تقرير مؤسسة راند: لماذا أصبحت الدولة الفلسطينية حتمية
كلمات مفتاحية: 
الانتفاضة 1987
الدولة الفلسطينية
اقامة الدولة الفلسطينية
نبذة مختصرة: 

هذه هي الترجمة العربية للنص الكامل لتقرير مؤسسة راند، الذي نشر في مجلة "ميد إيست ميرور - إكسترا" بتاريخ 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1989 تحت عنوان "The Rand report : Why a Palestinian state is now inevitable". كتب التقرير غراهام فولر وهو بعنوان : "ضفة إسرائيل الغربية : نقطة اللارجوع"؟   يقوم هذا التقرير، الذي أُعد بتكليف من مكتب وزير الدفاع الأميركي، حركية الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية، وجذورها، واتجاهاتها، وتطّرها، ومستقبلها، ومغزاها السياسي، ومضامينها، بالنسبة إلى المنطقة ككل. كما أنه يبحث في القوى الرئيسية التي تسير الانتفاضة، والمشكلات التي تثيرها الانتفاضة لإسرائيل ولمنظّمة التحرير الفلسطينية، والمسارات التي يمكن أن تسلكها في المستقبل. تركزّ هذه الدراسة على الجانب الفلسطيني من المعادلة في المكان الأول، لكنّها تأخذ بعين الاعتبار في الوقت ذاته بعض العوامل ذات الأهميّة الخطرة داخل إسرائيل، والتي لها علاقة مباشرة بحاضر الانتفاضة ومستقبلها والمعضلة الأساسية التي تواجهها إسرائيل. يتوصّل التقرير إلى خلاصة أنّ قيام دولة فلسطينية في الضفة هو النتيجة الأكثر توقّعاً في المدى البعيد، وبنسبة عالية جداً من الترجيح، للصراع الدائر حالياً لأسباب متنوّعة منها ما هو مرتبط بمنظمة التحرير الفلسطينية: قدرتها على البقاء والاستمرار وبدئها بمفاوضات مباشرة مع الولايات المتحدة، ومنها ما هو مرتبط بالانتفاضة وانعكاساتها وبالتطورات الإقليمية والدوليّة وبالتطوّرات الحاصلة داخل إسرائيل... معطيات كثيرة يفصّلها التقرير ليستنتج حتميّة قيام الدولة الفلسطينية مؤكّداً بأنّ هذه الحتمية لا تلغي المشكلات العملية والنفسية الهائلة التي قد يخلقها قيام الدولة، داعياً في الختام إسرائيل والولايات المتحدة إلى اعتماد سياسات أكثر واقعية حيال القضية الفلسطينية.

النص الكامل: 

 تقدم "مجلة الدراسات الفلسطينية" الترجمة العربية للنص الكامل لتقرير مؤسسة راند، الذي نشر في مجلة "ميدإيست ميرور – إكسترا" (Mideast Mirror Extra)، بتاريخ 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1989، تحت عنوان: “The RAND report: Why a Palestinian state is now inevitable”. وفيما يلي تقديم المجلة المذكورة للتقرير، ثم نصه الكامل:

فيما يلي النص الكامل (من دون الهوامش) لتقرير مؤسسة راند كتبه غراهام فولر لحساب مكتب وزير الدفاع الأميركي، وهو بعنوان: "ضفة إسرائيل الغربية: نقطة اللارجوع"؟

ومؤسسة راند ومركزها كاليفورنيا هي أبرز مؤسسة أميركية من نوع "خزان الفكر" (Think Tank). وهي تقوم بأعمال البحث والتطوير للعديد من الهيئات الحكومية الأميركية، وخصوصاً في حقلي الدفاع والأمن.

وعلق الصحافي البريطاني باتريك سيل هذا الأسبوع على هذا التقرير بقوله: "ما يضاهي محتويات هذا التقرير أهمية هو هوية الكاتب، غراهام فولر. فقد كان في السابق موظفاً كبيراً في وكالة الاستخبارات الأميركية (CIA)، ذا مسؤوليات محددة تجاه الشرق الأوسط، ويعتبر من أذكى رجال الاستخبارات في أميركا."

 تمهيد

يقوّم هذا التقرير حركيّة الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية، وجذورها، واتجاهاتها، وتطورها، ومستقبلها، ومغزاها السياسي، ومضامينها، بالنسبة إلى المنطقة ككل. كما أنه يبحث في القوى الرئيسية التي تسيّر الانتفاضة، والمشكلات التي تثيرها الانتفاضة لإسرائيل ولمنظمة التحرير الفلسطينية، والمسارات التي يمكن أن تسلكها في المستقبل. ففي شهر آذار/مارس 1988، قام الكاتب بزيارة استمرت عشرة  أيام إلى الضفة وإسرائيل والأردن، تحت رعاية "مؤسسة واشنطن للسياسة في الشرق الأدنى." وهذه الزيارة التي كانت تهدف إلى الاطلاع المباشر على الانتفاضة الفلسطينية في الضفة الغربية، شملت عدة اجتماعات ومقابلات مع قطاع واسع من رسميين إسرائيليين، وأردنيين كبار، ومحللين سياسيين، وعلماء من ذوي الاختصاص بالشؤون الفلسطينية. كما شملت اجتماعات إلى عدد من فلسطينيي الضفة الغربية. وتبع ذلك زيارة ثاني من في كانون الثاني/ يناير 1989، لتقويم المستجدات والتطورات.

وهذا الصراع لا يحدث طبعاً في الفراغ؛ فإسرائيل متورطة في هذه العملية بالدرجة ذاتها من العمق تقريباً كالفلسطينيين. كما أن حصيلة الأمر ذات أهمية بالغة لإسرائيل. وتركز هذه الدراسة على الجانب الفلسطيني من المعادلة في المكان الأول، لكنها تأخذ بعين الاعتبار في الوقت ذاته بعض العوامل ذات الأهمية الخطرة داخل إسرائيل، والتي لها علاقة مباشرة بحاضر الانتفاضة ومستقبلها والمعضلة الأساسية التي تواجهها إسرائيل.

وتمت هذه الدراسة بتكليف من مكتب وزير الدفاع الأميركي. وقد أُجريت ضمن برنامج الأمن الدولي والسياسة الدفاعية التابع لمؤسسة راند لبحوث الأمن القومي، وهو مركز للبحث والتطوير تحت رعاية وزير الدفاع، ويتلقى أمواله من الحكومة الاتحادية. وهذه الدراسة يُفترض أن تحظى باهتمام موظفي الحكومة الأميركية. كما باهتمام الجمهور الأوسع ممن يبغي فهم الأبعاد الأوسع للانتفاضة وما قد يصدر عنها من مضامين سياسية.

 خلاصة

تمثل الانتفاضة في الضفة الغربية نقطة تحول في العلاقة التي دامت عشرين عاماً بين إسرائيل والضفة الغربية المحتلة. ولكونها أول تعبير طويل الأجل وعميق الجذور عن الرفض السياسي للاحتلال الإسرائيلي من جانب فلسطينيي الضفة، فإن الانتفاضة قد كانت الشرارة التي أطلقت عملية من التغيير النفسي والسياسي في صفوف السكان الذين كانوا، حتى ذلك الزمن، فاتري الهمة في أغلبيتهم ويتطلعون دوماً إلى فاعليات خارجية لإنقاذهم من السيطرة الإسرائيلية. وهكذا فقد تقلص الصراع العربي – الإسرائيلي إلى عناصره الأساسية المحض، أي الصراع في شأن الآمال بين شعبين، الفلسطينيين ويهود إسرائيل.

وبات الصراع اليوم في شأن مستقبل فلسطينيي الضفة الغربية بين أيديهم هم، وذلك من خلال ثورة حدّدت وأكدت هويتهم السياسية الخاصة بهم، وهي هوية الضفة الغربية التي لم تكن موجودة آنفاً. فالقوى التي انفلتت من عقالها، وردّات الفعل عليها في إسرائيل والولايات وغيرهما من الدول قد حتّمت الآن قيام دولة فلسطينية في الضفة الغربية. وهذه العملية سوف تكون طويلة ومؤلمة معقدة، لكن لم يعد ثمة حل آخر قابل للتطبيق.

فالسؤال أكثر تعقيداً من مجرد التساؤل عن وجود دولة فلسطينية أو عدم وجودها. إن عملية "الوصول إلى ذلك الهدف" هي الأمر الأساسي لأنها هي التي سوف تميّز العلائق بين الدولتين اليهودية والفلسطينية، كما بين إسرائيل والعالم العربي لفترة طويلة من الزمن. فإذا كانت الطريق إلى الدولة الفلسطينية طويلاً ووحشياً ودموياً ويفيض بالأحقاد، وذلك ضمن عملية لا تكون إسرائيل فيها بمثابة القائد بل تبدو أنها هُزمت، فإن العلاقة النفسية بين الدولتين بشعة،، ولربما حملت في طياتها بذور صراع مستقبلي. وبالنسبة كذلك إلى علاقة إسرائيل بالعالم العربي، من المهم ألا يُنظر إلى ولادة الدولة الجديدة أنها انتصار عربي مبني على القوة والعنف، لأن ذلك الأمر من شأنه أن يشجّع المزيد من المحاولات لاستعمال القوة ضد دولة إسرائيل. أما من جهة أخرى، فإذا تم التوصل إلى دولة فلسطينية من خلال تقلص طوعي للانتفاضة رداً على تنازلات إسرائيلية مهمة، واللجوء إلى المفاوضات وإجراءات تنمّي الثقة المتبادلة بين الطرفين، وعملية سياسية عقلانية، فثمّة آمال معقولة لقيام علائق بنّاءة بين إسرائيل والدولة الفلسطينية. وهكذا، فقد تُرسل أيضاً رسالة واضحة إلى العالم العربي مفادها أن التوافق هو المناخ الذي أحاط بقيام الدولة الفلسطينية. لذا، فإن طبيعة العملية تكاد توازي نتائجها في الأهمية.

إن جذور الانتفاضة ترجع إلى بداية الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية في أعقاب انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة سنة 1967. وهذه الجذور غذّتها الإحباطات الناجمة عن احتلال عسكري إسرائيلي دائم، وعن أمل لا يخبو بأن يأتي "المنقذ" من الخارج فيحرر الفلسطينيين من الحكم الإسرائيلي. وما أن نشأ جيل جديد لا يعرف إلا الاحتلال حتى بدأت أفكار جديدة أكثر راديكالية تظهر بوضوح إلى العيان. وكان مصادفة أن الانتفاضة حدثت في الوقت الذي حدثت فيه، وذلم لأن الشروط الموضوعية كانت قد أصبحت مهيأة، وكان يمكن أن تؤدي إلى اندلاعها قبل ذلك بعام أو بعده بعام. وكانت هنالك قوى اجتماعي وسياسية جديدة قد بدأت تفعل فعلها، وهي قوى لم يُشهد لها مثيل من قبل في إطار العلائق الفلسطينية – الإسرائيلية القلقة.

إن الروح المتحررة لهذه الحركة تزداد عمقاً ورسوخاً بينما تمضي الانتفاضة نحو عامها الثالث. وعلى الرغم من أن استخدام القوة القاهرة من قبل الجيش الإسرائيلي (ومن نتائجها مثلاً عدد كبير جداً من الضحايا بين الفلسطينيين، وفرض أحكام إدارية جديدة ذات طابع تعسفي للغاية، وطرد الألوف من المناضلين) ربما أدى إلى إنهاء المظاهر العلنية للمقاومة الفلسطينية، فإن ذلك لن ينجح في ثني إرادة سكان الضفة الغربية عن الوصول إلى دولة فلسطينية مستقلة. إن الإجراءات القمعية سوف تنجح الآن فقط في كبح قوى شديدة العداء من شأنها أن تنفجر مجدداً في المستقبل القريب حين يجب معالجة مشكلة الآمال الفلسطينية من جديد، وبثمن أكثر ارتفاعاً. وباختصار، إن هذا نضال قومي متطور وعميق الجذور، ولن يتلاشى، ولن تنخفض حرارة الإيمان به في المدى الطويل. لقد وصلنا إلى نقطة اللارجوع.

لقد خلقت الانتفاضة روحاً جديدة عند فلسطينيي الضفة الغربية لا يمكن أن تخمد، وهي الإحساس بأن مصيرهم قد أصبح بين أيديهم، وأنهم قد برهنوا عن القدرة على المقاومة الطويلة المتواصلة. لقد برزت إلى الوجود ذهنية فلسطينية جديدة، يواكبها قيام مؤسسات فلسطينية مدنية مستقلة جديدة، تعزز عزم الشعب على بلوغ الاستقلال. ولا يزيدها الزمن إلا قوة.

لقد أشعل هذا الاعتزاك الفلسطيني الجديد بالنفس شعوراً لا سابق له بالحركيّة، بحيث أضحى فلسطينيو الضفة الغربية في مركز الهجوم السياسي بينما هم يشترطون الشروط على إسرائيل. وهم إذ حرروا أنفسهم من ذهنية الرفض السياسي البالية، يبغون الآن التحدث مباشرة مع الإسرائيليين في الساحات كافة ملتمسين الاعتراف الإسرائيلي، مثلما قد أصبحوا الآن يعترفون رسمياً بوجود إسرائيل. ويعتقد الفلسطينيون أنهم قد وضعوا إسرائيل في موضع المدافع عن النفس سياسياً، وأنهم هم الذين يحتلّون الآن "الحيّز الخلقي"، وأن إسرائيل قد أمست العنصر المتشدد والرافض. وقد بدأت إسرائيل تعترف بأن الانتفاضة تمثل مواجهة مع حركة وطنية أصيلة.

لكن الانتفاضة لم تغيّر من نظرة الفلسطينيين إلى أنفسهم فحسب، بل من نظرتهم أيضاً إلى منظمة التحرير الفلسطينية. فالمنظمة لم تكن لها أية علاقة تقريباً باندلاع الانتفاضة ولا بنجاحاتها الأولى. بل على العكس من ذلك، فالانتفاضة هي التي كان لها التأثير الأعظم في قيادة المنظمة ودفعها نحو تطوير سياسة جديدة تتسم بالمرونة. والانتفاضة هي السبب المباشر من وراء التحركات السياسية الجديدة والمهمة التي قام عرفات بها، بما في ذلك إعلان دولة فلسطين والتحضيرات الجارية لإقامة حكومة فلسطينية في المنفى، والاعتراف بحق إسرائيل في الوجود من خلال القبول بقراري الأمم المتحدة 242 و383، والتخلي عن الإرهاب. وهذه الخطوات تمثّل تغييرات كبرى في موقف المنظمة. لكن على القيادة الخارجية للمنظمة أن تمارس القدر الكبير من الانتباه عند تلبية مطاليب الضفة الغربية إذا كان لها أن تحظى بتأييد مستمر من أهالي الضفة. وحتى يومنا هذا، فإن أهالي الضفة عامة لا يقبلون بأية قيادة سوى قيادة المنظمة.

وكان البدء بحوار رسمي بين الولايات المتحدة ومنظمة التحرير يمثل نقطة نحول مهمة أخرى. فالكلام مع المنظمة يعني السير قدماً نحو الاعتراف بشرعية الآمال الفلسطينية وتطلعها نحو الدولة. ويدرك رجال السياسة المتشددون في إسرائيل هذا الأمر، وهذا بالضبط هو السبب الذي يجعل المفاوضات المباشرة مع المنظمة محرمة تحريماً تاماً في رأيهم. والواقع أنه مع بداية المفاوضات المباشرة بين الولايات المتحدة والمنظمة، فإن إسرائيل نفسها، شاءت أم أبت قد شرعت في مفاوضات غير مباشرة مع المنظمة. وقد أصبحت الولايات المتحدة الوسيط الفعلي بين الطرفين، وكل منهما سوف يستمع إلى آراء الطرف الآخر. لكن وجود هذه القناة الفعلية لا يعني طبعاً أن إسرائيل سوف تختار استعمالها ضرورة.

لقد خلقت الانتفاضة "وقائع" جديدة بالنسبة إلى إسرائيل، وأثارت مشكلات أساسية تتعلق بنظرة إسرائيل إلى نفسها، وبطبيعة هذه النظرة بالذات: ما هي حدودها الحقيقية ككيان على الأرض؟ ما هي الطبيعة الإثنية والدينية الملائمة للدولة الإسرائيلية؟ ما هي متطلبات "الحدود الآمنة" عسكرياً وسياسياً؟

ولدى مواجهة هذه المشكلات انقسم المجتمع الإسرائيلي كما لم ينقسم من قبل تقريباً. فالرأي العام المحلي ينقسم إلى فئات عريضة. فأصحاب الآراء الحازمة على اليمين واليسار يملكون رؤية واضحة نوعاً ما حيال ما يريدون. أما الفئة العريضة في الوسط فهي لا تزال أسيرة الشكوك حيال الطريق الواجب اتباعها.

يضاف إلى ذلك أن الحالة الحاضرة ليست جامدة، إذ أن الضغوط المتزايدة داخل الدولة وخارجها تستدعي مواجهة هذه المسألة بطريقة لا سابق لها. وعلى الرغم من أن رؤية اليمين الأيديولوجية حيال دولة تضم الضفة الغربية لا تزال متوهجة، فإن دعاتها يعترفون كذلك بأن الجمهور الإسرائيلي قد لا يتحمل صراعاً طويلاً ومتواصلاً. وهكذا، فإن الشكوك تتفاعل وتزداد.

إن البحث الإسرائيلي – الأميركي عن قيادات بديلة لتمثيل الفلسطينيين قد انهتة بالمعنى العملي للكلمة. وفي رأي الكثيرين أنه لم يكن ثمة بديل حقيقي قط سوى التحدث إلى الفلسطينيين مباشرة في شأن مستقبلهم. وكانت الولايات المتحدة، ومعها قطاع كبير من القيادات السياسية في إسرائيل، تعتقد – وطوال سنوات عدة – أن الوسيلة المثلى لـ "احتواء" الفلسطينيين تكمن في تمثيلهم عبر دولة عربية أخرى، هي إما مصر وإما على الأرجح الأردن الذي قد يُضم إليه كيان فلسطيني ما. لكن الانتفاضة وضعت حداً يكاد يكون نهائياً لهذه الآمال بتطوير وسائل بديلة تهدف إلى منع الاستقلال الفلسطيني. وعلى الرغم من أن المجتمع السياسي في الضفة يمر بفترات من التوتر في علائقه بقيادة المنظمة في الخارج، فإن هذا المجتمع لم يهدف إلى فصل ذاته عن تلك القيادة ما دامت هذه القيادة تلبي حاجاته. إن اتحاداً كونفدرالياً يربط دولة فلسطينية في الضفة بالأردن و بإسرائيل هو أمر مرغوب فيه بوضوح، وهذا ما يقره معظم الفلسطينيين. لكن اتحاداً كهذا يجب أن يقوم نتيجة خيار حر لدولة فلسطينية ذات سيادة، إذا كان له أن يحظى بالقبول.

والاعتراف الواضح بهذه المشكلة قد بدأ بالظهور الآن لدى المجتمع السياسي في إسرائيل. لكن هذا لا يعني أن الاعتراف بـ الحل سوف يكون واضحاً أو سهلاً. وفي الحقيقة، وحتى لو اعترف الأحزاب كافة بأن قيام نوع من أنوع الدولة الفلسطينية أمر لا مفر منه، فإن "الوصول" إلى ذلك يحمل  في طياته مشكلات عسكرية وتقنية وسياسية واقتصادية وقانونية واجتماعية ونفسية معقدة للغاية، ومن شأنها أن تتطلب قيادة حقيقية، وترهق أكثر فِرَق المفاوضات الدبلوماسية حنكة. وبينما تقترب فرص التسوية الحقة باطّراد تزداد أيضاً فرص اندلاع العنف على جبهات ثلاث، أي بين الإسرائيليين أنفسهم، والفلسطينيين أنفسهم، وبين الإسرائيليين والفلسطينيين. وكلما ازداد العنف الذي يواكب قيام الدولة الجديدة طالت العملية التي تستغرقها الدولة الجديدة للوصول إلى العيش بسلام مع إسرائيل.

وفي نظر معظم الإسرائيليين، فإن تصفية الانتفاضة والوضع النهائي للضفة الغربية هما أمران أمنيان في الجوهر. فإذا كانت دولة إسرائيل قادرة على التخلي عن معظم أراضي الدولة في مقابل الحصول على سلام حقيقي، وإذا تمت تسوية مشكلة التهديد الأمني الممثل في وجود الضفة الغربية في أيدٍ فلسطينية بطريقة معقولة، فإن الكثيرين من الإسرائيليين سوف يقبلون بتسوية الأزمة الوطنية من خلال إعطاء الأراضي المحتلة للفلسطينيين بوصفه أخف الشرور. لكن مراقبة تحركات المنظمة خلال السنوات العشرين الماضية لم تكن مطمئنة للسواد الأعظم من الإسرائيليين، بالنسبة إلى إمكان العيش المشترك مع المنظمة أو إمكان السلام الحقيقي مع العالم العربي. فالشكوك لا تتبدد إلا بصعوبة فائقة.

وهناك فئة من الإسرائيليين أصغر كثيراً من تلك، وهي تعتقد أن لا مناص من قيام دولة فلسطينية في نهاية المطاف، وأن على إسرائيل أن تصل إلى اتفاق مع المنظمة، وهي الناطق الوحيد باسم الفلسطينيين، وذلك بأسرع ما يمكن. وهناك فئة أصغر من هذه أيضاً لها رؤية أيديولوجية أكثر رسوخاً؛ فالأمور الأمنية في الضفة، بالنسبة إليها، ليست هي المسألة الأساس. وحدها السيطرة الإسرائيلية المستمرة على الضفة في إمكانها أن تحقق المشروع الصهيوني الرامي إلى "أرض – إسرائيل" على شكلها الأوسع. وهذه الفئة تؤمن إيماناً عميقاً بأن خسارة هذه الأراضي، لأي سبب كان، من شأنها أن تسلخ جزءاً من روح الوطن ذاته ومن هويته القومية. ولا يمكن إقناع هذه الفئة بتغيير أفكارها التي هي أيديولوجية في الجوهر إلا إذا اضحى ثمن الاحتفاظ بالضفة غالياً جداً. وللفئات المختلفة حدود مختلفة بالنسبة إلى الثمن، لكن الكل تقريباً يعترف بوجود حد معين. فالجناح الأقرب إلى "العملية" بين الأيديولوجيين يعترف بأن الأحداث قد تتطور بحيث تجد إسرائيل أن ثمن الاحتفاظ بالضفة يفوق ما ترضى أغلبية أقل البلد به.

وفي كل الحالات، فإن الخيارات أمام إسرائيل قد بدأت تتقلص. فقد أصبح موضوع الأراضي المحتلة يثير جدالاً وطنياً حادّاً، ولم يسبق قط أن كان التفكير على مثل هذه الدرجة من التقلّب، وذلك على الرغم من التشدد المعلن من جانب حكومة شمير ورفضها للتنازلات فيما عنى هذا الموضوع. وفي المقابل، فإن الحالة الفلسطينية هي أيضاً تتغير بسرعة؛ إذ نجد الفلسطينيين يقومون بمبادرات سياسية متجددة وأكثر مرونة وأكثر جرأة، والتي لم تعد ترفض (بل ترحّب بالمفاوضات المباشرة مع إسرائيل، شرط أن يتضمن الحوار سبل الوصول إلى الدولة الفلسطينية.

ويشهد الوضع الدولي، هو الآخر، تغيراً جذرياً وخصوصاً بعد قيام تغييرات ثورية في أولويات السياسة الداخلية والخارجية للاتحاد السوفياتي، ومنها ما له تأثير مباشرة في مسألة تسوية النزاعات العالمية، والتي تتضمن سياسات سوفياتية جديدة حيال المنظمة وإسرائيل.

إن مهمة الولايات المتحدة تكمن في تحديد "سيناريوات" التسوية النهائية العقلانية والممكنة في المدى البعيد، كما تكمن في العمل لحمل كل الأطراف على الاعتراف بالحقائق.

ولا يمكن استبعاد تطور الأحداث نحو الكارثة. والإمكان الذي يثير القدر الأعظم من القلق هو نشوب الحرب، وأقربها للتوقع الحرب بين سوريا وإسرائيل. ومن شأن حرب كهذه أن تمنح المتشددين في إسرائيل الذريعة لإقحام الأردن في الحرب من أجل تغطية طرد أعداد هائلة من الفلسطينيين من الضفة وفي اتجاه الأردن. ومن شأن ذلك أن يحمل الكوارث إلى الأردن ويفضي، بصورة شبه أكيدة، إلى انهيار الأسرة الهاشمية؛ وهذا إمكان قد يرضي فئة صغيرة من سياسيي إسرائيل، وعلى رأسها أريئيل شارون. كذلك، فإن "سيناريو حرب كهذه سيكون له تأثير فادح في مصر وسوف يؤدي، بصورة شبه أكيدة، إلى إنهاء اتفاق كامب ديفيد.

وثمة "سيناريو" مروّع آخر يتضمن رفض الحكومة الإسرائيلية الناجح، وفي المدى الطويل، لاتخاذ الخطوات التي يفهمها الفلسطينيون على أنها تؤدي مستقبلاً إلى قيام الدولة الفلسطينية. وفي مثل هذه الأحوال، فإن الشعور بالإحباط سوف ينمو في الضفة، وسوف تلجأ الانتفاضة إلى المزيد من العنف وقد يكون مسلحاً مما يستوجب رداً إسرائيلياً أكثر قساوة. ومن شأن تطور كهذا أن يقوّي حجة المتشددين داخل المنظمة الذين قد ينجحون في نقض سياسة عرفات لـ"الاعتراف" بإسرائيل والعودة إلى أعمال الإرهاب التي سوف تؤدي إلى قطع المفاوضات الجارية بين الولايات المتحدة والمنظمة. وهذا بالذات هو "السيناريو" الذي قد يفضّله المتشددون في إسرائيل. وفي مثل هذه الحالة، فإن عملية السلام تكون قد أصيبت بنكسة شديدة مما ينمي الغضب في صفوف أهالي الضفة، ويمهد الطريق لانفجار أكبر في زمن لاحق. والمستفيد الأكبر من مثل هذه التطورات هو الأصوليون المسلمون والراديكاليون العرب. ولسوف تزداد الحالة النفسية داخل إسرائيل بشاعة، كما أن وجود شعب عربي معاد داخل إسرائيل سوف يصبح أمراً لا يمكن تحمله سياسياً. ولسوف يؤدي مثل هذه التطورات إلى التمهيد لحدوث تأثيرات بالغة السلبية تنتج من سيناريو الطرد، وهي في أهون الحالات قيام مواجهة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وقطع العلائق بين مصر وإسرائيل، وانهيار الحكم الهاشمي في الأردن.

 أولاً: مقدمة

تشير لفظتا "الضفة الغربية" و "الأراضي المحتلة" إلى ذلك الجزء من فلسطين الذي يسميه الإسرائيليون باسمه التوراتي، يهودا والسامرة. ويحدّ هذه المنطقة شرقاً نهر الأردن وتحدها إسرائيل من الجهات الأخرى كافة. وتقع هذه المنطقة في الضفة الغربية لنهر الأردن. وقد كانت فيما مضى جزءاً من فلسطين في ظل الانتداب البريطاني وحتى قيام إسرائيل سنة 1948، حين أصبحت الضفة تحت سيطرة المملكة الأردنية نتيجة الحرب العربية – الإسرائيلية الأولى. وكان السكان، في أغلبيتهم الساحقة، من عرب فلسطين. وهم جزء من شعب عربي فلسطيني أوسع كان يعيش فيما مضى على جميع الأراضي التي أصبحت الآن إسرائيل وحتى قيام دولة إسرائيل.

وبعد قيام إسرائيل، انتاب سكان الضفة شعور كبير بالعزلة والاغتراب، وذلك بسبب سلخهم عن الأرض التي كانت فيما مضى فلسطين الانتداب (وأصبحت إسرائيل)، ولأنهم لم يشعروا بحتة، بل على العكس كانت ترى أنه يعكس الطبيعة البدوية لـ "الضفة الشرقية"، والتي طغت بلا انقطاع على طبيعة الممكة الأردنية الهاشمية، على الرغ من أن أكثر من 60% من السكان على مدى عقود من السنين هم من الفلسطينيين. وأصاب التململ الشديد سكان الضفة الغربية تحت السيطرة الأردنية المتشددة بين 1948 و 1967. ونشبت حرب الأيام الستة العربية – الإسرائيلية في حزيران/ يونيو 1967، وأدت إلى هزيمة الأردن ومصر وسوريا هزيمة تامة. واحتلت إسرائيل الضفة التي انتزعتها من الأردن، كما احتلت القدس الشرقية التي تضم أهم الأماكن المقدسة لدى اليهود والمسلمين والمسيحيين، وبسبب هزيمة مصر احتلت إسرائيل قطاع غزة، وهو قطاع صغير على الشاطىء الجنوبي لإسرائيل، سكانه في أغلبيتهم العظمة من الفلسطينيين. (وفي هذا التقرير، فإن قطاع غزة مشمول عادة في بحثنا بشأن مشكلة الضفة، إلا إذا استثنيناه لبحث خاص به).

وما زالت الضفة منذ سنة 1967 تخضع للاحتلال والحكم الإسرائيليين. ولم تنظر الضفة إلى ذاتها تاريخياً أنها كيان مستقل، بل أنها جزء لا يتجزأ من "فلسطين" أو، بدرجة أقل، أنها جزء من مملكة الأردن، وهي الدولة العربية الأقرب إليها والتي لها مع الضفة روابط اقتصادية وسياسية وعائلية وثيقة. وأهمية الانتفاضة تكمن في أنها تمثل أول عمل سياسي مستقل وواسع النطاق تقوم الضفة به لتأكيد بعض سيطرتها على مصيرها. وفي الحقيقة، فإن الضفة ولأول مرة قد بدأت تنظر إلى ذاتها أنها كيان فلسطيني سياسي مميز، لا أنها مجرد جزء من شعب فلسطيني أوسع.

كذلك، فإن القسم الكبير من تاريخ المنظمة وتاريخ فلسطينيي الضفة يبرز صراعاً للوصول إلى التحرر من كل القوى السياسية في الشرق الأوسط. فالفلسطينيون لم يشطاطوا غيظاً في ظل الاحتلال والحكم الإسرائيليين فحسب، بل حاولوا أيضاً الحفاظ على حريتهم في العمل تجاه معظم الدول العربية الأخرى في المنطقة. وقد خاض الأردن وسوريا ومصر، على الأخص، عدة حروب مع إسرائيل. وقد درجت هذه الدول على اعتبار الفلسطينيين (والمنظمة تاليا) أنهم وسيلة سياسية وعسكرية شرعية لاستعمالها الخاص في الصراع الأوسع ضد إسرائيل. والواقع أن المنظمة كانت، ولا تزال، تجاهد للحفاظ على الدرجة القصوى من التحرر من الدول العربية الكبرى، التي مالت بدورها إلى الاعتقاد أن مساعداتها الخارجية من أموال وأسلحة وتدريب ومراكز انطلاق للعمليات، يجب أن تؤدي إلى إلزام المنظمة بالعمل لمصلحة أهدافها السياسية المتنوعة. والاحتضان الذي مارسه معظم هذه الدول، وخصوصاً سوريا، كان من شأنه في العديد من الأحوال أن يجعل المنظمة في حالة تشبه الأسر على شكل من الأشكال. وكان على المنظمة أن تناضل للتأكيد أنها هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. إن فترة الانتفاضة تكتسب أهميتها لكونها، بين أسباب أخرى، تشهد المزيد من الاستقلالية في العمل لدى أهالي الضفة والمنظمة معاً. والواقع أن الانتفاضة تمثل تحولاً جذرياً يؤدي إلى الابتعاد عن الصراع العربي – الإسرائيلي التقليدي، ويقترب من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي المباشر.

إن أية تسوية سياسية في الضفة قد أصبحت أكثر تعقيداً بكثير، وذلك بسبب السياسات التي اتبعتها حكومات إسرائيلية متلاحقة، وخصوصاً حكومات الليكود وما تضمنته من تشجيع للاستيطان اليهودي الإسرائيلي في الضفة و"خلق الوقائع (الديموغرافية والمتعلقة بالأرض)" بهدف إعاقة أو تعقيد أية إعادة إسرائيلية ممكنة لتلك الأراضي، وتعزيز الوضع الأمني لإسرائيل في المنطقة. ومن سخرية الأقدار أن قطاعاً واسعاً من الجمهور الإسرائيلي قد أصبح يعتقد أن المستعمرات الإسرائيلية في الضفة تجعل من إسرائيل رهينة سياسية لمستقبل مظل، بدلاً من أن تعزز سيطرة إسرائيل الواضحة عليها.

وتبحث هذه الدراسة في أسباب الانتفاضة وتطورها، وإنشائها للمؤسسات، وأهدافها النهائية. كما أنها تعالج موضوع القيادة المحلية الشائك، وعلاقة التوتر الطبيعي بين القيادات الفلسطينية في الداخل والخارج (أي المنظمة). وتستكشف الدراسة، كذلك، موضوع الغموض في الموقف الأردني في المدى الطويل تجاه الضفة، والموت الأكيد لما يسمى الخيار الأردني. وتعرض الدراسة طبيعة "الخيار الفلسطيني" ومضامينه، كما تعرض المعضلات الإسرائيلية. ويخلص التقرير إلى البحث في العوامل الدولية الجديدة التي تؤثر في الوضع، وإلى بعض الاستنتاجات في شأن النتائج النهائية للانتفاضة.

 ثانياً: الانتفاضة

أسباب العصيان

تنطلق الانتفاضة، التي برزت إلى الوجود في كانون الأول/ ديسمبر 1987، من عوامل عديدة ومتنوعة، بعضها طويل الأمد وبعضها مباشر:

  • إحباط شديد حيال ممارسات الاحتلال الإسرائيلي التي تشمل، في رأي فلسطينيين الضفة، ممارسات اقتصادية وتجارية تتسم بالتمييز والحرمان من أي وضع قانوني مدني واضح في ظل الحكم العسكري، ومضايقات بوليسية وإدارية مستمرة تهدف إلى إذلال الفلسطينيين و"إبقائهم في منزلتهم الوضيعة".
  • نشوء مقاييس جديدة وبصورة غير مقصودة نتيجة الاحتلال، يقيس الفلسطينيون بها الآن آمالهم الذاتية، فهم لا يقابلون أوضاعهم بالأوضاع السائدة في العالم العربي، بل إنهم يقابلون هذه الأوضاع بالأوضاع السائدة في العالم الإسرائيلي الذي يعيشون فيه. فهم يقيسون رواتبهم وحرمانهم من الخدمات الاجتماعية بما يحصل العمال اليهود الإسرائيليون عليه، ويقابلون حرياتهم المدنية المتدنية إلى حدودها الدنيا والتقييدات على الحرية الصحافية بما يوازيها في المثال الإسرائيلي، لا في العالم العربي.
  • نمو إحساس بالإحباط لدى الفلسطينيين حيال ما يبدو أنه التخلي وعدم الاكتراث الصادران عن المجتمع الدولي حيال مصيبتهم. فالدول العربية التي طالما انتظروا العون منها لم تنجز شيئاً؛ إذ فشل عبد الناصر في حرب 1867، ولم يحقق السادات وعوده في حرب سنة 1973، ولم يتحرك الأردن، والجيش العراقي بعيد عنهم ومنهمك في حربه مع إيران، والمنظمة لم تكن فعّالة في صراعها مع إسرائيل على امتداد عشرين عاماً من "الكفاح المسلح"، والسياسات الدولية لم تخفف من وطأة المعاناة في الضفة، وعرفات عومل بإذلال خلال القمة العربية سنة 1987، حيث لم يحظ الموضوع الفلسطيني بأي اهتمام تقريباً، والقيادات العربية منهمكة في حرب الخليج التي لا تنتهي، والدول العظمى لم تفعل شيئاً؛ بل أنه في القمة التي عُقدت أواخر سنة 1987، لم يتم تجاهل المسائل الفلسطينية تجاهلاً تاماً فحسب بل وحدها مسائل الحقوق الإنسانية لليهود في الاتحاد السوفياتي هي التي تم البحث فيها. ومع ذلك فالفلسطينيون لا يستطيعون الحصول على الموافقة على الطلبات العالقة في شأن إعادة جمع شمل 5000 فلسطيني بين زوج وزوجة.
  • خوف راسخ من أن إسرائيل لا تكترث لمسألة مقايضة الأرض بالسلام بل بالأرض فقط. وقد عزز هذا الرأي ازدياد المستعمرات الإسرائيلية في الضفة. فمنذ سنة 1967، استولت إسرائيل بشتى الوسائل على 52% تقريباً من أراضي الضفة، ومقدار الثلث من مياه الضفة يسيل الآن إلى المستعمرات الإسرائيلية. ويعيش الآن نحو 70,000 مستوطن يهودي في الضفة من مجموع عدد سكان يقدر نحو 1,7 مليون نسمة.
  • الخوف من أن إسرائيل تخقق لطرد الفلسطينيين من الضفة، وهذا الخوف مبني على الكلام المتنامي في هذا الموضوع، ليس في أوساط مناصري مئير كهانا فحسب بل أيضاً على لسان نائب وزير الدفاع في أواسط سنة 1987.
  • مقاومة خطة شولتس ومحادثات الحكم الذاتي. في نهاية الأمر، يرى الفلسطينيون أن "الحكم الذاتي في الضفة والقطاع" لا يعدو كونه رمزاً لتثبيت الوضع القائم، أي الحكم الإسرائيلي.
  • الوضع المريع للغاية، وخصوصاً في مخيمات اللاجئين في قطاع غزة، وقذارتها واكتظاظها بالسكان، وهي "إحدى أكثر المناطق اكتظاظاً بالسكان على وجه الأرض."
  • التوترات الاجتماعية الداخلية الناجمة عن الاحتلال المتواصل، بما في ذلك: الخلافات بين الأجيال في شأن مزايا ومخاطر المقاومة السياسية والإرهاب؛ التوتر بين من اختار التكيف إزاء المقاومة، ومن لم يختر ذلك؛ التوتر بين فلسطينيي "الخارج" من أصحاب الآراء المثالية أو غير الواقعية حيال مسألة مقاومة الاحتلال، وبين سكان الأراضي المحتلة الذين يقع عليهم عبء الحقائق اليومية المتصلة بالصمود في مكانهم؛ التوتر بين من استفاد من الاحتلال وبين لم يستفد، بين من اختاروا الانتقال اليومي إلى إسرائيل برواتب أفضل لمصلحة عائلاتهم وبين من يرفض مثل هذا الخيار، بين العمال الفلسطينيين والعمال الإسرائيليين في أماكن العمل في إسرائيل؛ التوترات الناجمة عن التمييز الخفي ضد العرب والذي يوجد على المستويات كافة؛ الاختلاف في الرأي بين اليمين واليسار في صفوف الفلسطينيين أنفسهم.

إن الشرارة المباشرة التي أطلقت الانتفاضة هي الشعور المتنامي بالشجاعة الذي تجسد على شكل رمزي مهم بالهجوم الذي تم بواسطة الطائرة الشراعية من قبل فدائيين فلسطينيين انطلقوا من لبنان ضد الجنود الإسرائيليين في شمال إسرائيل خلال تشرين الثاني/ نوفمبر 1987. وكان من شأن هذا الهجوم أن يبرهن، عند مفترق سياسي مهم، أن الفلسطينيين ما زالوا قادرين على استخدام وسائل مبدعة لمواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلية وإلحاق الضرر بها.

لذا، فإن الشروط المسبقة لاندلاع الانتفاضة كانت تتأجج منذ زمن، وواطبها صعود تدريجي لجيل جديد. وهذا المزيج المتفجر كان ينتظر الشرارة التي تؤدي إلى اندلاعه. وفي رأي معظم المراقبين، فإن الانتفاضة كان في إمكانها أن تحدث قبل حدوثها بعام أو بعده بعام. والحادثة المعينة التي أطلقتها – وهي حادث سيارة وقع في غزة وأدى إلى مقتل عدد من الفلسطينيين – كانت مصادفة. لكن ما إن اندلعت الشرارة حتى شب الحريق وانتشر.

هل في الإمكان إخماد الانتفاضة؟

إن المدى الزمني الممكن لهذا العصيان أمر في غاية الأهمية. لقد مضى عليه حتى الآن عام ونصف العام، وهي مدة أطول كثيراً مما كان يتوقعه إنسان. وقد صرح معظم الرسميين في إسرائيل أن الانتفاضة يجب أن تُخمد قبل الشروع في أية بدائل سياسية أخرى أو أية مفاوضات. وقد يميل حزب العمل إلى مفاوضات منفتحة أكثر مما يميل الليكود، إلا أن كلا الحزبين يرفض المفاوضات الجدية ما دامعت الاضطرابات مستمرة: "لا يمكننا التفاوض ما دام الفريق الآخر يمارس ضغوطاً علينا." وبينما تستمر الانتفاضة شهراً بعد شهر نحو عامها الثاني، فإن الرسميين في إسرائيل سوف يضطرون – وبالتأكيد تقريباً – إلى تبديل موقفهم. فالاستكشافات التمهيدية التي قام دبلوماسيون أميركيون بها، أوائل سنة 1989، توحي بأن هنالك بعض الزيادة في الاهتمام الإسرائيلي بالقيام بمثل هذه الخطوات.

ولم يستطع أي من الحزبين في إسرائيل التعامل بطريقة خلاّقة أو منفتحة مع المشكلة الفلسطينية تحت ظلال حكومة التحالف الوطني القديمة القائمة على ائتلاف العمل والليكود، وهي حكومة كان للعمال فيها الصوت والدور الأكبران. وبعد انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر 1988، برزت إلى الوجود حكومة تحالف جديدة من الليكود والعمل، خسر العمل فيها بعض المواقع لمصلحة الليكود، واضطر إلى اتخاذ موقف متشدد من الفلسطينيين يستثني المفاوضات مع المنظمة. وازدادت السياسة العسكرية تجاه المتظاهرين قسوةً، كما أن سقوط الضحايا بين الفلسطينيين قد ازدادت وتيرته. والكثيرون من المتشددين، بمن فيهم وزير الدفاع الأسبق أريئيل شارون والحالي يتسحاق رابين، لا يتعاملون مع الفلسطينيين إلا من موقف القوة الغالبة؛ وهذا يتطلب اعتراف الفلسطينيين بالهزيمة، واعترافهم أيضاً بأنهم لا يملكون أي بديل مقبول لديهم. أما الفلسطينيون، فلن يجدوا طبعاً أن من مصلحتهم التفاوض بعد أن يتم سحقهم.

وهناك مسؤولون متشددون كشارون مثلاً، وهو ليس وحيداً في موقفه هذا، يعتقدون أن في الإمكان احتواء الانتفاضة وطمسها لاحقاً على الرغم من أنهم يرون أن وقتاً ثميناً قد فات مما أتاح للفلسطينيين فرصة أخذ المبادرة سياسياً وتكتياً. ويعتقد شارون أنه لو اتخذت إجراءات مشدةة حقاً في أول الطريق لكان في استطاعة رابين سحق الانتفاضة في المهد. ويزعم الانتفاضة في زمن قصير نسبياً. وعلى الرغم من أنهم لم يصرحوا بتفاصيل هذه المقترحات، فإنهم يلمحون بوضوح إلى مزيج من: (1) القوة، بما في ذلك القتل والاعتقال والطرد؛ (2) سلسلة مبدعة من "الإجراءات الإدارية" والتصاريح الخاصة والتقييدات؛ (3) مزيج متنوع من الضغوطات الاقتصادية، بما في ذلك رفض التوظيف ورفض منح رخص التصدير إلى الأردن وإلى ما هنالك. وقد دعا شارون، مؤخراً وعلناً، إلى اغتيال عرفات ومن حوله كإجراء ضروري لإنهاء الانتفاضة. ويشدد هؤلاء المسؤولون على ضرورة استخدام قوة ضخمة بسرعة، بدلاً من تطويل أمد النزاع باستخدام وسائل أكثر تواضعاً. وفي رأيهم، أن أياماً قليلة من الحكم الاستبدادي المطلق من شأنها أن ترهب الفلسطينيين وتجبرهم على الانكفاء. وفي زعمهم أن مثل هذه الوسائل القصيرة الأجل والبالغة العنف، سوف يقلل من الضحايا، حتى بين الفلسطينيين أنفسهم. لكن مثل هذه الآراء يصطدم برفض حاد يأتي على لسان رئيس الأركان الإسرائيلي على شكل تصريحات علنية واضحة، ومفادها أن الانتفاضة لا يمكن أن تُخمد بالوسائل العسكرية.

والواضح أن شارون يرى أن إجراءات الطرد هي إحدى أنجع الوسائل؛ فهو على استعداد الآن لسحب الحكم العسكري من الضفة، وبسط القانون الإسرائيلي المدني على معظم أرجاء المناطق المحتلة. وهذا الأمر هو بمثابة الضم الذي رفضه اتفاق كامب ديفيد. وعلى الرغم من أن الكثيرين من رسميي الليكود قد انجذبوا نحو مثل هذه السياسة، فإنهم مقيّدون من جانب زملائهم في الحزب من الذين يخشون تأثير مثل هذه الخطوة في علائق إسرائيل بالولايات المتحدة والعالم. ويجعل استمرار قيام التحالف الحكومي الوطني مع حزب العمل هذا "السيناريو" أمراً بعيد الإمكان.

العوامل الاقتصادية

يقوم العامل الاقتصادي بدور مهم في هذا الصراع. فالإضرابات الفلسطينية وامتناع العمال من العمل في إسرائيل لا تؤثر في الاقتصاد الإسرائيلي إلا تأثيراً ضئيلاً. ولم تتسبب هذه الأمور إلا بانخفاض نسبة 2% فقط في الناتج الوطني العام حتى اليوم. وذلك استناداً إلى تقديرات إسرائيلية رسمية. لكن قطاع السياحة انخفض بنسبة الثلث قياساً بفترة ما قبل الانتفاضة. ويقدّر وزير سابق للاقتصاد في إسرائيل أن الثمن الإجمالي للانتفاضة، الذي دفعه الاقتصاد الإسرائيلي سنة 1988، فاق 900 مليون دولار.

وفيما يختص بالفلسطينيين، هنالك سؤال ذو أهمية بالغة يتعلق بالبقاء بعد انقطاع موارد العيش. وتوجد نسبة عالية من عمال الضفة والقطاع تنتقل كل يوم إلى إسرائيل من أجل العمل. ورفض العمل في إسرائيل، أو رفض منح الحق في العمل في إسرائيل، أو عدم القدرة على الوصول إلى إسرائيل بسبب الاضطرابات أو إقفال مراكز العبور، من شأن هذه الأمور جميعاً أن تجعل العمال الذين يعتمدون على الرواتب اليومية عرضة للتأثر بصورة خاصة. وتتخذ لجان الانتفاضة المحلية بعض الإجراءات لمحاولة الإقلال من تأثير ذلك في ذوي الدخل المنخفض، وذلك من خلال تخفيف أجور السكان وتمويل بعض النفقات الأخرى. وللأموال القادمة من الخارج أهمية بالغة هنا. فالمنظمة تصر على إيصال الأموال إلى المقاومة حتى يتمكن رجال المقامن الاستمرار في العيش، حتى لو كانوا يعملون بصورة جزئية أو لا يعملون على الإطلاق.

والمشكلة هي في إيصال الأموال إلى الضفة. وقد صرح العديد من المراقبين أنه على الرغم من الإجراءات المشددة عند نقاط الحدود إلى إسرائيل، والتي تحدّ بصورة كبيرة من كمية الأموال التي قد تصل إلى الضفة، فإن الوضع المصرفي في عالمنا اليوم يجعل من السهل اللجوء إلى مكالمة هاتفية رمزية أو حتى قصاصة صغيرة من الورق، ويكفي ذلك لإتمام معاملات الاعتماد المصرفي.

ولربما خفت حدة هذه المشكلة بالنسبة إلى المنظمة في القمة العربية التي عقدت في الجزائر في حزيران/ يونيو 1988، والتي كان الهدف المعين من عقدها البحث في السياسة العربية الواجب اتخاذها حيال الانتفاضة، وخصوصاً بعد فشل هذه القمة العجيب في مناقشة الموضوع الفلسطيني جدياً في القمة السابقة في أواخر سنة 1987. وقد خصصت قمة حزيران/يونيو 1988 ما يفوق 100 مليون دولار تحديداً لدعم الانتفاضة، كما عيّنت المنظمة مسؤولة عن التصرف في هذه الأموال. وكان هذا الأمر بمثابة دعم سياسي كبير للمنظمة، بصرف النظر عن التردد الذي حدث حياله؛ إذ أنه حرم الأردن وسوريا وأي طرف عربي "محسن" آخر، إبداء الرأي في شأن كيفية استخدام هذه الأموال. والواقع أن الحركةا لفلسطينية قد اتسمت تاريخياً بالنضال للتحرر من سيطرة الدول العربية الأخرى، وللاضطلاع بالمسؤولية الكاملة والوحيدة تجاه مستقبل الفلسطينيين.

ومن المرجح أن تتمكن الانتفاضة من توفير الأموال اللازمة لتأمين الحد الأدنى من العيش على الأقل للسكان، بصرف النظر عن الإجراءات الإسرائيلية كافة. لكن هذا الأمر قد لا يكون كافياً في المدى البعيد.

ومن سخريات  الأقدار البارزة في هذا المضمار، أن بعض المصارف الإسرائيلية قد أضحى هو نفسه مصدراً مهماً لنقل هذه الأموال، وكثيراً ما يتم ذلك من دون معرفة منه. فالسندات الإسرائيلية من الخارج وبعض الأمور المشابهة تُستخدم من قِبل الفلسطينيين. ويحرص العديد من الإسرائيليين على تهريب العملة الصعبة إلى الخارج، وهذا قد يلائم أيضاً مصالح أهالي الضفة وحاجاتهم. وأخيراً، فإن الجالية اليهودية الأكثر تصلباً في القدس، والتي من رأيها أن مجرد قيام دولة يهودية قبل قدوم المسيح هو كفر بحت، قج استخدمت من حين إلى آخر قنواتها المالية الخاصة لمساعدة المنظمة في تحويل الأموال.

التأثيرات في المجتمعات: معادلة الألم

من المرجح أن في إمكان إسرائيل إخماد أهم مظاهر الاضطرابات لمدة من الزمن، إذا كانت مستعدة لاستخدام القوة بلا رحمة، ولتخصيص الجهود والقوى العاملة لمثل هذا الهدف. لكن السؤال المهم هو: ما الثمن الذي ستدفعه إسرائيل لقاء ذلك؟ هل يتسبب مثل هذه الإجراءات المطلوبة بدفع ثمن باهظ في الخارج، وخصوصاً في الولايات المتحدة؟ وهل من شأن استخدام القوة بلا رحمة أن يؤدي فقط إلى ازدياد الجدل والخلاف السياسي داخل إسرائيل؟ إن هذا السؤال هو في صميم "معادلة الألم" البالغة الأهمية: من هو الطرف الذي في استطاعته أن يسبب المقدار الأكبر من الألم للطرف الآخر؟

تمثل معادلة الألم أثماناً مختلفة جداً بالنسبة إلى كل طرف. فهي بالنسبة إلى الفلسطينيين مسألة ضحايا  وجرحى وإجراءات قمعية وتهديدات وطرد وتفجير منازل وضغوطات مالية ومصاعب في الحياة اليومية. أما بالنسبة إلى الإسرائيليين، فعدد الضحايا المتوقع زهيد، لكن الألم يقاس بمقياس الثمن الخلقي للدولة والمجتمع السياسي، والقلق الداخلي العميق للأهل الذين شارف أبناؤهم على سن الخدمة العسكرية، وهم يواجهون إمكان التصدي لمدنيين عرب بالضرب وإطلاق النار، بمقاييس النظرة إلى الذات والهدف القومي. إن التآكل الخلقي الذي يسببه هذا الموضوع سوف يستمر في نهش إسرائيل، وهي حسّاس للغاية حيال الأمور الخلقية المتصلة بهذا الشأن.

ويشعر الكثيرون من الإسرائيليين بأن في إمكانهم التعايش مع الانتفاضة لأنها لا تمس حياتهم اليومية. وهم يعترفون بأنهم لا يستطيعون الذهاب بعد الآن إلى الضفة، لكن العديد منهم لم يذهب قط إليها في كل حال. ولا تركز وسائل الإعلام الغربية في الحاضر على كل حادثة إلقاء للحجارة. أما الاهتمام الدولي، فقد تحول إلى أمور أخرى في الوقت الحالي. لكن الصراع يفرض نفسه بازدياد على مسرح الحياة الوطنية، بصرف النظر عن تأثير الانتفاضة المباشر في الإسرائيليين. وفيما يختص بالإسرائيليين الذين يعيشون على مقربة من العرب أو يواجهونهم في حياتهم اليومية، وهم في الخالب من العرب الذين يمارسون الأعمال اليدوية في إسرائيل، فإن الشكوك والمخاوف عميقة الجذور. وكل مجتمع ينمّي التخيّلات المظلمة لديه حيال نيات المجتمع الآخر، لذا، فإن الاستقطاب ينمو باطّراد.

وإذا كان ثمن الاحتلال سيبقى عالياً أو سيرفع، فما الفوائد التي قد يرى البعض أنها تفوق الثمن؟ في نهاية المطاف، تكمن الفائدة العظمى للاحتلال في الاستملاك المادي المحض للأرض، إما لأسباب أيديولوجية، وفي الأمل بأن المشكلة الفلسطينية سوف تتلاشى يوماً ما وبطريقة ما. لكن مثل هذه النظرة ينطوي على أحد أمرين: إما نظرة عطف (وساذدة) ترى أن الفلسطينيين سوف يتخلون في النهاية عن فكرة الدولة المستقلة ويرجعون إلى العيش بسلام مع الإسرائيليين داخل دولة واحدة، وإما نظرة أقل عطفاً ترى أن الزمن والأحداث في رحم المستقبل كفيلة بطرد الوجود الفلسطيني. وهذه النظر الثانية قد تكون هي جدول الأعمال الخفي (ولربما ليست هي نظرة واعية) لدى أولئك الذين يؤمنون بأن في إمكانهم الصمود. وفيما عدا ذلك، فإن الوصول إلى الضفة، بالنسبة إلى معظم الإسرائيليين، قد انتهى الآن في حكم الواقع؛ فالاستمتاع بأراضي يهودا والسامرة واستخدامها، وهي الأراضي التي يرونها من إرث الأجداد، قد أصبحا الآن ممنوعين عليهم وعلى أولادهم. إن عملية الانسحاب النفسي الإسرائيلي قد اكتملت تقريباً. وبينما تصبح عملية المبادلة أكثر وضوحاً مع مرور الزمن، يُجبر الإسرائيليون على اتخاذ القرار بالتخلص إما من الضفة وإما من سكانها.

ماذا استفاد الفلسطينيون: هل من فائدة في "انتصار معنوي"؟

تجمع التقارير على أن الفلسطينيين كانوا، في الأشهر الأربعة إلى الستة الأولى من الانتفاضة، في حالة من الزهو المطلق حيال ما اعتقدوا أنهم قد أنجزوه. فالانتفاضة كانت عندئذ قد سجلت انتصارها في التفكير الفلسطيني، بصرف النظر عما قد يحدث في المستقبل.

وبينما تسير الانتفاضة قدماًً نحو إكمال عامها الثاني، فإن القسم الكبير من الزهو والابتهاج قد تلاشى. إن تنظيم النضال، وضمان استمراره عبر الزمن الطويل، من الأمور التي تتطلب العمل الشاق والتضحيات الشخصية الكبيرة، والتي تستجلب عدداً متزايداً من الضحايا. لكن المراقبين كافة يجمعون على أن الفلسطينيين قد خلقوا الآن تراثاً شعبياً جديداً؛ فقد برهنوا عن قدرتهم على التصدي لإسرائيل. وفي الواقع فقد لحظ الفلسطينيون، وبعض الإسرائيليين كذلك، تبديلاً خفياً في الأدوار تم خلال السنة الماضية على صعيد العلائق بين المجتمعين. فالخوف من الوضع القائم قد تسرّب من المعسكر الفلسطيني إلى داخل المعسكر الإسرائيلي، وأصبح الفلسطينيون يشعرون الآن بأن الوقت يسير في مصلحتهم. وبينما كانت إسرائيل في الماضي تعلن وبكل ثقة أنها "تخلق الوقائع" في الضفة من خلال المستعمرات، فإن أهالي الضفة هم الذين "يخلقون الوقائع" الآن مع إقفال المنطقة فعلياً ونشوء مؤسسات مدنية فلسطينية مستقلة جديدة. وفي إمكان أهالي الضفة دخول إسرائيل بسهولة نسبية، لكن الإسرائيليين لا يمكنهم دخول الضفة. ومع تخلي الفلسطينيين عن سياسة الرفض السابقة، أصبح زعماؤهم الآن يسعون للاتصال بالإسرائيليين وللمفاوضات في شأن مستقبل دولتهم. (لكنهم يرفضون كل نوع من أنواع الاتصال بسلطات الاحتلال). ويشعر الفلسطينيون بأنهم قد أخذوا المبادرة النفسية، ويرون أنهم هم "معسكر السلام" الذي يطالب بحقوقه ويتخلى عن اللجوء إلى السلاح الناري، بينما إسرائيل هي التي ترفض الحقوق وتستخدم السلاح الناري وتبني لنفسها ذهنية الحصار. وبات الفلسطينيون الآن يرون الإسرائيليين أنهم أناس محاصرون متشبثون بالرفض ويقابلون بالسلبية كل الدعوات إلى المزيد من المرونة.

وهذا التبديل في الدور النفسي هو العنصر الجديد والأهم الذي خلقته الانتفاضة؛ فجيش الاحتلال لم يعُد يُنظر إليه أنه الجيش القادر على كل شيء. فقد أصبح الفلسطينيون يشعرون بأنهم قد حصلوا على سلطة خلقية في أعين العالم الإسلامي، وحتى في إسرائيل نفسها. وهذا الأمر لا يمكن أن يؤخذ منهم. أما الشهداء فهم لا يزيدونهم إلا رسوخاً في حسّهم بالقيم الخلقية. وهذه الذهنية الجديدة تعني أن في استطاعة الفلسطينيين أن يبقوا على التزامهم النضال – وهذا هو المرجح – في المدى الطويل، وربما لعقود من الزمن، بصرف النظر عن العقوبات التي قد يتعرّضون لها. وفي رأي الكثيرين أنهم قد استعادوا أغلى ما يملكه الإنسان، أي احترام الذات. ومن شأن هذا الأمر، ولسخرية الأقدار، أن يرفع من مقامهم في أعين الكثيرين من الإسرائيليين الذين يرونهم الآن خصوماً "جديرين" بالمفاوضة.

هل هذا النوع من احترام الذات هو الذي يُترجم إلى ثقة بالذات يمكن استخدامها من أجل تسوية سلمية مع إسرائيل، كما فعل السادات عندما انتصر في معركة عبور القناة ومباغتة إسرائيل سنة 1973؟ يرى الفلسطينيون أنهم الآن مستعدون للتسوية، شرط أن تتضمن قيام دولة فلسطينية. وثمة رغبة متزايدة في نقل الفوائد الثورية والخلقية إلى حيز السياسة الواقعية التي من شأنها أن تقرّب الضفة إلى الوضع الذي يبتغيه أهلها العرب، لكن إسرائيل نفسها ما زالت بعيدة عن هذه النقطة؛ فهي غير مستعدة لدفع الثمن الذي يصرّ الفلسطينيون عليه. لذا فمن الممكن أن يستمر القتال وعلى مستويات مرتفعة نوعاً ما، وإلى زمن ما.

وحتى لو استطاعت إسرائيل حشد القوة القاهرة الكافية وفرض إجراءات إدارية خانقة لسحق معظم أشكال التمرد الظاهرة، فالقلّة فقط من الناس هي التي ترى أن المشكلة قد تم حلها. فالمشكلة، في أفضل الأحوال، سوف تقبع تحت السطح مباشرة تنتظر الفرصة السانحو. والغريب في الأمر أن الكثيرين من رسميين الليكود يعتقدون أن في قدرتهم العودة على شكل ما إلى الوضع الذي كان قائماً بالسابق، أو على الأقل فيما يختلص بإخماد العنف. لكن الإسرائيليين من أهل الدراية يجمعون، في معظمهم، على أن الوضع السياسي والنفسي الذي كان قائماً في السابق قد ولى إلى الأبد. والأسوأ من ذلك، أن العلائق بين الفلسطينيين واليهود قد أصابها، في الغالب، تدهور حاد في النوعية تصعب معالجته ما دامت علائق عدم المساواة هي السائدة سياسياً.

ومن الأثمان العديدة التي دفعتها إسرائيل حتى الآن، التصرف المثير للقلق البالغ في صفوف عرب إسرائيل. فالفلسطينيون، وعددهم 300,000، الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية ويتمتعون بمعظم حقوق المواطنية، قد جاهروا بمساندتهم للعصيان في الضفة وتعاونوا معه، إما بإظهار التضامن وإما بتقديم العون المادي. ومع مرور الزمن، فإن هذا التضامن هو في ازدياد حتى لو كانت أعمال العنف الظاهرة بين صفوف عرب إسرائيل محدودة نسبياً. ولسخرية الأقدار، فإن الكثيرين من الإسرائيليين يشعرون الآن بأن هؤلاء العرب "قد تغيروا" بصورة أو بأخرى، وأنهم بدأوا فعلاً يندمجون في المجتمع الإسرائيلي. وأصبح الكثيرون منهم يتكلمون العبرية بطلاقة ودخلوا بعض المهن داخل إسرائيل، كما أنهم ممثلون في الكنيست الإسرائيلي. وكان الأمل لدى إسرائيل بأن يتلاشى "طابعهم العربي" بصورة أو بأخرى، باستمرار عملية الانصهار. لكن هذا الحلم وهذا الأمل قد تبددا، ولن يعودا على الأرجح. فقد برهنت الانتفاضة أن لدى عرب إسرائيل شعوراً راسخاً بـ"عروبتهم" سوف يبقى على الدوام أعمق من أي تكيّف مريح لكنه سطحي إزاء الحياة في إسرائيل. وإلى جانب ذلك، فإن عرب إسرائيل يكثّفون من مطاليبهم لنيل حقوقهم كاملة داخل المجتمع الإسرائيلي، بما في ذلك التحرك السياسي لمصلحة إخوانهم في الضفة.

مَنْ الخاسر من كل هذا؟ يقول بعض الإسرائيليين أن الخاسرين هم الفلسطينيون لأنهم قد برهنوا عن القبول بدولة فلسطينية. ولربما كان هذا صحيحاً، لكن العكس قد يكون صحيحاً أيضاً. هل يتحمّل الإسرائيليون الإبقاء على عنصرٍ داخل دولتهم اليهودية لن يندمج أبداً ولن يتوانى أبداً عن النظر إلى الإسرائيليين أنهم فاتحون مغتصبون يجب التغلب عليهم سياسياً، إنْ لم يكن عسكرياً؟ ويدور هذا السؤال في خلد الكثيرين: هل هاجر معظم اليهود إلى إسرائيل للعيش في دولة ذات قوميتين مع العرب، وهم الذين سوف تفوق أعدادهم أعداد اليهود بعد عقدين من الزمن، أم هل أتوا ليعيشوا داخل دولة يهودية؟

وقد تخطت المشكلة الآن الحد السياسي ووصلت إلى الحيز الشخصي. ويتحدث الكثيرون من الإسرائيليين عن جدران من الشك، وحتى من الخوف قد انتصبت وباطرد لا مثيل له بينهم وبين العرب منذ الانتفاضة. ويعي كل فرد الآن أن ثمة صراعاً أساسياً يدور ولا مكان فيه لموقف حيادي، ومن ضحايا هذا التوتر الجديد في العلائق روابط الود، بل أواصر الصداقة التي كانت تربط الطرفين. فالصراع الذي كان لعقود من الزمن يبدو أنه صراع بين إسرائيل والدول العربية المجاورة، قد ارتد الآن ليصبح في معظمه صراعاً فئوياً داخل إسرائيل نفسها. وحتى مدينة القدس القديمة نفسها، والتي هي خالية من الحوادث نسبياً، يفوح منها جو من العدائية لا يتحمله معظم الإسرائيليين. وباستثناء بعض الغلاة من الذين قرروا العيش في عمق الضفة الغربية ولأسباب أيديولوجية، فإن الضفة غابت عن حياة معظم الإسرائيليين، وفي معظم الميادين.

وباختصار، فإن أي قمع لهذا العصيان حتى لو نجح موقتاً وبأي ثمن سياسي، فإن مثل هذا القمع لن يشكل حلاً في الأرجح وفي المدى البعيد. فقد تصلّبت المواقف السياسية، وارتفعت قيمة الرهان، وتبددت كما يبدو عقود من الزمن التي بذلت فيها الجهود لتلمّس اعتدال جديد. فأسطورة الانتفاضة سوف تغذي، بلا شك، جولة أخرى من النزاع.

والأمر الذي يحمل المزيد من المغزى هو أن شعوراً بهوية فلسطينية تابعة للضفة قد تبلور بالتدريج تحت ظلال الانتفاضة. ومن المعلوم أن أي تفكير في كيان مستقل في الضفة كان يواجه بالرفض منذ سنة 1948؛ فالأردن لم يرحّب بهذا التفكير قط، لا عندما كانت الضفة تحت سيطرته، ولا عندما حاول فيما بعد استرجاعها من إسرائيل كجزء لا يتجزأ من أرضه.

وقد سعى الأردن، وباستمرار، لإضعاف أي شعور بالاستقلال هناك. وحاولت إسرائيل هي الأخرى، عندما احتلت الأراضي سنة 1967، أن تقمع أية قيادة مستقلة والتي كانت في رأيها تمثل تحدياً لها. وأخيراً فالمنظمة نفسها لم ترغب قط في أن ترى قيادة بديلة ومستقلة تقوم بين الفلسطينيين. لذا، فقد شهد العقد المنصرم تطوراً في الضفة في اتجاه هوية ذاتية جديدة. وعملية التكور هذه لا يمكن أن تتبدد، وهي تشكل تحدياً لكل القوى السياسية التي سعت لإعافقة نموها في الماضي.

  ثالثاً: تحول الانتفاضة نحو المؤسسات

المرحلة الثانية من العصيان

إذا كانت المرحلة الأولى من العصيان تتمثل في إلقاء الحجارة والغضب البدائي، فقد أدت أيضاً إلى اكتشاف مهم هو أن الجيش الإسرائيلي صاحب الشهرة العالية لا يعمل بفعالية لاحتواء اضطرابات من المستويات المتدنية الفقيرة السلاح. لكن الحجارة لا تصل إلى إلى مداها المعين. وبعد مضي عام على النزاع، بدأ الجيش الإسرائيلي اللجوء إلى استخدام عشوائي لرصاص مطاط كثيراً ما أدى إلى الموت. أما الروح الرومانسية الفلسطينية والجهود المضنية والتضحيات بالنفس، فلا يمكنها أن تستمر إلى ما لا نهاية. فهي تمثل أمتعة ثمينة لا يمكن للقيادة أن تتحمل تبديدها إذا كانت تأمل بالوصول إلى مكاسب سياسية حقيقية. لذا، فقد بدأت المرحلة الثانية تأخذ مداها الآن، وهي تسعى للبناء على القواعد التي أرستها الاضطرابات الأولى. والعصيان يتحول باطراد إلى حالة من تأسيس المؤسسات، حيث على البطولات المتمثلة في إلقاء الحجارة أن تفسح المجال، ولو جزئياً على الأقل، للمهارات الأكثر أهمية – لكنها أقل إثارة – المطلوبة لأغراض التنظيم وبناء المؤسسات. وسوف تستمر أعمال العنف  لكن هدفها الأساسي سوف يكون الإبقاء على روح الحركة ونظامها ووجهها العلني.

ويسعى الفلسطينيون باطراد للبرهان أنهم أسياد مصيرهم، وأن في استطاعتهم تدبير أمر العصيان من دون عون خارجي ذي شأن كبير. وبالإضافة إلى ذلك، فإن قيادة الانتفاضة تركّز على محو كل مؤسسات السلطة الإسرائيلية في الضفة وإبدالها بمؤسسات فلسطينية جديدة. وهكذا، فإن موظفي البلديات المعيّنين من قبل الإسرائيليين، يوعز إليهم بالاستقالة وإلا تعرضوا للانتقام. أما رجال الشرطة الفلسطينيون، فيتم تشجيعهم على الانسحاب من السلك. وفي الشوارع الخلفية يتم القضاء على مخبرين من ذوي السجلات الطويلة. وفي كل الميادين المتاحة، يسعى الفلسطينيون لجعل الوجود الإسرائيلي من غير قيمة وبشتى الوسائل، ويتحاشون الاتصال بالإدارة الإسرائيلية المحلية.

ولا يمكن طبعاً إزالة المؤسسات الإسرائيلية كافة؛ فالفلسطينيون الذين يعلّمون جيرانهم كيف يزرعون الخضروات في الحدائق، كي يتحرروا من السوق الإسرائيلية، ليسوا منهمكين في عملية واقعية تهدف إلى استبدال حركيات السوق الإسرائيلية. لكن المغزى الرمزي لهذا العمل ذو شأن عظيم. إنها ذهنية الاعتماد على الذات التي يتم خلقها على هذا النحو. وثمة شعور بالتحرر النفسي يخلق الآن، حتى عندما ينجح الإسرائيليون في فرض إدارتهم على رعايا لا يقبلون بها. فالقوة الإدارية والقمعية للدولة في إسرائيل لا تزال طاغية، ولم تسحقها الانتفاضة. فقط عندما ينمو في إسرائيل الشعور الملائم بفداحة الخسارة السياسية الناجمة عن البقاء في الضفة، قد تصبح المرونة السياسية أمراً ممكناً – هذا إذا حدثت أبداً.

وأمام قيادات الضفة جهود طويلة ومضنية لاتخاذ القرار تجاه مكان وكيفية تحدي أو شطب الوسائل الإدارية والاقتصادية الإسرائيلية. لكن العملية قد يكون لها نتائج، في المدى البعيد، في ترسيخ روح الوحدة والمصير الوطني والثقة بالنفس في صفوف الأهالي. وقد استلم الفلسطينيون المسؤولية الكاملة تقريباً في ميدان التعليم، بما في ذلك استخدام كتب مدرسية تعلم الأطفال عن الانتفاضة وطبيعة حركة النضال الفلسطيني وتاريخها. والبرامج الصحية وبرامج الرفاه الاجتماعي أصبحت، في معظمها، بين أيدي الفلسطينيين. وتتحدث التقارير عن تنظيم ميليشيات للشباب في أرجاء الضفة كافة. كما يعرف جميع الشبان إلى أية منظمة ينتمون وهوية قادتهم. وقد أخذت برامج العصيان المدني طريقها إلى الوجود. هل يلتزم الأهالي المثابرة في المدى الطويل؟ هل في قدرة العصيان أن يتحاشى استخدام السلاح الناري في المدى البعيد، وهو نظام قد خدمهم جيداً حتى الساعة؟ إن المرحلة الثانية، وبكل ما تعنيه من نتائج، سوف تكون أصعب منالاً من الإنجازات الباهرة التي حققتها المرحلة الأولى. وسوف تكون أقل جمالاً أمام عدسات التصوير الأجنبية، لكنها في نهاية المطاف أكبر أهمية من الحجارة.

الفلسطينيون ومشكلة القيادة

تتحدث القيادات الإسرائيلية باستمرار عن صعوبة العثور على "المحاور"، أي قيادة فلسطينية تستطيع الوصول معها إلى تسوية في شأن مشكلات الضفة. فمن جهة، كانت إسرائيل دائماً تتحرك بسرعة لإقصاء أية قيادة حرة التفكير في الضفة قد تشكل تحدياً للسيطرة الإسرائيلية. وقد أدت الاعتقالات وعمليات الطرد في الماضي إلى قطع رؤوس القيادة السياسية في الضفة. وغادر البعض الآخر من الفلسطينيين من أهل الكفاءة والشجاعة، وبينهم العديد من القادة الممكنين، الضفة منذ زمن بعيد متّجهين نحو مناصب مهنية مسؤولة في دول الخليج أو في الغرب، وهم يعملون مديري أعمال أو محامين أو رجال أعمال أو تقنيين. وفي سنة 1976، انتهى اختبار للانتخابات الحرة لمسؤولي البلديات إلى الزوال، حين رأت إسرائيل أن هذا الاختبار قد يؤدي إلى تنمية نفوذ المنظمة. وشعر الكثيرون من الإسرائيليين بأن عليهم واجب العثور على بعض القيادات المحلية من أجل التفاوض معها، ولو لتحاشي إمكان التعامل مع المنظمة؛ وهو أمر بغيض للغاية. لكن الفرصة تبدو الآن أنها قد ضاعت. فسلطات الاحتلال لا تزال تعتقل جميع الناشطين المحليين تقريباً، مما يحتم غياب أية قيادة يمكن التعامل معها. وهذه السياسة المتشددة هي التي تجعل منظمة التحرير المحاور الفعلي، وذلك لغياب البديل.

إن العصيان قد طرح أمام إسرائيل مجموعة من الأعراض تظهر في وقت واحد على غرار النكتة الشائعة عن "هاكم الأخبار السيئة." فالأخبار السيئة هي أن القيادات الجديدة التي لا تكاد تُلمح في الظلال التي تكتنف شباب الشوارع المقاتلين تبدو، في معظمها، أنها في البداية أكثر تصلباً وتعصباً من قيادة المنظمة في الخارج. فالبعض من هذه القيادات يتجه بقوة نحو الإسلام، والكثيرون منهم يطالبون بإعادة كل فلسطين إلى الحكم الفلسطيني. أما الأخبار الجيدة، بالنسبة إلى إسرائيل، فهي أن هذه القيادة – وهي مجهولة الهوية وغير محنكة في الغالب – تنافس قيادة المنظمة في الخارج أو تعارضها. ومن حيث المبدأ فقد تستطيع، في يوم من الأيام، أن تصبح تلك "القيادة المستقلة" في الضفة التي يزعم الإسرائيليون أنهم طالما انتظروها – لكن هذه القيادة لن تبدي أبداً شيئاً من المرونة التي كانت إسرائيل تطمح إليها. ولن تقبل هذه القيادة بما سوف تقترحه إسرائيل عليها.

قيادة الخارج ضد قيادة الداخل

برز إلى الوجود توتر خفي وشائك بين القيادتين الداخلية والخارجية؛ ففي المكان الأول، وكما هي الحال في أية حملة عسكرية أو أية مجموعة من الناشطين العاملين تحت قيادة مركزية لكنها بعيدة، هنالك توترات بين القيادتين الخارجية والداخلية. فالذين يعملون في الموقف يرون أنهم أكثر إلماماً بما يجري محلياً من أولئك الذين يصدرون الأوامر عن بعد، وأنهم في وضع أفضل لتحديد وتيرة الأحداث. لكن "القيادة العامة" تسعى، مع ذلك، لفرض نفسها على المقاتلين في الميدان.

وهناك، ثانياً، ثغرة واضحة بين الأجيال، أي بين الشباب في الميدان والشيوخ من قادة المنظمة. فالجيل الشاب، الذي لا يعرف في معظمه سوى الاحتلال الإسرائيلي، يتبرّم من الحالة أكثر كثيراً من الجيل السابق المنهزم.

وهناك، ثالثاً، ثورة اجتماعية تجري في صفوف أهالي الضفة أنفسهم. فثمة استياء عميق يتفاعل ضد النخبة القديمة التي لم تكن تشكل القيادة التقليدية للضفة فحسب، بل نفَّذت سياسات الاحتلال الإسرائيلية وقبلها الأردنية. وهذه العناصر الجديدة تمثل، إلى حد ما، طبقة مختلفة تضم العمال وفقراء الفلاحين واللاجئين، وهي تثور لا على الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل نفَّذت سياسات الاحتلال الإسرائيلية وقبلها الأردنية. وهذه العناصر الجديدة تمثل، إلى حد ما، طبقة مختلفة تضم العمال وفقراء الفلاحين واللاجئين، وهي تثور لا على الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل على تلك الطبقات الاجتماعية الفلسطينية أيضاً، وهي التي طالما فرضت سلطتها عليهم بينما استرخت أو استسلمت حيال المحتل الإسرائيلي. فالشباب والطلبة هم في صميم هذه الحركة؛ فقد أوجد العصيان مناخاً يسمع بتعبير أوسع عن الحرية، وذلك في إطار الحركة النسائية والنشاط السياسي.

رابعاً، ثمة صراع سياسي – أيديولوجي بين مختلف فئات الضفة، ومن المرجح أن يزداد هذا الصراع. وأورد بعض التقارير أن اليساريين في الضفة لم يشاركوا في العصيان في أسابيعه الأولى لأنهم كانوا يرونه حركة يمينية ذات إيحاء ديني، ولم يرغبوا في إذكاء هذه القوى. لكن تسارع الأحداث أجبرهم على إعادة النظر في موقفهم. كما أن بعض الفئات المناصرة للأردن، والتي يتناقص عددها، قد ساورتها الشكوك حيال الحكمة من وراء هذا العصيان، غير أن تدفق الأحداث أجبرها هي أيضاً على الانضمام.

خامساً، إن الحركة الإسلامية تزداد قوة. وهي على أقواها في غزة حيث كانت لزمن طويل تحت تأثير الإخوان المسلمين في مصر. وفي زمن ليس ببعيد، ازداد تأثير المنحى الإيراني في الجهاد الإسلامي. ويعتقد الرسميون الإسرائيليون أنه لا توجد ثمة دلائل جدية تشير إلى دعم إيران مباشر للحركة الإسلامية، على الرغم من الوجود الدائم لما يسمى "المثال البرهان" للثورة الإيرانية، والدعم الكلامي القوي للعصيان من جانب إيران حالياً.

إن القيادة البديلة في الضفة لا تزال مجهولة الهوية في الغالب. ولم يبرز إلى العلن سوى عدد ضئيل من الشخصيات أو الناطقين باسمها ممن يمكن تعريفهم بأنهم قادة. وهذا أمر متعمد في الغالب؛ فالقيادة منظمة محلياً بحيث أنه كلما تم اعتقال أحد الناشطين جاء مكانه الآخر. ولا يوجد تنظيم على شكل الهرم مما قد يعرضه إلى قطع الرأس. فالقيادة المحلية، في أغلبيتها العظمى، تتأليف ممن هم دون الخامسة والعشرين من العمر. وهذه القيادة تمثل، بصورة عامة، الشرائح المعهودة في العمل السياسي الفلسطيني، أي التقسيمات إلى: فتح (عرفات)، والجبهة الشعبية (حبش)، والجبهة الديمقراطية (حواتمه)، والحزب الشيوعي الفلسطيني. وفي وقت لاحق، أضحت الجماعات الإسلامية التي كانت دوماً موجودة، لكنها لم تنشط سياسياً في السابق، تمثل هي الأخرى عنصراً من عناصر هذه القيادة. وتتفاوت قوة هذه الفئات من منطقة إلى أخرى. وحين يتم اعتقال الناشطين يمكن في العادة استبدالهم، وذلك تحت ظلال التنظيم الذي يسود القيادة الموحدة للانتفاضة. أما الاعتقالات الجماعية، فلا يمكن لها أن تقبض إلا على نسبة ضئيلة من القادة البارزين.

وتهدف القيادة المحلية إلى الإبقاء على الانتفاضة، وفي هذه المرحلة من الصراع، ليس ثمة من حاجة إلى وجود طبقة عالية من ذوي المهارات تستطيع أن تتخذ القرارات السياسية المعقدة. وهذا هو السبب الذي من أجله لا يمكن قطع رأس الانتفاضة. فالقيادة السياسية الاستراتيجية تكمن، في المكان الأول، لدى قيادة المنظمة في الخارج وهي التي تصدر أوامرها إلى المقاتلين في الميدان. ويتلقى المقاتلون المحليون أوامرهم من القيادة الخارجية. لكن القيادة الخارجية يجب أن تلزم جانب الحذر كي تكون أوامرها متلائمة مع الوضع السياسي القائم في الضفة. وبينما تحاول اللجان المحلية الإبقاء على الصراع، ترى أيضاً أن لها الحق في الطلب من قيادة الخارج أن تترجم هذا الصراع إلى مكاسب مادية في الوقت الملائم.

وثمة بعض الشخصيات التي لها دورها في هذه الحركة؛ فهناك الكثيرون من المثقفين من ذوي الشهرة العالمية في الضفة، أو من أصحاب الشهرة تقليدياً، يبرزون إلى العيان بصفتهم ناطقين باسم الانتفاضة. وهم يجتمعون إلى الأجانب، ويسعون لتعزيز دعوة الانتفاضة السياسية، لكنهم لا يملكون سوى مقدار محدود جداً من السلطة المستقلة، ولا يمكنهم التحدث باسم الحركة بأكثر مما يُسمح لهم. والعديدون منهم من الشخصيات السياسية التقليدية التي لا تملك تأثيراً يذكر في القيادات الجديدة. لكن المشكلة بالنسبة إلى هذه القيادات الجديدة هي بالضبط الآتية: إنها تفتقر إلى الشخصيات المعترف به علناً، والتي لها تجارب سياسية واسعة ومكانة تخولها التقدم إلى الأمام في ظل "إطار وطني" للتحدث باسم الضفة. والمنظمة الخارجية هي التي تحتكر معظم هذه المهارات والتجارب، ولا ريب أنها لن تكون مسرورة إذا قامت في الضفة قيادات تضاهيها قوة وسلطة.

ويشير معظم الناس إلى نظام السجون الإسرائيلي الذي يشبه، إلى حد بعيد، نظام السجون البريطانية الاستعمارية على أنه الأرض الخصبة والبارزة لنمو قيادات جديدة. فالمعتقلون الذين لربما نشطوا على المستوى المحلي فقط، يجدون أنفسهم فجأة منضمين إلى جماعات كبيرة من الناشطين من أماكن أخرى في الضفة، مما ينمي فيهم شعوراً بالتضامن فيتبادلون الخبرات والتجارب ويؤسسون الشبكات. وهكذا، فإن الحركة تصبح أكثر تمثيلاً للوطن.

وترفض هذه القوى الجديدة الوضع القائم في الضفة؛ فهي قد أنهت أسطورة الاستكانة في الضفة، وخلقت تراثاً شعبياً جديداً للمقاومة، بمن في ذلك أبطالها وشهداؤها. وهم يرفضون القيادات التقليدية في الضفة، ويرفضون الأردن، وينظرون بحذر إلى قيادة المنظمة في الخارج التي لم تفعل سوى القليل لتحقيق المكاسب التي تحققها الآن هذه القيادة الجديدة. ويخافون من إقدام المنظمة حتى على التفريط بهم، أو من إصرارها وبصورة غير واقعية على المطالبة بأكثر من دولة فلسطينية في الضفة، أو حتى من إضاعة السنوات العديدة في "الصراع الدولي" وإبقاء أهالي الضفة في عذابهم. وتوجه قيادة الضفة رسائل إلى المنظمة، مفادها أنها تريد أن تُترجم نتائج الانتفاضة إلى برنامج سياسي واقعي يصلح للمفاوضة في الحاضر.

وتعترف قيادة المنظمة طبعاً بأنها لم تحصل بعد على القوة الكافية لتحدي إسرائيل في شأن ملكية الضفة، أو لإجبارها على الدخول في مفاوضات بشأن دولة ممكنة في الضفة، وذلك على الرغم من بهاء الانتفاضة وجلالها بالنسبة إلى الفلسطينيين ومن إنجازاتها الحقيقية. وفي هذه الأثناء، فعلى الانتفاضة أن تحثّ السير وتخلق "وقائع جديدة" مما يجعل مؤسسات الضفة الجديدة أمراًَ شبه دائم، وذلك حتى يحين زمن الحقيقة؛ فإما أن تكون إسرائيل مستعدة لقبول دولة في الضفة، وإما أن تكون مستعدة لدفع الثمن المطلوب لسحق الحركة لسنوات قليلة.

وفي نهاية المطاف، فإن الخطط التي وضعتها الدول الغربية لتحسين "نوعية الحياة" في الضفة، وهي التي كانت أهم عناصر سياسة وزير الخارجية الأسبق شولتس للتعامل مع مشكلة الضفة، لن يكون لها في الأرجح أي تأثير في عقول الفلسطينيين. فالتحسن في أوضاع المعيشة لن يساعد في فصل القيادتين الداخلية والخارجية إحداهما عن الأخرى. ومهما تتعاظم المساعدات الاقتصادية فهي لن تحمل القيادة الفلسطينية على التخلي عن أهداف الانتفاضة، أو القبول بما هو أدنى من هذه الأهداف. فهم لم يصلوا إلى هذه النقطة ولم يناضلوا كل هذه السنوات الكثيرة كي يفعلوا ذلك.

وبدورها، فإن قيادة المنظمة الخارجية كان عليها أن تسرّع الخطى للّحاق بالواقع الجديد. فقد شعرت من جهة بأنها مرغمة على زيادة حدة كلامها الخطابي كي لا تتسرب الانتفاضة الجديدة من أيديها. والواقع أن القيادة الخارجية كانت دوماً مقيدة بالحاجة إلى صوغ سياسة تقررها اللجان المؤلفة من تحالف غير منظم بين الفئات – ذلك التحالف الذي ينعكس ميزانه السياسي مباشرة وفي أي وقت على الوضع السياسي في الضفة. وعلى القيادة الخارجية الآن أن تبرهن أنها تعي تماماً أهداف الضفة، وأن في استطاعتها أن تقوم بدور حاسم في الوصول إليها. وإلا، فإن مصيرها قد يكون الإهمال.

المنظمة كرمز

وبينما ترعرعت الانتفاضة وانتشرت سنة 1988، برز تمايز بين المنظمة كفئة واقعية من الشخصيات بأمرة عرفات، وبين المنظمة كرمز للمقاومة والوحدة الفلسطينية. وثمة إجماع على أن رمز المنظمة يحوز على عطف وولاء كل الفلسطينيين تقريباً، إذ لا وجود لأي رمز مشابه. لكن هذا لا يعني أن عرفات يستطيع أن يحدد وتيرة الأحداث كافة. فالمنظمة، على الرغم من مساوئها، قد عكست على الدوام عملية داخلية تلتزم الإجراءات الديمقراطية وبناء السياسات التيت حظى بالإجماع. وعلى عرفات أن يجهد ليحافظ على تأثيره الواسع في الضفة، حتى لو كان مبدأ "قيادة المنظمة" مقبولاً على نطاق عريض. والواقع أن معظم الفلسطينيين يردد الآن نغمة "نحن كلنا المنظمة". وهذا الجهر بالولاء في أحد معانيه يخفف من حدة الورطة الإسرائيلية التي تتمثل في السعي للعثور على فلسطينيين للمفاوضة ممن ليسوا للمنظمة. والآن لا يوجد منهم أحد تقريباً.

لكن عناصر الثورة الاجتماعية داخل الانتفاضة لا ترضي أبداً الفئات الفلسطينية كافة. فهناك جزء من القيادات التقليدية في لاضفة وخارجها ممن أبدوا سخطهم حيال الانتفاضة في بادىء الأمر، إذ أن مكانة هؤلاء الأفراد كزعماء تقليديين وكنخبة هي الآن في خطر داهم. ومن هؤلاء، على الأخص، أصحاب الولاء للأردن. والواقع أن بعض رجال الأمن الإسرائيليين قال أن هناك زعامات تقليدية وصلت إلى حد التبرع في البدء بتقديم النصيحة إلى السلطات الإسرائيلية في شأن أنجع السبل لإخماد الانتفاضة. وكان رأيها أن الإسرائيليين لم يظهروا الحزم الكافي. وكان الشعور بينها أنها ستخسر من جراء الوضع الجديد الذي خلقته الانتفاضة. لكن هذه الفئات هي، في الأرجح، أقلية قليلة. والآخرون، في أغلبيتهم تقريباً، تنتابهم على الأرجح المشاعر المختلفة؛ فمنها الاعتزام بالانتفاضة كإنجاز عظيم يشكل المدخل إلى مرحلة نضال جديدة، والزهو الجارف بأهمية الأحداث الجارية، والقلق البالغ حيال الثمن الذي يدفعه الأفراد والعائلات والذي فرضته الانتفاضة، والقلق العام إزاء ما يحمله المستقبل إليهم. أما أصحاب الآراء السلبية، فقد تعلموا أن يكتموها ولم يجرؤوا على إفشال الروح الوطنية الجديدة التي تعم البلد (والواقع أن القيادة في أية ثورة كانت، بما في ذلك الثورة الأميركية في القرن الثامن عشر، تجر وراءها حتماً قطاعات واسعة من الناس على مضض، وذلك لأنهم أكثر ارتياحاً إلى الوضع القائم).

هذه العوامل الجديدة في الثورة الاجتماعية، والتي ليست محصورة بالضفة بل تحدث في أرجاء العالم العربي كافة، تمثل تغييرات دائمة في النظام الاجتماعي، للخير أو للشر. وفي مثل هذه الأوضاع، فإن قيادة المنظمة القديمة والمحنكة قد تبدو في أعين الإسرائيليين أبهى وأجمل من الحماسة الثورية الراديكالية للشباب المقاتل في الشوارع – إسلامياً كان أو غير إسلامي.

الهدف النهائي: الدولة

في ماذا سيفاوض الفلسطينيون في نهاية المطالف. لقد أصبحت الدولة الفلسطينية ولا ريب، في نظر معظم الفلسطينيين، الآن مطلباً لا يمكن التفاوض في شأنه. فهم لم يصلوا إلى هذه النقطة وينتظروا كل هذه السنين لنيل ما هو أقل من الدولة. لكن بعض المراقبين في الغرب يرى أن "المأساة الفلسطينية" تكمن في فشل الفلسطينيين، عبر عقود طويلة، في قبول الحلول المتنوعة التي طُرحت عليهم. لكن الفلسطينيين يرون، في معظمهم، في الواقع أن لا مأساة تكمن في رفض المقترحات إذا كانت التسوية المطلوبة لم تصل إليهم بعد، وهم في الغالب على استعداد لمواجهة الصعوبات التي تواكب الإصرار العنيد على أن الزمن يحري لمصلحتهم، وأنهم سينتصرون في النهاية. وفي واقع الأمر، فإنهم لا يأبهون لأن "القطار قد غادر المحطة" من دونهم في الماضي؛ فثمة قطارات أخرى، وسوف ينتظروف قدوم القطار الملائم.

ويعترف العديد من السياسيين الإسرائيليين بأن هذا "السيناريو" ممكن الوقوع تماماً، لكنهم على درجة أكبر من التفاؤل. ففي رأيهم أن المناخ التفاوضي قد يتحوّل تحولاً جذرياً إذا جرت، في نهاية المطاف، محادثات فلسطينية – إسرائيلية جدّية، وإذا تم اتخاذ خطوات عملية لتحسين مستوى المعيشة عند الفلسطينيين، وفوق كل هذا وذاك، إذا انتهى الاحتلال العسكري الإسرائيلي. وهو يشعرون بأنه إذا أُزيح عبء الاحتلال عن كاهل الفلسطينيين، فسوف ينضج هؤلاء بسرعة ويبدأون بتقدير الفوائد والمكاسب الناجمة عن كاهل الفلسطينيين، فسوف ينضج هؤلاء بسرعة ويبدأون بتقدير الفوائد والمكاسب الناجمة حتى عن حكم ذاتي محدود قد يتطور مع الزمن إلى شيء أفضل. لكن الأمر الشائك في هذا المجال هو أن إسرائيل ترغب في تحديد هوية المحاورين الفلسطينيين، وعم في العادة لا يمثلون ما يطلبه الفلسطينيون "الحقيقيّون". وكما قال بسام أبو شريف، الناطق باسم عرفات، فإن الفلسطينيين يفضلون المفاوضة مع حركة "السلام الآن" في إسرائيل، كما أن الإسرائيليين يفضلون المفاوضة مع القيادات الفلسطينية التقليدية الموالية للأردن. لكن هاتين الرغبتين تعصيان على الفريقين.

ومن هم، في كل حال، هؤلاء الفلسطينيون "الحقيقيون"؟ يقول الإسرائيليون، وبحق، إن المنظمة أرعبت وأرهبت ووصلت إلى حد اغتيال العديد من الفلسطينيين في الماضي. وقد لاقت أعداد كبيرة جداً من القادة المتوقعين حتفها، فاغتيلت على يد فصائل المقاومة الراديكالية المتنوعة. ومع ذلك، فللمنظمة تأثيرها البالغ في ممارسة السلطة من خلال إنفاق الأموال في الضفة، والماضي دليل على أن التصدي للمنظمة لا يجدي نفعاً. وينزع بعض الفلسطينيين نحو الهدوء والنظام، ولا يرحّبون بمشهد أبنائهم وبناتهم خارجين إلى الشوارع لارتكاب أعمال العنف. أما البعض الآخر فيخاف على مصالحه ومصالح عائلته، ويدرك أن الثورات جميعها تكبد الجميع ثمناً.

لكن الإشارة إلى هذه الأمثلة الواقعية للتردد والشكوك بين العديد من الفلسطينيين، ليست أمراً ذا أهمية سياسية تذكر. فمن شأن الأكثرية الصامتة" ألا تكون أبداً هي القوة المحركة في الحركات السياسية والاجتماعية. ومهما تتضارب العواطف عند قطاعات واسعة من الفلسطينيين حيال الانتفاضة، فهذه القطاعات تبقى في النهاية جزءاً منها. فأولادهم يجرونهم دوماً إلى أعماقها. وكل نقطة دم تراق تعمّق التزام من كان يفضل أن يبقى خارج النضال. فقد أصبحت الضفة كياناً مغلقاً قائماً بنفسه، تُصهر فيها من جديد طبيعة السياسة الفلسطينية. والعناصر النشيطة سياسياً، التي نراها الآن، وقد أصبحت هي الثورة الفلسطينية وقد تقبّلها الناس في معظمهم بصرف النظر عن مشاعرهم القلقة. ولا يمكن لإسرائيل بعد اليوم أن تضع آمالها في "اغلبية صامتة أكثر عقلانية"؛ فالسبب بسيط، وهو أن القضية لم تعد في يد "المعتدلين" التقليديين. فإسرائيل تخوض معركة خاسرة حين تحرّم القيادة على الجميع، ما عدا من تفضّلهم من "المعتدلين".

يرى الكثيرون من الإسرائيليين، وخصوصاً في الليكود، أنه إذا أُعيد الهدوء فالتسوية بشكل أو بآخر تصبح ممكنة. لكن مسرى الأحداث في السنوات العشرين الماضية يوحي بأن هذا الرأي أقرب إلى الخيال؛ فالأحداث والتطورات لا يمكن قلبها رأساً على عقب. إذ تغيّرت الذهنيات، ولا يمكن العودة عن هذا الطريق، وخصوصاً حين تكتسب التطورات ملامح حركة وطنية للتحرير. وحتى لو سحقت الانتفاضة بوحشية، فإن الفلسطينيين، في معظمهم، سوف يعيشون على الذكريات ويتناقلون هذا التراث الشعبي وهذه الأساطير حتى تحين الفرصة مجدداً. ولسوف يرضون بمرارة الخنوع عوضاً من القبول بتسوية لا تحقّق ما هو في رأيهم حقهم الطبيعي ورمز وجودهم بالذات. ولا يوجد في التاريخ الطويل للحركة الوطنية الفلسطينية أي دليل على غير هذا الأمر.

 رابعاً: الأردن الشريك المراوغ

الخيار الأردني

 مع اندلاع الانتفاضة اتضح أن أول الخاسرين نتيجتها هو الأردنيون. فقد بيّنت الانتفاضة بجلاء ما كان يشير إليه أي بحث معمق لتاريخ الضفة منذ سنة 1967، وهو أن الخيار الأردني لم يكن في أي وقت تقريباً خياراً واقعياً. فبعد أن تلاعب الملك حسين، ولسنوات عدة، بفكرة استلام السلطة في الضفة وبتشجيع أميركي، جاء هو بنفسه وأنزل بها الضربة القاضية. والذكريات عن أيام السلطة الأردنية في الضفة، من سنة 1948 حتى سنة 1967، ليست ذكريات حلوة. والجيل الجديد في الضفة لم يعش قط في ظل الحكم الأردني، وعمّان ليس لها أي دور في حياته وتطلعاته. وكما قال زعيم فلسطيني يساري كبير السن نسبياً: "نحن لن نخرج من قفص لندخل قفصاً آخر." وكان يشير إلى إمكان عودة الضفة من الحكم الإسرائيلي إلى الحكم الأردني مجدداً. فالخيار الأردني لا يريده إلا العدد القليل من الفلسطينيين، مع أن الأغلبية تعترف بأن ذلك قد يمنحها الحكم الذاتي على الأقل. فقد فات أوان ثمرة الحكم الذاتي، ولم تعد هذه الثمرة تثير شهية أحد: إذ يتطلع أهل الضفة إلى ما هو أكثر من ذلك، أي إلى شيء لا يمكن للأردن أن يعطيهم إياه.

وعلى الرغم من الانحسار الواضح للتأثير الأردني في الضفة، فقد وضع حزب العمل الإسرائيلي رهانه كله تقريباً على الخيار الأردني في محاولة يائسة للعثور على محاور، أي محاور، كي يستلم إدارة الضفة. أما الليكود فهو لا يحب الأردن إلى هذه الدرجة إطلاقاً، لكنه اعترف بأن مسؤولية الضفة قد تقع على طرف ما حتى لو ظلت المنطقة خاضعة للسيادة الإسرائيلية إلى الأبد. وبما أن الملك حسين لن يتقدم الآن لتمثيل الفلسطينيين بأية صفة، فحزب العمل هو الخاسر الأكبر، الأمر الذي انعكس على أدائه السيىء في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 1988.

المشهد كما يُرى من عمّان

ما زالت عمان أسيرة الآراء المتضاربة حيال الانتفاضة. فالأردن له رغبة جامحة في السلام لأن اي شيء أقل من هذا يؤدي إلى زعزعة الاستقرار. ولا يمكن نفي إمكان نشوب حرب عربية – إسرائيلية أخرى، كما يبقى وارداً أيضاً إمكان طرد مليون ونصف المليون فلسطيني إلى الأردن. ويعترف الأردنيون الآن بأنه يستحيل عليهم تمثل الفلسطينيين في أي شكل كان، كما أنهم يعرفون تماماً المزالق في طريق أية عودة إلى القيام بدور القوة الأمنية في الضفة.

وإذا تمت أية مفاوضات مع إسرائيل، استناداً إلى "السيناريو" غير الممكن، لتأليف وفد أردني – فلسطيني مشترك، فإن الأردن سوف يتفاوض مع إسرائيل فقط في شأن قضايا أردنية – إسرائيلية ثنائية، وسوف يصرّ الأردن على أن يتفاوض الفلسطينيون أنفسهم في شأن أراضي الضفة. وإذا وجب التخلي عن أية أرض فلسطينية، فالفلسطينيون هم الذين يتخلون عن تراثهم لا الأردن.

ويتساءل المرء عما إذا كانت الحكومة الأردنية لا تزال ترغب في العودة إلى الضفة، في كل حال. فإذا كان في إمكانها استرداد الضفة بالشروط السائدة قبل سنة 1967 – أي في ظل الحكم الأردني الصارم – فقد تهتم بالأمر. لكن الأردن في استطاعته أن يقرأ فنجان المستقبل كما سواه، في الوقت الذي تتعاظم فيه مشاعر العداء للأردن في ظل الاحتلال الإسرائيلي، وينمو فيه حس جديد بالاستقلال لدى الفلسطينيين. ومن المرجح أن الأردن كان يتعامل مع الخيار الأردني، وهو الخيار المفضل لدى صانعي السياسة الأميركية لأنه، جزئياً على الأقل، كان الطريق الوحيد لحمل الولايات المتحدة على الالتزام على مر السنين، وكان يساهم في درء المتنافسين الآخرين على الضفة. ويعي الملك أن تحول الأهالي في الضفة نحو الراديكالية، ولربما تضمن ذلك انتخاباً حراً لنواب يذهبون إلى مجلس النواب الأردني استناداً إلى خطة كونفدرالية ما، قد يمثل خطر التحول إلى الراديكالية في الأردن نفسه. وخلاصة الأمر أن الضفة جائزة ليست لها ثمن واضح.

الأردن يغسل يديه

في تموز/يوليو 1988، أعلن الملك حسين، وبصورة رسمية، عزوفه عن المطالبة بالضفة وعن الحق في تمثيلها. كما أعلن قطع الروابط الإدارية وإنهاء المسؤوليات تجاهها. وقد كان الأمر يمثل نهاية للتطورات التي سبقته، وقد ساهمت عوامل عدة في الوصول إلى هذا القرار الرسمي، منها:

  • الاعتراف بأن الأردن فقد باستمرار أنصاره في الضفة على مر السنين، وخسر نهائياً مع اندلاع الانتفاضة وانبعاث روح الاستقلال الجديدة لدى الفلسطينيين.
  • أعاد مؤتمر القمة العربي في تموز/ يوليو 1988 التأكيد أن عرفات والمنظمة لا يزالان يمثلان الشعب الفلسطيني، ولهما وحدهما مسؤولية إنفاق الأموال العربية.
  • الإدراك الواقعي في الأردن أن الإصرار على دور ثانوي للمنظمة في وفد فلسطيني – أردني مشترك سوف يُنظر إليه أنه محاولة للسيطرة على الفلسطينيين، وهذا شيء لا يمكن القيام به بعد اندلاع الانتفاضة، وقد يشكل أيضاً خطراً على الأردن ذاته.
  • الرغبة في معاقبة الولايات المتحدة انتقاماً لإهانات استمرت عقداً من السنين، ورفض خيار واشنطن المفضل وغير الواقعي والذي دام طويلاً في إقصاء المنظمة، وخلق وفد أردني يضم الفلسطينيين الخانعين فقط.
  • السعي لطرح المشكلة برمتها في أحضان عرفات ليرى ما إذا كان في استطاعته أن يتعامل مع فلسطينيي الضفة على شكل أفضل مما فعله الأردن.

والخلاصة، أن الملك حسين يبدو أنه ينحني أمام القوى الفاعلة حالياً في الضفة والعالم العربي. ومع أن المنظمة قد تفشل في إنجاز أي أمر ذي أهمية لمصلحة الضفة، فالأرجح أن الحقبة الأردنية قد ولت إلى الأبد. لكن، ولسخرية الأقدار، إذا كان للدولة الفلسطينية أن تقوم يوماً فعليها أن تسعى للارتباط بالأردن إذا كان لها أن تحيا وأن تحافظ على جسر لها مع باقي العالم العربي. ومن الأهمية بمكان كبير للفلسطينيين أن يكون مثل هذه الروابط طوعياً ومتفاوضاً في شأنه وتقيمه بحرّية دولة ذات سيادة. وبكل بساطة، لن يقبل الفلسطينيون أن "يتم تسليمهم" للأردن.

وتحرك الأردن فيما بعد لتطمين الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر إلى أنه لم يختر الخروج نهائياً من عملية السلام، وأنه ما زال يسعى لتسوية سلمية مع إسرائيل، ولربما ما زال يهتم بنوع من أنواع الكونفدرالية مع الضفة. لكن الملك لن يتراجع عن عزمه على ألا يمثل الفلسطينيين إلا إذا طرأ أمر لا يصدق، كاختفاء المنظمة مثلاً. وهكذا أضحى الإسرائيليون والفلسطينيون يواجه بعضهم بعضاً.

الأردن والدولة الفلسطينية

 إن عملية انتقال الضفة إلى دولة فلسطينية مستقلة عملية محفوفة بالصعوبات، للأردن كما لإسرائيل؛ فالأردن حسّاس جداً تجاه مقولة شارون: "الأردن هو فلسطين". وعلى صعيد معين، فإن ملاحظة شارون هذه تلحظ بعمق التطورات المستقبلية التالية في المدى البعيد:

  • يشكل الفلسطينيون الآن ما نسبته أكثر من ثلثي عدد السكان في الأدرن.
  • إن أغلبية الفئات في المدن والمهن في الأردن فلسطينية.
  • من المرجح أن يبرز الفلسطينيون، على الصعيد الديموغرافي ، كأكبر قوة سياسية في الأردن في المستقبل.
  • تتمتع العائلات الفلسطينية في الأردن بروابط تاريخية وثيقة وعشائرية مع الضفة.

لكن مقولة شارون تنذر بالخطر، وبعدم الاستقرار على الصعيد العملي. ومهما تكن النتيجة النهائية للتطور الديموغرافي في الأردن، فإن شارون يريد أن "يسرّع التاريخ" من خلال التسبب بالقضاء على الهاشميين بهدف إشعال مواجهة بين الفلسطينيين وأهالي الضفة الشرقية والنخبة البدوية، وذلك كي يصبح الأردن دولة فلسطينية. وفي مجابهة أخيرة، تشن إسرائيل الحرب على تلك الدولة الفلسطينية وتهزمها، وتعثر أخيراً على العنوان الذي ترسل إليه أهالي الضفة الغربية من عرب فلسطين. ولحسن الحظ فإن رؤية شارون لا تجد لنفسها أنصاراً عديدين، حتى داخل حزبه.

وخطة شارون تهدف، طبعاً، إلى منع إسرائيل من اللجوء في المستقبل إلى التخلي عن الأراضي في الضفة. وثمة نسخة "مخففة" عن رؤية شارون توحي بأنه عندما تقوم الدولة الفلسطينية الجديدة وتثبت أقدامها في الأردن، ستصبح إسرائيل في موقع يسمع لها بالمفاوضات بشروط أفضل في شأن مكانة الأجزاء ذات الكثافة العالية من السكان العرب في الضفة. وهذه الأجزاء قد تعود تحت سيطرة الدولة الفلسطينية الجديدة في الأردن سابقاً. والتبرير المعطى هو أن الأجزاء التي تتخلى إسرائيل عنها في الضفة صغيرة إلى الحد الذي لا يمكن معه بناء دولة قابلة للحياة عليها. وإذا كانت هذه الأجزاء هي فقط التي ستصبح دولة فلسطينية، فإن كل شبر فيها سوف يصبح موضوع مفاوضات مريرة مع إسرائيل، بالنظر إلى أهمية المنطقة لأهالي الضفة. لكن، إذا كانت هذه الأجزاء من الأراضي نفسها هي موضوع المفاوضات بين إسرائيل والدولة الفلسطينية الجديدة في الأردن سابقاً، فأهميتها تتناقص كبيراً بالنسبة إلى حجم الدولة الفلسطينية الجديدة التي سوف تنضم إليها. وهذه الخطة أيضاً تستوجب "فلسطنة" الأردن بعد ذهاب الهاشميين وما يعنيه ذلك من انهيار الاستقرار.

لذا، فإن الأردن لا يسعه إلا أن ينظر بقلق إلى مستقبل أهالي الضفة الشرقية من غير الفلسطينيين. ولا يمكن للملك أن يتحمل عبء السعي للسيطرة على الضفة، ولا أن يتحمل بعد اليوم عبء المنافسة العلنية مع المنظمة في شأن القيادة السياسية في الضفة. كما أنه لا يستطيع أن يتحمل طرد الفلسطينيين من الضفة، الأمر الذي يعني السقوط السريع للأسرة الهاشمية. فالحسين، وهو قائد مميز نزيه وماهر، يجد نفسه في مأزق لا يستطيع أن يخرج منه منتصراً؛ فالعوامل التاريخية، في المدى الطويل، تعمل ضد بقاء الحكم الهاشمي الدائم. لكن مثل هذه الملاحظة عن المدى الطويل لا يعني الرغبة في تسريع التاريخ، وخصوصاً نحو مرحلة من الاضطرابات المستهجنة. وفي حكم المؤكد أن العالم الغربية لن يساعد شارون في وضع أي جزء من أجزاء رؤيته التاريخية موضع التنفيذ.

ومن جهة ثانية، لا يمكن استبعاد إمكان تحول الملك حسين في نهاية المطاف إلى القبول بفائدة الإشراف على تغيير النظام الهاشمي إلى نظام ديمقراطي غير ملكي، يكون فيه المؤسس والرئيس الأول. ومثل هذا الإجراء قد يمهد الطريق نحو دولة فلسطينية تستند إلى الواقع الديموغرافي والقرار الديمقراطي. لكن هذا التحول قد يؤدي أيضاً إلى اندلاع الاضطرابات في الأردن، أيضاً، ولا شيء يضمن ألا يرى أهل الضفة في مثل هذا التحول نسخة ملطّفة عن فخ الخيار الأردني. وقد يراها اليمين الإسرائيلي تبريراً لعدم التخلي عن أي جزء مهم من الأراضي المحتلة. كما أن المنظمة سوف ترى في هذه الخطة محاولة لإنهاء دورها إنهاء تاماً في العملية السياسية. ومن المرجح أن يكون للمنظمة القول الفصل حيال استعداد أهالي الضفة للرفض أو للتفاوض في شأن مثل هذه "الدولة الفلسطينية الجديدة" في الضفة الشرقية. ومهما تكن المشكلات التي تكتنف هذه الفكرة الجريئة، فإنها لا تمتلك مزّية وجود محاور فلسطيني على مستوى الدولة يستطيع، فيما بعد، أن يتفاوض في أمر الضفة بمقدار أكبر من السلطة التي كان يمتلكها الأردن الهاشمي.

إذاً، وبالنظر إلى الحماسة الثورية وعدم الاستقرار الذي يحيط الآن بالانتفاضة، فلا عجب من أن الكثيرين من أهالي الضفة الغربية والأردنيين – الفلسطينيين كانوا في البدء يهلّلون في السرّ لإسرائيل كي تقمع الانتفاضة. لكن أغلبية العرب، بمن فيهم معظم الأردنيين، تستمد كذلك شعوراً بالفخر من رؤية الفلسطينيين يصارعون القوات الإسرائيلية بهذا المقدار من النجاح. فالشعور بالتعاطف سوف يبقى عميقاً، حتى مع وجود الأفكار المتضاربة حيال نتائج الانتفاضة السياسية.

مضامين الانسحاب الأردني

إن مضامين انسحاب الملك حسين من الضفة ذات مغزى واسع وعميق. فالخطوة التي اتخذها الملك استراتيجية لا تكتية، كما أن مضامينها لن تبرز كاملة إلى العيان إلا بعد زمن. ويعتبر هذا التغيير نقطة تحول تاريخية تسببت، حتى الآن، بحدوث تغييرات مهمة:

 لا يمكن لإسرائيل بعد اليوم أن تتكلم في الخيار الأردني، وهذا عبارة عن صفعة موجعة وخصوصاً لحزب العمل.

  • إن الحجر الأساس لسياسة السلام الأميركية في الشرق الأوسط قد اختفى، وعلى الولايات المتحدة أن تعود إلى التخطيط لمنحى جديد.
  • لا يمكن لأي إسرائيلي بعد اليوم أن ينظر إلى الضفة باعتبارها أردنية. فمن الواضح الآن أن الضفة كيان فلسطيني، وهو كيان يسعى بنفسه لتطوير المظاهر الواقعية للدولة.
  • وللسبب ذاته، فقد أعلم الملك إسرائيل بأن الأردن ليس فلسطين مما يجعل من الصعب على شارون أن يحقق رؤيته في "الحل النهائي" للقضية الفلسطينية.
  • لقد تم قطع الحبل مع المركب الفلسطيني في الضفة، وعليه الآن الإبحار وحده تماماً، حتى من دون العون الإداري الأردني. ومن شأن ذلك أن يعزز شعور الفلسطينيين بالاستقلال والاعتماد على النفس، وهما الأمران اللذان كانا غائبين تماماً في الماضي حين كانوا ينتظرون قدوم "المخلص" من الخارج لإنقاذهم.
  • لقد تم سلخ جميع التعقيدات الخارجية عن القضية الفلسطينية – الإسرائيلية، والتي قد تقلصت الآن إلى حدود مسألة تهم طرفين ينبغي لهما وحدهما التوصل إلى حلها، وهذا ما تقوله المنظمة حالياً. وعلى إسرائيل أن تصر الآن على أن المنظمة "عنصر خارجي"، لكن أهالي الضفة لن يروا الأمر على هذا الشكل وسوف يصرّون، بدورهم، على إشراك المنظمة على المستويين الرمزي والعملي.
  • دقت ساعة الحقيقة بالنسبة إلى المنظمة. وتواجه المنظمة الآن مسؤولية القيام بدور الأردن في تمويل إدارة الضفة. فهل ستبرهن المنظمة عن قدرتها على معاونة الضفة في هذا المضمار؟ فالأموال ستأتي من الدول العربية، أما عملية التمويل فتقع على عاتق المنظمة وتتم في الخفاء. وقد تجري عملية التمويل أيضاً من خلال الأمم المتحدة، لكن إسرائيل لن ترضى بأن تساهم الأمم المتحدة في تعزيز الخطوات الفلسطينية نحو المزيد من الاستقلال.
  • لدى إسرائيل الفرصة لإثبات عدم أهمية المنظمة، وذلك بتولي المسؤولية عن النفقات الإدارية. وهذا الدور هو بالضبط ما يحرص الفلسطينيون على نزعه من أيدي الإسرائيليين. وسوف تسعى إسرائيل بالتأكيد لحرمان المنظمة من أي دور في إيصال الأموال، ولإخضاع الضفة مالياً بهدف إرغامها على الرجوع إلى إسرائيل من أجل العون.
  • وفي نهاية الأمر، فإن خطوة الأردن في قطع الحبل السُرّي سوف تؤدي، في الأرجح، إلى الإسراع في قيام إدارة مستقلة في الضفة، وإلى تشجيع قيام مؤسسات دولة جنينية إضافية. لكن عملية التحول هذه سوف تكون، على الأرجح، مؤلمة وعنيفة.
  • إذا فشلت المنظمة في إيصال ما يكفي من الأموال والعون السياسي لتلبية حاجات الضفة، فإن أهميتها في الحياة السياسية في الضفة سوف تتقلص بحدة وتنحسر قدرتها على تحديد طبيعة الحركة ومسارها.
  • وعلى المنظمة إذا أرادت أن تحافظ على دورها في الضفة أن تستمر، تبعاً لما سبقه، في التحرك السياسي نحو نوع من أنواع التعاطي السياسي البنّاء للحالة في الضفة. فأهالي الضفة يتململون ولن يتحملوا إلى ما لا نهاية، في الأرجح، أي اعتكاف من قِبل المنظمة عن جعل الضفة المسألة ذات الأولوية القصوى في الحركة الوطنية. ولن تتحمل الضفة، إلا بحدود معينة، الدينامية الخاصة بسياسات منظمة التحرير، وخصوصاً إذا كانت لا تشمل سوى المزيد من التأجيل في العملية التي تسير ببطء شديد بهدف الوصول إلى إجماع القوى الفلسطينية في الخارج. إن دينامية الانتفاضة قد تنذر بتحول المنظمة إلى شيء لا يؤخذ بعين الاعتبار.

خامساً: فلسطين الخيارات

"الخيار الفلسطيني": ماذا يعني؟

مع سقوط الخيار الأردني، لا يبقى حتماً على الساحة سوى "الخيار الفلسطيني". فكيف ستتعامل إسرائيل مع هذا الخيار؟ على إسرائيل، أولاً، أن تقرر ما هي خياراتها الواقعية فيما يختص بالوضع النهائي للأراضي المحتلة. وهي في الحاضر تفكر ضمن خيارين على الأقل: خيار الحكم الذاتي الفلسطيني داخل دولة إسرائيل، وخيار الدولة الفلسطينية.

إن الحكم الذاتي يعني بوضوح أن فلسطينيي الضفة سيقبلون في النهاية بما هو أقل من دولة. لكن من المؤكد تقريباً أن هذا الأمر ليس وارداً بالنظر إلى تكور وحركيّة السياسة الفلسطينية عبر سنوات عديدة. فإذعان الفلسطينيين للحكم الذاتي يعني أحد أمرين: إما أن تكون إسرائيل قد سحقت الانتفاضة بنجاح، وإما أنها نجحت في جذب الفلسطينيين نحو التخلي الطوعي عن قيادة المنظمة. وبسبب أهمية المنظمة كرمز للاستقلال، فمن المستحيل تقريباً تصور التخلي عنها. لكن من الممكن أن يقرر  أهالي الضفة في نهاية المطاف أن يتفاوضوا مع إسرائيل لوحدهم وباسم المنظمة كممثلين محليين لها. لكن من شأن مثل هذه المفاوضات أن يهدف، في النهاية، إلى إقامة الدولة. وقد يقدم الفلسطينيون على خطوة كهذه لاعتقادهم أن المنظمة قد أصابها الشلل الذي أفقدها القدرة السياسية المطلوبة لمد يد العون إليهم.

وإذا ما أذعنت إسرائيل لقيام الدولة الفلسطينية في نهاية الأمر، فعليها أن تقرر هوية القيادة المؤتمنة على الدولة وحدودها وعلائقها بإسرائيل في الميادين السياسية والاقتصادية والأمنية / العسكرية. وثمة العديد من الدراسات في إسرائيل التي بدأت تفحص هذه الأمور.

وتمثل الدولة الفلسطينية، بشكل من الأشكال، تسوية محافظة بين مواقف الجانبين المتطرفة. فهي تمثل، بالنسبة إلى المنظمة، التخلي الأكيد عن الأمل بالوصول إلى دولة فلسطينية أوسع تشمل كل فلسطين. كما أنها تمثل التخلي الأيديولوجي عن الأيديولوجية الفلسطينية الراديكالية التي ترى أن "الثورة الفلسطينية" جزء لا يتجزأ من "الثورة العربية" التي تهدف إلى إعادة بناء طبيعة العلائق السياسية والاجتماعية برمتها في الشرق الأوسط. وهي تمثل القبول بدولة محددة بالضبط ومتواضعة تعكس، في الغالب، القيم البورجوازية في الوضع السائد. وبالنسبة إلى الإسرائيليين أيضاً، فإن القبول بدولة كهذه يمثل تنازلاً، على مستوى الأرض والأيديولوجية، عن أحلامهم بإسرائيل ذات المدى الأوسع.

خطوات سياسية جديدة للمنظمة: إعلان الدولة وحكومة في المنفى

أُرغمت المنظمة على اتخاذ خطوات سياسية جديدة بوحي من قوة الانتفاضة الذاتية، أو لربما بعد أن لُسعت منها. وكانت أولى هذه الخطوات إعلان دولة فلسطينية وحكمة المنفى التي يستوجبها هذا الإعلان بالضرورة. وكان إعلان الدولة مطلباً أساسياً لأهالي الضفة الذين رأوا فيه أول إعلان واضح أن الضفة تشكل دولة فلسطينية رسمية بحد ذاتها. واعترف هذا الإعلان، ضمناً، بأن دولة الضفة الفلسطينية لن تقع رهينة للمسائل الأوسع المتعلقة بحق الشتات الفلسطيني في العودة، ولن يعوقها مثل هذه المسائل عن العمل. فقد تجنبت المنظمة عبر تاريخها فكرة حكومة المنفى، خشية أن تزيد في الخلافات بدلاً من أن توحد الصفوف، وأن تلهب التنافس على عدد محدد من الوظائف، وتؤدي إلى إذابة المنظمة بالذات. وحتى كتابة هذا التقرير، لم تتقدم المنظمة إلى أبعد من اختيار عرفات رئيساً للدولة الفلسطينية. ويبدو أن اختيار باقي المسؤولين أمر لا يزال يثير النزاع الشديد.

وبفعل ضغط الانتفاضة اتخذت المنظمة خطوتها الثانية في منتصف كانون الأول/ ديسمبر 1988، وهي القبول بقراري الأمم المتحدة 242 و338 اللذين يعترفان بإسرائيل وبحقها في الوجود داخل حدود آمنة، ونبذ الإرهاب. كما اعترفت المنظمة أيضاً بقرار الأمم المتحدة 181 لسنة 1947 فقط لأنه يطالب بإقامة دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية داخل فلسطين. وقد فتحت هذه الخطوة ذات الأهمية الحاسمة، والاعتراف غير المشروط بإسرائيل، الباب الذي كان مغلقاً لزمن طويل أمام الاتصال المباشر والرسمي بين الولايات المتحدة والمنظمة. ومع تحول الثقل الهائل الرمزي للولايات المتحدة نحو الاعتراف الفعلي بالمنظمة، اكتسبت المنظمة الآن شرعية ذات أهمية بالغة فيما عنى علائقها المستقبلية بإسرائيل. وقد انبعثت حركيّة سياسية جديدة إلى الوجود من شأنها، بالتأكيد، أن ترغم إسرائيل على التحدث مع المنظمة؛ وهذا طريق محفوف بالمزالق يراه معظم الإسرائيليين أنه يؤدي إلى القبول بتقرير المصير للفلسطينيين. وهذا طبعاً مبرر وجود المنظمة بعد مرور كل هذه السنين.

إن هذه الخطوات السياسية البالغة الأهمية من جانب المنظمة، والتي تمت مؤخراً، توحي بأنها تعي تماماً مقدار تعرضها للأخطار في شأن هذه القضايا، وتشهر بأنها مرغمة على التحرك لمواجهتها؟ وثمة خطر، لربما، على م. ت. ف. في أن تستولي المنظمة في الضفة على التنظيم الأوسع لـ م. ت. ف. لكن قد يكون ذلك أيضاً جزءاً من التطور الطبيعي لتلك المنظمة في كل حال.

المشكلات التي تواجه المنظمة

من تمثل المنظمة؟ على عرفات أن يقرر ما غذا كانت الضفة مطية آمال الفلسطينيين كلهم. ولسوف يكتفي أهالي الضفة وبسرور بدولتهم الخاصة بهم في الضفة، لكن فلسطينيي الشتات ما زالوا شديدي الاهتمام بمسألة هويتهم أيضاً. فهم يريدون دولة (هوية)، وجواز سفر، وشعوراً بالانتماء بعد أن عوملوا باعتبارهم مواطنين من الدرجة الثانية، أو ما هو أسوأ في أرجاء العالم العربي كافة، وعلى امتداد أربعين عاماً. إن أية تسوية ترضي المصالح الضيقة لفلسطينيي  الضفة فقط سوف تعرض المنظمة لتوتر وانقسامات  داخلية حادة. إلى أي مدى يمكن لعرفات أن يتصرف في مصالح فلسطينيي الشتات، وخصوصاً العناصر الموجودة في مخيمات اللاجئين في لبنان وسوريا والأردن، وذلك لمصلحة الحصول على دولة في الضفة؟ يقدّر عالم إسرائيلي عدد فلسطينيي المخيمات ممن قد يطالبون شرعاً بحقهم في العودة إلى دولة الضفة، بنحو 800,000 نسمة. وفي نهاية الأمر، على دولة الضفة ذات السيادة أن تحدد عدد الفلسطينيين في الشتات الذين قد تقبل بعودتهم إلى الضفة. ومن حيث المبدأ يجب أن تقبل بهم جميعاً، كما أن إسرائيل تقبل كل اليهود. إن التخلي عن حق جميع الفلسطينيين في العودة إلى إسرائيل نفسها، هو مصدر الانقسام بالنسبة إلى المنظمة.

إن موضوع الشقاق الحزبي الفلسطيني ينبع مباشرة من هذه المسألة. فالفئات الأكثر راديكالية تملك رؤية أيديولوجية أوسع للمشكلة، وتزعم أنها تحافظ على طموحها في استرداد فلسطين بكاملها. وثمة فئات أخرى تتصور حدوث ثورات في أرجاء العالم العربي كافة، كشرط ضروري مسبق لقيام الدولة الفلسطينية، مما يعني في الواقع حركة عربية شاملة يكون الفلسطينيون فيها بمثابة القادة الفكريين الرئيسيين. أما الرؤية الإسلامية للأمر فهي تضع هؤلاء الأيديولوجيين العلمانيين في الظلال، إذ من المرجح أن يقدّم الإسلاميون جدولاً للأعمال أكثر تشدداً. لذا، فإن السؤال الرئيسي هو قدرة عرفات على فرض أهداف عملية على الحركة ككل. وكما في كل صراع، فإن الأيديولوجية ليست هي دوماً المسألة الأساسية في ذاتها، لكنها قد تصبح مطيّة لطموحات مختلف الفئات والقادة. وقد يصبح من الضروري أن تجري بين الفلسطينيين أنفسهم سلسلة من المساومات السياسية الحادة، وأن يمارس الاتحاد السوفياتي والعالم العربي ضغوطاً من أجل حمل الفئات المتطرفة على إظهار درجة أكبر من الاعتدال.

متى يجب إنهاء الانتفاضة؟ تمثل الانتفاضة ورقة اللعب السياسية الحاسمة بالنسبة إلى كل من المنظمة والضفة. ولإنهاء الانتفاضة فائدة عظمى في أية تسوية للحصول على فوائد سياسية. لكن، إذا لُعبت هذه الورقة قبل أوانها فقد يتعرض الفلسطينيون لخسارة هذه الورقة نهائياً. (وثمة تمايز واضح بين هذه الورقة و "ورقة" المنظمة الأخرى، أي الاعتراف بوجود إسرائيل؛ وهي ورقة لم يشأ عرفات أن يلعبها لوقت طويل، والتي كانت فائدتها تكمن فقط في لعبها وذلك فيم قابل مكسب العلائق الرسمية بالولايات المتحدة). وإذا ما أُوقفت الانتفاضة فمن الممكن، من حيث المبدأ، أن تُعاد من جديد في زمن لاحق، لكن لا يمكن التلاعب بالحركات الشعبية بمثل هذه السهولة. والواقع أن الكثيرين من الشبان النشيطين يعترضون منذ الآن على ما هو، في رأيهم، الإفراط في المؤاخاة بين المثقفين الفلسطينيين واليسار الإسرائيلي في وقت لا يزال الشبان يلاقون حتفهم في الشوارع ولم يحققوا أية مكاسب مادية بعد.

ومن المرجح أن تطالب إسرائيل بوقف الانتفاضة، كدليل على النيات الطيبة لقيادة المنظمة في الضفة. لكن الفلسطينيين لن يقبلوا بهذه الشروط، إلا إذا كانت شروط إسرائيل تتضمن وعداً جليّاً بدولة فلسطينية. وبالنسبة إلى إسرائيل، فإن وقف الانتفاضة على وجه التأكيد شرط لا بد منه لأية اتفاقية مفتوحة للحكم الذاتي. أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، فإن مثل هذه الاتفاقية المفتوحة للحكم الذاتي لا يمكن له أن يستثني النتيجة النهائية أي الدولة، بل ربما كان على مثل اتفاقية كهذه أن يشترط الدولة. فعملية المفاوضة، بحد ذاتها، لا ترضي الفلسطينيين.

كيف تفرض المنظمة سيطرتها على دولة الضفة؟ لدى الفلسطينيين في الضفة رغبة عارمة في أن تعمد المنظمة إلى تأليف حكومة فلسطينية في المنفى، وذلك من أجل تأسيس فكرة الدولة. وهم يحرصون على ألا يرتبط مصيرهم بمصير عرفات، أو بمصير أي قائد آخر قد يقود المنظمة. ومتى تأليف حكومة في المنفى، فإن عليها واجب انتخاب المسؤولين واتخاذ القرارات السياسية التي ترعى مصالح أهالي الضفة. وعند هذا المفترق، من المرجح أن ينشأ تنافس سياسي إضافي في شأن المؤسسات بين القيادة الخارجية وقيادة الضفة. وسوف تسعى قيادة الضفة لأن تكون ممثلة إلى أقصى الحدود في الحكومة الجديدة، حتى ولو لم تتعد سلطة هذه الحكومة الأراضي التي لا تزال في ظل الاحتلال الإسرائيلي.

والحالة كما هي اليوم تحتم، وفي حكم المؤكد، قيام نزاع في المستقبل بين قيادة المنظمة الخارجية والقيادة المحلية. وبالنظر إلى أن قياديي الانتفاضة العاملين هم، في معظمهم، دون سن الخامسة والعشرين، فهم ليسوا طبعاً في موقع يسمح لهم بتحمل الأدوار الكبرى في القيادة الوطنية الجديدة للدولة الفلسطينية. فهل ستتخلى هذه العناصر الشابة عن سلطتها السياسية للآخرين، وهل سيتم ذلك بسهولة ولمصلحة من ستتخلى عنها؟ هنا يكمن دور الانتخابات في الضفة، التي من شأنها أن تضفي على الحركة الفلسطينية الكثير من الجدارة لأنها سوف تمنح القيادة المحلية فرصة اختيارها. ويُفترض أن يتم ذلك من دون أن تتتعرض هذه القيادة لخطر الاعتقال الفوري من قِبل الإسرائيليين، كما جرت العادة عليه في الماضي.

ماذا سيحل بالمنظمة في نهاية المطاف؟ إن المنظمة، كأية منظمة أخرى، سوف تمتنع من اتخاذ الإجراءات التي تؤدي إلى تصفية ذاتها. ويقترح بعض أهالي الضفة أن تأخذ المنظمة على عاتقها، مستقبلاً، دور اللجنة العليا للإشراف على القضايا الفلسطينية بصفة شبه استشارية، تماماً كما تخدم المنظمة الصهيونية العالمية إسرائيل. وأهالي الضفة على استعداد كامل لمنح قياديي المنظمة الكبار كل التبجيل والاعتراف، وحتى المناصب السياسية التي استحقوها لأنهم حافظوا على الحركة الوطنية الفلسطينية طوال هذه السنين. لكن أهالي الضفة يرون أيضاً أن عصر القادة القدماء يشارف على نهايته على الأرجح. وما يهم أهالي الضفة هو ألا تعوق المنظمة، كمنظمة، قيام حكومة فلسطينية في وسعها أن تعمل وفق أسس إجرائية وقانونية تختلف عن عمل حركة. ويهتم الإسرائيليون أيضاً اهتماماً شديداً بهذا التطور، لكن فقط أولئك الذين هم على استعداد للقبول بفكرة الدولة الفلسطينية. وكما قال أحد عقائديي الليكود من ذوي الدراية: المسألة ليست على الإطلاق طبيعة المنظمة؛ فمجرد القبول بالتحدث مع أية منظمة من أي نوع كان يعني بالضرورة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وهو أمر غير مقبول.

ويبدو عرفات الآن أكثر ارتياحاً حيال مشكلة القيادة الداخلية ضد القيادة الخارجية. فقد حصل في الواقع على هدفه، وهو الاعتراف به وبمنظمته. وليس ثمة بعد اليوم من يبحث، بصورة جدية، عن بدائل من المنظمة إذ لا يوجد أي بديل منها. ورغبة الولايات المتحدة في الحوار مع المنظمة كانت، على الأرجح، مفصلاً مهماً في نظر عرفات، وكانت هي السبب في نهاية المطاف من وراء رغبته في تلبية الشروط الأميركية للحوار.

ماذا سيحل بجيش التحرير الفلسطيني وبمقاتليه؟ سوف يكون هذا الموضوع محط اهتمام بالغ لدى الإسرائيليين. وإذا كان لدولة فلسطينية في المستقبل أن تبسط سيطرتها، فعليها أن تتحمل مسؤولية هذه القوات. ولا يمكن لهذه القوات أن تبقى فالتة في الخارج لتلبية حاجات قوى شالة تؤمن بالتحرير الكامل. كيف تستوعبهم الدولة، وإلى أي مدى يمكن إعادة تأهيلهم وتحويلهم إلى ميليشيات؟ على الدولة الفلسطينية وإسرائيل معاً الإقرار بأنه مهما يكن شكل التسوية في المستقبل، فسيبقى هناك لا ريب عناصر داخل المجتمع الفلسطيني تؤمن بالتحرير الكامل لأرض فلسطين، وتسعى للحصول على الدعم السياسي والعسكري، أي كما قال جمال عبد الناصر: "الدور الذي يبحث عن ممثل." ومن المهم ألا تترك الدولة الفلسطينية الجديدة للعناصر التي تؤمن بالتحرير الكامل سوى أضيق المجالات الممكنة للعمل، لأن هذه العناصر لن تعمل إلا لتقويض مصداقية الدولة وأمنها، بل سيادتها أيضاً. ويبدو أن سوريا هي الملجأ المنطقي الأبرز لمثل هذه العناصر الهامشية، إلا إذا كان في الإمكان جرّ سوريا نفسها نحو تسوية شاملة في نهاية المطاف.

العامل الإسلامي

وبينما تستمر الحركة في الضفة في نضالها، سوف تتجه العناصر الإسلامية في الانتفاضة إلى المزيد من الصراع مع قيادة المنظمة. ومن الأرجح أن تصبح هذه العناصر هي الأكثر تشدداً وعناداً في الجانب الفلسطيني، والتي سوف تعوق الوصول إلى التسوية المتفاوض في شأنها. وهذه الجماعات الإسلامية ما زالت، منذ أمد بعيد، على خلاف مع المنظمة في شأن طبيعة الدولة التي يرغبون فيها في الضفة. وتعارض هذه الجماعات دعوة المنظمة التاريخية إلى قيام دولة ديمقراطية علمانية، وسوف تتصدى لها. من هنا، فقد تعامت السلطات الإسرائيلية عبر السنين عن المنظمة العلمانية القومية التي هي، نظرياً، أكثر خطراً. وقد يعاد النظر في هذه المسألة، وخصوصاً عندما يرفض الراديكاليون المسلمون في المبدأ أي تعامل على الإطلاق مع إسرائيل، ويطالبون باسترجاع فلسطين بكاملها إلى حظيرة الإسلام. ففلسطين، في رأيهم، "إرث إسلامي".

وضمن نطاق السياسة الفلسطينية، لا يرتاح الراديكاليون المسلمون إلى الصيغة الشائعة في العالم العربي وهي أن المنظمة هي "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني." ومع أن هذه الصيغة قد تكون مقبولة في إطار العلائق العربية المتبالدة، إذ أنها تستثني الأردن وسوريا كناطقين باسم المنظمة، فإنها غير مقبولة لدى الإسلاميين كمقولة ضمن السياسة الفلسطينية الداخلية. فالعناصر الإسلامية ليست على استعداد لمنح المنظمة السلطة الشرعية الوحيدة، وسوف تتصدى لهذا الأمر حالما تصبح الدولة الفلسطينية في طريقها إلى الواقع.

إن الدور الذي ستقوم العناصر الإسلامية به عبر مسيرة الانتفاضة الطويلة سيكون له الأثر البارز في قوتهم داخل أية دولة في المستقبل. والحركة الإسلامية بعيدة عن الوحدة، إذ أن عناصر الإخوان المسلمين الأكبر سناً معادية جزئياً للعناصر الجديدة، كالجهاد الإسلامي و"حماس" (حركة المقاومة الإسلامية)؛ هذه العناصر التي استمدت الوحي، لا الأوامر، من آية الله الخميني. والخلافات بينهم تكتية في المكان الأول، لكن بعضها أيضاً شخصي. ومع ذلك، فالسعي وراء ررؤية إسلامية يتضمن مساومات سياسية واضحة؛ فالدعوة إلى الدولة الإسلامية غير مقبولة لدى العنصر المسحي المهم داخل الشعب الفلسطيني. وبدورها، فإن الدول الغربية والاتحاد السوفياتي سوف تتناقص حماستها لدولة فلسطينية في المستقبل، وبصورة عظيمة، إذا كانت هذه الدولة إسلامية الطابع، وخصوصاً إذا كانت عابقةب العطر الخميني وحتى لو لم تكن شبيهة بإيران الشيعية. ومن جهة أخرى، فإن اللهجة الإسلامية في أية شعارات للوحدة ضد إسرائيل لها أصداء قوية عند معظم الفلسطينيين، وهي من أهم العلامات الثقافية الفارقة التي تميّزهم من الإسرائيليين.

وفي أيلول/ سبتمبر 1988، بدأت العناصر الإسلامية تظهر قوة متزايدة في الضفة. وقد تحدّت "حماس" المنظمة مباشرة للسيطرة على الشارع والتظاهرات والإضرابات. وقد لجأت إلى بعض وسائل التخويف لفرض إرادتها. وتحرص المنظمة على ألاّ تقطع الصلات بـ"حماس" لأن من شأن ذلك أن يضعف الوحدة التي غذّت مسيرة الانتفاضة حتى الآن. و"حماس"، وكذلك المجموعات المناصرة للخميني، لن تقبل بأي تقسيم لفلسطين، ولا بإقامة دولة فلسطينية علمانية. وفي هذه المرحلة، من غير الممكن أن تكون "حماس" هي الأخرى راغبة في قطع العلائق بحركة فتح.

وثمة عاملان آخران يميّزان الحركة الإسلامية بين الفلسطينيين: أولهما أن الإسلاميين والشيوعيين وحدهم يملكون قيادات سياسية على مستوى عال تقيم في الضفة. وهذا ما يعطيهم مزية سياسية قياساً بمنافسيهم الذين يميلون إلى المنظمة والذين عليهم أن يتطلعوا إلى قيادة سياسية خارجية بوصفها السلطة العليا. ثانياً، لا يخضع الإسلاميون لأية دولة خارجية يمكنها التدخل والتأثير في سياستهم. فالشيوعيون معرضون للتأثير السوفياتي السياسي، وفي استطاعة السوفيات وبعض الدول العربية التأثير في قيادة المنظمة سياسياً. لكن لا وجود لأية "قيادة إسلامية خارجية" يأتمر الإسلاميون بأوامرها. ويعني هذا كله أن العناصر الإسلامية قد تكون آخر الفئات المعارضة وأشدها رفضاً لأية تسوية سلمية تدعو الفلسطينيين إلى التخلي عن طموحهم في استرجاع فلسطين بكاملها.

وفي المدى الطويل، ليس من الممكن أن تبرز الحركة الإسلامية كأقوى العناصر في المقامة في الضفة. فالفلسطينيون قد اعتادوا الطبيعة العلمانية والديمقراطية لحركتهم الوطنية. لكن الصراع لا يزال بعيداً عن نهايته. فإذا فشلت المنظمة في الرد على التحدي الأردني لاستلامم المسؤولية المباشرة عن شؤون الضفة، وإذا ظهرت المنظمة بمظهر الخائب والمتردد وأصبحت لا تعني الكثير بالنسبة إلى الحاجات الرئيسية عند مناضلي الضفة، فسوف تكون عندها عرضة لاتهام الإسلاميين الراديكاليين بأن طابعها العلماني هو مصدر ضعفها. وفي مثل هذه الأوضاع، فإن صراعاً دموياً طويلاً مع إسرائيل للحصول على الاستقلال من شأنه، على الأرجح، أن يعزّز كثيراً فرص العناصر الإسلامية.

 سادساً: إسرائيل الخيارات والمضامين

 المشكلات في وجه إسرائيل

هناك بين العديد من الهموم التي يطرحها القيام المتوقع لدولة فلسطينية في وجه إسرائيل، مشكلتان على الأخص تثيران حواراً مستمراً عندما تُحسب نتائج قيام دولة فلسطينية في الضفة، وهما: الأمن والإرهاب.

الأمن:

من الممكن أن تجري جولات عدة من الصراع القائم حالياً قبل أن تتضح معالم المواقف التفاوضية الجديدة. ومن شأن الألم المستمر ودفع الثمن المطلوب للحفاظ على الصراع، أن يثيرا الشكوك الأساسية في إسرائيل حيال قيمة الضفة. وبينما يتم درس الخيارات، فإن فكرة الدولة الفلسطينية اليوم أضحت أقل وطأة على النفس مما كانت عليه في السنوات الماضية (لكن، وكما يقول رئيس سابق للاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، كان "الحل القائم على دولتين"، في البدء، حلاً مقبولاً عند الزعماء الصهيونيين قبل إنشاء دولة إسرائيل وقبل نموها إلى ما هي عليه اليوم من قوة واتساع). غير أن من الضروري بمكان، وقبل إصدار أية أحكام أمنية في شأن هذا الموضوع، أن تدرس إسرائيل المضامين الكاملة لما قد تعنيه دولة كهذه على المستوى الواقعي المحدد البحت، وأن تقرر ما يمكن قبوله وما لا يمكن القبول به. ولم يتم سوى عدد قليل من هذه  الدراسات ما دامت الفكرة نفسها "لا يمكن التفكير فيها" سياسياً.

وفي رأي العديد من الإسرائيليين أن المشكلة طبعاً أن يُنظر إليها باعتبارها مجرد مسألة حسابية استراتيجية جامدة. فالتخلي عن الضفة يعني انتصار "العرب" عامة والتخلي عن الحلم اليهودي الكبير باسترداد معظم أراضي التوراة التاريخية، لذا، فهي مشكلة تحمل عبئاً من العواطف والشعور بالتاريخ وبالهوية الوطنية، بمقدار لا يقل عن كونها مشكلة عسكرية. وثمة أمور عملية فلسطينية "نصر عربي" عظيم. فهل يرون أن إسرائيل المتراجعة أضعف وأكثر تعرضاً للاستغلال من ذي قبل؟ لقد واجه هذا المأزقَ العديد من الدول التي جرّها طموحها العسكري إلى التوسع المفرط واضطرت فيما بعد إلى الانسحاب. وقد رددت إسرائيل حججاً مماثلة حين كانت في لبنان، كما رددتها الولايات المتحدة في فيتنام، والاتحاد السوفياتي في أفغانستان.

إن انسحاب دولة كبرى في عالم الواقع أمر له مغزاه حقاً. لكن، هل من شأن انسحاب متعقل من أجل المصالح القومية العليا أن يُرى في نهاية المطاف أنه إشارة إلى فقدان الإرادة؟ إن نفسية الانسحاب ليست أمراً يخضع لعملية حسابية بسيطة. ويخشى بعض الإسرائيليين الا يمثل قيام دولة فلسطينية سوى المرحلة الأولى من استراتيجية فلسطينية وعربية أوسع تهدف إلى إزالة إسرائيل من الوجود. وهذا التفكير وارد، من دون شك، في أذهان الكثيرين في العالم العربي. لكن السؤال الحقيقي هو: هل سيرى العالم العربي الأوسع، وبعد التوصل إلى الدولة الفلسطينية، أن من مصلحته إشعال حرب جديدة مع إسرائيل قد تجري معاركها في الغالب على أراضي الضفة، وضد إسرائيل تملك السلاح النووي؟

الإرهاب

لا ريب أن الإرهاب سيزداد خلال المفاوضات في شأن دولة فلسطينية، وبعد إنشائها بقليل. ومن الواضح أن الدولة الجديدة سوف تملك حوافز قوية على إنهاء الأعمال الإرهابية ضد إسرائيل، لأن الفشل في ذلك قد يستدرج ثمناً باهظاً. فالحركة الوطنية الفلسطينية لا تملك عنواناً واضحاً. أما الدولة الفلسطينية فلها مثل هذا العنوان. ومن الممكن أن يقيم جهاز المخابرات الفلسطيني روابط وثيقة بالأجهزة الإسرائيلية في مسعى مشترك لمحاربة الإرهاب الداخل إلى إسرائيل من الدولة الفلسطينية. وسوف يكون الحافز لدى الفلسطينيين على القيام بذلك قوياً.

إن العناصر الفلسطينية التي تؤمن بالتحرير الكامل سوف تبقى مشكلة حتى بعد التوصل إلى التسوية. لكن قضية التحرير الكامل سوف تتقلص إلى حد بعيد، ولن تلقى التشجيع لدى معظم الدول العربية والتي تتوق منذ سنوات إلى التخلص من عبء القضية الفلسطينية والانصراف إلى أعمال أخرى. ولا مناص من وجود دولة عربية، أو دولتين قد يغريها ركوب سياسة الرفض والحديث عن خيانة القضية الفلسطينية والعربية. ومن المؤكد أن أية دولة أصولية سوف تنحو هذا المنحى، كما أن سوريا هي الدولة الأهم التي قد تقوم بمثل هذا الدور (أما إيران وليبيا فهما بعيدتان). لكن قدرة أية دولة عربية على العمل في هذا المجال سوف تكون محدودة، وإلى حد بعيد بعد أن تقوم لأغلبية الفلسطينيين دولة خاصة بها.

إسرائيل وسياسة الدولة الفلسطينية

لم تتقدم بعد أية شخصية سياسية إسرائيلية تمثل تياراً عريضاً لتعلن قبولها بقيام دولة فلسطينية. ولربما أدى مثل هذا الأمر إلى الانتحار السياسي. كما أن حكومة الائتلاف التي أُلّفت في كانون الأول/ ديسمبر 1988، لن تتسم بالمرونة. وقد أجمعت كل الأوساط السياسية في إسرائيل عهلى القول إن حكومة الائتلاف الجديدة غير قادرة على اتخاذ أية مبادرة حيال الموضوع الفلسطيني. وأجمعت هذه الأوساط، أيضاً، على أن الحكومة محكوم عليها بأن تكون حكومة ردّات فعل دفاعية حيال أية خطوات تقوم بها المنظمة أو الولايات المتحدة أو غيرها من الدول.

إن حزب العمل في حالة تململ. ويعارض الكثيرون من أعضائه الشبان الائتلاف مع الليكود، لأنهم يرون أن حزب العمل يجب أن يتبع سياسة مستقلة حيال قضايا الحرب والسلم. ويرى أعضاء آخرون في هذا الحزب أنه كان من الضروري جداً أن ينضم الحزب إلى الائتلاف للدفاع عن إسرائيل ضد ضغوط خارجية قوية، وخصوصاً لمنع الليكود من خلق ائتلاف يميني قد يتصرف بتهوّر حيال القضايا الاستراتيجية المتعلقة بالفلسطينيين والعرب. وقال الكثيرون من أعضاء العمل والليكود إن الائتلاف ضرورة جامحة لمنع شارون من الوصول إلى وزارة الدفاع.

والاعتقاد السائد لدى معظم الإسرائيليين أن رابين، وهو وزير للدفاع صلب العود، لن يقدم على أفعال هوجاء كالسعي، مثلاً، لسحق الانتفاضة باستخدام القوة العسكرية العارمة. لكنه لن ينجح، أيضاً، في حل للمشكلة كما يصر بعض اليمينيين عليه. والاعتقاد السائد لدى معظم الإسرائيليين، أيضاً، هو أن طرد الفلسطينيين من الضفة في فترة سلام أمر لا يمكن التفكير فيه بسبب المخاطر الهائلة التي قد تتعرض لها العلائق بالولايات المتحدة ومصر وأوروبا. وكان من رأي أحد أفراد الليكود الأيديولوجيين على الأقل، أن الطرد أمر مخالف للضمير في الإطار الفلسفي الصهيوني، وأن مرشد الليكود الأيديولوجي، جابوتنسكي، كان قد استثنى هذا الأمر قبل سنوات عديدة.

وكان الأمر اللافت حقاً على الجبهة السياسية في إسرائيل، في كانون الثاني/ يناير 1989، هو اعتراف عدة أعضاء أيديولوجيين في الليود، ممن التزموا الإبقاء على الضفة تحت السيطرة الإسرائيلية، بأن البلد قد بدأ يتعب وأنه لربما قد فقد الإرادة أو القوة الأيديولوجية للصمود ضد الضغوط كافة. ويعترف هؤلاء السياسيون، وبتردد، بأن المجتمع السياسي في إسرائيل قد لا يرغب في مطاردة حلمه الأكبر وذلك بالنظر إلى ارتفاع الثمن المطلوب لتحقيقه. ولا يستبعد بعض أعضاء الليكود أن ينحني شمير نفسه أمام الواقع، ويلزم إسرائيل بالتخلي عن الضفة. لكن لم تصدر حتى الآن أية إشارة تدل على ذلك، على الرغم من الاعتراف الإسرائيلي المتزايد بأن صانعي السياسة في الولايات المتحدة والجالية اليهودية الأميركية يزدادون استياء من السياسات الإسرائيلية الحالية. وقد وصلت السياسة الأميركية إلى منعطف بارز حين قال وزير الخارجية، جيمس بيكر، في آذار/مارس 1989: "إذا لم يكن في استطاعتكم إجراء مفاوضات مباشرة ذات مغزى... من دون منظمة التحرير، فعلينا أن نشهد مفاوضات بين إسرائيل وممثلين عن المنظمة."

كانت آمال الأيديولوجيين في الليكود تستمد العزم دوماً من الاعتقاد أن المشكلة الديموغرافية (أي النمو الأسرع في عدد السكان بين الفلسطينيين مما هو بين الإسرائيليين، وهو ما سُميّ "حرب غرفة النوم") قد يوازيها المزيد من هجرة اليهود. وعُقدت الآمال بصورة خاصة على الملايين من اليهود في الاتحاد السوفياتي الذين من شأن هجرتهم بأعداد كبيرة أن تؤدي إلى نتائج عظيمة الأثر في الميزان الديموغرافي الإسرائيلي. لكن هذا الحلم يتلاشى الآن. ولسخرية الأقدار، فالذي بدده، ومن دون قصد، هو سياسات غورباتشيف الجديدة، التي تسمح للهيود بالهجرة. وظهر إلى العيان واقع مرير هو أن الأغلبية العظمى من اليهود السوفياتي المهاجرين لا تذهب إلى إسرائيل بل إلى الولايات المتحدة. وفي سنة 1988 لم يذهب إلى إسرائيل سوى 2000 من مجموع 19,000 يهودي سوفياتي تقريباً. وليس من الممكن أن ينعكس هذا الاتجاه، الأمر الذي ينظر إليه العديد من اليهود بمرارة (لا الأيديولوجيين وحدهم) لأنهم يرون فيه حكماً ضمنياً على طبيعة الدولة اليهودية. ولم يعد اليهود يهاجرون إلى إسرائيل من دول أخرى، وخصوصاً من الولايات المتحدة. ويبدو أن أحلام الـ"عاليا" (أي هجرة الجاليات) قد تبددت على حقيقة الواقع المؤلم، وهو أن ثمة يهوداً يفضّلون الحياة خارج إسرائيل. وقد أشار عدد لا بأس فيه من الإسرائيليين من ذوي الفطنة، وعلى شكل تأملي، إلى أن المطلوب لربما هو "نوع خاص من اليهود" ممن يلتزم، معنوياً وثقافياً، العيش في إسرائيل طوعاً لا لأنه لا يوجد مكان آخر للذهاب إليه.

من هنا، فإذا انفرط عقد حكومة الائتلاف الوطني الحالية فقد يعمد الليكود إلى التفكير في ائتلاف يميني مع الأحزاب الذينية والوطنية. ومن المهم أن ندرك أن الأحزاب الدينية في إسرائيل تهتم بقضايا تتصل بطبيعة الحياة اليهودية في إسرائيل أكثر كثيراً من اهتمامها بالأرض. وإذا كان الاحتفاظ بالأراضي يؤدي إلى إلحاق الضرر في المدى البعيد بطبيعة وممارسة الحياة الدينية اليهودية، أو يعرّض أرواح العديد من اليهود للخطر، فإن هذه الأحزاب سوف تختار في نهاية المطاف التخلي عن الأراضي. وتقدّر حركة "السلام الآن" في إسرائيل أن الكنيست الحالي يضم 65 من "الحمائم" و55 من "الصقور"، وذلم بصرف النظر عن الانتماء الحزبي. والزمن وحده كفيل بإظهار حقيقة هذا الأمر، إلا أنه قد يوحي بالمقدار الذي وصل إليه الانهيار في الإجماع الوطني ضد الحوار مع المنظمة. وفي نظر معظم الإسرائيليين أصبح "الحوار مع المنظمة" نوعاً من أنواع الكلام الرمزي الذي يشير، في النهاية، إلى القبول بالدولة الفلسطينية، لكن فقط من خلال مساومات تُفحص عناصرها كلها بدقة متناهية.

ويبقى المستوطنون عقبة رئيسية في وجه قيام الدولة الفلسطينية. فبين 80,000 مستوطن تقريباً يعيشون الآن في الضفة، ليس هناك سوى 20% من الذين يفترض أنهم ملتزمون البقاء. ومعظم الباقين إما من سكان "ضواحي غرف النوم" على أطراف مدينة القدس، وإما من الذين اختاروا الإقامة في الضفة لأسباب عملية، وذلك لرخص المسكن بسبب الدعم الحكومي أو لاعتبارات تتعلق بالاستثمار المربح. وإذا ما عادت الأراضي يوماً إلى الفلسطينيين، فعلى الدولة أن تدفع تعويضات كبيرة إلى الذين يغادرون منازلهم. (قبض معظم سكان مستعمرة ياميت مبلغاً قدره ربع مليون دولار للتخلي عن منازلهم قبل عودة المنطقة إلى مصر).

ويبدو أن سياسات الحكومة الإسرائيلية الحالية ملتزمة، وبقوة، الوضع القائم حتى حين تعترف بأن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر. لكن في نهاية المطاف، ولو من أجل الدفاع عن النفس فقط، على إسرائيل أن تطور "خطة السلام" الخاصة بها، والتي من المرجح أن تتضمن نوعاً من أنواع الحكم الذاتي المستوحى من كامب ديفيد. ولن تقبل المنظمة به ولا أهل الضفة. لكن من الممكن أيضاً أن تطرح خطة للحكم الذاتي تبقي الباب مفتوحاً على إمكانات المستقبل، فتصبح الطريق الذي يؤدي إلى قيام دولة فلسطينية فعلاً. وإذا تمتعت الضفة بحكم ذاتي، فقد تسارع إلى استخدام حرياتها الجديدة فتتابع تطوير المؤسسات المحلية التي بدورها قد تضع حجر الأساس للاستقلال في مرحلة لاحقة. لكن هذا النوع من "الحكم الذاتي المنفتح على إمكانات المستقبل" لن يقبله الفلسطينيون إذا لم يتضمن انسحاباً للقوات الإسرائيلية وإمكان نشوء حكم ذاتي حقيقي. ولا بد من أن تكون قيادة المنظمة الفعلية في موضع قيادي في الضفة، قبل أن تسمح القيادة الرسمية للإسرائيليين باتخاذ خطوة كهذه.

إن المضامين المترتبة على المدى البعيد لخطة منفتحة شاملة للحكم الذاتي كهذه، من شأنها أن تدفع لحفظ ماء الوجه التي قد يقبلها الجناح العملي في الليكود، إذا لم يكن من الضروري الالتفات حالاً إلى نتائجها الكاملة. فقد تمثل هذه الخطة سياسة متدرجة نحو الدولة الفلسطينية. ولن يقبل الفلسطينيو بأي شيء أقل من هذا، على الرغم من أن اعترافاً ضمنياً من جانب إسرائيل بدولة فلسطينية في المستقبل قد يمكّن، في المبدأ، المعتدلين لدى الطرفين من تأجيل الصدام مع الراديكاليين لدى الطرفين، أو تحاشيه.

إن الاقتراح الإسرائيلي الأخير لإجراء انتخابات في الضفة يمسّ المصالح الحيوية عند الأطراف كافة. ويرى اليمين الإسرائيلي، وبحق، أن الانتخابات سوف تنشىء مسيرة سياسية قاتلة تؤدي إلى تثبيت سيطرة المنظمة الرسمية على الضفة، الأمر الذي يؤدي في نهاية المطاف إلى قيام دولة فلسطينية. ويأمل بعض العناصر الأخرى في الليكود والعمل بأن الانتخابات سوف تسحب قيادة المنظمة المحلية من يد القيادة الخارجية وتدفعها في النهاية إلى القبول بحكم ذاتي عريض. والقيادة الخارجية قلقة حيال بروز مثل هذه الانقسامات، لكنها تعترف بأن الانتخابات هي بداية اعتراف إسرائيلي ضمني بعملية توصل في النهاية إلى الدولة الفلسطينية المستقلة.

ولربما عمد الليكود إلى التفكير في خطة أكثر سلبية، وهي ألا يتنازل عن شيء وأن ينتظر حتى يتصاعد الضغط الراديكالي داخل المنظمة على قيادة المنظمة المعتدلة لإظهار نتائج ملموسة فيبلغ حداً لا يطاق. وعندها لن يستطيع عرفات أن يحافظ على سياسة نبذ الإرهاب داخل منظمته مما يؤدي إلى قطع العلائق بين المنظمة والولايات المتحدة، ويجبر المنظمة على الرجوع إلى موقف أقل قبولاً بالمساومة. وهكذا يبرهن شمير صحة موقفه في أن التعامل مع المنظمة مستحيل. وقد تذهب خطة كهذه بعيداً نحو تبديد أية فرصة لمفاوضات مباشرة بين إسرائيل والمنظمة. لكنها لن تحل لإسرائيل مشكلة الانتفاضة في المدى الأبعد.

القوميات ولعبة "الربح والخسارة"

كما يقول ميرون بنفنستي، وهو مراقب ثاقب النظر للوضع الديموغرافي في الضفة، فإن الفلسطينيين واليهود يمثلون قوميتين تتنافسان في لعبة "الربح والخسارة" [كل ربح لطرف خسارة للآخر والعكس بالعكس]. وفي هذه المرحلة، مع الحيوي لنفسية واطمئنان الفكر عند الطرفين أن يرفض كل طرف منهما، وبصورة مطلقة، وجود الطرف الآخر وحقوقه. كيف يمكن لهذه الحلقة المفرغة أن تُقطع؟ يدهش المرء حين يرى كيف أن موضوع المنظمة، وحتى موضوع إمكان قيام دولة في الضفة، يرتبطان ارتباطاً وثيقاً بمسائل نفسية وعاطفية. فمن المستغرب أن يكون إثنان من ذوي الصوت المسموع في إسرائيل، الذين يعتقدون أن الدولة الفلسطينية أمر ممكن وقابل للنجاح في نهاية المطاف، رئيسين سابقين للمخابرات العسكرية الإسرائيلية: الجنرال أهارون ياريف والجنرال يهوشفاط هركابي. وثمة أصوات أخرى تسمع باستمرار في الصحافة الليبرالية في إسرائيل تدعو إلى التفكير فيما لا يمكن التفكير فيه. وفي آذار/ مارس 1988، جاء أحد كبار رسميي حزب العمل ببعض الإحصاءات وهي، بصروف النظر عن أهميتها، تبين أن نسبة 39% من السكان في إسرائيل مستعدة للتفاوض مع المنظمة. وفي كانون الأول/ ديسمبر من السنة نفسها، جاء في إحصاء للرأي قامت به صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن نسبة 54% من السكان مستعدة للتفاوض مع المنظمة. لكن، وحتى اليوم، لم يتقدم أي سياسية ينتمي إلى تيار عريض ويصرح بالقبول بفكرة الدولة الفلسطينية.

وإذا كان الحلم الفلسطيني المعبّر عنه في الميثاق الوطني، والقاضي بإلغاء الدولة الصهيونية لمصلحة دولة فلسطينية ديمقراطية ذات شعبين، ليس مقبولاً في إسرائيل، فإن الفكرة الصهيونية الرومانسية بشأن إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات هي أيضاً تعبير عن هدف سياسي لا يمكن الوصول إليه. لكن هذه المظاهر لا يمكن طرحها جانباً بخفة. وهنا نواجه رأي بنفنستي في أن النزاع هو بين رمزين وطنيين يستثني أحدهما الآخر، لشعبين ترتبط هويتاهما بعمق الأرض ذاتها. وثمة إمكان لا يمكن استبعاده نهائياً مع أنه يبدو بعيد المنال جداً، وهو أن تتفاعل الأحداث لتليين الموقف الفلسطيني بحيث يرضى عرفات بما هو أقل من هدفه كثيراً، أو أن يطالب سكان الضفة عرفات بأن يقبل بما هو أقل. وتجري الأحداث الآن في المجرة المعاكس حتى لا نقول إنها كان يومياً تسير نحو تسوية محدودة. إن العقلية الفلسطينية التي تدعو إلى مقاومة الاحتلال لعقود من الزمن، أو حتى لقرن كامل، لا يمكن أن تؤثر فيها تطورات في المدى القصير ولو بدا الثمن في أعين الغرب من الآلام الضائعة شيئاً لا يحتمل. وعلى المراقبين الغربيين والإسرائيليين أن يعترفوا برسوخ بعض عناصر "وجهة النظر الشرق الأوسطية" نحو التاريخ والتي ترى التطورات ضمن خلفية صراعات طاعنة يلزمها قرون من الزمن لحلها، وذلك بالنظر إلى الاشتراك العالمي الكثيف في هذه العملية. من هنا، فإن قدرة الجانبين على التفكير في مثل هذا الإطار التراثي، الذي يخرج عن نطاق الزمن، لا يمكن الاستهانة بها.

وعلى المحللين أيضاً أن ينظروا إلى الصراع بالعين العربية قبل إصدار الأحكام في شأن ما ستفعله الضفة أو ما سيفعله عرفات. إن البقاء في قيد الحياة هو العلاقة الأبرز للحركة الفلسطينية عبر السنين. وكان ما أصدر المحللون الغربيون والكثيرون من العرب أيضاً أحكامهم بأن عرفات قد خرج من اللعبة؛ لكنه استطاع البقاء كما بقيت المنظمة معه. وهذا هو الأمر المهم في النهاية بالنسبة إلى العديد من الفلسطينيين. ففكرة الحركة وفكرة الدولة ما زالتا قائمتين.

 سابعاً: العنصر الدولي

هناك عنصران دوليان مهمان جديدان يغيّران الآن الحسابات الفلسطينية – الإسرائيليةن هما: علائق الدول العربية في أعقاب حرب الخليج، ونشوء قيادة ومواقف سوفياتية عملانية وأنشط كثيراً من ذي قبل.

الدول العربية بعد حرب الخليج

كانت بداية الحرب الإيرانية – العراقية سنة 1980 بمثابة أول عامل مؤثر، خلال هذا العقد، في مسار النزاع العربي – الإسرائيلي. وسحبت هذه الحرب العراق فوراً خارج اللعبة العربية – الإسرائيلية. والعراق بلد راديكالي قوي كان في طليعة الساعين لطرد مصر من المنظمات العربية بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد. وكانت إيران لتوها قد مالت خارج المعسكر المعتدل لتصبح قوة راديكالية مناهضة لإسرائيل قدمت دعماً قوياً في سبيل طرد القوات الأميركية والإسرائيلية من لبنان في فترة 1983 – 1984. وانشدّت دول الخليج نحو التفكير في إمكان انتشار الأصولية الإسلامية على امتداد الخليج تهديداً لأنظمتها. وخلاصة الأمر، كانت الحرب الإيرانية – العراقية بمثابة إلهاء كارثي طويل الأمد بالنسبة إلى تلك الدول التي كانت ترغب في حصر الاهتمام الدولي والعربي بالمشكلة العربية – الإسرائيلية وهي: سوريا، والأردن، ومصر، والمنظمة.

وفجأة، وفي صيف سنة 1988، توقف القتال. وأصبح في الإمكان أن يعود الاهتمام الدولي فيلتفت إلى المشكلة العربية – الإسرائيلية. كما أن في استطاعة بعض القوى الأخرى في المنطقة أن يلتفت مجدداً إلى أدواره الخاصة به. إن التفاعل بين العوامل الجديدة غير واضح بما فيه الكفاية بينما يعاد رسم الصورة الجيو – استراتيجية العامة. ومن هذه العوامل المهمة:

  • دور العراق في المستقبل. هل سيستمر العراق في القيام بدور المعتدل الذي كان يقوم به خلال الحرب، إنْ لم نقل قبلها، أم هل سيعمد إلى اتخاذ موقف القيادة المستند إلى الصراع ضد "الكيان الصهيوني"؟ يبدو أن العراق يصر على الثأر من سوريا التي ساندت إيران طوال الحرب. لكن كيف؟ يمكن للعراق أن يناور من وراء سوريا فيساند القيادة المعتدلة في المنظمة، التي تسعى للتفاوض مع إسرائيل في شأن الدولة الفلسطينية. وحتى الآن، فإن سوريا قد رمت بثقلها ضد تسوية كهذه.
  • إلى أي مدى يستطيع العراق أن يوهن سوريا؟ إن من شأن سوريا ضعيفة، أو سقوط الحكم في دمشق أن يكون له تأثير عظيم في المنظمة، ويسرّع في انهيار قوى الرفض الفلسطينية والتي تتمتع بدعم سوريا منذ زمن بعيد.

وسيكون للسياسة السورية ذاتها أهمية بالغة؛ فهي سوف ترصد، ولا ريب، موارد ضخمة لعرقلة تسوية فلسطينية – إسرائيلية، أو لعرقلة قيام دولة فلسطينية لا يمكن لسوريا أن تتحكم فيها. وسوريا نفسها تريد أن تكون مصدر النفوذ الأهم في المنطقة. ومن شأن تسوية سلمية أن تبقى سوريا وحدها قبالة إسرائيل، مع وجود إمكانات ضئيلة لاسترداد مرتفعات الجولان. وقد تنجذب سوريا إلى إثارة إمكان نشوب حرب مع إسرائيل للإبقاء على مناخ مضطرب في المنطقة.

وإذا خرج التوتر السوري – الإسرائيلي عن حده، فمن شأن صراع عسكري جدّي أن يؤثر في الضفة والأردن تأثيراً بالغاً. إن "سيناريو" كهذا، في أقصى حالاته، قد يستخدمه الجناح اليميني في الحكومة الإسرائيلية لإنهاء النظام الهاشمي ولطرد أعداد كبيرة من فلسطينيي الضفة إلى الأردن، ويحقق بذلك جزءاً مهماً من رؤية أريئيل شارون. لكن هذا "السيناريو" الخطر لا يبدو قريباً من الإمكان في الأوضاع الحاضرة. فعدد صغير فقط من الدول العربية هو الذي يرى في حرب عربية – إسرائيلية جديدة مصلحة للعرب. لكن تأجيل التسوية إلى أجل غير مسمى، وإمكان عودة الراديكالية إلى المنظمة بقيادة عرفات أو بقيادة خلف له، قد يجلبان إلى المنطقة عدم استقرار لا يمكن التنبؤ بمداه.

السياسات السوفياتية الجديدة

إن العامل الجديد والبارز في المحادثات التي أجريناها مع المسؤولين الإسرائيليين والأردنيين هو الظهور الدبلوماسي السوفياتي الواضح. وأشار موظفون كبار في إسرائيل والأردن إلى "السوفيات الجدد"، وكان تعليقهم أن "السوفيات يتكلمون الآن كالأميركيين تماماً." والأهم من الأسلوب السوفياتي الجديد هو المدى الذي سيصل إليه، على ما يبدو، الدور السوفياتي الجديد والفاعل في العملية الدبلوماسية، وإلى أي مدى سيصبح السوفيات جزءاً من عملية التقدم نحو التسوية.

ينهمك الإسرائيليون في حوار حميم ومستمر مع الرسميين السوفيات، وبصورة رسمية وغير رسمية. وكان الأردنيون منهمكين، بأعمق من هذا المقدار، في صفقات مع الاتحاد السوفياتي؛ فقد كانوا يحاولون مساعدته في حل المشكلة في أفغانستان في مقابل المساعدة السوفياتية لحمل المنظمة وسوريا على اتخاذ موقف أكثر اعتدالاً تجاه التسوية السلمية.

ويبقى أن نرى ما إذا كان في استطاعة الاتحاد السوفياتي أن يحقق تسوية سلمية. ومن المؤكد أن السوفيات لن يبذلوا الجهود من أجل خطة تشبه خطة شولتس مثلاً، لكن الدليل قائم على أن السوفيات قاموا بدور مهم في ثني الجناح الراديكالي داخل المنظمة عن عرقلة اعتراف عرفات بإسرائيل، والشروع في الحوار مع الولايات المتحدة. وحده جناحٌ راديكالي مستكين ضمن المنظمة كان في قدرته أن يمنح عرفات فرصة المناورة لتلبية الشروط الأميركية بدقة لبدء الحوارز وهذا إنجاز سوفياتي بارز.

ولا ريب أن الاتحاد السوفياتي سوف يمارس ضغطاً على سوريا كي تقوم بدور بنّاء أكبر في المنطقة وتتخلى عن عرقلة عملية السلام. ومن الممكن أن تسبب سوريا متاعب جمة للاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط، في وقت تميل فيه الأهداف السوفياتية نفسها من عرقلة التسوية السلمية إلى الترحيب بها.

ويريد الاتحاد السوفياتي أن يُنظر إليه (وأن يعمل) باعتباره حَكَماً مهماً ومعتدلاً في الشرق الأوسط. لكن، حتى السياسات التي اعتدلت مؤخراً للاتحاد السوفياتي من شأنها أن تسبب بعض الإزعاج لصانعي السياسة الأميركية، لأنها لا ريب ستضع حداً للاحتكار الأميركي الكامل تقريباً والممتد عبر عقود من الزمن لمحاولات إيجاد تسوية سلمية. وفي رأي معظم دول العالم، أن الولايات المتحدة كانت لديها فرص سانحة فبددتها. ومن شأن بعض القوى، كالقيادة الفلسطينية المتطورة والاتحاد السوفياتي المعتدل، أن يكون له ثقل أكبر كثيراً في حسابات السلام المقبلة، للخير أو للشر.

العامل الأميركي

وعلى الرغم من كل ذلك، فإن الولايات المتحدة ستقوم بدور بالغ الأهمية، إما عمداً وإما إهمالاً، وإما في كلا الشكلين. وكما نوّهنا أعلاه، فقد يكون للجالية اليهودية الأميركية، التي ازداد نشاطها وتعالت أصواتها فيما عنى الانتفاضة، تأثير كبير في البيت الأبيض من أجل دعم دور أميركي أنشط لحمل حكومة شمير على مواجهة الحقائق. وعلى الرغم من أن التركيز على العملية الدبلوماسية كوسيلة للتحرك نحو تسوية المشكلات الشائكة أمر مفيد جداً، فمن الممكن ألا تنجح هذه الدبلوماسية حين يرفض أحد الطرفين – أو كلاهما معاً – أية نتيجة قد تنجم عن عملية كهذه. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا يمكنها طبعاً إصدار الأوامر إلى إسرائيل أو المنظمة، فمن المهم أن يعي صانعو السياسة الأميركية إلى أين تجري الأحداث، أو إلى أين قد تجري. ومن دون مثل هذا الوعي للمجرى السياسي، حتى لو لم يُعلن على الملأ، فإن الارتهان إلى عملية عمياء تجري بين طرفين لا يرغبان فيها لن يُكتب له النجاح. ولعل بعض الشعور بالإلحاح قد فارق هذا الموضوع في عالم تُمارَس فيه العلائق بين أميركا والاتحاد السوفياتي على مستوى يقل بعض الشيء عن مستوى "الربح لطرف هو خسارة للآخر." لكن، إذا كان صراع الشرق والغرب هو الموضوع الأساسيي في جدول الأعمال الأميركي، فإن من شأن ذلك أن يلحق الضرر بجميع الأطراف في المنطقة.

 ثامناً: خلاصات

إن قيام دولة فلسطينية في الضفة هو النتيجة الأكثر توقعاً في المدى البعيد، وبنسبة عالية جداً من الترجيح، للصراع الدائر حالياً. ومنطق الدولة يفرض نفسه بازدياد، بينما تتطور الأحداث عبر العقود من السنين. وهذا التطور مبني على الآتي:

  • قدرة المنظمة وقيادتها على البقاء، على الرغ من عيوبهما العديدة.
  • استمرار القبول بالمنظمة عند جميع الفلسطينيين رمزاً لآمالهم الوطنية.
  • انسحاب الأردن كمشارك نشيط في الصراع بشأن التسوية (لكن هذا لا يعني عدم قيام روابط وثيقة بالأردن، تقيمها بحرية دولة فلسطينية في المستقبل).
  • شعور جديد بالاستقلال لدى سكان الضفة، ووعيهم أنهم هم الذي سيجدون حلاً لمأزقهم.
  • وجود الانتفاضة التي جرفت من طريقها معظم العناصر التقليدية التي كانت مستعدة لقبول هدف أدنى، كالحكم الذاتي في نطاق إسرائيل.
  • ازدياد العداء والغضب بين جميع سكان الضفة، وبصرف النظر عن مواقفهم السياسية إزاء القساوة والعنف الدموي اللذين يعاملهم الإسرائيليون بهما حتى اليوم بسبب الانتفاضة.
  • إزالة لا رجوع عنها لكل التسويات السياسية البديلة مع إسرائيل: وحدها دولة في الضفة أو طرد سكان الضفة يبقيان الآن الخيارين المنطقيين والواقعيين.
  • الحقائق الناجمة عن خيارات إسرائيل المحدودة، وحاجتها إلى تقويم جديد للثمن الذي تدفعه من أجل الإبقاء على الاحتلال في الضفة.
  • التعب المتنامي إزاء الصراع من جانب الإسرائيليين.
  • فقدان أية قيادة في إسرائيل فيما عنى هذا الموضوع، الأمر الذي يجر إسرائيل بازدياد نحو موقف دفاعي.
  • اعتراف جميع الإسرائيليين بأن الوضع القائم لا يمكن أن يبقى على حاله.
  • بدء مفاوضات مباشرة بين الولايات المتحدة والمنظمة، الأمر الذي يرسّخ مفاوضات عملية غير مباشرة بين إسرائيل والمنظمة.
  • ازدياد الضغط الأميركي والدولي على إسرائيل للتفاوض مع المنظمة، ولقبول دولة فلسطينية في المستقبل.
  • تراجع حدة الصراع بين الشرق والغرب خلال ثورة غورباتشيف الذي يقلّص بدوره أهمية إسرائيل الاستراتيجية للولايات المتحدة ضمن إطار الشرق والغرب في المنطقة.
  • حل النزاعات الإقليمية الأخرى في العالم بالتدريج، ضمن المناخ الجديد لعلائق الشرق والغرب والذي يسلط الأضواء على الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي كصراع لم يُحل بعد.
  • الاعتراف المتزايد من جانب العالم العربي بأن قدرة الدول العربية الخارجية على التلاعب والتحكم في الحركة الوطنية الفلسطينية تتناقص، وذلك بصرف النظر عن المشاعر المتضاربة التي قد يكنّها البعض حيال قيام دولة فلسطينية مستقلة.
  • اهتمام الاتحاد السوفياتي المتزاد بالسعي لتسوية للقضية الفلسطينية ضمن سياسة معتدلة تتضمن، في حكم المؤكد، قيام دولة فلسطينية.

إن حتمية قيام الدولة الفلسطينية لها الأولوية إزاء أية أحكام قد تصدر في شأن مرغوبيّتها، لكنها لا تلغي المشكلات العملية والنفسية الهائلة التي قد يخلقها قيام الدولة. إن نظرة سريعة إلى بعض التحاليل الأوّلية توحي بأن هذه المشكلات، وعلى الرغم من حجمها، ليست مستعصية على الحل. لكن المشكلات العملية قابلة للحل في نهاية المطاف، في حين أن المشكلات الأيديولوجية ليست كذلك.

وفي نهاية الأمر، على السياسة الأميركية والإسرائيلية أن تعتمد وبازدياد ليس على ما يبدو مفضلاً على المستوى النظري، بل على ما يبدو ممكناً في عالم الواقع. وتبعاً لذلك، على هذه السياسة أن تتمحور على الشكل الأفضل. إن سياسات جميع الأطراف التي تهدف إلى معارضة الوجود البارز للحركة الوطنية الفلسطينية، قد أصابها حتى اليوم الفشل الذريع. وحتى المنظمة تعترف بأن حلمها بالانتصار على إسرائيل غير قابل للتحقيق. إن استمرار أي من الجانبين في بذل الجهود لمعارضة ما يبدو الآن أنه تسوية حتمية لآمال وطنية متناقضة، مصيره الإحباط ولربما كان الثمن غالياً جداً.