على خطى أقلامهم: حول يوميات زعيتر والعارف
التاريخ: 
15/02/2021
المؤلف: 

عندما قابلت من أصبح مديري لاحقاً في مشروع "بحث وتوثيق القضية الفلسطينية"، في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بهدف شرح مهماتي وتعريفي على المشروع وما يضمّه من مشروعات بحثية، ذكر لي يومها مجموعة من الأسماء لشخصيات فلسطينية سياسية، لها وقعها السياسي في تاريخ القضية الفلسطينية. أكر منهم أكرم زعيتر، باعتباري أعرفه. أعترف، لم أكن يومها أعرفه، على الرغم من لمعة اسم الشهيد القاضي رائد زعيتر في ذهني حينها، لكنني هززت رأسي، وتابعنا الحديث، وأكمل فيض من الأسماء والأحداث يتزاحم في تلك المحادثة، وأبرز ما جاء فيها كلمتا: مذكرات ويوميات. 

ذهبت يومها إلى البيت محمّلة بكمٍّ من الأسئلة، وخصوصاً، الإجابة عمّن هو أكرم زعيتر! انكفأت أبحث عنه في الإنترنت، وقرأت عمّن كان، وماذا عمِل، وأي مناصب شغِل. أسترجع الآن انبهاري بأن يكتب شخص يومياته على مدار 60 عاماً – أكثر من ضعف عمري حينها – وقد وصلنا منها، في المركز العربي، ما لم يُنشر من قبل، وهي يومياته بين سنتي 1949 و1984، بالإضافة إلى أوراقه ومختاراته ووثائق أُخرى.

حين بدأت رحلة العمل مع يوميات زعيتر، زاد انبهاري بقدرة اللغة والتوثيق، ووصف الأحداث السياسية بمختلف الأبعاد، وتداخل الشخصي والسياسي والوجداني في نصٍ واحد؛ نصٌ يفوق عدد صفحاته عشرات الآلاف، وكل ذلك بلغة فصيحة مبهرة شائقة. انبهرت بقدرة الرجل على الكتابة، كتابة التفصيلات كلها، ووصف الأحداث بدقة، وتعزيزها بوثائق، منها قصاصات الصحف أو المنشورات المهمة، وفيض ذلك القلم. كان زعيتر يكتب يومياته – بشكل يومي تقريباً – على أجندات ودفاتر يوميات سنوية، كل يوم في تاريخه غالباً، وحين تفيض الأحداث ويسيل قلمه، يقفز إلى صفحات فارغة في أجندته، وعندما يصل حدود الصفحة الممتلئة، يكتب ملاحظة كأنه كان يعرف أنه سيأتي من يتعقبه، بأن: "التتمة في يوم 16 حزيران"، ويروّس الصفحة المكملة بـ "يتبع 13 تشرين الأول" مثلًا، وهكذا. سلسلة من أوراق الأجندات بتواريخ عديدة، تصف يوماً حافلاً بأحداث أصرّ على أن يصفها زعيتر، فرسم خريطة لتعقّب كتابته اليومية. هذه هي اليوميات!

العمل مع اليوميات بشكلها الطينيّ الخام شائق وشاقٌ؛ إذ إن تعّقب خريطة زعيتر في دفاتره العديدة، وجعل قصاصات من يومية معينة تتمم يومية أُخرى من أجندة مختلفة ربما، كل ذلك بإشارات الكاتب الفطِن الدقيق الذي لم تفارقه تلك الدقة على مدى عشرات الدفاتر، وعشرات الأعوام، كان عملًا لا بد منه. وفي مرحلة أُخرى، بالتوازي مع طباعة كلمات مرسومة بخطّ لا يشبه بعضه على مدى الأعوام المتعددة، كان لا بد من فكّ خطّ زعيتر حين يكتب ساهراً في ليلة يصف نومه حينها: "ما نمت الليلة إلّا غرارا"، واصفاً أحداثاً رسمت العالم بشكله الحالي. فمقارنة الكلمات المرسومة، بتلك المطبوعة، وتركيب الجمل وتحقيق الأحداث والأسماء وما يوصف، كان رحلة أُخرى لعمق ما سيحوِّل الـ "يوميات الخام" إلى شكلٍ نهائيٍ في كتاب يحمل في طيّاته أحداثاً جساماً أثرت في كل عربي، في أي مكان في الدنيا؛ النكسة، أو ما خرج إلى النور بعنوان "سنوات الأزمة: يوميات أكرم زعيتر، 1967-1970"، واصفاً أشدّ سنين العرب وطأةً فيما سيكون لاحقاً.

كمحرّرة لنصّ كُتب على شكل يوميات قبل نحو خمسين عاماً، انكشف أمامي سيل من وثائق متعلّقة بأحداث جسام، كان لا بد من تحقيقها ومضاهاتها وتحريرها. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن التدخل التحريري الأسلوبي في لغة زعيتر كان محدوداً، لفصاحة لسانه وقدرته اللغوية التي أغنت من عمِل معها، حتى صار لدينا "قاموس زعيتر" نستلّ منه الكلمات متى احتجنا إليها. تلك اللغة السليمة، فرضت نفسها على سياسات تحريرية في تحرير نصوص أُخرى، فكان لزعيتر أن يبقي على ألفاظه ورسمها كما اختار من بحر لغته أن يكون، فكانت "رآسة الحكومة"، وليست رئاسة، وهي من "رأَس"، اشتقاق سليم لغة، ظلّ أصيلاً في النص. المهمة الأكبر والأكثر تحدياً كانت تحقيق ما ورد في اليوميات، وهي مهمة تطلّبت بحثاً في وثائق موازية لمقارنة حدث ما ذُكر في اليوميات، بكتب أو يوميات أُخرى وصفت الحدث من زاوية مختلفة.

عودة إلى أربعين عاماً قبل زعيتر، في الجزء من يومياته المذكور هنا، كانت مع عارف العارف رحلة شائقة أُخرى. يوميات كُتبت في الفترة بين سنتي 1926 و1929، حين كان العارف سكرتيراً لحكومة إمارة شرق الأردن. نصٌ تاريخي توثيقيّ، لمؤرخ وسياسي في منصب مهم، يكتب أحداثاً عكست علاقة إمارة شرق الأردن حينئذ، بحكومة الاستعمار البريطاني في فلسطين وجنرالاتها. كتابة يومية من قلب الحدث والموقف، وردة الفعل عليهما، تعكس واقعاً ما كان ليُكتب بغير تسجيل يوميٍّ معايشٍ للأحداث. وهنا تكمن أهمية الكتابة اليومية التوثيقية، وخصوصاً لمسؤولين في مواقع حساسة من شأنها أن تكشف أمامهم خبايا تعلِمنا، بعد عشرات الأعوام، عمّا كان في تلك الفترة. وهذا ما كان مع قراءة يوميات عارف العارف، المنشورة مؤخراً في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بعنوان: "يوميات عارف العارف في إمارة شرق الأردن (1926-1929)".

 

عارف العارف

 

كما هي السياسة التحريرية للتعامل مع اليوميات بنصوصها الأصيلة، كذلك كان مع العارف الذي طُبعت يومياته طباعة آلية، ولم تصلنا بخط يده، فكانت عملية المضاهاة أقل صعوبة، مقارنة بحالة أكرم زعيتر الذي كتب يومياته بخط يده. كتب العارف يومياته موثقاً ما مرّ عليه في منصبه، وما جرى حوله في إمارة شرق الأردن، ذاكراً شخصيات وأحداث كان لا بد من التوقف عندها، وتعريفها وتحقيقها، وتتبع الأحداث المذكورة بالعودة إلى الصحف الأساسية في تلك الفترة، مثل أرشيف جريدة "فلسطين" وما كُتب فيها عن أحداث دوّنها العارف. كما العمل على بناء تراجم للشخصيات المذكورة، ولا سيما ممن كان لهم دور في الثورة العربية الكبرى والحياة السياسية والنشاط الوطني في ذلك الوقت، في جميع أنحاء الوطن العربي، وهو أمر لافت بحد ذاته، تعقّب تلك الشخصيات في مساراتها السياسية وتنقلاتها بين أقطار عربية متعددة، وهو ما يعكس واقعاً سياسياً في تلك الفترة.

وهنا لا بد من القول إن مهمة تحرير نصٍّ هو يوميات، باعتباره وثيقة تاريخية، يتطلّب ملكات إضافية للتحرير اللغوي والأسلوبي؛ إذ إن التحرير هنا تطلب مني تحقيقاً للنص وحواشيه وتحقيقها، فالشك هنا هو المحرّك الرئيس للعمل مع نص كهذا، باعتباره نصاً خاماً يتطلب التحقيق والـ "نبش" في أوراق ووثائق ومراجع تؤكد ما ورد فيه، أو توضحه، وربما تنفيه. 

يزيد كتابة اليوميات ثراءً - وخصوصاً السياسية منها – الجانب الاجتماعي الإنساني الأنثروبولوجي في كتابة الواقع المعاش، لنقل التجربة والمشاهد والعلاقات والأحداث وما ينتج منها من نسيج إنساني، يمكن للكتابة اليومية أن تنقله من خلال فورية التجربة، والتي تختلف في جوهرها عن التذكّر، وما ينتج منه من كتابة مذكرات التي هي نموذج مختلف للكتابة. ففي يوميات العارف مثلاً، إضافة إلى وصف العلاقات السياسية والإدارية بين المسؤولين، وتفصيل مواقف وحوارات عكست بنية علاقات القوى حينئذ، وصف العارف الهزة الأرضية في تموز/يوليو 1927، ووصف مختلف المدن والقرى في شرق الأردن وانطباعاته عنها وعن أهلها، كما وصف رحلته إلى العراق ومؤتمر الصلح بين عشائر العراق وشرق الأردن، واصفاً طريقهم إلى هناك، شاملاً وصف سلوكيات تعكس العلاقات الاجتماعية في سياقها.

كل ذلك يجعل اليوميات وثيقة تاريخية ومصدراً أولياً للبحث التاريخي، يمكنها تزويد الباحث/ة بتفصيلات تغيب عن المراجع التاريخية الأُخرى التي تكتب التاريخ من خارج أحداثه، وفيها أيضاً تتداخل الحقول لدراسة التاريخ الذي كتبه الناس، وزراء أو أمراء، بصفتهم أناساً عايشوا تلك الأيام.

 

عن المؤلف: 

هبة أمارة: محررة وباحثة في مشروع بحث وتوثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.