من ذاكرة السجن: نهائي كأس العالم بين الأرجنتين وهولندا
التاريخ: 
10/02/2021
المؤلف: 
ملف خاص: 

كنت في سجن الرملة مع عشرات الأسرى السياسيين، وفي قسم يتجاوز فيه عدد الأسرى والسجناء الجنائيين من يهود وعرب ٣٠٠ سجين.[i]  وكانت العلاقات بيننا ما بين فاتره ومتوترة وتأثرت بمعطيات وتطورات الوضع خارج السجن، وكلما نُفذت عملية فدائية ازداد منسوب التوتر الذي وصل في أحيان معينة إلى صدام مباشر.

كان هذا في صيف سنة ١٩٧٨ حين اقترب موعد مباراة نهائي كأس العالم في كرة القدم ببن منتخبي الأرجنتين وهولندا، وكانت قلوبنا مع الأرجنتين، فيما الطرف الآخر كان مع حليفته هولندا. كانت وما زالت بوصلتنا بأن نكون بعكس ما يكونون، فاحتدمت النقاشات بشأن احتمالات الفوز، وفيما اشتد التوتر في السجن طلب السجناء من إدارة السجن السماح لنا بشكل استثنائي بمشاهدة المباراة. وفوجئنا عصر يوم المباراة بوجود مدير السجن في القسم ليعلن للأسرى الجنائيين موافقته على طلبهم، وبما أننا كنا نقيم بينهم في القسم نفسه، فذلك يعني أننا أيضاً نستطيع مشاهدة المباراة. وكلما اقترب الموعد ازداد التوتر والترقب، حتى بدا لي أننا مقبلون على حرب. التأمنا نحن معشر الأسرى السياسيين، واتفقنا على الجلوس في أماكن محددة وأن نكون متجاورين، وأوعزنا إلى البعض منا بالاستعداد لأي طارئ قد يحدث. كانت الأجواء مشحونة ومتوترة للغاية، وكل فريق يتحفّز لتشجيع "فريقه" للفوز المفترض. حان موعد المباراة ودخلنا المكان وفق خطتنا، وأخذنا أماكننا فيما أخذ الطرف الآخر مكانه في الطرف الموازي لنا في المكان نفسه. كان تلفازاً قديماً،عبارة عن صندوق وشاشة مثبتة في مقدمته، ولمعظمنا كانت هذه المرة الأولى التي يشاهد فيها هذا الجهاز (بالأبيض والأسود طبعاً).

بدأت المنازلة وأنظار الجميع متجهة نحو الشاشة، كانت مباراة حماسية وسريعة وسرعان ما سجل فريق الأرجنتين هدفاً بقدمي اللاعب ماريو كامبس على ما أذكر، وانتهى الشوط الأول بهذه النتيجة، وفيما بعد سجل منتخب هولندا هدف التعادل، وهكذا عدنا إلى نقطة البداية، وارتفع منسوب التوتر. ابتدأ الشوط الثاني، وبعد دقائق عاد كامبس وسجل هدفه الثاني لمصلحة الأرجنتين، فعلا الصراخ من طرفنا فيما سكت الطرف الآخر، وما هي إلاّ لحظات حتى عاود كامبس تسجيل هدفه الثالث الذي رسخ النتيجة. ولم نستطع السيطرة على فرحتنا فأطلقنا لها العنان، إذ بدأنا ننشد أناشيدنا الوطنية والتصفيق والصفير والصراخ ابتهاجاً بالفوز، فيما بدأ الطرف الآخر بالانسحاب منكسي الرأس. ولم يغفلنا الابتهاج بالفوز عن استعدادنا واحتياطنا. فجأه علا صوت صراخ أحدهم، وهو جنائي يهودي ليستنجد ويستغيث ويشتم النبي، فيما انهال عليه شبابنا بالضرب المبرح حتى وقع أرضاً. فحضرت للتو قوة السجانين مدججة بالهراوات والغاز المسيل للدموع، وحشرتنا في المكان نفسه وقام أفرادها برش الغاز علينا بعد التأكد من خروج كل الجنائيين، واشتبكنا معهم فأصيب عدد منا ومنهم، وفي اليوم التالي قاموا بنقلنا إلى سجون متعددة. الله يرحم مارادونا.

ذكرى اعتقالي الثاني

في سنة ١٩٩١ كنت مع زوجتي وابنتي أريج التي لم تبلغ السنة والنصف من العمر، وكما في كل يوم أربعاء من الأسبوع، اعتدت الذهاب إلى السوق القروية في قرية شَعَب الجليلية لبيع الأغراض والحاجيات التي دأبت على التجارة بها منذ تحرري من السجن في سنة ١٩٨٥، ضمن صفقة التبادل آنذاك.

استيقظت مبكراً في صباح ذاك اليوم، كان الطقس عاصفاً، وترددت لوهلة في الذهاب، لكن زوجتي شجعتني، وخصوصاً أنها كانت تنوي زيارة أهلها القاطنين في قرية شعب.

حمّلت الأغراض بالسيارة القديمة التي كانت لديّ، وانطلقت وزوجتي وأريج الصغيرة طلباً للرزق، فكما ذكرت عملت في السوق كبائع متجول. وصلنا إلى شعب، وتحديداً إلى الساحة المركزية حيث يتجمع الباعة المتجولون ويعرضون بضاعتهم على الناس.

ركنت سيارتي في المكان المخصص لي في السوق، كان المطر ينهمر بغزارة، والرياح قوية جداً، والبرد شديد. بقينا داخل السياره ننتظر توقف هطول المطر لنتمكن من ترتيب بضاعتنا على بسطتنا. واستمر المطر بالهطول مصحوباً بالبرَد الذي أخرج صوتاً عالياً حين ارتطامه بزجاج السياره الأمامي، ولذلك لم انتبه لصوت الطرق الشديد على زجاج النافذة بجانبي، وفجأه تم فتح الباب بجانبي بقوة، ليقف رجل ملثم قبالتي شاهراً مسدسه باتجاه رأسي. لم أفهم ما يدور من حولي، ونظرت فوجدت رجالأ آخرين ملثمين حول السيارة، وانقض واحد منهم مع الرجل الآخر عليّ بسرعة البرق. كنت أشعر بالبرد الشديد، وهما يمسكان بي وينتزعاني من داخل سيارتي، نظرت حولي  وإذ بسيارات الشرطة تملأ السوق، بينما العشرات من رجالها بالزي الرسمي والمدني يطوّقون المكان. لم أستطع حتى رؤية زوجتي وابنتي الصغيرة اللتين تسمرتا في السيارة، وإن كنت سمعت بكاء أريج، ألقيت نظرة سريعة حولي، كانت السوق خالية من الناس، وقد بقي الباعة المتجولون في سياراتهم. تم سحلي إلى سيارة جيب عسكرية، وبسرعة قيدوا يديّ ورجليّ ووضعوا الكيس على وجهي ورموني في قعر الجيب وانطلقوا مسرعين من المكان حتى وصلوا بي إلى معتقل الجلمة، فقد عرفت أنني هناك بسبب تقديري للوقت وتحسسي لهذا المكان الذي مكثت فيه سابقاً فترة طويلة، ولم ينتهِ هذا المشوار إلاّ بعد سنوات اعتقال إضافية عدت بعدها من وراء الشمس، لأجد أريج قد كبرت، ولم يفارقها هذا المشهد حتى يومنا هذا. الحرية لأسرى الحرية.

الإيثار ونكران الذات

في سجن عسقلان التقيت بالأسير محمود جبارين من أم الفحم. كان  الوضع في السجن متوتراً جداً والعلاقة ببن الأسرى وإدارة السجن مضطربة، وأجواء ما قبل العاصفة والمواجهة طغت على الموقف.

كنت حينها ممثلاً للمعتقل، وقد رفضت إدارة السجن مطالباتنا بتحسين ظروف اعتقالنا، فأعلنا خطوات نضالية محدودة. واستدعاني مدير السجن في محاولة لإقناعي بالدخول في مفاوضات لوقف إجراءاتنا الكفاحية، فرفضت ذلك بشكل مطلق واستمرينا بتحدّينا. كنت في غرفة واحدة مع الأسير محمود أبو حلمي، جلست وإياه نتسامر ونتحدث كعادة الأسرى، حين سمعنا فجأة أصواتاً تقترب من غرفتنا. بدا لنا واضحاً أن أمراً ما قد يحدث وقد كنا في حالة استنفار لمواجهة أي إجراء من إدارة السجن الحاقدة. اقتربت جلبة الأصوات منا. وقفنا جميعاً نترقب الأمر، فرأينا أحد ضباط السجن على الباب يصوب فوهة بندقية الغاز في اتجاهنا. نادى ذلك الصابط باسمي، فانتفضت وكذا أبو حلمي. رأيت البندقية مصوّبة في اتجاهي، وشاهدت وميض قنبلة الغاز. قفز أبو حلمي ووقف أمامي فأصابته القنبلة في صدره، وأغمي على كلينا. استفقنا في عيادة السجن، كانت إصابة أبو حلمي قوية، وهكذا أنقذ حياتي. لك الحرية والمجد رفيقي ولوالدتك الرحمة.

 

[i] في سنوات السبعينيات كانت السجون مختلطة ما بين الأسرى السياسيين من فلسطينيي 48 والسجناء الجنائيين الإسرائيليين.

عن المؤلف: 

منير منصور: أسير سابق ومن قيادات الحركة الأسيرة في حينه. اعتقل عدة مرات، بداية في سنة 1972 وأفرج عنه في صفقة تبادل الأسرى سنة 1985 (صفقة جبريل)، ثم اعتقل في 30/1/1991 لثماني سنوات وأفرج عنه في سنة 1998. رئيس جمعية أنصار السجين المحظورة، ورئيس هيئة الأسرى في الداخل الفلسطيني.