الانتخابات الفلسطينية: تحريك الماء الآسن
نبذة مختصرة: 

تحولت الحياة السياسية الفلسطينية من دون انتخابات خلال أكثر من 15 عاماً، إلى ما يشبه الماء الآسن: لا حركة، ولا تجديد، ولا مساءلة، ولا مشاركة، فهل يحركها المرسوم الذي أصدره الرئيس محمود عباس أخيراً.

النص الكامل: 

الانتخابات في المجتمعات المعاصرة، بغضّ النظر عن ظروفها، ليست ترفاً ولا إجراء اختيارياً، وإنما هي وسيلة لتدوير النخب في مؤسسات الحكم، ولتجديد الأجيال وتجديد الدم فيها، وإدخال الأفكار الجديدة والمتنوعة إلى دوائر القرار، وهي كذلك الضمانة الأساسية للصلة الحيوية بين الحاكم والمحكوم، وآلية للمساءلة اللازمة لضمان سلامة الحكم واستجابة الحاكم لأولويات الجمهور. ويجب ألّا ينطلي على أحد محاولات التذرع بالاحتلال أو بالانقسام كمبرر للتنصل من الاحتكام إلى الجمهور والرجوع إليه عن طريق صناديق الاقتراع.[1]

وعلى الرغم من الانتظار الطويل للانتخابات الفلسطينية، فإن مرسوم الرئيس الفلسطيني محمود عباس القاضي بإجراء الانتخابات، أخذ معظم الفلسطينيين على حين غرّة، ذلك بأنهم اعتادوا في الأعوام الأخيرة على وعود بإجراء الانتخابات وإنهاء الانقسام من دون الوفاء بتلك الوعود، ولذلك لم يؤخذ إعلان استئناف الحوار والاتفاق على المصالحة عن طريق إجراء الانتخابات على محمل الجد. وقد طغى هذا الشعور على معظم تعليقات الخبراء الذين أجمعوا على أن "من الطبيعي أن يستقبل الشعب الفلسطيني ببرود، أو بترحيب مشوب بالحذر، ما جاء في المؤتمر الصحافي الذي عقده كل من جبريل الرجوب وصالح العاروري، وإعلانهما عن الاتفاق على وحدة ميدانية لمواجهة الضم ورؤية ترامب. فهذا المشهد شاهده الشعب مرات عدة، وسط الإعلان عن اتفاقات المصالحة، من اتفاق مكة، مروراً باتفاق القاهرة الأول، وإعلان الدوحة، وإعلان مخيم الشاطىء، وليس انتهاء بإعلان القاهرة الثاني في تشرين الأول / أكتوبر 2017."[2]

وقد صدر مرسوم الرئيس لإجراء الانتخابات التي طال انتظارها في 15 / 1 / 2021، متضمناً تعديلاً جوهرياً على قانون الانتخابات الأصلي، قوامه أن تتم الانتخابات التشريعية والرئاسية بشكل متتالٍ وليس بالتزامن، بعد أن قبلت "حماس" بذلك لتزيل العقبة الرئيسية المتبقية أمام إجراء الانتخابات.[3]

 أسئلة الانتخابات

تميزت ردات فعل الجمهور الفلسطيني ونخبه المتنوعة في البداية بطرح الأسئلة المشروعة بشأن مرسوم إجراء الانتخابات التي تشمل المجلس التشريعي ورئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية، فضلاً عن استكمال تشكيل المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن يصبح الأعضاء المنتخبون في المجلس التشريعي أعضاء في المجلس الوطني.

ومن أبرز الاسئلة المشروعة التي طُرحت: لماذا فجأة أصبح إجراء الانتخابات ممكناً في ظل الانقسام وقبل إنجاز المصالحة، في حين كان إنجاز المصالحة دائماً شرطاً مسبقاً لإجراء الانتخابات وذريعة لعدم إجرائها؟ ويصبح هذا السؤال مشروعاً أكثر في ضوء الذريعة المتكررة بأن من شأن إجراء الانتخابات قبل المصالحة تعزيز الانقسام ومأسسته، هذا علاوة على الموقف الرسمي الذي أكد دائماً أن نزاهة الانتخابات تتطلب أن يشرف عليها نظام قضائي واحد وجهاز أمني واحد، كما أنها مسؤولية لجنة انتخابات واحدة. وينبثق من هذا السؤال سؤال فرعي لا يقل أهمية وهو: إذا كان إجراء الانتخابات ممكناً في ظل الانقسام مثلما هي الحال الآن، فلماذا انتظرنا 14 عاماً؟

وربما يلخص "مركز الجزيرة للدراسات"، عشرات التحليلات والتصريحات القلقة إزاء وضع العربة أمام الحصان، والذي جاء فيه: "إن إجراء الانتخابات في بيئة سياسية منقسمة على ذاتها قبل معالجة قضايا الخلاف الجوهرية التي كرّست الانقسام يمثل مخاطرة كبيرة ويمكن أن يسهم في تكريس حالة التشظي التي تعيشها الحلبة السياسية الفلسطينية."[4]

السؤال الثاني الذي لا يقل أهمية يتعلق باستكمال عضوية المجلس الوطني لمنظمة التحرير في 31 / 7 / 2021، والذي ينطوي على إدخال حركة "حماس" لتكون شريكاً في المنظمة، الأمر الذي شكّل المطلب الأساسي لتلك الحركة في مختلف مراحل الحوار. وكانت مبررات تحفّظ حركة "فتح" وعدد من شركائها على إدخال "حماس" إلى المنظمة تتلخص بحجتين:

الأولى أن دخول "حماس" إلى منظمة التحرير قد يشكل خطراً على اعتراف العالم بالمنظمة كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني، لأن كثيراً من دول العالم يعتبر "حماس" منظمة "إرهابية". فماذا تغير في هذا الصدد؟ وإذا كان من الممكن التعايش مع هذا الخطر، فلماذا إضاعة أربعة عشر عاماً؟

الحجة الثانية التي لا تقل أهمية، هي أن "فتح" في مواقفها الرسمية، وفي مفاوضاتها مع "حماس"، كانت تحاول الحصول على ثمن دخول الأخيرة إلى المنظمة، وتحديداً، تنازلها عن السيطرة على قطاع غزة من أجل توحيد النظام السياسي، وإنهاء الانقسام وعودة قطاع غزة إلى الشرعية الفلسطينية، الأمر الذي يبرر أن تصبح "حماس" جزءاً وشريكاً في هذه الشرعية. فإذا كان على "فتح" التنازل عن هذا الشرط، فلماذا أضاعت هذه الأعوام كلها؟

قد يساعد في الإجابة على بعض هذه الأسئلة توقيت هذه المبادرة، إذ يشير العديد من التحليلات إلى تأثير عوامل خارجية ساهمت في تليين مواقف الأطراف المتحاورة، وهو ما أوضحه الرجوب نفسه في تفسير التغيرات في مواقف "حماس" حين أشار إلى "أن الحوار مع حركة 'حماس' لم يتوقف وكان هناك لقاء خلال وجوده في قطر، وأيضاً دخلت أطراف إقليمية بجهد إيجابي تُوّج بالمخرجات التي حدثت على مدار الساعات الماضية والتي كانت بشرى في ذكرى الثورة."[5]

 عقبات في طريق الانتخابات

وعلى ما يبدو، فإن شدة رغبة الفلسطينيين في الانتخابات ساعدت في تجاوز هذه الأسئلة، والانتقال إلى محاولة الاستفادة من هذه الفرصة. وأكثر ما يلفت الانتباه هنا جملة التغيرات التي جرت بشأن بعض مضامين قانون الانتخابات وقانون السلطة القضائية، والتي رأى فيها عدد من الخبراء تقييداً لحرية الانتخابات وإحكاماً لقبضة السلطة التنفيذية بهدف التأثير في نتائجها. ومن الأمثلة لهذه التعديلات في قانون الانتخابات، إلغاء التزامن بين الانتخابات التشريعية والرئاسية، والذي عارضته "حماس" ثم عادت ووافقت عليه في مقابل مكاسب معينة أُخرى مثل إلغاء النص في القانون الذي يشترط على مَن يترشح الاعترافَ بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني، والذي كانت تعارضه هذه الحركة.

إن العقبة الأولى والأخطر في الطريق إلى الانتخابات، هي إسرائيل التي لم يصدر عن مسؤوليها أي تعليق يفيد بارتياحهم أو امتعاضهم من هذه الانتخابات. ولمَن لا يعرف تفصيلات حياة الشعب الفلسطيني في الضفة بما فيها القدس وقطاع غزة، فإن إسرائيل تتحكم في كثير من جوانب الحياة، ليس أقلّها التنقل. لكن أهم ما يمكن أن يعوق الانتخابات، أو يجعلها فارغة من مضمونها الديمقراطي والوطني، هو منع إسرائيل سكان القدس الشرقية من الفلسطينيين من المشاركة في الانتخابات المقبلة، على الرغم من مشاركتهم ترشيحاً وتصويتاً ودعاية انتخابية في المرتين اللتين جرت فيهما انتخابات منذ نشوء السلطة.

العقبة الثانية تتعلق بهشاشة التفاهمات بين "فتح" و"حماس"، إذ إن كثيراً من نقاط الخلاف لم يتم حلّه، فعلى سبيل المثال: أي محاكم أو نظام قضائي سيكون مناطاً بهما البت في قضايا تتعلق بالانتخابات؟ وأي جهاز أمني سيكون مسؤولاً عن النظام والقانون في كل من الضفة الغربية وقطاع عزة؟ وعلى ما يبدو، فإن "حماس" لا تتقبل حتى الآن وجود شرطة تابعة للسلطة الفلسطينية في غزة، كما أن لجنة الانتخابات المركزية لا تتفهم وجود نظامَين أمنيين تابعين لحكومتَين مختلفتين في هذه الانتخابات الواحدة. مثال آخر يتمثل في أن الرئيس لم يستجب لأكثرية التوصيات التي رفعتها إليه الفصائل المجتمعة في القاهرة، مثل تخفيض عمر المرشحين، وتخفيض الرسوم، وإلغاء شرط الاستقالة قبل الترشيح وغيره.

أمّا العقبة الثالثة فتتعلق بتفاقم الخلافات داخل حركة "فتح"، ولذلك مؤشرات كثيرة، منها تصريحات وتحركات عضو اللجنة المركزية للحركة ناصر القدوة الذي رفض اتفاق حركته مع "حماس"، واصفاً هذا الاتفاق بأنه يكرس مكاسب فردية للقائمين عليه على حساب المصلحة العامة، ومحذراً زملاءه من أن خوض الانتخابات في قائمة فتحاوية رسمية موحدة سيشجع الجمهور على النظر إليها كقائمة تمثل السلطة التي لا تحظى بأي قدر من الاحترام الشعبي، الأمر الذي سيؤدي إلى معاقبة الجمهور لها من خلال التصويت. وبناء عليه، أعلن أنه يسعى لخوض الانتخابات بقائمة منفصلة.[6]

وتكمن العقبة الرابعة في عدم استجابة الرئيس حتى الآن للطلبات التي أجمعت عليها الفصائل في لقاء القاهرة، والتي تشمل التوصية بتشكيل محكمة اعتراضات متفق عليها، وإلغاء القيود في قانون الانتخابات التي تحدّ من اتساع المشاركة، وخصوصاً الشبابية، بما في ذلك اشتراط استقالة أي مرشح من وظيفته قبل شهر من ترشحه للانتخابات، وألّا يقل عمر المرشح عن 28 عاماً، وأخيراً شرط دفع تأمين مالي بقيمة 20,000 دينار أردني. فقد جاء في البند 11 من البيان المشترك للفصائل بعد اجتماع القاهرة: "رفع توصية للرئيس للنظر في تعديل النقاط التالية لقانون الانتخابات: تخفيض رسوم التسجيل والتأمين؛ طلبات الاستقالة؛ عدم المحكومية؛ نسبة مشاركة النساء؛ تخفيض سن الترشيح."[7]

النوع الثاني من المشكلات الداخلية في "فتح" يتعلق بنيّة عضو آخر في اللجنة المركزية هو مروان البرغوثي الموجود في السجون الإسرائيلية الترشح للرئاسة، فهو أيضاً ينتقد أداء السلطة بصورة عامة، ويدعمه ويسير في تياره إمّا مؤيدون لخطّه السياسي الذي يحبذ المواجهة مع المحتل على المساومة، وإمّا مجموعات وأفراد يشعرون بالتهميش في "فتح"، ويعبّرون عن معارضتهم لمركز "فتح" بالانخراط فيما يسمى تيار مروان، وهو ما يشكل تحدياً وإحراجاً للحركة، ليس فقط لأنه يعكس انقساماً وضعفاً، بل لأن مروان يشكل أيضاً منافساً جدياً في أي انتخابات رئاسية، نظراً إلى شعبية الخط السياسي الذي يحمله، وبسبب التعاطف الشعبي مع الأسرى وقضيتهم، ولأن الجمهور سيحمّل الرئيس عباس، كمرشح للرئاسة، مسؤولية سوء أداء السلطة.

 خطوة نحو المصالحة أم تكريس للأمر الواقع؟

يتفق الفلسطينيون على أن الانقسام الحالي هو من أخطر التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني وقضيته، ولا نبالغ إذا قلنا إن موقف الجمهور الفلسطيني تجاه أي خطوة سياسية كبيرة، مثل الانتخابات، يتوقف - ضمن أشياء أُخرى - على مساهمتها في زيادة فرص الوحدة الوطنية. ولذلك لا غرابة في أن إحدى أهم وسائل تسويق التفاهمات التي بدأت بمبادرة من عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" جبريل الرجوب، وعضو المكتب السياسي لحركة "حماس" صالح العاروري، اعتمدت على تصوير الانتخابات بأنها الطريق للمصالحة.

ومع أن هذا المنطق كان سائداً في خطابات الأطراف المشاركة في الحوار الوطني، إلّا إن أياً منهم لم يقدم توضيحاً بشأن كيفية تحقيق أو تعزيز فرص المصالحة الوطنية من خلال الانتخابات. وللتذكير، فقد جرت انتخابات للمجلس التشريعي في سنة 2006، وتمخضت عن أكثرية لحركة "حماس" في المجلس التشريعي، وبدلاً من أن يؤدي ذلك إلى تعزيز الديمقراطية والعمل المشترك، انتهى بشلل للمجلس التشريعي المنتخب، وصراع دموي أدى إلى قطيعة بين "فتح" و"حماس"، ما زالت مستمرة حتى الآن.

لقد كان مرور الزمن عاملاً سلبياً فاقم الفجوة بين طرفَي الانقسام، وأدى إلى نشوء مصالح ضيقة لأفراد ومجموعات من طرفَي الانقسام، ذلك بأن إنهاء الانقسام قد يمسّ ببعض هذه المكاسب. كما خدم الانقسام مصالح دول وقوى إقليمية ودولية، أهمها إسرائيل، وتشابكت مصالح عدة أطراف فلسطينية مع مصالح دول إقليمية أو عالمية، الأمر الذي أدى إلى تعميق الانقسام وجعله شائكاً، وبالتالي كيف ستؤدي الانتخابات إلى تحقيق الوحدة الوطنية؟

إن الخشية هي من أن تؤدي الانتخابات إلى العكس تماماً، أي إلى تكريس أمرين واقعيين هما الأخطر على القضية الفلسطينية: الأول، الانقسام، والثاني تكريس الحكم الذاتي وتركة أوسلو. إن أول مَن حذّر من مغبة وضع العربة أمام الحصان كان ناصر القدوة حين استدرك بعد تأييده للانتخابات من حيث المبدأ بالقول: "يجب أن نفهم أن الانتخابات بحد ذاتها لا تحقق الوحدة، وإن جرت الانتخابات في ظل الانقسام قد تكون تكريساً لهذا الانقسام. لقد قيل سابقاً سيتم التفاهم حول وضع غزة وكيفية استعادة الوحدة في الحوار الوطني الذي يلي إصدار المرسوم وتحديد المواعيد. وأحذّر الآن ممّا يبدو توجهاً لتأجيل كافة المسائل الجوهرية لما بعد الانتخابات وهو ما سيشكل خطورة كبيرة على مجمل الواقع الفلسطيني."[8]

وبالمثل، عبّر كثيرون عن القلق إزاء تكريس الانتخابات بهذه الطريقة لواقع الحكم الذاتي الذي أنتجه اتفاق أوسلو، وقد لخص هذا الاتجاه عضو اللجنة النتفيذية المشارك في حوارات القاهرة بسام الصالحي بالقول: إن "ما يقلقنا أيضاً، أن الانتخابات يجب أن تغير الوضع السياسي القائم، لا أن تصبح تكريساً لواقع الاتفاقات السابقة والمرحلة الانتقالية."[9]

الانتخابات يمكن أن تكون رافعة للخروج من مأزق أوسلو، ويمكن أن توظف لتكريس هذا الواقع، وقد طغت الحاجة إلى الخروج من عنق الزجاجة المتمثل في المرحلة الانتقالية على الحوارات المجتمعية والنخبة السياسية، وكان هذا مبنياً على شعور عميق بأن السلطة التي جاء بها اتفاق أوسلو استنفدت أغراضها. ومن هنا جاء السؤال عمّا إذا كانت الانتخابات ستعطي الشعب فرصة كي ينتقل من واقع الحكم الذاتي إلى واقع الدولة، وخصوصاً بعد الاعترافات الدولية بفلسطين دولة مستقلة.

ولا يشير تدقيق النظر في بعض التعديلات على قانون الانتخابات إلى وجود نية لاستغلال الانتخابات من أجل الانتقال من مرحلة الحكم الذاتي إلى الدولة، بل إلى تكريس الواقع السياسي الحالي. والتعديل المقصود هو ما ورد في القانون بقرار رقم 1 لسنة 2021، الذي نص على تعديل قرار بقانون رقم 1 لسنة 2007 بشأن الانتخابات العامة، والمنشور في "الوقائع الفلسطينية"، عدد ممتاز، رقم 23، وتحديداً النص التالي: "تُستبدل عبارتا (السلطة الوطنية) و(رئيس السلطة الوطنية) أينما وردت في القانون الأصلي بعبارة (دولة فلسطين، رئيس دولة فلسطين)."[10]

وقد عبّر عن هذه الإشكالية بسام الصالحي حين قال: "إن التعديل الهام يتطلب تحصيناً سياسياً وقانونياً غير قابل للبس، حيث إن رئيس دولة فلسطين قد تم انتخابه سابقاً من المجلس المركزي والمجلس الوطني الفلسطيني، صاحب الولاية التشريعية الكاملة التي تتجسد فيها وحدة شعبنا الفلسطيني في كافة أماكن تواجده ولا ينحصر ذلك فقط في أبناء شعبنا في الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة."[11]

وهذا يعني أننا نجري انتخابات لسلطة ولرئيس سلطة، وفق معايير أوسلو الخاصة بالحكم الذاتي، لكن نسميهم دولة ورئيس دولة، أي أننا بدلاً من أن نرفع مستوى السلطة إلى دولة، خفضنا مفهوم الدولة إلى مستوى السلطة، ذلك بأن رئيس الدولة يجب أن يُنتخب من الشعب الفلسطيني، وهذا ما عناه تعيين رئيس الدولة، أبو عمار وبعده أبو مازن، من طرف هيئات منظمة التحرير التي ترمز إلى الشعب الفلسطيني في أماكن وجوده كافة.

إن استبدال عبارة انتخاب رئيس دولة فلسطين بدلاً من رئيس السلطة الفلسطينية، ينطوي على إسقاط حق الترشيح والانتخاب لرئاسة الدولة عن بقية أبناء شعبنا في الشتات مثلما تنص وثيقة الاستقلال التي اعتبرت دولة فلسطين دولة لكل الفلسطينيين. وما يعزز هذا التناقض هو أن القرار بقانون معدل يستند إلى وثيقة الاستقلال في مقدمته، ويناقضها في نصه.

 الخلاصة

لقد جاءت هذه الانتخابات بدوافع داخلية أهمها الحاجة الماسة إلى تجديد الشرعية، ودوافع خارجية أهمها الاستعداد لإمكان الاستفادة من المتغير العالمي المهم المتمثل في تغيير الإدارة الأميركية وتنصيب رئيس ربما يكون معنياً بتحريك جهود سياسية أميركية أو دولية، لكن هذا الانتخابات في الوقت ذاته تمثل مخاطر كبيرة على أكثر من صعيد:

فالبنى التنظيمية والسياسية للحركات والأحزاب هشّة جداً إلى درجة ربما تؤدي إلى تفجر أو تشظي في بعضها، وإلى مزيد من تسمم العلاقات فيما بينها؛ كما أن غياب أي رؤية بشأن إعادة توحيد النظام السياسي، قد يجعل من هذه الانتخابات وسيلة لتكريس واقع الانقسام وتعزيزه.

والأخطر من هذا وذاك، أن إجراء الانتخابات بمرجعية القانون الأساسي للسلطة الفلسطينية، ووفق معايير أوسلو، سيكون من شأنه تكريس المرحلة الانتقالية للحكم الذاتي بدلاً من إنهائها، وخصوصاً أن مرسوم إجراء الانتخابات، الذي يتحدث صراحة عن انتخابات المجلس التشريعي ورئاسة السلطة، لا يستعمل مصطلح الانتخابات عندما يتحدث عن المجلس الوطني، بل يكتفي بالاشارة إلى "يُستكمل تشكيل المجلس الوطني الفلسطيني في 31 / 8 / 2021 وفقاً لأحكام المادة 5 من النظام الأساسي لمنظمة التحرير"،[12] كأن الانتخابات تتعلق بمؤسسات السلطة المرتبطة بالحكم الذاتي، وليس بالمنظمة المرتبطة بالدولة.

قد تنجح هذه الانتخابات بتجديد شرعية القيادة، لكن هذا سيعزز نوع السياسة ونوع مناهج العمل التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، ولا سيما أن قيوداً وُضعت على الترشح، مثل العمر والقدرة المالية وضرورة الاستقالة المسبقة من الوظيفة، والتي من شأنها تفويت فرصة مشاركة جيل جديد وتحقيق التجديد المنشود، ذلك بأن هذه القيود تحرم 31% ممّن لهم حق الاقتراع من حق الترشيح للمجلس التشريعي، وتحرم 63% ممّن لهم حق التصويت من حق الترشيح في الانتخابات الرئاسية.[13]

وعلى الرغم من هذه القيود كلها، فإن تعطّش الشعب الفلسطيني إلى التغيير والمشاركة دفع أكثريته في المناطق التي ستجري فيها الانتخابات إلى تأييدها بشكل أو بآخر، على أمل الاستفادة من فرصة التغيير على الرغم من محدوديتها. ومن المؤشرات إلى ذلك أن 93% من المواطنين الذين لهم الحق في الانتخاب سجلوا انفسهم في سجلات الناخبين، فضلاً عن التحركات الواسعة الجارية لتشكيل القوائم الانتخابية، وهذا مهم لأن الحدّ من مخاطر الانتخابات، والاستفادة من أي فرص تحملها، يتوقف على حجم المشاركة الشعبية، وخصوصاً الشبابية.

 

المصادر:

[1] كنت قد نشرت مقالة عن مخاطر تراجع ثقافة الانتخابات في المجتمع الفلسطيني في مدونة جامعة بيرزيت، بعنوان "الجذر التربيعي لأزمة النظام السياسي الفلسطيني".

[2] هاني المصري، "ما بعد مؤتمر الرجوب – العاروري؟"، موقع "مسارات".

[3] يمكن الاطلاع على نص هذا المرسوم في موقع اللجنة المستقلة للانتخابات في الرابط الإلكتروني.

 [4] صالح النعامي، "الانتخابات الفلسطينية 2021: السياق والتوقعات"، موقع "مركز الجزيرة للدراسات".

[5] "الرجوب: أطراف إقليمية كان لها دور في موافقة 'حماس' على الانتخابات"، موقع "النجاح نيوز".

[6] صدرت مواقف الدكتور ناصر القدوة في سياق مداخلة له في مؤتمر معهد أبو لغد للدراسات الدولية في جامعة بيرزيت، ويمكن الاستماع إليها في فيديو مرفوع في موقع فايسبوك، في الرابط الإلكتروني.

[7] انظر النص الكامل لبيان القاهرة في موقع "وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية" ("وفا")، في الرابط الإلكتروني.

[8] "القدوة: الانتخابات قد تكرّس الانقسام.. والقائمة المشتركة بين 'حماس' و'فتح' غير ديمقراطية"، موقع "وكالة وطن للأنباء".

[9] انظر موقف الصالحي في مقابلة مع موقع "عربي 21"، في الرابط الإلكتروني.

[10] انظر: "الوقائع الفلسطينية" (الجريدة الرسمية)، العدد الممتاز رقم 23، في الرابط الإلكتروني.

[11] "الصالحي يدعو لاجتماع عاجل للأمناء العامين والمجلس المركزي قبل مرسوم الانتخابات"، موقع "وكالة وطن للأنباء".

[12] انظر المرسوم في موقع اللجنة المستقلة للانتخابات، مصدر سبق ذكره في الهامش رقم 3.

[13] جاء ذلك في دراسة من إعداد الباحث في مركز "مسارات" عبد الجبار الحروب، ويمكن الاطلاع على الدراسة في الرابط الإلكتروني.  

السيرة الشخصية: 

غسان الخطيب: أستاذ الفلسفة والدراسات الثقافية في جامعة بيرزيت.