إدغار موران تعليقاً على اغتيال صاموئيل باتي: ''الأخطر هو أن تنقسم فرنسا إلى اثنتَين تعارض الواحدة منهما الأُخرى''
النص الكامل: 

"هذه القضية تضخّم تطور الفكر المانوي الأحادي والاختزالي"، يقول بأسف عالم الاجتماع والفيلسوف [إدغار موران]، في مقابلة مع جريدة "لوموند". ومن خلال تحليل اشتداد التعارض بين فرنسَتَين - إحداهما ذات نزعة إنسانية والأُخرى تقوم على تأكيد الهوية - يشرح كيف يمكن مقاومة ذلك.

عالم الاجتماع والفيلسوف إدغار موران المولود في سنة 1921، هو مدير الأبحاث الفخري في المركز الوطني للبحث العلمي وحاصل على 38 درجة دكتوراه فخرية من مختلف أنحاء العالم. من أبرز مؤلفاته:

La Méthode, 6 vols. (Paris: Seuil 1977-2006); Mes souvenirs viennent à ma rencontre (Paris: Fayard, 2019); Changeons de voie: Les leçons du coronavirus (Paris: Denoël avec la collaboration de Sabah Abouessalam, 2020).

وفي كتابه الأخير المذكور في الفقرة السابقة، وهو أحدث كتبه، يوفر الكاتب مفاتيح لـ "العالم فيما بعد، كما أنه في مقابلته مع "لوموند"، يحلل الانقسامات الأيديولوجية الجديدة التي تعيشها فرنسا.

في فرنسا، في سنة 2020، وبعد خمسة أعوام من الهجوم على صحيفة "شارلي إيبدو" ومسرح "باتاكلان" في باريس، ما زال الناس يقتلون باسم الله. فهل إن اغتيال المدرِّس صاموئيل باتي ومجزرة نيس دلالة على أن التاريخ يعيد نفسه؟

بادىء ذي بدء، يبدو من المهم بالنسبة إليّ أن أشرح موقفي قبل التفكير في هذه الأحداث المأسوية، وأن أوضح، مثلما كان مطلوباً سابقاً، "من أي موقع يتحدث" صاحب المقابلة. عندما يتعلق الأمر بالأديان، أعتقد أن البشر يخلقون الآلهة التي يعبدونها ويطيعونها. أنا، كما يقولون، من أتباع اللاأدرية (الغنوصية)، أو إنني بالأحرى أعتقد أن هناك لغزاً في الكون يفوق قدرات أذهاننا على فهمه. أنا أعتبر كتاب التوراة الذي يشكل أساس الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية، نسيجاً من الأساطير والخرافات، وأن الإنجيل والقرآن نصفهما أسطوري والنصف الآخر تاريخي. أنا معجب بيسوع من دون أن أؤمن بقيامته.

عندما يكون الدين قوياً جداً، مثلما هي الحال اليوم في إيران أو المملكة العربية السعودية، فإنني أبغض كراهيتهم للملحدين وللمؤمنين الآخرين، ولغير المؤمنين. أنا أبغض المحظورات التي تفرضها الأديان، وخصوصاً على النساء. كانت هذه هي الحال مع اليهودية في الماضي، وما زالت كذلك لدى اليهود المتزمتين. وكانت الحال كذلك مع المسيحية لعدة قرون، وما زالت هي نفسها في العديد من الدول المسلمة.

لكني لا أخلط بين الإسلام والجهادية: بين المسلم الورع والمتعصب القاتل، مثلما هي الحال بين ]القديس[ فرنسيس الأسيزي وتوماس دي توركومادا ]الراهب والمفتش العام لمحاكم التفتيش في القرن الخامس عشر في إسبانيا[، فبينهما عالم شديد التنوع. وكلمة "إسلاموية" تحجب هذا التنوع، إذ لا نرى فيها سوى الدعوة إلى اعتناق الإسلام ورفض الديمقراطية والعلمانية. وطبعاً، فإن الشريعة الإسلامية تتعارض مع قوانين الجمهورية العلمانية، لكن أغلبية المسلمين في فرنسا يقبلون القوانين الجمهورية، والمؤمنون مسالمون لأنهم يعتقدون بصدق أن دينهم دين سلام.

يبدو الإسلام للفرنسيين ديناً خارجياً، وذلك بسبب منشئه ولغته العربية، لكنه في الوقت نفسه دين يهودي - مسيحي بالكامل، قائم على الرواية التوراتية ويعترف بعيسى نبياً.

أنا أبغض كل تعصب قاتل مثل ذلك الذي ابتُلي به القرن العشرون، والذي يولد من جديد بأشكال دينية تقليدية. أحب أن أجادل المؤمنين، لكني لا أحب أن أسيء إليهم؛ إن عدم الإساءة أو الإذلال هما عقيدتي الأخلاقية ذات القيمة العالمية: احترام الآخر يتطلب مني عدم انتهاك ما هو مقدس بالنسبة إليه، لكنني أمنح نفسي الحق في انتقاد معتقداته، ذلك بأن احترام الحرية يتضمن حريتي في الكلام.

شعرت كم هو مؤلم بالنسبة إلى الشعوب الهندية المقهورة في الأميركتَين أن يدنس الغزاة أماكنها المقدسة. وفي المقابل، عندما يكون الدين قوياً جداً ويدين أي سلوك ينمّ عن عدم طاعة باعتباره تجديفاً - مثل رفض الخيَّال ]النبيل الفرنسي في القرن الثامن عشر فرانسوا جان[ دو لا بار أداء التحتية لموكب مسيحي، أو الفتوى التي أصدرها آيات الله ضد سلمان رشدي - أشعر بأنني إلى جانب المُدانين.

من هنا جاءت هذه المفارقة الظاهرية: أنا مع حرية المرأة التي لا تريد ارتداء الحجاب في إيران، ومع حرية المرأة التي ترتدي الحجاب في فرنسا. إذاً "من هذا المنطلق أتحدث": لست إسلامياً ولا يسارياً، لكنني أؤيد منهج [فيلسوف عصر النهضة] دو مونتانيو و]الفيلسوف الهولندي الذي تفحّص الكتب المقدسة بمنهج نقدي باروخ[ سبينوزا. كما آمل أن ننظر إلى الوضع بجميع تعقيداته، وهذا لا يقلل بأي حال من إدانة التعصب القاتل الذي يمارسه الجهاديون الإسلاميون.

ما رأيك في إعادة نشر الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد واستخداماتها التعليمية والسياسية والأيديولوجية بصورة خاصة؟

دعنا نلخص الوضع: الرسوم الكاريكاتورية التي تمثل النبي محمد ليست اختراعاً فرنسياً، وإنما اختراع دنماركي. وهذه الرسوم الكاريكاتورية تنشىء رابطاً سرياً بين النبي مؤسس الإسلام، والذي يجلّه المسلمون الأتقياء، وبين الإرهابيين جهاديي الوقت الحاضر، لكن هذا أمر مشكوك فيه على أقل تقدير، إذ لم يُعَدْ نشرها في دول ليبرالية مثل بريطانيا أو الولايات المتحدة، ولا في دول مثل إيطاليا أو إسبانيا، حيث يحظر القانون ازدراء الأديان.

إن نشر الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد، حتى إن عدّها المسلمون المتدينون تجديفاً، هو أمر مشروع في فرنسا، لأن الحقّ في التجديف جزء من حرياتنا. و"شارلي إيبدو" تمثل استمراراً، إن لم يكن عامل تضخيم، للتقاليد الفرنسية المناهضة للإكليروس، وللتحررية، والتي كانت صالحة ما دام كان للكنيسة سلطة قوية على مجتمعنا. لقد تلاشت المعاداة للمسيحية مع تقبّل الكنيسة للعلمانية، وصارت اليوم بالية. لقد أعادت الأسبوعية الساخرة نشر هذه الرسوم الكاريكاتورية في سنة 2006، وهو ما أثار ردات فعل أشادت بها أو انتقدتها، وبينها شكوى رفعتها جمعيات إسلامية، لكن المحكمة رفضتها في سنة 2007، وفي سنة 2011، تعرّض مقر "شارلي إيبدو" لحريق متعمد، ثم نُسي الأمر.

إلّا إن هجمات سنة 2015 غيرت معنى كل من الجريدة الأسبوعية والرسوم الكاريكاتورية: فجريدة "شارلي" الأسبوعية لم تعد مجرد صحيفة ساخرة، وإنما باتت رمزاً لحرية التعبير؛ وأصبح الصحافيون القتلى بحقّ شهداء من أجل الحرية؛ وصارت الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية تراثاً وطنياً فرنسياً.

وفي أثناء محاكمة قتلة "شارلي"، قررت هذه الجريدة الأسبوعية إعادة نشر الرسوم، فصارت إعادة النشر هذه مثالاً للحرية الفرنسية بحدّ ذاتها، وبات نشرها دفاعاً سليماً عن التفكير النقدي.

ثم يفكر مدرِّس تاريخ محب للحرية أنها يمكن أن تساعد في تحفيز التفكير النقدي لدى طلابه، وهو ما أثار في البداية قليلاً من ردات الفعل، عدا تقدّم أب مسلم بشكوى ونجاح مديرة المدرسة على ما يبدو في تهدئة النفوس. ثم يأتي خطيب مسجد وينفخ في الجمر فيشعله إلى درجة تدفع شاباً شيشانياً إلى ارتكاب فعل جهادي مرعب بقطع رأس المدرِّس.

تثير عملية القتل هذه شعوراً عميقاً بالصدمة بين المعلمين وفي جميع أنحاء المجتمع، وتطلق العنان لأصوات توجه اللوم إلى "التراخي الرسمي" والتساهل تجاه الإسلاميين - اليساريين (وهي فكرة خيالية تجمع مصطلحين يُعتبران مروّعين). يعيد إيمانويل ماكرون تأكيد قيمة الحرية كأحد أسس الجمهورية، وينهي تصريحاته، وفقاً للنسخة التي نشرتها وسائل الإعلام آنذاك، بالوعد بأن فرنسا ستدافع عن الرسوم الكاريكاتورية، كما لو أنه واجب وطني. وقد نفى رئيس الجمهورية هذه التصريحات وخفّف من حدتها في مقابلة أجراها مؤخراً مع قناة "الجزيرة" الفضائية العربية، وأكد فيها أنه يفهم أن الرسوم الكاريكاتورية يمكن أن تُحدث صدمة.

بعد صدمة هذه الهجمات والإجماع على إدانتها، بدأت تبرز أصوات تعبّر عن محاولة تحويل الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية إلى رمز للهوية الفرنسية. هل هذا شرعي؟

إن الرعب الذي خلّفه قطع رأس المدرِّس باتي الإجرامي، بعد قتل محرري "شارلي إيبدو"، طمس بجلائه ووحشيته وجنونه، جزءاً كاملاً من الواقع الذي نشأ منه. فهذا الرعب يحول دون أي محاولة للتفكير ووضع الأمور في نصابها، كما لو أن الفهم يحمل في طياته إثم التبرير. لكن يجب ألّا ننسى أن مثل هذه الرسوم الكاريكاتورية تصدم المسلمين الأتقياء، والأسوأ من ذلك أنها أدت إلى أعمال جنونية قاتلة.

أخيراً، أثار إضفاء الطابع الرسمي عليها [الرسوم الكاريكاتورية] تظاهرات صاخبة لا حصر لها ضد فرنسا في العالم المسلم. هناك، طبعاً، حالات يتعين على المرء فيها أن يتحدى حالة عدم الفهم في الخارج، لكن هناك أيضاً حالات يكون من الأفضل فيها عدم إثارة ذلك أو استفزازه، ولا سيما في ظل التوترات الدولية الشديدة.

يجب أن نكون متنبّهين للآثار الضارة للأفعال السليمة الطويّة، إذ ثمة أحياناً تناقض بين الحرية والمسؤولية فيما يتعلق بالكلام أو بالكتابة. نحن في إحدى تلك الحالات، ويجب أن نعرف أن الاختيار ينطوي على مخاطرة. هناك أحياناً تطابق بين المسؤولية وعدمها؛ وبالتالي، يبدو لي أن من غير المسؤول أن أتحمل مسؤولية افتراض أن الحرية الفرنسية الحقّة تكمن في نشر الرسوم الكاريكاتورية الدنماركية إلى ما لانهاية.

ووفقاً لتصوري الذي عرضته في المجلد الخامس من كتابي La Méthode، فإن الأخلاقيات لا يمكن أن تقتصر على النيات الحسنة، بل يجب أن تنطوي أيضاً على حسّ بالمسؤولية عن عواقب أفعالها التي تتعارض في كثير من الأحيان مع النيات. وفوق كل شيء، فإن أي قرار يُتخذ في سياق متقلب أو متضارب يحمل مخاطر أن يخلّف آثاراً سلبية، ولهذا لا يمكن الحكم على الرسوم الكاريكاتورية فقط على أساس النيات المحرِّرة أو التحررية لمؤلفيها وناشريها، بل أيضاً وفقاً لما يمكن أن تخلّفه من عواقب ضارة أو مأسوية.

لا يمكن لحرية التعبير أن تستبعد ما يمكن توقّعه من سوء فهم أو عدم فهم أو عواقب عنيفة أو إجرامية، والسؤال الآن هو: هل يمكن لهذه الرسوم أن تساعد المؤمنين المتدينين على التشكيك في معتقداتهم؟ أبداً. وهل يمكنها المساعدة على إضعاف الجهادية؟ أبداً.

لقد سمعنا كُتّاباً ونُقّاداً ووزراء أيضاً يجادلون بأن "اليسار الإسلامي" يُسلّح الإرهاب فكرياً. هل هذه التهمة مبررة؟ ولماذا مثل هذا الهجوم الأيديولوجي؟

الأمر المروِّع هو أن هذه القضية تضخّم تنمية التفكير المانوي الأحادي والاختزالي. وأي مقاومة لتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا تصبح وصمة على اليسار الإسلامي - الذي يتميز بكونه ليس مؤيداً للإسلام ولا يسارياً - أو حتى علامة على التواطؤ مع القتلة. لسوء الحظ، ومثلما حدث في سنوات 1914، و1933، و1940، وكما يحدث في كل هذيان جماعي، فإن هناك فلاسفة يتصدرون طليعة الموقف الهستيري.

أخطر ما في الأمر هو أن فرنسا، وعلى غرار ما حدث عدة مرات في الماضي، تنقسم إلى فرنسَتَين تقف الواحدة منهما في مواجهة الأُخرى؛ ففي الحالة التي حالفها فيها الحظ، كما في بداية القرن العشرين، هزمت فرنسا الجمهورية والعلمانية فرنسا الملكية والكاثوليكية والمحافظة؛ وفي الحالة التعيسة، كما في سنة 1940، انتصرت فرنسا الرجعية بسبب الكارثة العسكرية.

لكن تدابير العزل الصحي تفرض تبريداً موقتاً للمواجهة التي ربما تؤدي إلى حدوث انفجار في البلد. وهنا يحق لنا التساؤل: ماذا سيحدث بعد تدابير الاحتواء؟ ما ستكون عليه عملية التفكك وإعادة التشكيل السياسية؟ فهناك فعلاً فرنستان تتواجهان شفاهة: فرنسا الهوية وفرنسا الإنسانية، وهذا كله لا يستدعي اللامبالاة، وإنما التمحيص والتفكير.

هل يمكن لصدام الأميركتَين أن ينذر بنزاع بين فرنسَتَين خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة؟

بينما أجيبك، لا نعرف إن كان دونالد ترامب، بعد فوز جو بايدن، سيحاول تدبير انقلاب لإنقاذ منصبه. إن التوترات هائلة في الولايات المتحدة، ولا أعرف ما إذا كان سيحدث انفجار أم تهدئة بطيئة.

أمّا على هذا الجانب من المحيط الأطلسي، فإن الفرنسَتَين في الوقت الحالي، لم تتبلورا بعد، وسنشهد تفككات وإعادة تركيب سياسية. لكنني أرى إمكان وجود سياسة تحرص على السلامة العامة، وعلى أن تجمع أصحاب النيات الحسنة من جميع الأطراف من أجل انتهاج مسار اقتصادي واجتماعي وبيئي جديد، إلّا إنني لا أراها متجسدة حتى الآن في منظمة أو قائد.

وفيما يتعلق باليسار، فإن ثمة محاولات مشوشة لإعادة تجميع الصفوف. ومن ناحية أُخرى، أرى إمكان ظهور شخص من خارج التشكيلات يمثل النظام والانضباط، أي فرنسا الأُخرى، مثل ]قائد الجيش الذي استقال في سنة 2017 بسبب خلاف مع الرئيس بشأن ميزانية الدفاع[ الجنرال بيار دو فيلييه. لكن الأمور غير محسومة، وستفاجئنا أشياء كثيرة في العام المقبل.

كيف يمكن تجنّب هذه البلبلة؟

في شبابي، انضممت إلى حزب صغير هو حركة طلاب الجبهة التي روجت للنضال على جبهتين: ضد الفاشية وضد الستالينية في الوقت نفسه. وبعد تحولي إلى الشيوعية في ظل الاحتلال، ثم رجوعي عن ذلك بعد ستة أعوام، رأيت نفسي أقاتل مرة أُخرى على جبهتين: ضد الشيوعية السوفياتية وضد الاستعمار الأوروبي. ومنذ عقود، أحاول مقاومة توجهين همجيين متعارضين في الظاهر: الهمجية التي جاءت من أعماق العصور التاريخية المحملة بالكراهية ونزعة السيطرة والازدراء، والهمجية الباردة والجليدية الناتجة من حضارتنا، والمتمثلة في هيمنة الربح الجامح والحساب. لقد تمكنت من مقاومة هستيريا الحرب حين جُرّم كل ألماني، ثم الهستيريا الستالينية حين جُرّم كل انتقاد للشيوعية، ويمكنني الآن مقاومة الهستيريا الجديدة.

في ظل ظروف فرنسا اليوم، أشعر بالحاجة إلى القتال على جبهتين: جبهة مقاومة كراهية الأجانب وأشكال العنصرية وكراهية الإسلام ومعاداة السامية، وهي جبهة تمثل همجية الحضارة الحديثة، وجبهة العمل ضد جميع أشكال التعصب القاتل التي تحمل في داخلها الهمجية القديمة كافة. ومن الواضح أن هذا العمل ينطوي على قمع العنف القاتل، لكنه يشمل أيضاً تفاديه الذي يمكن أن يتضمن بحد ذاته تبنّي سياسة للضواحي ]المدن الفرنسية[ والحدّ من عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والتعليم الإنساني المتجدد.

إذاً، ما العمل في المجال التربوي، وخصوصاً في المدارس؟

اقترحت بهذا المعنى، منذ بدايات الإرهاب الذي ينفذه إسلاميون إرهابيون، أن تُدرج في المناهج المدرسية متطلبات التفكير النقدي التي لا غنى عنها، وأولها العقل الذي يسأل كثيراً، وهو شائع جداً لدى الأطفال، لكنه قد يتراجع مع تقدم العمر. لا بد من تشجيعه.

بعد تحفيز هذا العقل، يجب تشجيع التفكير الإشكالي الذي يدعو إلى التساؤل عن الحقائق الواضحة التي تبدو مطلقة. لنتذكر أن الفضيلة الجوهرية للنهضة الأوروبية كانت طرح أسئلة بشأن إشكالية العالم، ومن هنا جاء العلم وإشكالية الخالق، ومن هنا نشأت الفلسفة وإشكالية الحكم على السلطة، ومن هنا الروح الديمقراطية أو المواطنة. ففي هذا الطرح الإشكالي يكمن جوهر العلمانية.

لذلك يفترض العقل النقدي وجود الحيوية في العقل المتشكك والتفكير الإشكالي، كما يفترض الفحص الذاتي الذي يجب أن يكون التعليم محفِّزاً له بحيث يصل كل طالب إلى ملكة تفكير تسمح بحد ذاتها بالنقد الذاتي. إن العقل النقدي من دون عقل ينتقد الذات يخاطر بالانزلاق إلى نقد منفلت إلى ما هو خارجنا. وهنا نسأل: ما أهمية العقل النقدي غير القادر على النقد الذاتي؟

إن التفكير النقدي يفترض بالضرورة عقلاً عقلانياً، أي قادراً على تطبيق الاستقراء والاستنتاج والمنطق في أي فحص للحقائق أو البيانات. كما يفترض العقل العقلاني ضرورة الوعي بحدود المنطق في مواجهة حقائق لا يمكن التعرف عليها إلّا من خلال قبول تناقضات، أو من خلال ربط مصطلحات متعارضة.

إن الروح النقدية التي تتغذى على هذا النحو من جميع هذه المقدمات الضرورية يمكن ويجب أن تمارَس بحرية، لكن يتعين عليها أن تشمل أيضاً الاستعداد لنقد النقد عندما يصير الأخير مفرطاً، أو لا يلتفت سوى إلى الجوانب السيئة للظواهر والحقائق أو الأفكار. أخيراً، يتوجب على تدريس التفكير النقدي أن يقبل كون النقد متعلقاً بالتعليم نفسه، وبالتالي، فإن التفكير النقدي ينطوي على بنية تحتية فكرية كاملة يتم تجاهلها بصورة عامة.

هذه إصلاحات كبيرة تبدأ بإصلاح الفكر. هل لديك أي أمل في إمكان تحقيقها؟

كما أخبرتك، إن الحالة في تراجع، لأن جميع الخصومات تعزز بعضها بعضاً. وأنا لم أكفّ قط عن التذكير بأن العقدين الماضيين شهدا انتكاسات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وفكرية خطرة: أزمة عامة للديمقراطية، واضطهاد جديد للأقليات الدينية (الصين والهند)، وهيمنة الربح، وخراب اقتصادي نتجت منه ثورات شعبية تعرضت كلها للقمع مثلما هي الحال في الجزائر وبيلاروسيا، وهيمنة نوع من الفكر القائم على الحساب والتخصص المفرط، الأمر الذي يجعل من المستحيل تصور المشكلات الإنسانية وفهم تعقيداتها، سواء على مستوى الفرد أو الوطن أو الكوكب ككل.

من غير المعروف ما إذا كانت الرئاسة الأميركية الجديدة ستخفف من حدة العداء بين الولايات المتحدة والصين، أو من المواجهة بين التحالف الأميركي – الإسرائيلي - السعودي وإيران التي يحكمها آيات الله. كما أن تركيا صارت قوة تدخّل على المستوى الإسلامي وفي حوض البحر المتوسط، والإمبراطورية الصينية تدمر الحكم الذاتي في هونغ كونغ وتدخل في صراع مع الهند، في حين اندلعت حرب عرقية دينية بين أذربيجان وأرمينيا، بينما أزمة لبنان التعددي غير قادرة على إحداث انتفاضة تخلّصه ممّا هو فيه. هذا كله يحدث في الوقت الذي يحتدم سباق التسلح في كل مكان، وتعجز أوروبا عن التغلب على انقساماتها.

علاوة على ذلك، تتضاءل الآمال في كل مكان، بنهضة بيئية كبيرة وإصلاح كبير للعولمة التي خلقت ترابطاً عاماً من دون أن تؤدي إلى أي تضامن. هناك تراجع، لكن ليس مثلما كان سابقاً، بل إنه يتخذ مساراً انحدارياً، بينما يمثل توجه أقلوي الدافع إلى نهضة الفكر السياسي الذي من شأنه أن يشير إلى مسار ديمقراطي- اقتصادي- إيكولوجي جديد.

من ناحية أُخرى، تتزايد نزعات المانوية والتعصب، وتتفاقم القومية والعنصرية. وفي الوقت نفسه، سيؤدي الاحترار العالمي إلى زيادة أزمة المحيط الحيوي للأرض، الأمر الذي سيزيد بدوره من أزمة البشرية. نحن فعلاً في أزمة كوكبية عملاقة، بيولوجية واقتصادية وحضارية وأنثروبولوجية في آن واحد، تؤثر في الأمم والبشرية جمعاء.

ومع ذلك، فقد قلتها مراراً وتكراراً: إن الأزمة تُحفِّز، من ناحية، الخيال الخلاق لإيجاد حلول جديدة، ومن ناحية أُخرى، المخاوف والقلق اللذين يعززا الانحدار والديكتاتوريات. وإذا استمر الانحدار الكبير، فإننا نتجه نحو أنظمة ما بعد ديمقراطية تملك وسائل متعددة للسيطرة على الأفراد، وتوفرها منذ الآن تقنيات تتيح تطبيق نموذج كذلك الذي تمارسه الصين فعلاً.

إن المسار المحتمل للأحداث مقلق إلى حد كبير. ونحن لا يمكننا حتى استبعاد فرضية اندلاع مواجهة تتطور لتعمّ الأرض انطلاقاً من حادث من نوع حادث سراييفو، وتشمل حروباً من نوع جديد تنفذها أجهزة الكمبيوتر واختراق شبكات الدول المعادية ومعارك عبر الروبوتات، والأسوأ من ذلك، الصواريخ النووية. لكن ما هو مستبعد يمكن [إن حدث] أن يغير مجرى التاريخ.

هل يمكننا جعل ما هو مستبعد يحدث في فرنسا؟

أنا أؤمن بضرورة تنظيم وتوحيد واحات المقاومة في الحياة والفكر، ومواصلة إظهار إمكان تغيير المسار، وتجنّب إغراق أنفسنا في رذائل الفكر الذي نندد به. لقد اختبرت السير في أثناء النوم في المسيرة نحو الكارثة في ثلاثينيات القرن الماضي، ومع أن المخاطر مختلفة تماماً اليوم، إلّا إنها ليست أقل خطورة، وأي سير جديد ونحن نيام سيُخضعنا، وسنصبح تجسيداً للصيغة التي وضعها هرقليطس:"مستيقظون، يخلدون للنوم".

 

* المقابلة باللغة الفرنسية، نُشرت في جريدة Le monde، بتاريخ 20 تشرين الثاني / نوفمبر 2020، وعنوانها:

“Assassinat de Samuel Paty: pour Edgar Morin, ‘le plus dangereux est que deux France se dissocient et s’opposent’ ”.

ترجمة: صفاء كنج.

السيرة الشخصية: 

نيكولا ترونغ: صحافي فرنسي.