا تحصى. فهناك مجموعة كبيرة من السلطات التي لا تنسيق فيما بينها، تُشغَل بمعالجة شؤون المهاجرين: الوكالة اليهودية، ووزارة الاستيعاب، والسلطات المحلية، واللجان المعنية من الوزارات المختلفة، وشركة عميدار، وغيرها. ولا أدري ماذا أيضاً.

نقلت صحيفة "عال همشمار" نبأ مفاده أن 3 آلاف كرفان منصوبة في العديد من المواقع في إسرائيل، لكنها غير آهلة. وعُلم أن وزارة البناء والإسكان تلقي التبعة في ذلك على شركة عميدار التي تلقيها بدورها على السلطات المحلية. لكن النتيجة هي بقاء ربع عدد الكرفانات المنصوبة شاغراً لا يسكنه أحد.[58]   وقد علم، فيما بعد، أن السبب هو إلقاء كل سلطة على السلطة الأخرى مسؤولية إكمال المرافق التحتية الضرورية.[59]

ويشتكي رؤساء مجالس مدن التطوير عجزاً بقيمة 310 ملايين شيكل في ميزانياتهم، لوقوع عبء الاستيعاب على كواهلهم، من دون أن تقوم الحكومة بتقديم المساعدات اللازمة.[60]

ويشتكي يتسحاق آرنسي، المسؤول عن استيعاب المهاجرين في بلدية تل أبيب، قائلاً: "إننا نقف عاجزين أمام المهاجرين. طلبنا 18 وظيفة لعاملين في الرفاه الاجتماعي، فحصلنا على ثلاث وظائف. طلبنا زيادة 5 ملايين شيكل على الميزانية للعناية بالمهاجرين، ولم نتلق شيئاً. والمشكلات في تل أبيب عسيرة: 10% من المهاجرين أسر من أب واحد، وبينهم معاقون ومطالبون بتغيير أسنانهم."[61]

ويحتدم صراع السلطات المسؤولة عن الاستيعاب بين الآونة والأخرى. ولا سيما بين شارون وبيرتس. فبعد جلب الإثيوبيين، ضمن عملية شلومو، عيّن شارون نائبته الوزيرة غيئولا كوهين لمتابعة أمر استيعابهم والبحث عن أماكن عمل وحل مشكلات السكن لهم، بينما عيّن بيرتس لجنة فرعية من المجلس الوزاري لشؤون الاستيعاب. وتقدمت الوكالة اليهودية هي الأخرى بمشروع خاص لاستيعابهم.[62]   لكن سيمر، على أغلب الظن، وقت طويل قبل أن يتوفر مثل هذه الحلول، على الرغم من كثرة المهتمين والمشغولين بإيجادها.

وقد ارتفع أكثر من صوت يطالب بإلغاء وزارة الاستيعاب، ونقل ميزانيتها إلى السلطات المحلية. ووُجّه العديد من الانتقادات إلى الوزير بيرتس الذي يفيد من منصبه الوزاري لإحداث استقطاع ديني للمهاجرين تحت غطاء استيعابهم الروحاني.[63]

هذا، وتعتبر الهجرة المضادة أحد الأشكال التي يحل المهاجرون بواسطتها أزمة عدم اندماجهم في المجتمع. فقد ارتفع عدد المهاجرين الراغبين في الهجرة المضادة من إسرائيل ارتفاعاً حاداً، إذ تقدم 2968 شخصاً بطلبات للحصول على جوازات سفر، وذلك في الربع الأول من سنة  1991. وقد سجل شهر آذار/مارس الماضي ارتفاعاً بمعدل 600% في عدد طالبي الجوازات قياساً بعددهم في شباط/فبراير الذي سبقه، ولا سيما من المهاجرين الجدد من فئة العمر 21 – 40 عاماً. وتشكل هذه المجموعة 61% من إجمالي طالبي الجوازات. ويذكر أن 80,9% منهم من أصل سوفياتي. وقد حذر أوري غوردون، المدير العام، دائرة الاستيعاب والهجرة في الوكالة اليهودية من أن تحوّل صعوبات الاستيعاب إسرائيل إلى مجرد محطة انتقالية بعد أن يحصل المهاجرون على الجوازات.[64]

ونقلت الصحف عن الناطق بلسان ممثلية موسكو في تل أبيب، سيرجي إيزاكوف، تأكيده وجود ظاهرة توجه مهاجرين جدد خاب أملهم من الاستيعاب وهم في حالة يأس، طالبين العودة إلى الاتحاد السوفياتي واستعادة المواطنة الروسية. لكنه لم يكشف عن حجم هذه الظاهرة.[65]   وصرح شاب يدعى شاسا توجه إلى أحد المصادرف لإعادة الأموال التي تلقاها لدى قدومه إلى إسرائيل، راغباً في العودة إلى الاتحاد السوفياتي، قائلاً: "اغدقوا علينا الكثير من الوعود. وعدونا بمنزل وعمل، وصوروا لنا حياة وردية هنا. وفي النهاية لم نجد سوى الكلام." كما اشتكى معاملة المهاجرين القدامى، واعتبرهم أسوأ من غيرهم، واتهمهم بمحاولة خداع المهاجرين الجدد.[66]

وشكل آخر من ردات الفعل، هو توصية المهاجرين الجدد لأقربائهم وأصدقائهم الذين بقوا خلفهم، بعدم الإسراع إلى الهجرة أو حتى الامتناع من القيام بها. ويصرح نشيط الهجرة، البروفسور يرمياهو برنبر، أن "لمن المأساة الفظيعة أن تسير الهجرة من الاتحاد السوفياتي نحو الموت على مرأى من الجميع، من دون أن يتأثر أحد بذلك."[67]

من الواضح أن استيعاب مئات الآلاف من الناس مهمة صعبة وعسيرة، بكل معنى الكلمة. غير أنه لا بد من أن نتوقف قليلاً لنستوضح دور السلطة الحالية الحاكمة في إسرائيل، في التخفيف من شدة هذه المهمة، أو في الإثقال عليها.

لقد وُجِّه العديد من الانتقادات إلى طريقة الحكومة في التصدي لمشكلات المجتمع الإسرائيلي الأساسية، ولا سيما في مجالي المسيرة السلمية واستيعاب الهجرة. بل جرت العادة لدى السياسيين والمحللين السياسيين أن يربطوا الموضوعين أحدهما بالآخر. وأدل مثال على ذلك، هو تعنت الحكومة اليمينية في مواصلة أعمال الاستيطان في الأراضي المحتلة، على الرغم مما ينطوي عليه هذا الموقف من إعاقة لوصول القروض التي طالبت إسرائيل الولايات المتحدة بإعطاء الضمانات اللازمة للحصول عليها، لغرض حل أزمتي السكن والعمل الأساسيتين في موضوع استيعاب المهاجرين. "والبديل الوحيد هو فرض العبء على كل الجمهور، وبقاء آلاف المهاجرين اليهود في إسرائيل بلا عمل أو سكن."[68]

وتؤثر الرؤية الأيديولوجية، السائدة في حزب الليكود تجاه الموضوع الاقتصادي، في قدرة الحكومة الراهنة على معالجة موضوع الاستيعاب. فـ"أيديولوجية الليكود وتطلعاته الأساسية لا تنطوي على ما يقودهم إلى حل المشكلات القومية واسعة النطاق. إذ يعتقد الليكود، خطأً، أن اقتصاد السوق هو الحل الوحيد لجميع المشكلات... وأنه سيعمل على استيعاب الهجرة المكثفة بصورة فورية... وهذا ضرب من الإفراط في التفاؤل والخيال، ثبت أنه بالغ الضرر بالمهاجرين أنفسهم."[69]

هذا، وبينما يبقى الليكود في السلطة، ويفضل في إطار ذلك – كما يقول بيرس – بناء 1300 منزل في قطاع غزة بتكلفة  130 مليون دولار على استثمار هذا المبلغ الضخم من المال في الاقتصاد،[70]   وبينما تبقى المعارضة تصرخ منددة بالحكومة ومطالبة بحجب الثقة عنها لتقصيرها في الاستيعاب والسياسة، يبقى المهاجرون  أنفسهم يسحقون تحت وطأة أزمتهم، ويبقى المجتمع الإسرائيلي ينمو ويتطور على ركامات عذاباتهم ومعاناتهم.

12/7/1991

[1]  "يديعوت أحرونوت"، 8/5/1991.

[2]  ي. ساريد، "صفقة القرن"، "هآرتس"، 3/1/1991.

[3]  آرييه ناؤور، "الكتابة على الجدار"، "عيدانيم"، 1988، ص 69.

[4]  "يديعوت أحرونوت"، 8/5/1991.

[5]  تصريح لأوفير فينس، نائب المدير العام لقسم الاستيعاب في الوكالة اليهودية، في: "دافار"، 14/5/1991.

[6]  ف. شيفح، "استيعاب المهاجرين وتقديمهم ضحايا"، "عال همشمار"، 27/6/1991.

[7]  Dan Izenberg, Jerusalem Post, April 24, 1991.

[8]  "معاريف"، 20/5/1991.

[9]  "دافار"، 4/6/1991.

[10]  "يديعوت أحرونوت"، 3/6/1991.

[11]  "دافار"، 14/5/1991.

[12]  "هآرتس"، 21/5/1991.

[13]  شكل هذا الموضوع عنواناً مهماً ومتكرراً، منذ أن طرح حتى الآن.

[14]  "يديعوت أحرونوت"، 14/5/1991.

[15]  المصدر نفسه، 5/6/1991.

[16]  مكتب الإحصاء المركزي، "يديعوت أحرونوت"، 20/6/1991.

[17]  "هآرتس"، 9/5/1991.

[18]  "عال همشمار"، 4/7/1991.

[19]  ساريد، مصدر سبق ذكره.

[20]  "معاريف"، 26/6/1991.

[21]  "يديعوت أحرونوت"، 16/6/1991.

[22]  المصدر نفسه، 2/6/1991.

[23]  المصدر نفسه، 16/6/1991.

[24]  "معاريف"، 30/5/1991.

[25]  "حداشوت"، 3/6/1991.

[26]  "معاريف"، 13/6/1991.

[27]  "يديعوت أحرونوت"، 4/6/1991.

[28]  "هآرتس"، 17/6/1991.

[29]  "معاريف"، 6/5/1991.

[30]  المصدر نفسه.

[31]  "عال همشمار"، 27/5/1991.

[32]  "حداشوت"، 9/7/1991.

[33]  المصدر نفسه، 3/7/1991.

[34]  "معاريف"، 6/6/1991.

[35]  Jerusalem Report, April 28, 1991.

[36]  "يديعوت أحرونوت"، 12/6/1991.

[37]  المصدر نفسه، 4/7/1991.

[38]  "هآرتس"، 4/7/1991.

[39]  "معاريف"، 30/5/1991.

[40]  "يديعوت أحرونوت"، 21/5/1991.

[41]  المصدر نفسه، 2/6/1991.

[42]  المصدر نفسه، 6/5/1991.

[43]  "دافار"، 11/6/1991.

[44]  المصدر نفسه، 9/7/1991.

[45]  "معاريف"، 6/5/1991.

[46]  "هآرتس"، 26/5/1991.

[47]  "معاريف"، 9/6/1991.

[48]  المصدر نفسه، 3/7/1991.

[49]  "يديعوت أحرونوت"، 3/7/1991.

[50]  "دافار"، 18/6/1991.

[51]  المصدر نفسه، 9/6/1991.

[52]  "معاريف"، 10/7/1991.

[53]  "يديعوت أحرونوت"، 12/6/1991.

[54]  "عال همشمار"، 23/5/1991.

[55]  "دافار"، 30/5/1991.

[56]  استطلاع مينا تسيمح، "يديعوت أحرونوت"، 6/5/1991.

[57]  "عال همشمار"، 5/5/1991.

[58]  "معاريف"، 13/6/1991.

[59]  "يديعوت أحرونوت"، 24 و30/6/1991.

[60]  "دافار"، 3/7/1991.

[61]  المصدر نفسه، 3/6/1991.

[62]  "يديعوت أحرونوت"، 20/6/1991.

[63]  "هآرتس"، 16/5/1991.

[64]  "معاريف"، 15/5/1991.

[65]  المصدر نفسه، 21/5/1991.

[66]  "هآرتس"، 27/6/1991.

[67]  "معاريف"، 12/7/1991.

[68]  عكيفا إلدار، "ثمن أن تكون أرض إسرائيل كاملة"، "هآرتس"، 27/6/1991.

[69]  Mikhail Agursky, Jerusalem Report, April 14, 1991.

[70]  "معاريف"،  9/7/1991.