موت بيروت وقيامتها
النص الكامل: 

 أتيت إلى بيروت وسكنت فيها منذ سنة ١٩٩٩، قادماً من باريس حيث كنت أتابع دراستي الجامعية. عشرون عاما عشت المدينة وعاشت فيَّ؛ تزوجت فيها وأسست عائلة؛ عملت وكتبت في صحفها وصورت أفلامي أو أنتجتها في إستوديوهاتها؛ أنشأت صداقات وحظيت بعداوات؛ بنيت حياة عادية وراكمت ذكريات؛ رأيت كيف تحيا المدينة وتموت، وتموت وتحيا عشرات المرات. حتى كان انفجار بيروت.

عندما التقيت في بيروت لأول مرة بمَن ستصبح زوجتي، سونيا، الآتية من برلين والمقيمة في بيروت، عرّفت عن نفسها قائلة: "أنا بيروتية"!

للوهلة الأولى استغربت جوابها، لكنني سرعان ما قبلت معها أن الانتماء إلى المدن لا يحتاج إلى أوراق ثبوتية أو جوازات سفر، ولا إلى أختام رسمية أو شهادات ميلاد.

كنت ولا أزال أغبطها على سهولة هذا التماهي وسلاسة هذا الانتماء. أنا من جهتي وبعد عشرين عاماً أمضيتها في بيروت، لم أستطع يوماً أن أقول عن نفسي أنني "بيروتي". ربما كان السبب هو تفهمي وتعاضدي مع حساسية كثير من الأصدقاء اللبنانيين من شبهة الوصاية والهيمنة والابتلاع التي كثيراً ما ميزت أبواق النظام السوري بشأن لبنان. وربما كان السبب، أنني كنت ولا أزال مسكوناً بمدينتي الأم دمشق؛ بعلاقة تكاد تكون "أوديبية"، إلى درجة أن لهجتي كثيراً ما خانتني وأحرجتني أمام أصدقائي اللبنانيين، فتلتبس عليّ المدن وتحيلني كلها إلى الشام، وأفاجىء نفسي ومن حولي كلما ولّيت وجهي شطر بيروت بالقول أنني: "نازل ع الشام" أو "رايح ع الشام". حتى عندما أكون في زيارة لدمشق كانت تلتبس عليّ الأمكنة والأزمنة، فأقول وأنا عائد أدراجي إلى بيروت: "أنا نازل على الشام."

المسافة التي تفصل بيروت عن دمشق لا تزيد على ١٢٠ كيلومتراً، لكن بيروت تدير ظهرها لدمشق مثلما تديره لمدن الداخل كافة.

كذلك هي حال المدينة مع بحرها، وربما تكون بيروت المدينة الساحلية الوحيدة في العالم التي تدير ظهرها بهذا العناد والإصرار لبحرها، بحيث لا تكاد تشعر بالبحر ولا تراه في شوارعها وفضاءاتها العامة. حتى كورنيشها البحري يبدو مقتطعاً منها وعنها، وقائماً بذاته ولذاته إلى جوار البحر.

بيروت أيضاً باتت تدير ظهرها لوسطها التجاري، بعد أن انتشرت فيه المربعات الأمنية، وفشل مشروع إعادة الإعمار، ووُئدت السياحة والتجارة لمصلحة إبقائهما حكراً على طبقة السياسيين وأزلامهم.

تعيش بيروت المتمنعة أوهام المدينة المكتفية بذاتها ولذاتها، لكنها في الآن نفسه تكاد تكون أكثر المدن اللبنانية تلبنناً، وأكثر المدن العربية عروبة، وأكثر مدن المشرق شرقية، وأكثر مدن المتوسط متوسطية. إنها في الوقت نفسه اجتماع قرى وطوائف ومدن وبحار وبلاد ولغات وتمثّلات تتعايش وتتصارع كلها في المدينة نفسها، وداخل التسمية نفسها التي هي "بيروت"، من دون أن يمتلك أحد لغز هذه المدينة ولا حتى مفاتيحها.

وصلت إلى بيروت في نهاية التسعينيات، قبل أشهر قليلة من وفاة الرئيس السوري حافظ الأسد، وكانت الهيمنة السورية على لبنان في أوجها، والتوريث والصراع على السلطة في سورية يتكشف مخاضهما ومفاعيلهما في بيروت أكثر منه في دمشق. ومع ذلك، فإن الساحة اللبنانية كانت قد بدأت تشهد تحركات سياسية وثقافية متنامية ضد الوصاية السورية في لبنان، وذلك مع وصول الجنرال إميل لحود إلى سدة الرئاسة بدعم من بشار الأسد الذي تم تسليمه ملف العلاقات السورية - اللبنانية.

يومها كانت الصحافة اللبنانية الورقية لا تزال فاعلة ووازنة سياسياً وثقافياً على الرغم من وطأة القبضة الأمنية السورية، وكانت صفحات الرأي والصفحات الثقافية والمجلات والدوريات تعكس حيوية الإبداعات الفنية والنقاشات الفكرية والسياسية التي تدور في أرجاء المدينة.

أمّا ما كان يفوت الإنسان من أخبار وحوارات على صفحات الجرائد، فكان يستدركه في الطريق مشياً بين مبنيَي جريدتَي "السفير" و"النهار"، أو في محاضرات الجامعة الأميركية، أو في مقاهي الحمرا وحاناتها، أو في فضاءات المدينة الثقافية ودور نشرها ومعارضها ومسارحها كمسرح المدينة ومسرح بيروت. كان قلب بيروت الثقافي في منطقة رأس بيروت لا يزال وقتها ينبض بين شارعَي الحمرا وبلس.

في بداية سنة ٢٠٠٠ باشرتُ الكتابة الدورية في ملحق "النهار"، وبصحبة الياس خوري وسمير قصير عرفت كيف تكون الثقافة والصحافة أعلى كعباً من السياسة والسياسيين، وأمضى عزيمة من جبروت المستبدين وبطش النظام الأمني السوري اللبناني الذي كان يُطبق بخناقه على سورية ولبنان.

فتح "الملحق" صفحاته للأقلام السورية المعارضة، وتبعه في ذلك العديد من الصحف اللبنانية، وبات الإنترنت كفيلاً بإيصال هذه المقالات إلى القارىء السوري قبل اللبناني، وبدأت بشائر ربيع دمشق وبياناته ومقالات كتّابه وكاتباته ونصوص المداخلات التي أُلقيت في منتدياته، تُنشر تباعاً في صحف بيروت، قبل أن تلتف عائدة إلى دمشق من خلال الشبكة العنقودية. فبيان الـ ٩٩ الذي شكل باكورة الربيع الدمشقي، وجُمعت تواقيعه الـ ٩٩ في الداخل السوري، ظهر إلى العلن في بيروت لا في دمشق، وتصدّر الصفحات الأولى لجرائدها وتناقلته وكالات أنبائها.

كان يكفي أن يكتب أمثال أنطون مقدسي ورياض الترك من داخل دمشق رفضاً للتوريث، وينشروا مقالاتهم في الصحف اللبنانية متحدّين مملكة الصمت وهيبة الوريث وسلطته، حتى يرتفع سقف الكلام المعارض عالياً، ويتشجع كثيرون وكثيرات في سورية ولبنان ليدلوا بدلوهم في هذا السياق. وعندما سحب الأمن العام اللبناني جواز سفر سمير قصير وقّع المثقفون السوريون بياناً تضامنياً معه، كما وقّعوا بياناً آخر ضد التمديد للرئيس اللبناني إميل لحود.

في أيلول / سبتمبر ٢٠٠١ اعتُقل رياض الترك في دمشق، لكن بيروت الثقافية سمحت بعد عدة أيام من هذا الاعتقال، لفيلمي الوثائقي الأول "ابن العم" أن يُعرض ضمن فاعليات مهرجان أيلول / سبتمبر، وأن يظهر رياض الترك بالصوت والصورة على شاشة "مسرح بيروت"، بينما هو حبيس زنزانات بشار الأسد. أذكر وقتها كيف اعتذرت السيدة نضال الأشقر مديرة "مسرح المدينة" عن العرض المبرمج أساساً للفيلم على مسرحها وأغلقت أبواب المسرح في وجهنا، وكيف وافق روجيه عساف من دون تردد على طلب الياس خوري أن يفتح "مسرح بيروت" لعرض الفيلم على الرغم من تهديدات الأمن العام. يومها كنت أسأل نفسي ماذا يمكن أن يفعل فيلم بسيط مثل فيلمي في زحمة الفنون التجريبية والتجهيز والفن المفهومي، والتي كانت سائدة في الحقل الفني في بيروت، لكنني أدركت أن المنطلق والأساس لنجاح أي عمل فني وتأثيره هو أن يكون ابن زمانه ومكانه، لا ابن أسواق الفنون المعولمة.

بعدها بأشهر، وعند تقاطع شارعَي الحمرا وعبد العزيز في مقابل مقهى الويمبي ومقهى المودكا، على بعد مئات الأمتار من مقر الاستخبارات السورية في رأس بيروت، اعتصمت مجموعة من الناشطين والناشطات اليساريين برفقة سهى بشارة حاملين اللافتات للمطالبة بالإفراج عن رياض الترك وعن بقية المعتقلين السياسيين في سورية.

كانت بيروت المدينة والثقافة تتدخل في شؤون دمشق السلطة والهيمنة، بكل ما لهذا التدخل من حساسية ودقة ومخاطر.

غير أن هذا التضامن وهذه الوقفات والأفعال الجريئة في مواجهة النظام الأمني السوري - اللبناني المشترك، ما لبثت أن تراجعت في الأعوام التالية بعد أن أطل الموت برأسه وبدأت أعمال العنف والتفجير والاغتيالات، وذلك بالتزامن مع غزو العراق وسقوط بغداد والانقضاض على ربيع دمشق وصولاً إلى اغتيال الحريري.

كان سمير قصير أنبل الأقلام الصحافية في المدينة وأكثرها جرأة وتحدياً للمنظومة الأمنية التي كانت تدير البلدين، وقد أصاب اغتياله الثقافة وأهلها في مقتل، بحيث بات هذا الوسط الثقافي والصحافي مكشوفاً بالكامل أمام آلة القتل والترهيب.

أمّا التضامن الذي أظهره اللبنانيون فيما بينهم في مواجهة العدوان الإسرائيلي في سنة ٢٠٠٦، فسرعان ما سينقلب إلى تنابذ وطغيان لفئة على الأُخرى. ولم يكن يكفي أن يموت سميرنا، بل كان لا بد من تلقين هذه المدينة العصية والمتنوعة درساً في الطاعة، إذ جرى في ٧ أيار / مايو ٢٠٠٨ استباحة أحياء بيروت، ومحاولة اقتحام المناطق الجبلية حيث نفوذ جنبلاط، وبعض المناطق في صيدا، وقد جُرح وقُتل قرابة ١٠٠ إنسان بريء من دون أن يتم توقيف أحد أو تقديمه إلى المحاكمة.

كان ٧ أيار / مايو يوماً فاصلاً في تاريخ منطقة رأس بيروت، إذ انعدم الأمن والأمان، وغادرها كل مَن كان يخشى بطش حزب الله وحلفائه في اتجاه المناطق الشرقية لبيروت، وافتتحت جريدة "الأخبار" الموالية لحزب الله مكاتبها في قلب الحمرا وأصبحت البوق الإعلامي الأعلى صوتاً فيما يسمى "ثقافة الممانعة"، في الوقت الذي تسارعت وتيرة تآكل الفضاءات الثقافية المستقلة وإغلاق المقاهي والمسارح وإقفال الصحف ودور النشر وصالات العرض.

مع اندلاع الثورة السورية في سنة ٢٠١١، شكلت بيروت محطة إجبارية للناشطين والناشطات السوريين والفاعلين الثقافيين الهاربين من بطش النظام السوري. وساعد وصول هذا الجيل الجديد، في ضخ نسغ الحياة وأسئلة الربيع العربي في شرايين المدينة، وهو الذي أتى إليها حاملاً هموماً سياسية وثقافية وجندرية وممارسات فنية وموسيقية وبصرية تبتعد عن مقولة "الفن للفن" التي راجت في بعض الأوساط الفنية والثقافية في بيروت، ولا ترتبط بالممارسات الثقافية والأشكال الأدبية مثل الشعر والرواية والمقالات الأدبية والفكرية التي خبرتها بيروت الثقافة العربية في الستينيات والسبعينيات عندما احتضنت كثيراً من الفاعلين الثقافيين العرب.

سرعان ما سيختلط هؤلاء السوريون والسوريات، ويتفاعلون مع أقرانهم من الشباب اللبناني الذين يحملون الهموم نفسها ويلتقون معهم في الممارسات الفنية والبصرية والثقافية. فمن موسيقى الراب إلى الفيديو آرت والتجهيز، إلى المسرح التجريبي، إلى الأفلام الوثائقية التي تحمل رؤية المؤلف وذاتيته، إلى الكتابة البديلة.

وستشكل أحياء الجميزة ومار مخايل والجعيتاوي وصولاً إلى الدورة وفرن الشباك، بشوارعها الضيقة وفضاءاتها الثقافية البديلة وحاناتها ومقاهيها وبيوتها القديمة وشققها التي يتقاسمون غرفها وإيجارها، حاضنة فنية واجتماعية وإنسانية لهم جميعاً، بعد أن باتت منطقة رأس بيروت عصية عليهم، إمّا لغلاء الإيجارات فيها، وإمّا لسيطرة الميليشيات الموالية لحزب الله والنظام السوري عليها.

مع ذلك، سيلقن هذا الجيل الشاب السوري اللبناني، في قلب رأس بيروت في الجامعة الأميركية، درسَين لديناصورَين من ديناصورات الشعر والموسيقى في العالم العربي، هما أدونيس وزياد الرحباني بسبب مواقفهما الملتبسة من الثورة السورية ومن جرائم النظام السوري ضد شعبه. فعندما دُعيا إلى الجامعة في فترتَين متعاقبتين للقاء الطلاب، لم يتوقع لا أدونيس ولا زياد الرحباني، أن يتجرأ الطلاب ويعرّوا أمام الحضور التباس مواقفهما السياسية والإنسانية تجاه ما يحدث في سورية.

لقد ظن معظم أفراد الجيل الفني السوري الشاب في البداية أن بيروت هي محطة موقتة في انتظار عودتهم إلى سورية الحرة، لكنهم سرعان ما اكتشفوا أن رحلتهم هذه ستطول، وأن لبنان بسبب قيود الإقامة والعمل التعجيزية والعنصرية المنفلتة من عقالها ليس المكان الأمثل لهم للعيش الكريم والعمل المبدع، فغادره معظم مَن سنحت له الفرصة للتوجه إلى أوروبا وبرلين تحديداً، في رحلة لجوء طويلة بلا عودة قريبة. وهكذا خسرت الحياة الثقافية في بيروت مواهب شابة كان في إمكانها أن تضخّ طاقات هائلة في شرايين المدينة الثقافية.

أمّا مَن بقي منهم، فانخرط مع أقرانه من الشباب اللبناني في الممارسات الفنية والثقافية البديلة من دون قيود أو حدود، وعندما أطلت ثورة ١٧ تشرين الأول / أكتوبر، كانوا جزءاً لا يتجزأ منها، ليس فقط لأنها ذكّرتهم بثورتهم المغدورة، بل لأن مطالبتها بدولة القانون والمحاسبة والمساواة هي مطالبهم، وأحلامها في الحرية والكرامة هي أحلامهم، وساحات وفضاءات مدينة بيروت الثائرة، أو ما تبقّى منها، هي ساحاتهم وفضاءاتهم وأماكن عيشهم.

وأتى انفجار بيروت! ليعيد لكثيرين منهم صدمة انفجار دمشق وحلب وحمص، وليذكّرنا بأننا كلنا في الانفجار شرق...

وأتى انفجار بيروت! لأكتشف أنني في هذا الانفجار الكبير "بيروتي"، لكنني "عائد إلى الشام".

 

السيرة الشخصية: 

محمد علي الأتاسي: كاتب ومخرج سوري.