بعد 51 سنة على الاحتلال: طريق اليسار يكمله اليمين: الاستيطان يجري في عروق المجتمع الإسرائيلي
التاريخ: 
05/06/2018

ينطوي الخطاب الإسرائيليّ حول حرب 1967 على الكثير من البلبلة والروايات المختلفة حول الدوافع والسياسات التي سبقت الحرب وتلتها، وقد يكون ذلك أفضل مؤشر على الفجوة الكبيرة بين الموقف الرسميّ المعلن الذي سوّقته الدولة الإسرائيليّة وبين ما طمحت إلى تحصيله على أرض الواقع.

وبينما تجمع غالبية المصادر الإسرائيلية على حالة الهلع التي سادت البلاد إبان الحرب، والتي شُبهت بالتخوّف من "محرقة ثانية"، يرى المؤرخ الإسرائيليّ توم سيغف في كتابه "1967: وغيّرت البلاد ملامحها" أنه لم يكن هناك أيّ سببٍ حقيقيّ يبرّر هذا الاضطراب، لا سيما وأن الحرب، حسبما يؤكد، لم تُفرض على إسرائيل أساساً بل هي التي بحثت عن ذريعةٍ لخوضها.

وقد يكون من أهم القضايا التي يختلف حولها الرأي العام الإسرائيليّ فيما يخصّ حرب 1967، موقف القيادة الإسرائيلية آنذاك من توسيع الاستيطان اليهوديّ في الأراضي التي تمّ احتلالها. فعلى الرغم من التصريحات الرسميّة التي صوّرت هذه الأراضي كـ"ورقة مساومة" قد تخدم إسرائيل في أية عملية مفاوضات، فإن أسس سياسة الاستيطان خلف الخط الأخضر وُضِعت، بهمّةٍ وسريّةٍ، خلال الأشهر القليلة من النصف الثاني من سنة 1967 نفسها. وأمام المسوغات الأمنية التي ساقتها الدولة في تبرير الخطوات الاستيطانية التي راحت تتخذها، باتت آراء كثيرة أشدّ اقتناعاً اليوم  بأن مصنع الاستيطان لم يتكرس فعلياً سوى عندما بدأت الدولة تنجر وراء مَن حلموا بأرض إسرائيل الكاملة، ومَن نظروا إلى الإنجاز العسكريّ الكبير سنة 1967 بصفته أمراً إلهياً بالعودة إلى "أرض الأجداد"[1] التناخية. يتبنّى اليسار الصهيونيّ هذه القراءة للحركة الاستيطانية، ويصوّر 1967  كـ "حادثةٍ" شكّلت بداية "الانحراف عن المسار" نحو تدهور الديمقراطية الإسرائيليّة.

اليسار واليمين تحت وهج التوسّع

يكتب المدوّن عيدان لنداو: "لطالما انطوى الاستعمار في أساسه على شراهةٍ منفلتةٍ، وإسرائيل ليست مختلفة من هذه الناحية. من الجدير تذكّر هذه الحقيقة البسيطة لأنها قد تبتلع وتنسى في خضم الكلام الكثير عن "الإيديولوجيا المسيانية"، "التعصّب الديني"، "العنصرية اليهودية"، إلخ. من الصحيح أن كل هذا موجود، في الأساس، في هوامش اليمين الإيديولوجيّ، لكن مصنع الاستيطان لم ينمُ ويواصل انتشاره وازدهاره بفضل هؤلاء. هذا المصنع نما في قلب حزب "العمل"، وتحديداً في تيار "وحدة العمل" الذي كان أحد مركباته". وقد يبدو من المفارقة اليوم أن تكون "الحركة من أجل أرض إسرائيل الكاملة" التي ظهرت مباشرةً بعد حرب 1967، وطالبت بعدم التفريط بأيّ شبرٍ من الأراضي التي احتلت، قد ضمّت الكثيرين من أبناء الجيل الأول لهذا اليسار، وعلى رأسهم الشاعر نتان الترمان الذي كان أحد مؤسّسي الحركة، والشاعر حاييم جوري، وغيرهما من المثقفين والشخصيات التي انتمت إلى "حركة العمل"[2]. وربما كان تأثير"الحركة من أجل أرض إسرائيل الكاملة" رمزياً بالفعل، كما يقال، إلا أن تحالف التيارات السياسيّة المختلفة تحت سقفها، يدلّ في الأساس على الإجماع الذي ساد آنذاك بين النخب الإسرائيلية على ضرورة مواصلة السيطرة على الأراضي المحتلة واستنفاذ الآفاق التوسعيّة التي فتحت أمام الدولة الصغيرة التي ضاعفت حجمها ثلاث مرات خلال ستة أيام.

"بين ليلة وضحاها"، يكتب المؤرخ د. آفي راز، "استُبدل المزاج المتعكّر بالنشوة ، وأقصت الحماسة المسيانيّة صوت المنطق. تمّ التخلّي عن التصريحات القائلة بأن لا نيّة لدى إسرائيل بالتوسّع الاقليمي. القادة والمواطنون العاديون، على حدٍّ سواء، اعتبروا المناطق التي احتُلت "مناطق محرّرة" من اللحظة الأولى للاحتلال، وطمعوا بشكلٍ خاصّ بالضفة الغربيّة، وعلى رأسها بلدة القدس القديمة، كونها جزءاً من أرض إسرائيل التناخية".

"عدنا إلى أقدس أماكننا. عدنا كي لا نعاود فراقها إلى الأبد"، هذا ما أعلنه موشيه ديان في اليوم الثالث للحرب. الإسرائيليّون أرادوا أيضاً الاحتفاظ بهضبة الجولان، التي سميت في حينه "الهضبة السورية"، مبرّرين ذلك بأهميتها الإستراتيجية. إلا أنّ السبب الحقيقي لاحتلال الجولان، الذي كشفه ديان بعد سنواتٍ كثيرة، كان الضغط الكبير الذي مارسته الكيبوتسات التي اشتهت أراضي المنطقة الخصبة. حتى شبه جزيرة سيناء، لم ترغب إسرائيل بالتخلي عنها، فكيف تتخلى عن شرم الشيخ في الطرف الجنوبيّ من شبه الجزيرة التي تطلّ على مضيق تيران - بوابة الدخول لميناء إيلات؟ "شرم الشيخ بلا سلام أفضل من سلام بلا شرم الشيخ"، قال ديان.

الحركة الكيبوتسية وخطّة ألون:

لا تأقلم مع ثبات الحدود

إذا صار الحديث يجري في العقود الأخيرة عن "المستوطنات"، فإن "الكيبوتسات" هي التي كانت، منذ ما قبل حرب 1948، واجهة الاستيطان اليهوديّ في البلاد، وتوسيع الحدود وتأمينها، لا سيما وأنها كانت امتداداً للأحزاب العمالية التي أمسكت زمام الحكم في العقود الأولى من حياة إسرائيل.

في هذا السياق، يشرح الباحث دانيال دي ملآخ: "وضّحت الأبحاث النقدية حول مشروع الاستيطان اليهوديّ ما بعد 1948 أن إقامة الدولة لم تُفسَّر من قبل صانعي السياسة كتعبيرٍ عن إتمام المشروع، وإنما كرافعةٍ لتعزيزه. ومن اللافت أن نشاط الحركة الكيبوتسية في تلك الفترة من عمر الدولة لم يُدرس أبداً، ويدلّ هذا النقص على مشكلةٍ أوسع، وهي أن البحث الاجتماعي حول الكيبوتس كان منقطعاً عن سؤال الاستعمار وتطوّر الصراع اليهوديّ - العربيّ، على الرغم من أن الكيبوتس كان التعبير الأوضح لاستراتيجية "احتلال الأرض" و"احتلال العمل" التي اعتمدها المستعمرون العمّال في أرض إسرائيل".

ويضيف دي ملآخ: "العقد الذي سبق حرب 1967 كان فترةً مركّبةً ومأزومةً من ناحية الحركة الكيبوتسية التي استصعبت التأقلم مع ثبات الحدود. في أواخر الخمسينيّات، ومع الاستنفاد الأوليّ لمخزون الأراضي الزراعيّة التي سيطرت عليها الدولة سنة 1948، توقّفت تقريباً إقامة البلدات الجديدة. نمو الكيبوتسات توقف، بل تقلص، وأوضاعها المالية تدهورت. في حرب الأيام الستة، سيطرت إسرائيل على مساحات إضافية، وفُتحت إمكانيات جديدة للتوسع الإقليميّ. مجهود الاستيطان تركز على إقامة كيبوتسات وموشافيم (قرى زراعية تعاونية) جديدة قادرة على إحكام السيطرة على مناطق واسعة نسبياً. النتيجة أتت بانتعاش كبير جداً للحركة الكيبوتسية، وبازدهار اقتصادي وديموغرافي لم يتوقعه أحدٌ قبل الحرب.

في السنوات ما بين 1967 و1977، أقيم في هضبة الجولان، وغور الأردن، وغوش عتصيون، وسيناء ومشارف رفح 19 كيبوتساً، و12 موشافاً تعاونيّاً، و31 موشاف عمّال". وبدأت غالبية هذه المستوطنات حياتها كبلداتٍ صغيرةٍ للشبيبة الطلائعية المحاربة "ناحال" وقُدمت كقواعد أمنيّة، ومن ثم أدخلت إليها العائلات  بالتدريج.

يؤكد دي ملآخ تمسّك منظمة "الكيبوتس الموحّد" في تلك الفترة بمبدأ "كامل الأرض"، بما يتوافق مع رؤية رئيسها لسنين طويلة، اسحاق طبنكين، الذي رأى أن توسيع الاستيطان والسيطرة اليهوديّة على الأرض يقف على رأس لائحة أهداف الصهيونيّة.

وهكذا، عمل رئيس وزراء إسرائيل (الأول) دايفيد بن غوريون على تثبيت الحدود، بينما سعى رجال "وحدة العمل"[3]، الحزب الذي سيطر عليه "الكيوبتس الموحد"، إلى توسيعها. وقد عرض  يغآل ألون[4] الاستراتيجية التي وجّهته، هو ورفاقه في "وحدة العمل"، في كتابه "ستار من رمال"، إذ  وصف تقسيم البلاد كـ"جرحٍ خبيث" يثقل على حماية الدولة: "إذا اشتعلت الحرب من جديد، يجب عدم إيقافها حتى يتحقق النصر الكامل والأرض الكاملة". واتّخذ ممثلو الحركة الكيبوتسية في جلسات الحكومة المواقف الأكثر تشدّداً، حتى أنهم طالبوا باتخاذ قرارٍ مسبقٍ يقضي بالسيطرة على الضفّة الغربية في حال تغيّر الحكم هناك أو دخل جيشٌ أجنبيّ إليها. ونجح هؤلاء في تعزيز قوتهم داخل الحكومة حتى أجمع الباحثون على الدور المركزي الذي أدّته قيادة "وحدة العمل" في صياغة سياسة التصعيد الإسرائيلية في تلك الآونة. وتنطوي تصريحات ألون غداة الحرب على دليل آخر على ذلك، إذ عبّر فيها عن خيبة أمله من حجم الطرد المحدود الذي تعرّض له السكّان الفلسطينيون، منتقداً ما أسماه "كبح الفرار"، وذلك على الرغم من أن مئات الآلاف من السكان العرب طردوا من بيوتهم سنة 1967، ما وسّع إمكانيات الاستيطان في السنوات التالية بشكلٍ كبير.

يخلص دي ملآخ  إلى أنه  "حتى سنة 1977، كان هناك دور حاسم للحركة الكيبوتسية في صياغة السياسة الإقليمية والاستيطانية لإسرائيل، وبالتالي في مأسسة الاحتلال. في تموز/يوليو 1967، طرح ألون الخطّة التي عرفت فيما بعد باسمه، والتي نادت بضم القدس الشرقية، وهضبة الجولان، وغور الأردن، وغوش عتصيون، وأجزاء من جبل الخليل، وقطاع غزة، ومشارف رفح الى إسرائيل. الحكومة لم تتبنَّ هذه الخطّة بشكلٍ رسمي، لكنها وجّهت عملها بالاستناد إليها خلال العقد التالي. وما زالت خطّة ألون تعتبر حتى اليوم في نظر الكثيرين بمثابة مسعى يرمي إلى تأمين الاحتياجات الأمنية لإسرائيل، وفتح مجال لتسوية سياسيّة، وتجنب التوسّع بمناطق مزدحمة بالسكّان العرب".

من الكيبوتس إلى المستوطنة:

خطّة المئة ألف

ليس صدفة  أنّ الاستراتيجيات التي اعتمدتها الحركة الكيبوتسية للتأثير على صناعة القرار تشبه إلى حدّ كبير تلك التي تعتمدها حركة المستوطنين خلال العقود الأخيرة. فحركة "غوش إمونيم" الدينيّة القوميّة التي تأسست سنة 1974، وكانت بمثابة الانطلاقة الرسميّة لحركة المستوطنين، تبنّت الممارسات واللغة "الطلائعية" التي كرّستها الحركة الكيبوتسية، حتى اعتبرها الكثير من رجال "العمل" في بادئ الأمر حركة "تكمل الطريق".

وكان من الطبيعي أن يتعاطف مَن فرضوا الاستيطان اليهوديّ على الأرض خلال الثلاثينيّات، عبر إنشاء بلدات على شكل بؤرٍ زراعيّةٍ محصّنة اشتهرت باسم "جدار وبرج"، مع محاولات "غوش إمونيم" الاستيطانية الأولى، وأن ينظروا بتقديرٍ إلى حماستها ومثاليتها.

لذلك، وعلى الرغم من موقف الحكومة الرسمي المعارض آنذاك للاستيطان في قلب الضفّة الغربية، قرّر شمعون بيرس، وزير الأمن في سنة 1974، أن يحتفل بعيد "الحانوكا" مع المستوطنين الذي اختاروا سبسطية في قضاء نابلس موقعاً لإحياء العيد، وانتهزوا هذه الفرصة لإعلان  تأسيس مستوطنة يهودية هناك. لكن قصة الحب هذه، كما سيتضح لاحقاً، لن تستمر طويلاً، لأن "غوش إمونيم" سعت بدورها إلى تعزيز قبضتها على الحكومة، فساهمت في انقلاب سنة 1977 الذي أوصل "الليكود" إلى الحكم للمرة الأولى، وأنهى احتكار حكومات اليسار العمّالية له.

في ظل حكم "الليكود"، طرحت الدولة مبادرةً، سُمّيت فيما بعد باسم "خطّة المئة ألف"، لتطوير الاستيطان المكثّف في الضفّة الغربية، وسعت إلى تحقيق زيادة هائلة في عدد سكّان المستوطنات بغية تعزيز السيطرة على الأراضي المحتلة. وتركت هذه الميول الجديدة تأثيرها على الكيبوتسات والموشافيم، بعد أن آلت إلى تقليص الدعم الحكوميّ للقطاع الزراعيّ الذي كان عماد غالبية الكيبوتسات.

وحاولت الحركة الكيبوتسية، التي فقدت تأثيرها في الحكومة، في السنوات التالية الاستمرار في نشاطها الإستيطاني بمساعدة "الصندوق القومي اليهودي"[5]، الذي كان لا يزال تحت سيطرة حزب "العمل"، مركّزةً على مناطق الخطّ الأخضر، وعلى رأسها الجليل والنقب. وفي المقابل، تصدّرت "غوش إمونيم" مستوطنات الفئات الوسطى التي أقيمت في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة حتى سنوات الثمانينيات. وبعد توقف نشاط هذه الحركة في نهاية الثمانينيات، انصرف أعضاء حركة المستوطنين إلى إنشاء منظّمات مثل مجلس المستوطنات "يشاع"، وانخرطوا في العديد من الأحزاب السياسيّة، وحافظوا على تأثيرٍ مستمر داخل حزب "الليكود". وفي ظل تواصل الاستيطان، تعاظمت قوة التيار الصهيوني المتدين حتى نجح في التغلغل داخل مؤسسات الدولة، من الجيش إلى المؤسسات المسؤولة عن الأراضي والميزانيات، محكماً سيطرته على إسرائيل. وبات ذلك جلياً في طبيعة الحكومات اليمينية التي تشكلت خلال السنوات الأخيرة في إسرائيل وأجنتدها الاستيطانيّة.

اليسار شقّ طريق اليمين:

"عمق تغلغل المستوطنين في نفوسنا"  

حاولت عديت زرطال، التي ألّفت مع عكيفا الدار كتاب "أسياد البلاد"، أي المستوطنين، أن تفسّر خلفية التقدم الكبير الذي أحرزته حركة المستوطنين، فكتبت: "الكثير من المستوطنات أقيمت في حيّزٍ مبهم. فهي من جهة، كانت خارجة عن القانون ومخالفة قرارات الحكومة، ومن جهة أخرى، حظيت على طول الطريق بدعمٍ كبير من كافة آليات الحكم... لكن السؤال هو: لماذا حصل ذلك، أساساً؟ أعتقد أن المستوطنين، لكونهم قد تمسكوا برؤيا وروح وممارسات صهيونية عميقة على مدى سنوات، أسروا بسحرهم المجتمع الإسرائيليّ، بما يشمل ممثليه في الحكم. لذلك، عندما يقول المستوطنون: "ماذا تريدون منا؟ نحن نواصل ما بدأه آباؤكم"، يكونون على حقّ. فالصهيونيّة العلمانيّة الثوريّة التي نظّرت إلى نفسها بصفتها بداية شيءٍ جديد وانفصالٍ عن اليهودية الدينيّة وعن الشتات، اشتملت بالفعل على عروق مسيانيّة قوية وعميقة جداً. وكافة مصطلحات الثورة الصهيونيّة، مثل "العاليا"[6] و"إنقاذ الأرض"، هي مصطلحاتٌ دينيّة مسيانيّة، ما يفسّر عمق تغلغل المستوطنين في نفوسنا، وفي روح المجتمع الإسرائيلي".

وهكذا، أخذ المستوطنون مكان رجال الكيبوتسات في موقع أهمّ مجموعة ضغط في السياسة الإسرائيليّة. وكما يوضح المؤرخ د. جادي الغازي "فالاحتلال الذي بدأه اليسار الصهيوني أكل قاعدة قوته تدريجياً. هم حفروا قبرهم بأيديهم: فكلما تعمّق الاحتلال، تعزّزت قوة الصهيونية الدينية. إن استراتيجية هؤلاء كانت أن يتماثلوا مع الحدود الكولونيالية كي يقولوا  نحن من يستحق الهيمنة في المجتمع اليهوديّ لأننا الطلائعيون الحقيقيون. إن ما يجري هو صراع بين الأوساط صاحبة الامتيازات حول ممن تتكوّن النخبة ومن هو الذي يقود المشروع الصهيونيّ، وليس صراعاً بين يمينٍ ويسار بالتأكيد. فحتى إذا نظرنا إلى المهندسين الكبار لمصنع الاحتلال - يغآل ألون وأريئيل شارون من بعده - سنجد أن كلاهما خرج من حركة "العمل"، إلا أن الانشغال الحاصل اليوم باليمين واليسار ينسينا من أين أتى هؤلاء وإلى أين ذهبوا. حتى من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، من غير الواضح مَن هو اليمين ومَن هو اليسار داخل الحركة الصهيونية".

ويضيف الغازي: "الخلاف بين السابقين واللاحقين ليس على الأهداف وإنما فقط على الاستراتيجية والتكتيك. فاليسار الصهيونيّ لديه هاجس الحفاظ على الفصل والطهارة، أيّ عدم الاختلاط بالعرب، وأكبر مثالٍ على ذلك هو الكيبوتسات التي ما زالت حتى اليوم أكثر البلدات حصريةً في إسرائيل. وتتلخص جميع شعاراتهم في: "هم هناك ونحن هنا"...أما اليمين الصهيوني فيتخوّف بدرجةٍ أقل من الاختلاط لأنه يريد أن يبتلع أكبر قدر من الأراضي. واحد لديه "أنوركسيا" [فقدان الشراهة العصابي] والثاني "بوليميا" [الشراهة المرضية] - درجتان من الحالة ذاتها. اليمين عمل على إقامة مستوطنات في قلب الضفّة الغربية ابتداءً من السبعينيّات، بينما فضّل اليسار قبله الاستيطان في المناطق "النظيفة"، أي في هضبة الجولان وغور الأردن، مع العلم بأن اليسار نفسه هو مَن قام بتنظيف هذه المناطق في 1967. فمن أصل 120-130 ألف [مواطن سوري] في هضبة الجولان، بقي 6500 فقط. أما في الغور، فيقدر أنه تمّ طرد ما بين 70-80 ألف [فلسطيني] ، فضلاً عن 325 ألف لاجئ جديد على الأقل من الضفّة وغزة. أي أن اليمين تحدّث عن الترانسفير، بينما اليسار الصهيونيّ طبّقه".

المسيانيّة تدير إسرائيل:

بين جيش التستر وعصابة الكشف   

بناءً على ما تقدّم، تبدو الفرضية التي سادت خلال السنوات الأخيرة، والتي تقدّم الموقف من أراضي 1967 على أنها الشرخ الكبير ما بين  اليسار واليمين في إسرائيل، منقطعةً تماماً عن السياق التاريخيّ. وأكثر من ذلك، فإذا راجعنا الحلّ السياسيّ الذي يقترحه "معسكر السلام" الإسرائيليّ خلال العقود الأخيرة، سنجد أنه يتحدّث عن الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلّة لكنه يستثني منها الكتل الاستيطانية التي وافق على وجودها، وساهم في خلق إجماعٍ إسرائيليّ حول مستقبلها، وكرّس عمليّاً "تبييضها" مثلما تمّ، قبل ذلك، "تبييض" الاستيطان اليهودي داخل الخط الأخضر باعتباره شرعيّاً.

ومن جهة أخرى، فإن الدولة الفلسطينية التي يقترحها  "معسكر السلام" ليست سوى حكم ذاتي أو " بانتوستانتات"، وليست مناداته بحلّ الدولتين، منذ التسعينيّات، سوى استمرار لإيمانه بمبدأ الفصل واستماتته للحفاظ على الدولة "اليهودية والديمقراطية" والحؤول دون وقوعها في المستنقع الديموغرافيّ العربي، ناهيك عن أن مناداته بهذا الحل  يظهر أنصاره  بمظهر "المتنورين السلميّين" الذين يأخذون على عاتقهم التصدّي لـ" الأشرار" المتعصّبين وللخطر الذي يمثلونه ليس على الفلسطينيين فحسب  وإنما على الإسرائيليّين كذلك.

إن المستوطنين صادقون إذاً حين ينعتون هؤلاء بـ "المنافقين"، ويتساءلون حول ما إذا كان هناك فرق حقاً بين الشيخ مونس[7] وكيبوتس "مشمار هعيمك" وبين المستوطنات التي لم تقم بمعظمها على الأقل على أراضٍ خاصّة. بيد أن "ثقافة النفاق" التي تكرّست في إسرائيل، بحسب لنداو، ليست حصراً على هؤلاء دون عن غيرهم: "فالحماسة المسيانية لأتباع الحاخام كوك[8]، والاندفاع الاستيطانيّ لكبار حركة "العمل" ما كانا ليحققان إنجازاتٍ كبيرة كهذه في بيئةٍ من الشفافيّة الجماهيريّة تحيط بنشاطات الحكم.. فالحقيقة التاريخية التي تظهر مرةً تلو الأخرى حول الأيام الأولى لمشروع الاستيطان الإسرائيليّ تفيد بأنه تأسّس على التستر والتحريف والكذب: ما تمّ حفره في الذاكرة القوميّة - إذا ما تمّ حفر شيءٍ فيها أساساً - يختلف كثيراً عن الحقيقة التاريخيّة، وليس بسبب نسيانٍ طبيعيّ أو تناسٍ متعمّد... فبينما تبدو المواجهة في المجتمع الإسرائيلي محتدمة بين معسكرين بإيديولوجياتٍ متناقضةٍ ظاهرياً، فإن المواجهة في الواقع هي بين توجّهين مختلفين حول مكانة الحقيقة في السياسة - بين ثقافة الحقيقة وثقافة الكذب، بين جيش التستر على الحقيقة وعصابة الكشف عن الحقيقة".

وبينما يشير لنداو إلى اتساع جملات ملاحقة منظمات حقوق افنسان ونشطائها في إسرائيل  خلال السنوات الأخيرة باعتبارهم "وكلاء الحقيقة"، تراه يؤكد أن إسرائيل "تكذب تقريباً في كلّ الجوانب المتعلّقة بالمشروع الكولونياليّ لتهويد النقب، والجليل، ويهودا والسامرة، وشرقي القدس. فهي تكذب مرّةً عندما تتسر على أعمال الطرد، ومرّةً أخرى عندما تنكشف، فتبرّرها بالاحتياجات الأمنيّة. تكذب مرّةً لمّا تتستر على أعمال الاستيطان، ومرّةً أخرى عندما تعرضها كـ"عودةٍ لأرضٍ يهودية" أو "استخدام أراضي دولة غير مستغلة". ويشترك في منظومة الكذب هذه أطراف كثر في مركبات المجتمع كافة - من قضاة محكمة العدل العليا إلى سائقي الجرّافات في القرى غير المعترف بها في النقب... فعلى ماذا يدلّ انتشار ثقافة الكذب في مختلف مستويات الحكم، ثقافة الإسكات في وسائل الإعلام، ثقافة إغلاق الأعين في السلطة القضائيّة، وثقافة الجهل الطوعي التي يعتمدها الجمهور الواسع ؟ هل يدلّ ذلك على أن أيديولوجيا أرض إسرائيل الكاملة لا تستطيع حسم النقاش حول هذه البلاد من دون ثقافة الكذب؟".

لعلّ الباحث الاجتماعي ليف جرينبرغ يلخّص المأزق الذي وقعت فيه السياسة الإسرائيلية بقوله: "المشكلة أن "الليكود" و"العمل" خلقا واقعاً يملك متعصبو "يشاع" فقط استراتيجية للتعامل معه. لا توجد أية استراتيجية بديلة عن مواصلة مشروع الاستيطان القومي في كافة البلاد، لا لدى معسكر السلام ولا لدى المعسكر القوميّ العلمانيّ. لا يمتلك أيّ طرفٍ سياسيّ صهيونيّ استراتيجيةً قابلة للتنفيذ من أجل تحقيق برنامجه السياسي سوى حزب "البيت اليهودي". القاسم المشترك بين حركة "العمل" الصهيونيّة وبين المعسكر القوميّ هو إيمان كلاهما بالحقوق الفائضة لليهود على البلاد وبتبرير مشروع إقصاء العرب. وبينما توصّلت جميع مجتمعات المستوطنين الأوروبية في نهاية المطاف إلى الاعتراف بالسكّان الأصليّين وحقوقهم، أو قامت بطردهم بالقوة، ترانا نحن مصمّمين على البقاء كمجتمعٍ مستوطنين، ونرفض الاعتراف بالحقوق المتساوية الأساسيّة - فمن سيرضى حقّاً بالتنازل عن الحقوق الفائضة لليهود؟ ما دام هناك إجماعٌ يهوديّ على الاحتفاظ بالحقوق الفائضة وإخراج الصهيونيّة إلى حيّز التنفيذ كمشروعٍ استيطانيّ، ستستمر مجموعة المتعصّبين المسيانيّين في إملاء الاستراتيجيّة الصهيونيّة. وحدهم هم مستعدون للعمل من أجلها وللمخاطرة بحياتهم أيضاً من أجل تحقيقها".

 

للاطلاع على المزيد عن حرب حزيران/يونيو 1967 نحيلكم إلى ما يلي:

مقالات نشرت في الذكرى الخمسين لحرب حزيران/يونيو 1967 في مجلة الدراسات الفلسطينية:
شقير، محمود. "حزيران/يونيو.. الهزيمة من مسافة ما"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 112 (خريف 2017)، ص 32-37.
الجعبة، نظمي. "مقتطفات من يوميات فتى مقدسي"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 112 (خريف 2017)، ص 38- 47.
طرابلسي، فواز. "الأزرق من حزيران/يونيو 1967"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 112 (خريف 2017)، ص 48 -51.
الخليلي، غازي. "حرب حزيران/يونيو واحتلال نابلسمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 112 (خريف 2017)، ص 58 - 64.
عوكل، طلال. "كيف سقطت غزة بلا قتالمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 112 (خريف 2017)، ص 65 - 69.
فهمي، خالد. "عنب وبصل: عبد الحكيم عامر وقرار انسحاب الجيش المصري من سيناء في حرب حزيران/يونيو 1967مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 111 (صيف 2017)، ص 7-21.
خوري، الياس. "الهزيمة والنكبة المستمرةمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 111 (صيف 2017)، ص 22-30.
تلحمي، داود. "هزيمة حزيران/ يونيو لم تنتهِمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 111 (صيف 2017)، ص 31-39.
هلال، جميل. "هزيمة الأنظمة وصعود المقاومة"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 111 (صيف 2017)، ص 40-46.
دراج، فيصل. "حرب حزيران/ يونيو وتأسيس الهزيمة المتوالدة"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 111 (صيف 2017)، ص 47-50.
الجعبة، نظمي. "القدس: خمسون عاماً من الاحتلالمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 111 (صيف 2017)، ص 159-140.
أرناؤوط، عبد الرؤوف. "50 عاماً على احتلال القدس الشرقية: سياسات القضم والإبعاد والتهويد تتواصلمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 111 (صيف 2017)، ص 160-164.
شلحت، أنطوان. "حرب 1967 في سياقها الإسرائيلي"، العدد 111 (صيف 2017)، ص 206-211.
 
مقالات نشرت في الذكرى الخمسين لحرب حزيران/يونيو 1967 على موقع المؤسسة:
أبو مصطفى، جهاد. "قطاع غزة:  ذكرى هزيمة 1967".

 

مواد ملف خاص نشرت في الذكرى الرابعة والأربعين لحرب حزيران/يونيو 1967 على موقع المؤسسة:
 
مقالات نشرت في أعداد  مجلة الدراسات الفلسطينية عن حرب حزيران/يونيو 1967:
بردويل، فادي. "الانعطاف نحو الداخل: بروز إشكالية المجتمع بعد هزيمة 1967 وتحولاتهامجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 91 (صيف 2012)، ص 19-34.
سيغيف، توم. ""أريدهم أن يرحلوا جميعاً، ولو إلى القمر": حرب حزيران/يونيو 1967 وموقف إسرائيل من مشكلة اللاجئين"، مجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 72 (خريف 2007)، ص 89-104.
عميت، مئير. "حرب الأيام الستة في نظرة إلى الوراءمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 72 (خريف 2007)، ص 113-122.
بيرغمان، رونين. "39 عاماً على حرب الأيام الستة: الأميركيون هددوا سبعة أيام تقريباًمجلة الدراسات الفلسطينية، العدد 67 (صيف 2006)، ص 126-130.

 


[1] المصطلح الأصلي بالعبرية أقرب إلى "أرض الآباء"، ويشار به إلى أرض إسرائيل.

[2] اسم يشار به إلى جميع الحركات والأحزاب العماليّة الصهيونيّة في فترة الانتداب، ومن ثم في دولة إسرائيل.

[3] بالعبرية "أحدوت هعفودا"، وكان أحد مركبات حزب "العمل" الذي أنشئ لاحقاً.

[4] كان وزيراً ونائب رئيس الحكومة واعتبر بمثابة الخبير الأمني في الحكومة التي خاضت حرب 67.

[5] الـ"كيرن كييمت" بالعبرية

[6] الهجرة اليهودية الى أرض إسرائيل

[7] قرية فلسطينية هدمت وأصبحت جزءاً من تل أبيب، أقيمت على أراضيها بضعة أحياء فضلاً عن جامعة تل ابيب.

[8] الأب الروحي للصهيونية الدينية في إسرائيل.