مشهدان لفلسطين في الوعي العربي
النص الكامل: 

 صورة فلسطين اليوم قاتمة؛ ينتابني شعور بالأسى ممزوج بالمرارة كلما أتأملها. وكم تبدو طويلة المسافة التي تفصل صورة فلسطين الراهنة عن صورتها عندما دخلتُ وجيلي في حيز السياسة بدفع من صدمة حرب حزيران / يونيو 1967، والتي هي الهزيمة الثانية للجيوش العربية أمام الدولة الصهيونية. يصعب عليّ اليوم الإقرار بأن الدولة المذكورة لم تكن بعد قد بلغت العشرين من العمر عند وقوع تلك النكبة الثانية التي حاول جمال عبد الناصر التلطيف من وقعها بإطلاق لقب "النكسة" عليها. يومها كنا مليئي الثقة بأن تحرير فلسطين من قبضة الصهيونية يلوح في الأفق، وأن المقاومة الفلسطينية التي أخذ نجمها يصعد في إثر الهزيمة ستغدو "رأس حربة" جيوش شعبية عربية نجمت عن موجة تجذر ثوري ثانية مكملة للموجة القومية التي أحدثتها نكبة 1948. وتبيّن بعد أعوام قليلة ـ بعد سحق المقاومة الفلسطينية في الأردن، ثم إخراجها من بيروت ـ أن الأمر كان سراباً لا غير. ثم تجدد أملنا عندما هبّت الانتفاضة المجيدة في غزة والضفة الغربية في نهاية سنة 1987 بعد مضي عشرين عاماً على النكبة الثانية، بيد أن الخيبة جاءت بسرعة أكبر كثيراً هذه المرة. أصابتنا الخيبة بعد أقل من عام عندما جُيّر زخم الانتفاضة نحو استراتيجيا حل تفاوضي بإشراف الولايات المتحدة، وغمرت النشوة دعاة تلك الاستراتيجيا عند توقيع اتفاق أوسلو في سنة 1993، غير أن أقلية من المراقبين أدركت أن القيادة الفلسطينية وقعت في فخ، وأن "الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس" لن تعدو كونها سراباً آخر بعد سراب تحرير فلسطين من البحر إلى النهر بواسطة "الحرب الشعبية". كنت من نقاد أوسلو هؤلاء، ومع ذلك، لم يكن في وسعي ولا في وسع أكثر المتشائمين في ذلك الحين، أن نتصور الحضيض الذي وصلت إليه حالة فلسطين اليوم، فقد تحقق "حلم الدولتين"، لكن على شكل دويلتين فلسطينيتين: إحداهما في الضفة هي بمثابة بانتوستان على غرار دول السود التي أشرفت عليها دولة البيض العنصرية في جنوب أفريقيا في عصر الأبارتهايد؛ أمّا الدويلة الفلسطينية الثانية في قطاع غزة، فهي معسكر اعتقال هائل يفوق حجماً جميع معسكرات الاعتقال التي عرفها التاريخ. وتشرف على تينك الدويلتين دولة صهيونية ما انفكت تشطح نحو اليمين منذ أن وصل أقصى يمين الحركة الصهيونية إلى سدّتها قبل أن تبلغ الثلاثين من عمرها. والمحصلة أن الأفق مظلم وملبّد بغيوم سوداء تنذر بنكبة ثالثة تقوم على ضم الأراضي المحتلة منذ سنة 1967 إلى دولة إسرائيل بصورة رسمية، وهو احتمال أقرب إلى التحقيق من "الدولة الفلسطينية المستقلة"، وأكثر واقعية منها في الحقيقة. وقد غدا التفاؤل إزاء مصيبتنا الراهنة مستحيلاً إلاّ بضرب من الهذيان، بل بات الأمل بالذات عسيراً حتى إزاء مبادرات شبابية رائعة مثل مسيرة العودة في غزة.   فلسطين والواقع العربي لنكن صادقين، إن مركزية فلسطين في الشأن العربي العام تراجعت كثيراً عمّا كانت عليه طوال عقود، ولا سيما في أثناء الذروة التي بلغتها تلك المركزية خلال العقود الأربعة التي تلت نكبة 1948. وتنتمي أسباب هذا التراجع إلى صنفين متضاربين: صنف لا يسعنا سوى أن نأسف له وهو ما وصفتُه تواً، أي الحالة المزرية التي وصلت إليها حركة التحرر الوطني الفلسطيني، وصنف آخر يرتبط بالمنعطف التاريخي الخطر الذي دخل فيه مسار المنطقة العربية قبل ثمانية أعوام مع انطلاق ما سُمي "الربيع العربي"، وكان بداية لسيرورة ثورية طويلة الأمد نجمت عن تفاقم حالة الركود الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي كثيراً ما عانت جرّاءه المنطقة. فحيال الانفجار العربي الكبير، لم تعد قضية فلسطين في مركز اهتمام الشعوب العربية مثلما كانت سابقاً، حين كانت إمّا تعويضاً عن امتناع الناس من الاهتمام بشؤون بلادهم السياسية جرّاء الخوف أو اليأس، وإمّا بسبب استغلال القضية الفلسطينية من طرف أنظمة عربية سعت وراء إلهاء الشعوب عن تردي شؤون بلادها. وقد عزز من تحجيم القضية أن مصائب أُخرى ومآسي ألمّت بالمنطقة، أخطرها المأساة السورية، تليها مأساة اليمن، بحيث بدت المأساة الفلسطينية أقل حدة بالمقارنة. ومع ذلك لم تخرج فلسطين عن دائرة النضال من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإنما أصبحت جزءاً منها بمعنيين متجددين (أقول "متجددين" لأنهما ليسا بجديدين في الواقع) هما: أولاً، أن ساحة النضال الفلسطيني ذاتها تعتريها إشكالات وتحديات تشترك فيها مع ساحات النضال العربية الأُخرى؛ ثانياً، أن تجدد راهنية الثورة العربية بعد أفول طويل يعيدنا إلى ارتهان التحرر الفلسطيني بتقدم التحرر العربي برمّته، بمعنى أن مصير التحرر الفلسطيني رهن بمصير التغيير الثوري العربي، إذ إن موازين القوى لا تتيح للشعب الفلسطيني التغلب على الدولة الصهيونية منفرداً مثلما أثبتت التجربة التاريخية.   فلسطين ووعيي الثقافي فلسطين حاضرة على الدوام في بالي وعملي الثقافي وكتاباتي، وقد احتلت حيزاً كبيراً من إنتاجي الفكري ولا تزال حاضرة في طليعة اهتماماتي. لكن لعله يكون أكثر فائدة أن أتكلم هنا عن تجربتي في دفع العمل الثقافي الخاص بفلسطين. فقد بادرت مع بعض الزملاء إلى تأسيس مركز للدراسات الفلسطينية في جامعة لندن، في معهد الدراسات الشرقية والأفريقية الذي أعمل فيه، وكنت أول رئيس له، وترأسته لولايتين، أي ستة أعوام أفلحنا خلالها في وضع المركز في صميم المجال الثقافي الفلسطيني، جاعلين منه الرأس الأوروبي في لندن لمثلث يتشكل رأساه الآخران من مؤسسة الدراسات الفلسطينية في بيروت وواشنطن، ومركز الدراسات الفلسطينية في جامعة كولومبيا في نيويورك. وقد أطلقنا سلسلة كتب خاصة بالدراسات الفلسطينية، كانت ولا تزال سلسلة الكتب الأكاديمية الوحيدة باللغة الإنكليزية (بل بأي لغة أوروبية، على الأرجح) مخصصة لتلك الدراسات. وأسسنا برنامج ماجستير في الدراسات الفلسطينية، وأطلقنا ندوة سنوية لطلبة الدكتوراه الذين يبحثون في موضوعات تتعلق بفلسطين، كما نظمنا سلسلة محاضرات سنوية بارزة دشنها عميد الدراسات الفلسطينية، وليد الخالدي، فضلاً عن إنجازات ومشاريع أُخرى ليس المجال هنا لعرضها جميعاً. والأهم من هذا كله، أننا قمنا بذلك كله من دون أي تمويل سوى تبرعات متواضعة لبعض أعضائنا، ودعم إداري محدود وفرته لنا جامعتنا. وكان في إمكاننا وفي نيتنا أن نفعل أكثر كثيراً لو توفر لنا دعم مالي بسيط بمعايير التمويل، إذ احتجنا إلى ما مجمله أقل من 40,000 جنيه إسترليني، ومع ذلك لم يتجاوب أي من المتمولين الفلسطينيين أو العرب مع ندائنا، على الرغم من أن أهمية تطوير مركز للدراسات الفلسطينية في لندن بالذات غنية عن الشرح. وأعتقد أن ما رويته لا ينفصل عن الحضيض الذي بلغته الحركة الفلسطينية بمجملها، وهي رواية معبّرة لجمعها بين انكفاء النخب الفلسطينية، واستمرار الثقافة الفلسطينية في الازدهار على الرغم من التقاعس السائد.