همسات طفولة: يقتلك الحزن ولا تستطيع إلاّ الحياة
التاريخ: 
04/11/2020
ملف خاص: 

 (في الثامن والعشرين من تموز/يوليو 2003 جرى اعتقال رائد الشافعي وهو في الثامنة والعشرين من عمره، متزوج وأب لطفلتين وطفل – دنيا ورانية وفراس الذي كان رضيعاً.

في سنة 2005 وبفارق سبعة أشهر لقيت الطفلتان دنيا ورانية مصرعهما الأولى في انقلاب سيارة عمها وعلى متنها أولاد الحارة، والثانية في حادث دهس بجانب البيت. كلاهما توفيتا على مرآى الوالدة.

وقع هول الخبر الأول، ثمّ هول الخبر الثاني على الأسير رائد المحكوم من جانب الاحتلال مدى الحياة، وقد حرمه هذا الاحتلال حتى إلقاء نظرتي وداع على طفلتيه.

نترك المساحة لكلمات الأسير رائد الشافعي لتحكي أشجانه وهو يصغي إلى همسات طفولتيهما ويحاورهما من زنزانته ويسعى للتعبير عن بعض ذلك.)

 

شفيق رضوان، على الركام، ٢٠٠٥  

 

همسات طفولة

أتسجى وحيداً مضرّجاً بأحزاني فوق حسامِ أسطري وضوضاء أوراقي ...

ألتقط آخر التنهيدات وأُلملم أُولى الدمعات، أرتحل من المكان إلى اللا-مكان، وأبحث عن ذكرى تأبى السير على عقارب اللحظات تطارد فيها فراشتان تلتحفان نسائمَ حقل الريحان وتعانقان نبضات قلبي كل صباح تهمسان برفق: صباح الخير بابا نحن مغادرتان إلى دنيا الأمان ..

هنالك ننسج دمعاً تساقط من أعين الغزلان كي تعلما أنتَ وأَمُنا أين نحن مزروعتان. اسألا عنا شهود العيان، نحن بانتظاركما، وحين يغافلكما النعاس اقتفيا أثر جسدين يتعانقان.

أنتما مدعوّان إلى العويل في حفل عروستين تحوم فيه سحابة غربان، فتجدا قطعتي ثلج لا تذوبان، ولا ترتعش ولا تجف أقواس قزح سبقتكما معلنة الفرح في الزمان والمكان. اليوم موعد قطاف براعم السنديان وما ستخلف من ابتسامات، تركنا لكما حقيبتين، واحدة ترقد فيها كراسة تحكي ما كان، والأُخرى كسرة خبز كي تقتاتا، علّها تشد أزركما لحمل قارورة ماء لغسل حماقة قدر لا يأخذ آلامنا في الحسبان، مخلفاً وراءه تصدّعاً في دقائق العمر فتسدل العتمة ستائرها على جريمة نثرت أوراق زمبقتين ...

أي قدر هذا يا أبتاه؟ لماذا لم تخبرنا عنه يوماً حين أخذنا من طراوة كتفيك مجلساً لنا بإنتظار حكاية ما قبل آخر الغفوات؟ أية حضارة هذه التي تقضي على غصنين يانعين نبتا على أهداب ثوبِك يا أماه!؟

سنمضي آخر عطلتنا المدرسية لنقيم في محراب قدرنا البغيض بعيداً عن بني الإنسان، هناك سنخلد بعد أن نحط آخر حروف قصتنا الوردية على شواطئ عبثية دنياكم، فحين تتكسر على أعتابها أمواجنا الراقصة في عمق البحر تحتضن في خلجاتها قنديلاً يضيء لنا مدينة مشيدة بسرب حمام، هناك نبني لكما بيتاً في كبد الجنان ونحمل لكما مرسوماً كتبته العتمة والناس نيام، عفواً فقد تعاهدنا أن نحلق بعيداً عن جنح الظلام، نلتمس عذركما فلم نكن نعلم هول رحيلنا دون استئذان، هذة المرة الأولى التي لم نقوَ فيها على إطلاق صرخة تمتزج بدمعة خوف على بقايا طفولتنا، بل تركنا للريح أحذيتنا الصغيرة تطارد السحابة، تقود براءتنا حيث قُليب تغمره واحة نخيل، إليك أبي أطراف تفاؤلنا الصغيرة تنمو من شقوق التراب تصفع كبرياء إنسانيتنا فهل من مجيب؟!

تصرخ بأعلى جراح صمتها بلا مغيث، تتلاشى على وَجْنَتي القمر دمعتان تَشَبُّثاً بجذع شجرة متآكلة. حين مر الخريف مسرعاً على أعواد أغصاننا الطرية لم يتركنا لمعانقة الربيع والالتحاف بخبرته، أخبرونا ما السبيل براحتين طريتين تمسكان بعجلات العمر أملا ً بإيقافه على ناصية حياة أي مشاعر معصوبة القلب تخلّف وراءها ذكرياتنا، وتروي أحلامنا على قارعة أيامنا المهدورة في مقتبل العمر. سحقاً لعبثية اللحظات تمر علينا مقتلعة من الجوف أحاديث الصغار مع زميلات الطهارة، كيف تمر النسمات على حقلٍ سبقتنا إليه أفواج الجراد؟

بعد طراوة الطفولة لم يعد مكان لقطرات الندى توقظ السنابل كل صباح، كم من القلوب انفطرت باقية حين انطلقنا لنتخذ من خيوط الشمس أرجوحة تداعب حنين آخر اللحظات، وكم من الشفاه تصدعت وكم من المياه تجمدت في وديانها! لم يعد للشجن أغصان تجالس شدو العصافير، ولم يعد للقمر وجه يضيء درب الحالمين، حتى الشمس تجمّدت حرارتها ولم يبقَ مكانٌ نتفيّأ فيه من حرقتها، هكذا تجلى الوجه الآخر للمدعوة حياة، فأي وجه هذا !!

وهل من وجوه أُخرى بعد اندثار الفرح، وبعد أن تغطى السرور بحلكة اللا-عودة  !!!

عن المؤلف: 

الأسير رائد الشافعي: 45 عاماً من طولكرم، يمضي في السجن عامه الثامن عشر. أصدرت محكمة الاحتلال بحقه حكماً بالسجن المؤبد، وبعد استئناف الشافعي ومحاميه صدر حكم بالسجن مدة ثلاثين عاماً. اعتقل في سنة 2003 بعد مطاردات لسنتين وتعرض للتعذيب الجسدي الاحتلالي بشكل مفرط. وقد تابع دراسته الجامعية في السجن فحاز على البكالوريوس ثم الماجستير في العلوم السياسية.