الإضراب المفتوح عن الطعام ركيزة في بلورة الحركة الوطنية الأسيرة
التاريخ: 
11/11/2020
المؤلف: 
ملف خاص: 

في هذه السرديّة، سوف أتطرق إلى أسلوب بارز من أساليب النضال داخل السجون، ألا وهو الإضراب المفتوح عن الطعام الذي شكّل وما زال أحد الركائز الأساسية في بلورة الحركة الوطنية الأسيرة وتطورها، منذ ولادتها، مع احتلال ما تبقّى من أرض فلسطين التاريخية في سنة 1967.

 

أكرم الحلبي، صورة لمشروع تركيبي بعنوان العث في سجن فورتيه برنيسيتنو، روما، ايطاليا، حزيران ٢٠١٠

 

وتجري عملية الإضراب المفتوح عن الطعام أو "معركة الأمعاء الخاوية"، عبر امتناع الأسرى من تناول أيّ مأكولات أو مشروبات بصورة متواصلة وثابتة ولفترة زمنية غير محددة، مع الإبقاء على شرب الماء والقليل من ملح الطعام في حال توفّر لهم ذلك. ويُعتبر الإضراب عن الطعام الملاذ الأخير الذي يلجأ إليه الأسرى في غمرة نضالهم المشروع لصون كرامتهم الإنسانية وانتزاع حقوقهم المشروعة من إدارة سجون الاحتلال. وبناء عليه يبذلون قصارى جهودهم من أجل تحقيق أهدافهم من دون الاضطرار إلى خوض هذه "الخطوة الاستراتيجية"، كما يحلو لهم أن يصفوها في أدبياتهم.

يشرع الأسرى بداية في اتخاذ خطوات احتجاجية "تكتية" تتضمن إرسال رسائل احتجاجية إلى إدارة السجون تطالبها بالامتثال لمطالبهم مروراً باتخاذ إجراءات عملية على الأرض من قبيل إعادة وجبات الطعام المقدمة من الإدارة حتى ثلاثة أيام متواصلة، ومقاطعة عيادة السجن أو رفض استلام الدواء، وارتداء زي السجن في أثناء ساعات النزهة "الفورة" اليومية، وغيرها من الخطوات الاحتجاجية التحذيرية المتغيرة باضطراد والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى الضغط على الإدارة لإرغامها على الإذعان والاستجابة لمطالبهم. وفي حال تعنت الإدارة في رفضها، فإن الخطوة التالية تكون بإقرار الذهاب إلى الإضراب المفتوح عن الطعام، وما يرافق ذلك من تشكيلٍ لخلايا عمل تتوزع للتحضير والإعداد للإضراب، وذلك بإصدار البيانات التعبوية والتحفيزية التي تؤكد حق الأسرى التام في المطالب التي ينادون بها، كما تعمل على صوغ وإعداد النشرات وعقد الجلسات الإرشادية والتوعوية التي تتحدث عن تاريخ الإضرابات في السجون وانتصارات الأسرى والإنجازات التي تم تحقيقها نتيجة نضالهم الدؤوب، بالإضافة إلى إرشاد الأسرى الجدد بشأن كيفية التعامل مع حاجات الإضراب الجسدية قبيل انطلاقه وخلاله ومع انتهائه، وذلك لضمان سلامتهم.

كما يتم الجلوس معهم للتأكد من جاهزيتهم الجسدية والنفسية لخوض معركة الإضراب. وبالروحية نفسها يتم عقد حوارات مع الأسرى المرضى وكبار السن ّممّن يرفضون إعفاءهم من المشاركة في محاولة لثنيهم عن قرارهم هذا، وفي حال إصرارهم على موقفهم بالمشاركة يتم لهم ذلك. كذلك يُمنح كل أسير سبق له أن كسر إضرابه، الفرصة لإعادة اعتباره لذاته وكسب ثقة جماعة الأسرى به مجدداً، وخصوصاً أن كسر الإضراب في مفاهيم الحركة الأسيرة يُعتبر انتهاكاً خطراً لقيم العمل الجماعي المنظم، ويضعف مناعة الأسرى وتماسكهم، وهو ما يرتّب على "الكاسر" انعكاسات سلبية في مجتمع الأسر لا يمحوها إلاّ خوضه الإضراب مجدداً وحتى النهاية.

إن الدعوة إلى الإضراب كما القرار بإنهائه هو قرار حصري لقيادة الأسرى، بينما يبقى قرار المشاركة من عدمها منوطاً بقرار شخصي طوعي لكل أسير، من دون ضغط أو إكراه ويتحمل وحده مسؤوليته. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الأسرى عادة ما يحددون موعد الإضراب بناء على قراءة تحليلية ومواكَبة مستمرة لمعطيات الواقع الموضوعي على مستوى السجون وخارجها، فضلاً عن إدراك عميق لمكامن القوة والضعف في أوساطهم. بينما يظل تاريخ انتهاء الإضراب مفتوحاً ارتباطاً بسياق التطورات المتلاحقة ومدى استجابة إدارة السجون من عدمها لمطالبهم، على الأقل في حدودها الدنيا.

 الجسد يتألم وصوت الإرادة يصدح

مع انطلاق الإضراب، يعاني كثير من الأسرى صداعاً وآلاماً حادة في الرأس والمفاصل، وربما انقباضاً في العضلات كنتيجة طبيعية لامتناعهم المفاجئ عن تناول الأطعمة، ويميل معظمهم إلى النوم ساعات طويلة كلما سمحت لهم الظروف.

وفي الغالب، يرافق الأيام الأولى للإضراب ضغوط شديدة من جانب الإدارة، التي تستنفر جموع سجانيها للتضييق على الأسرى المضربين، والقيام بالمداهمات وبإجراءات التفتيش المتكررة ومصادرة محتويات غرفهم بما فيها مقتنياتهم الشخصية، مبقية لهم ملابسهم التي يرتدونها، وكذلك منشفة وصابونة وفرشاة ومعجون أسنان، وفرشة للنوم من دون غطاء أو وسادة. وفي المقابل يسعى الأسرى لإخفاء وتهريب بعض المقتنيات التي يكون لوجودها معهم دور مفيد في إبان الإضراب: السجائر، وملح الطعام، وساعة يد لمعرفة الوقت، وجهاز راديو لمواكبة آخر التطورات والمستجدات، فيما يواصل السجانون بحثهم المحموم عن أي مقتنيات ومصادرتها.

خلال الإضراب يحاول المضربون تقنين طاقتهم، وذلك بتقليص حركتهم إلى أدنى مستوى ممكن، ويشمل ذلك تقليص وقت الاستحمام، وتجنّب التعرض المتواصل لأشعة الشمس والامتناع عن القفز والركض وحتى النهوض السريع المفاجئ. وفي المقابل تعمد إدارة السجون إلى مضاعفة معاناة الأسرى وإرهاقهم جسدياً بنقلهم ما بين مختلف الغرف داخل القسم وخارجه، علاوة على عزلها قادة الأسرى بهدف نشر البلبلة والفوضى بين المضربين في محاولة لتقويض الإضراب وإفشاله.

أمّا ساعات الإضراب وأيامه الهادئة نسبياً، والتي لا تنغّصها تفتيشات السجانين، فتظل مزيجاً من كل شيء، فعلى الرغم من ثبات آلام الجوع وذبول الأجساد وانخفاض الأوزان المطّرد، يبقى صوت الإرادة يصدح عالياً بالغناء والنشيد، والضحكات على النكات والقفشات، وتجاذب أطراف الحديث بين المضربين، لتجزية الوقت. ويظل حديث الساعة وشاغل اهتمام الجميع وصفات أصناف المأكولات والمشروبات التي يسهب الجميع بحماسة وفرح في شرحها بتعبيرات معجونة بألم الحرمان، ليفاجئك أحدهم وقد صرخ معلناً اعتذاره الحار لوالدته أو زوجته عما سببه لها من معاناة جراء تمنّعه غير مرة من تناول بعض المأكولات التي كانت تعدها له، متعهداً أمام كل من يسمعه أن يُقبل على كل طعام يقدم له بعد انتهاء الإضراب بشهية ومن دون أي اعتراض.

واعتباراً من صباح اليوم الرابع للإضراب تشرع الإدارة بمراقبة ضغط الدم ونبض القلب والتغير في وزن الأسرى المضربين. ومع مطلع الأسبوع الثالث تعمل على توزيع المدعّمات من أملاح معدنيّة على المضربين. وفي كثير من الحالات استغلت قيادة الإضراب هذه الفحوصات والمدعمات للضغط على الإدارة من أجل تحسين شروط الواقع، كإرغامها على السماح للمضربين بالخروج اليومي إلى الفورة في مقابل استئناف الفحوص وأخذ المدعمات. وفي بعض الحالات تتخذ قيادة الإضراب خطوات تكتية أُخرى لرفع وتيرة الضغط على إدارة السجون مثل الامتناع من شرب الماء، وعادة ما يكون الهدف من خطوة كهذه حسم المعركة بعد أن طال أمد الإضراب. ولا يكون هناك أي تعليق أو إنهاء للإضراب إلاّ بقرار حصري تتخذه قيادة الإضراب وتعمل على تعميمه بنفسها على الأسرى المضربين كافة.

وسجّل تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة عشرات الإضرابات الجماعية كان أولها في سجن نابلس مطلع سنة 1968 واستمر مدة ثلاثة أيام، بينما كان آخرها في نيسان/أبريل 2017 واستمر 42 يوماً. كذلك شهد العقد الأخير ولادة الإضرابات الفردية التي نفذها أسرى إداريون رفضاً لاعتقالهم المخالف للقانون الدولي الإنساني، أطلقها الشيخ خضر عدنان في نهاية سنة 2011. وها نحن اليوم نشهد رحاها في صمود أسطوري يسطره الأسير ماهر الأخرس منذ أكثر من ثلاثة شهور.

لتظل بطولات معارك الأمعاء الخاوية وحكاياتها المؤلمة والطريفة تسكن الذاكرة، وتتناقلها الألسن، بين من عاشوها بالأمس ومن لا زالوا يصنعون حكاياها حتى اللحظة.

وتبقى تضحيات شهداء معارك الأمعاء الخاوية الأبطال: عبد القادر أبو الفحم، وراسم حلاوة، وعلي الجعفري، وإسحق مراغة، وأنيس دولة، ومحمود فريتخ وحسين عبيدات، شاهداً حياً على نضالات الحركة الأسيرة ورفض الأسرى السياسيين الانصياع لحكم الأمر الواقع أو التسليم به.

عن المؤلف: 

مجد عبد الرحيم بربر، أسير مقدسي معتقل منذ 30 آذار/مارس 2001، أصدرت محكمة الاحتلال بحقه حكماً بالسجن مدة عشرين عاماً. وهو متزوج وأب لشابّ وشابّة، وحين اختطفته قوات الاحتلال كان عمر ابنته زينة 15 يوماً، وكان ابنه منتصر يبلغ عاماً ونصف العام. يُعتبر الأسير مجد بربر من الوجوه القيادية والثقافية في الحركة الأسيرة، وقد حاز شهادتي البكالوريوس والماجستير في العلوم السياسية.