غزة 2023!
النص الكامل: 

ها هي غزة تعود لتتصدّر المشهد! حرب إسرائيلية جديدة امتداداً لحروب سابقة، تحصد الأرواح بلا هوادة، مع تقاعس دولي رسمي وعربي. لقد أصبحت غزة تمثّل في الوعي الإنساني ما جسدته غورنيكا وشاربفيل وسويتو ووارسو وأوشفيتس. وجُلّ ما يستطيع العالم ما بعد - الكولونيالي الرسمي أن يفعله هو إمّا العويل، وإمّا التنديد بدرجات تتراوح ما بين الشدة وعدم الشدة، مع بعض الاستثناءات التي مثّلها بعض دول أميركا اللاتينية، كولومبيا وبوليفيا وتشيلي، وجنوب أفريقيا وحيث قامت هذه الدول بتخفيض التمثيل الدبلوماسي أو بسحب سفرائها من إسرائيل.
بعد عام على مجزرة غزة الأولى (2009)، و11 عاماً من الحرب الثانية على القطاع (2012)، و9 أعوام من حرب ضروس أُخرى (2014)، وعامَين من "سيف القدس" (2021)، يعود القطاع، وبخلاف التوقعات، إلى تصدُّر المشهد ودفع الثمن الباهظ نيابة عن الأمة العربية، لكن بالمنطق العربي والدولي المتآمر نفسه. وعلينا، بواقعية، أن نعترف بأننا كنا نأمل بأن يؤدي الصمود الجبار لـ 22 يوماً في المرة الأولى، و8 أيام في الحرب الثانية، و51 يوماً في المذبحة الثالثة، و7 أيام في الرابعة، في وجه آلة الذبح الهمجية، وفشل إسرائيل في تحقيق أهدافها المعلنة، إلى إنهاء الحصار الذي لا يزال يشكل عملية إبادة جماعية بطيئة تحولت أخيراً، بعد فشلها في إخضاع أهل غزة، إلى إبادة سريعة. فالصمود الشعبي الهائل لسكان القطاع العزّل، مثلما يفعلون اليوم ببسالة منقطعة النظير، في مواجهة ما يقال إنه رابع "أقوى" جيش في العالم، جيش مسلح بالمئات من القنابل النووية، ودبابات الميركافا وطائرات إف 16 والأباتشي، والقوارب الحربية، وحتى قنابل الفوسفور، لم يؤدِ في المحصلة النهائية إلى رفع الحصار القروسطي على الرغم من التعاطف الشعبي الدولي الهائل. عاد أهل غزة بعد هذه المجازر كلها إلى مواجهة الموت السادي البطيء، فأطفالهم يعانون سوء التغذية، ومياه شربهم ملوثة، ولياليهم مظلمة، ومرضاهم محكوم عليهم بالإعدام. وكأن هذا كله لا يكفي، إذ ها هي إسرائيل تقصف بشكل متواصل البيوت الغزّية في وضح النهار.
عندما قامت إسرائيل بالهجوم على شمال القطاع في نهاية شباط / فبراير 2008، جرى تهديد السكان بأنهم سيجلبون على أنفسهم "هولوكوست"، وذلك على لسان نائب وزير الحرب السابق ماتان فلنائي آنذاك. وتم ذبح 101 فلسطيني، بينهم 64 طفلاً. والسؤال الواضح هو: ماذا كانت ردة فعل "المجتمع الدولي" في ذلك الوقت؟ والجواب: لا شيء! بل على العكس من ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية قاما بمكافأة المعتدي من خلال اتفاقيات تجارية، أو مساعدات عسكرية لامتناهية. وليس هناك حاجة إلى تأكيد أن هذا شكّل ضوءاً أخضر لما يحدث من اعتداءات متتالية على غزة.
وفي هذا السياق، يقول المناضل الجنوب أفريقي روني كاسرلز: "إن ما كان يثير إعجاب هندريك فرفورد [مهندس نظام الأبارتهايد] هو الحصانة التي تتمتع بها إسرائيل في ممارسة العنف والإرهاب بلا أي احتجاج من حلفائها الغربيين، وبالذات الولايات المتحدة الأميركية. فما أثار إعجاب فرفورد والمؤيدين للأبارتهايد هو الطريقة التي سمحت بها القوى الغربية لإسرائيل باستخدام قوتها العسكرية الهائلة في توسيع أراضيها... وبحصانة دولية غير مسبوقة."
إن ما حدث في جميع الحروب السابقة لم يكن إلّا مقدمة لما يحدث لغزة الآن، فإسرائيل تعلم أنها تستطيع أن تواصل جرائم الحرب وهي محصّنة بمؤامرة صمت دولية، ذلك بأن المجتمع الدولي الرسمي لم يُبدِ أي امتعاض عملي في أي من الحروب السابقة، وبالتالي، فإنه لن يفعل شيئاً إذا زاد عدد "القتلى من الطرفين" الآن! كان هذا هو المنطق الإسرائيلي، واليوم أصبح أكثر تطرفاً، بل جرى انتخاب حكومة فاشية بامتياز قادرة على فعل "أي شيء".
ويجدر التذكير في هذا السياق أيضاً، بما قاله في سنة 2004 البروفسور أرنون سوفير، رئيس الكلية الوطنية لجيش الاحتلال الإسرائيلي ومستشار رئيس الحكومة السابق أريئيل شارون، في سياق حديثه إلى جريدة "جيروزاليم بوست" عن أهداف قرار إسرائيل الأحادي الجانب بإعادة الانتشار حول القطاع: "عندما يُحشر 1,5 مليون في غزة المغلقة تماماً، فإن ذلك سيؤدي إلى كارثة إنسانية. إن هؤلاء الناس سيصبحون حيوانات حتى أكثر ممّا هم عليه الآن. الضغط على الحدود سيكون رهيباً، وسيؤدي ذلك إلى حرب مرعبة. ولذلك، إذا أردنا أن نبقى أحياء، فإن علينا أن نقتل ونقتل ونقتل، طوال اليوم... كل يوم... إذا لم نقتل فإننا لن نعيش... إن الفصل الأحادي الجانب لا يضمن تحقيق السلام، بل يضمن دولة يهودية صهيونية بأغلبية يهودية كاملة."
وإذا لم يقنعك هذا كله، فلتقرأ ما كتبته عضو الكنيست التي تولت وزارة العدل فيما بعد، أييليت شاكيد، في صفحة التواصل الاجتماعي، والذي حصد الإعجاب من عشرات الآلاف من المتابعين الإسرائيليين: "أدعو إلى إبادة الشعب الفلسطيني كله، وقتل كبار السن والنساء وتدمير المدن والبلدات والبُنى التحتية وقتل الأمهات الفلسطينيات اللواتي يلدن أفاعي." وها هو وزير الحرب الآن يصف بكل صفاقة عنصرية، أهل غزة بـ "الحيوانات البشرية" التي يجب التخلص منها، بينما يدعو وزير آخر، وزير التربية، إلى إسقاط قنبلة نووية على قطاع غزة للتخلص منه بالكامل، ويدعو ثالث إلى التهجير "الطوعي"...
هذه الأمثلة كلها تشكّل امتداداً لأيديولوجيا عنصرية إقصائية تجنح إلى نزع إنسانية الفلسطينيين، وبالذات أهل غزة. أمّا أهل الضفة الغربية، فعليهم أن يفهموا الرسالة واضحة الآن: إمّا أن تقبلوا بمصيركم البائس وبقايا الطعام من موائد المحتل، وإمّا سنحرق أطفالكم!
لكن السؤال الآن هو: كيف يجب محاسبة إسرائيل أمام المحاكم الدولية وجعلها تدفع الثمن كي لا تتكرر هذه المجازر وتتحقق العدالة النسبية، وهو بالضبط ما لم تفعله القيادات الفلسطينية حتى اللحظة؟ لا شك في أن هذا السؤال يتطرق بشكل عملي، إلى طبيعة حملات التضامن الدولية وأشكال الدعم التي يمكن أن تقدمها هذه الحملات إلى النضال الفلسطيني من أجل الحرية والعدالة والمساواة. إننا لا نستطيع الانتظار إلى الغد لأن المسافة الزمنية التي تفصلنا عنه تتمثل في المئات، إن لم يكن الآلاف، من جثث المرضى والأطفال والنساء، إلّا إذا جرى اتخاذ خطوات عملية تبني على صمود أهل غزة الهائل.
لكن في ظل غياب رؤية استراتيجية سياسية واضحة مثلما كانت الحال في النضال ضد النظام العنصري في جنوب أفريقيا والجزائر وفيتنام، وفي ظل الحديث الممل واللامتناهي عن جولات من الحوارات الوطنية مع غياب عنصر مهم منها هو أن العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين، هي علاقة احتلال بمقاومة، ومضطهِد بمضطهَد، بما يعنيه ذلك من العمل على تطوير أشكال المقاومة بدلاً من الهوس غير المنطقي بانتخابات تحت حراب إسرائيلية، وفي ظل توسيع مفهوم المقاومة والنضال لإكسابهما أبعاداً شعبية كفاحية... فإنه يتحتم علينا العمل على إيجاد برنامج إجماعي يعمل على تحشيد الجماهير؛ برنامج يكون بالضرورة ديمقراطياً في طبيعته، ويحترم المقاومة الثلاثية الأبعاد ضد أشكال الاضطهاد ويعطيها أولوية قصوى، ويضع نصب عينيه تحقيق "السلام العادل" من دون تنازل عن الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني بمكوناته الثلاثة (الضفة الغربية وغزة والقدس؛ فلسطين 1948؛ الشتات). فمحاولة رشوة مكوّن سكاني على حساب مكوّن آخر تحت ادعاءات ومسميات مثل "البرنامج المرحلي" و"الاستقلال الوطني" يجب أن تنتهي وبلا رجعة. وعليه، فإنه يتوجب على برنامج كهذا، في ظل غياب الرؤية القيادية الاستراتيجية، الربط بين النضالات الفلسطينية المتعددة ضد الاحتلال العسكري في الضفة وغزة، والذي للأسف أصبح العنوان الوحيد للنضال، وضد التمييز العنصري القبلي ضد فلسطينيي 1948، والعمل على عودة اللاجئين وتعويضهم.
ما يُفرض علينا الآن هو ثنائية غاية في الغرابة: إمّا أن نقبل بالاحتلال العسكري الإسرائيلي من جدار فصل عنصري واستيطان وحواجز خانقة وطرق التفافية واعتقال إداري وآلاف السجناء وتدمير منازل، وإمّا حصار قاتل ومجازر إبادية يُقتل ويُحرق فيها أطفالنا ونساؤنا وشيوخنا، وتدمَّر مدننا وقرانا ومخيماتنا في وضح النهار.
إنني، كناقد أدبي، أعلم أن أبطال غسان كنفاني في "رجال في الشمس" ماتوا اختناقاً، ورُميت جثثهم على تلال من القمامة! ولا أستطيع أن أجزم إن كان حامد، بطل رواية "ما تبقّى لكم"، قد استشهد في نهاية الرواية أم لا، لكنني أعلم يقيناً أن ما تبقّى لنا منه، وهو اللاجىء اليافاوي (48) من غزة (67)، هو درس واحد: إن الموت بلا معنى هو أسوأ أنواع الموت.
وبما أن ردات الفعل الدولية لم ترتقِ إلى مستوى المجازر التي ترتكبها إسرائيل، وبما أن القيادات الأوليغارشية العربية غير مكترثة أو عاجزة أو متواطئة، فإن إسرائيل صعّدت جرائمها بطريقة غير مسبوقة، وها هي تلجأ إلى ما اتُّفق على أنه إبادة جماعية، وهي جريمة حرب، وجريمة ضد الإنسانية بالمعنى الحرفي. وبالتالي، فإن تعرّض قادة إسرائيل للمحاسبة القانونية في محكمة الجنايات الدولية مرهون بسؤال مئات الآلاف الذين يعيشون الآن في مدارس وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) وخِيَمها في فصل شتاء قارس البرودة، وعشرات الآلاف من الشهداء والمفقودين والجرحى، مع العلم أن إسرائيل لم تتوانَ عن قصف هذه المدارس والملاجىء والمستشفيات.
"ما تبقّى لنا" ليس الأمم المتحدة أو مجلس الأمن الدولي ومنظمة المؤتمر الإسلامي والقمم العربية والإسلامية. وإنما قوة الشعب الذي احترف الصمود. ما تبقّى لنا هو الدرس الشعبي الذي ألهم النضال الجنوب أفريقي ضد نظام الأبارتهايد العنصري حين أصبحت حتى تحية مواطن جنوب أفريقي أبيض حراماً شرعاً بفتاوى جماهيرية لا تنتظر شيوخ القصور وكهنتها. وها هي غزة تُصدر فتواها في بيان وقّعته الأغلبية الساحقة من قطاعات المجتمع المدني، وموجّه إلى العالم، يدعو إلى وقف التعامل مع إسرائيل، أو شراء بضاعتها، أو فتح سفارات لها في عواصم العالم، أو اللعب مع رياضييها، أو التعاون مع جامعاتها التي تفرّخ مجرمي الحرب وتعلن النفير العام لطلبتها وكوادرها من أجل التجند في الجيش الذي يبيد غزة. فما تفعله إسرائيل الآن من قصف للمناطق ذات الكثافة السكانية العالية هو تطبيق لما سمّته "عقيدة الضاحية" التي طوّرتها "جامعة تل أبيب"، وتمّت تجربتها أول مرة في حربها على لبنان في سنة 2006.
يكثر الحديث الآن عن شكل إدارة غزة بعد الحرب الإبادية، ويتم طرح أسماء وجِهات وتصورات لا تلبّي الحد الأدنى من الطموحات الفلسطينية، وفي المقابل، علينا طرح الأسئلة الضرورية عمّا يجب أن يحدث بعد الحصار، بل حتى ما بعد الاحتلال والأبارتهايد. لكننا الآن نريد إدارة محلية من مثقفين ديمقراطيين بالمفهوم السعيدي (نسبة إلى إدوارد سعيد)، ولا أقول حكومة، إذ لا حكومة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط إلّا حكومة الاحتلال. فالمثقف الديمقراطي يجب أن يكون، مثلما يقول سعيد: "الشخص الذي لا يمكن تجنيده بسهولة من طرف الحكومات أو الشركات (الممولين أو المتبرعين)، والذي همّه الأساسي هو التحدث بلسان أولئك المنسيين تحت الركام!" وأهل غزة يعيشون اليوم حرفياً تحت الركام! وبما أننا نمرّ بمفترق طرق تاريخي في درب كفاحنا ونضالنا من أجل تعريف واضح لهويتنا، فإن على مَن يمثلنا أن ينزل من برجه العاجي ليعيش معنا وبيننا، أي أن يكون "واحداً منا"!
إن تجربة النضال ضد نظام التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا ما زالت ماثلة للعيان، ومعظم مَن كان له شرف المشاركة في هذه الثورة العالمية لا يزال حياً وجاهزاً للنضال ضد آخر نظام أبارتهايد في العالم. فرسائل الود، و"التزامنا بحل الدولتين" العنصري، لن يساعدانا، كما لن تسعفنا المفاوضات العبثية، ولا التنسيق الأمني. بل إن ما ينقذنا هو تحالف شعبي فلسطيني دولي يرفع شعار المقاطعة وعدم الاستثمار وفرض العقوبات الذي رفعته حركة المقاطعة (BDS) للعمل على عزل إسرائيل وملاحقة قياداتها قانونياً أينما يتوجهوا.
غير أن نضالاتنا وتضحياتنا التي تعدّت المألوف لا يمكنها بأي شكل من الأشكال أن تؤدي إلى بناء معزل عِرقي يُحتفى به على إنه إنجاز تاريخي. فما تمر به غزة الآن يجب أن يضع حداً لهذه المهزلة، وأن يعيد مفهومَي التحرير وتقرير المصير إلى وضعهما الطبيعي، ذلك بأن جميع المحاولات التي صُبّت فيها مليارات الدولارات لتحويل القضية إلى مسألة صراع حدودي على 22% من الأرض وصلت إلى نهايتها. إن أولئك الفلسطينيين الذين يتباكون على "حل الدولتين- السجنَين" فقدوا صلتهم مع حقائق جديدة على الأرض، أهمها أنه لا يمكن الرجوع الآن إلى فبركة حلول وهمية ومفاوضات عبثية جديدة، وأن الوقت حان لنضال جدّي وحاسم من أجل الحرية والمساواة والعدالة.
إن التحرير وتقرير المصير لم يعودا شعارَين من الماضي، وإنما أصبحا الشعارين اللذين يجب أن يتمحور حولهما النضال الفلسطيني والأُممي من أجل الوصول إلى "سلام عادل وشامل"، فـ "ما تبقّى لنا" هو الإرادة الشعبية البعيدة كل البعد عن الشعارات الفارغة. وبناءً على الصمود الهائل الداعم لمقاومة باسلة غير مسبوقة، علينا رفع سقف مطالبنا من خلال ربطها الآن بحقّ العودة، كون ثلثَي سكان غزة من اللاجئين الذين تكفل لهم الشرعية الدولية حقّ العودة والتعويض. إن أي حديث عن تحسين شروط الاضطهاد في ظل التضحيات الجسيمة هو تنكّر لهذه الدماء الطاهرة، ولهذا علينا أن نبدأ الحديث والعمل على حلول جذرية بعيداً عن "البرنامج المرحلي" والدويلة - البانتوستان، وليصبح شعارنا واضحاً، وهو: إنهاء الاحتلال والأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني.

السيرة الشخصية: 

حيدر عيد: أستاذ الأدب في جامعة الأقصى، غزة.