دراسة السير والمذكرات في السياق الفلسطيني، من رصد التحولات الكبرى إلى تحليل الانتقالات الصغرى
التاريخ: 
15/02/2021
المؤلف: 

تحظى السير الذاتية والمذكرات ونصوص أُخرى شبيهة، من قبيل اليوميات والسير الغيرية والشهادات، بأهمية كبيرة ومتزايدة لدى دارسي فلسطين من زوايا وتخصصات متعددة، منها: التاريخ، علم الاجتماع، العلوم السياسية، الأدب.

زاد من أهمية هذه النصوص تزايد كتابتها ونشرها وتنوع كاتبيها، طبقياً ومهنياً وجغرافياً وجندرياً خلال السنوات القليلة الماضية، فلم تعد كتابة هذه النصوص ونشرها حكراً على نخب سياسية وثقافية تعتقد بخصوصية وتميز تجاربها، في مقابل التجارب العادية للناس العاديين، ولا على كتّاب وأدباء محترفين. وقد عكس التوسع والتنامي والتنوع في هذا الحقل ميلاً إلى توثيق تجارب خاصة وعامة واستذكار مراحل سابقة، في تحدٍ غير مباشر لكل محاولات الطمس الاستعماري للوجود والهوية والذاكرة الفلسطينية من جهة، وكذلك ميلاً لدى بعض كتّاب هذه النصوص لتقديم شهاداتهم على مراحل ومواقف سابقة يتيح تباعد الأمد الزمني الكتابة عنها ونقاشها واستذكار تفصيلاتها دون خشية تبعات ذلك، من جهة أُخرى.

 

بسام الشكعة

 

في الدراسات التاريخية تحديداً، يتعامل بعض الدارسين مع هذه النصوص باعتبارها مصادر غنية بالمعلومات والتفصيلات، تغني وتنوع مصادر دراسة ما، أو تقدم رواية بديلة أو مكملة لروايات وردت في مصادر أولية أُخرى من قبيل: الأرشيف، التاريخ الشفوي، المقابلات، وكذلك المصادر الثانوية: الدراسات والأبحاث.

يحاول باحثون آخرون استخدام هذه النصوص كأدلة وشواهد على تحولات سياسية، ترتبط بشكل أو بآخر بتغيرات سياسية كبرى عاشتها فلسطين منذ نهايات الحكم العثماني وحتى الآن، وتمثلت أساساً في تبدل الحكّام وأنظمة الحكم على فلسطين ككل وعلى أجزاء جغرافيتها المقطّعة لاحقاً.

ويدرس بعض الباحثين من خلال هذه النصوص التحولات الاجتماعية، من قبيل وضع المرأة في المجتمع، والعلاقات المدينية- الريفية، والنكبة ونشوء مجتمعات اللاجئين وعلاقتها بمجتمعات السكان غير اللاجئين، والتحولات الطبقية والحراك الطبقي، وانتشار التعليم.

من جهة أُخرى، قد تكون هذه النصوص مادة لدراسة تحولات نوع أدبي محدد، يجمع بين ثناياه السيرة الذاتية والمذكرات والشهادات واليوميات والنص الأدبي المستند إلى تجربة ذاتية، يمكن أن يطلق عليه بالمجمل كتابة الذات، بتقاطعه واختلافه عن تطور نظيره/ نظرائه في إطار الكتابة والأدب العربي بصورة عامة.

 في تجربتي البحثية الخاصة، نقلتني المساهمة في كتابة سيرة غيرية للمرحوم بسام الشكعة (1930- 2019)، وهو رئيس بلدية نابلس الأسبق وشخصية سياسية مهمة من مدينة نابلس، إلى التفكير في مشروع بحثي متكامل عن المدينة وتفاعلات مجتمعها مع تحولات المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في حقبة سياسية محددة. وفي طور التحضير لمقترح تفصيلي لهذا المشروع تولد لدي اهتمام خاص بالسير الذاتية والمذكرات واليوميات من جهة، وموضوع التاريخ الشفوي والذاكرة من جهة أُخرى، كمصادر وأطر مفاهيمية محتملة تثري هذه الدراسة. لاحقاً، طورت ورقة بحثية، هي في قيد النشر حالياً، بالاعتماد على السير الذاتية والمذكرات واليوميات كمصادر، وفكرة الهوية الوطنية الفلسطينية بمختلف أبعادها والطريقة التي ظهرت بها من خلال هذه النصوص في حقبة وإطار مكاني محدّدين.

بعد ذلك، حاولت تطوير الفكرة الخاصة برصد وتحليل تعبيرات وأبعاد الهوية الوطنية الفلسطينية في نصوص الكتابة الذاتية، السير الذاتية والمذكرات واليوميات، مع فتح الحدود المكانية والزمانية للدراسة: فلسطين ككل، ودون تقيّد بحقبة محددة. إلى هذا الحد كان المشروع البحثي ما زال عالقاً في مفهوم سياسي وفكري كبير: الهوية الوطنية. لاحقاً، ومع تطور العمل على هذا المشروع، بأطواره المتعددة، تحول اهتمامه الأساسي إلى المكان الفلسطيني بدلاً من فكرة الهوية الفلسطينية، وفي مرحلة متقدمة إلى ذاكرة المكان الفلسطيني، بمعنى دراسات الذاكرة كمدخل نظري وزاوية تركيز جديدة.

بقيت نقطة غير محسومة تتعلق بتعريف المكان الفلسطيني، فأي فضاءات تتوخى هذه الدراسة تناولها، وكذلك تحديد المدى الزمني أو الحد العمري لنص السيرة الذاتية أو المذكرات، الذي اقتصر لاحقاً على زمن طفولة الكاتب فقط، مع ترك المجال مرناً وواسعاً لتحديد زمن الطفولة بما يحدده كل نص على حدا، أو بما يمكن للباحث استنتاجه من النص ذاته، لا فرضه عليه.

يتضمن التحول إلى دراسة ذاكرة الطفولة، وبالتحديد ذاكرة مكان الطفولة، ابتعاداً ظاهراً عن المفاهيم السوسيولوجية والعناوين السياسية الكبرى، لكن ما يتوخى هذا المشروع البحثي القيام به هو إيجاد حوار وتقاطع بين ما تعبّر عنه السير الذاتية والمذكرات ضمن ما أطلق عليه ذاكرة مكان الطفولة، وهو ما لا يقتصر على التذكّر بالمعنى البسيط طبعاً، بل يشمل كذلك التصور والتخيّل مع مفاهيم سوسيولوجية من قبيل الطبقة والجندر وكذلك الإطار الزمني الخاص بكل طفولة في كل نص على حدا وتقاطعها مع السياق الزمني الفلسطيني العام، مع الالتفات إلى فكرة نهاية الطفولة، المصرّح عنها أو المضمرة في كل نص وارتباطها مع المفاهيم السابقة، وربط كل ذلك بمختلف الأنماط التي تقترحها الدراسة لتذكّر مكان الطفولة والتعبير عنه.

مع الانتقال من تناول التحولات السياسية والاجتماعية الكبرى، تظهر أهمية دراسة الانتقالات الصغرى، فدراسة ذاكرة الطفولة وذاكرة مكان الطفولة، تشير إلى تحولات طبقية مجهرية على المستوى الأسري، وتحولات ذات صلة بالحيز والمكان، ويظهر ذلك بصورة خاصة في النصوص التي أتيح لكتّابها أن يعيشوا طفولتهم في أماكن متعددة، وتحولات ذات صلة بالتعليم وتطور التعبيرات والنشاطات السياسية والثقافية، وأخيراً رصد الانتقال بالتدريج، وأحياناً المفاجئ والصادم والحاد، من الطفولة إلى النضج.

يقع هذا المشروع البحثي، الذي أعمل عليه في إطار أطروحتي لنيل درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة بيرزيت بعنوان: "ذاكرة مكان الطفولة الفلسطينية في كتابة الذات الفلسطينية" حيث أدرس  الطفولة الفلسطينية من زاوية تنوع المكان أو الفضاء: المدينة، القرية، البادية، المخيم، الشتات. ويحقق أكبر قدر ممكن من التوازن داخل كل واحد من هذه الأطر طبقياً وجندرياً وزمنياً، وكذلك نوعياً؛ مثلاً، عند تناول نصوص من القرية هناك تركيز على شمول قرىً من فلسطين المحتلة سنة 1948، مهجرة وغير مهجرة، وقرىً من فلسطين المحتلة سنة 1967، وعند تناول نصوص من المدينة هناك محاولة لتحقيق أكبر قدر ممكن من التوازن بين نصوص قادمة من مدن متعددة، وهكذا. مع الأخذ بعين الاعتبار صعوبة تحقيق التوازن الكامل في اختيار النصوص لهذا النوع من الدراسات، فعلى سبيل المثال، من التحديات التي تواجه البحث، القلة النسبية لنصوص السير والمذكرات التي كتبتها نساء، وتركزها في نصوص مدينية بشكل أساسي.

يُظهر ما سبق أهمية إضافية لدراسة السير الذاتية والمذكرات: تناول الانتقالات الصغرى في حوارها وتقاطعها، وربما أحياناً انفصالها عن التحولات الكبرى سياسياً واجتماعياً، كما يُظهر الإمكانات الثرية التي قد تحتوي عليها هذه النصوص إذا ما دُرست بطرق جديدة ومن زوايا تركيز مختلفة ومداخل نظرية متعددة ومتقاطعة.

أخيراً، تُظهر هذه المراجعة الذاتية لمسار تطور فكرة بحثية والمراحل التي مرّت بها حتى وصلت إلى شكلها الحالي، أهمية استمرار التأمل الذاتي في الفكرة البحثية وتطوراتها والقدرة على مواصلة نقدها وتقييمها من جانب الباحث نفسه، وكذلك أهمية مشاركة هذا المسار التطوري وهذا التأمل مع القارئ المهتم في سياق تشارك المعرفة وتطويرها عبر التفاعل مع تجاوب القراء وتعليقاتهم واقتراحاتهم.

 

عن المؤلف: 

علي موسى: محاضر في دائرة الفلسفة والدراسات الثقافية، ومرشح في برنامج الدكتوراه في العلوم الاجتماعية- جامعة بيرزيت. يعدّ أطروحة بعنوان "ذاكرة مكان الطفولة في كتابة الذات الفلسطينية".