الصمود الفلسطيني اليومي يواجه عنف المستوطنين في مناطق "ج": قرية قصرة (حالة دراسية)
التاريخ: 
20/07/2020
المؤلف: 

تأتي أهمية المناطق المصنفة "ج" من كونها تشكل نحو 60% من مساحة الضفة الغربية ويسكنها نحو 300.000 فلسطيني.[1]  بالإضافة إلى تحولها في السنوات الأخيرة إلى ساحة رئيسية للصراع بين آليات السيطرة الاستعمارية والاستيطانية على الأرض والموارد الطبيعية من جهة، وبين آلاف الفلسطينيين الذين أضحى استمرار وجودهم على الأرض، على الرغم من العنف الكولونيالي في هذه المناطق، عائقاً جوهرياً في وجه مخططات التوسع الاستيطاني، ولا سيما مشاريع الضم الأخيرة. وبهذا تصبح هذه المناطق وما يحدث فيها من توسع استيطاني وممارسات قمعية ذات أهمية جوهرية للقضية الفلسطينية ومستقبل الصراع مع المستعمِر الصهيوني. فتحولت هذه المناطق التي كان من المفترض أن تنتقل سيادتها في مراحل لاحقة، من اتفاقية أوسلو إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، إلى حيز يتم فيه فرض الاستيطان كأمر واقع على الأرض وخنق السكان بهدف ترحيلهم من خلال إجراءات رسمية من الجيش الإسرائيلي، أو غير رسمية من خلال المستوطنين.

وبذلك أصبحت القرى الفلسطينية المصنفة أراضيها أو أجزاء منها هدفاً للتوسع الاستيطاني، بحيث تحولت إلى معازل فرضتها تقسيمات الحيز المكاني، بحسب اتفاق أوسلو. وهو ما تزامن مع حالة من التهميش ونقص الخدمات المقدمة من السلطة الفلسطينية والمؤسسات الدولية إلى هذه المناطق، على الرغم من الاهتمام النسبي الذي باتت هذه الجهات توليه للمناطق "ج" في السنوات الأخيرة. وفي ظل ضعف الاهتمام بآلاف الفلسطينيين الذين يعيشون في الأطراف، بعيداً عن النخب ومراكز صنع القرار، تحاول هذه الورقة التركيز على الواقع اليومي للقرى الفلسطينية المهمشة، الخاضعة معظم أراضيها في مناطق "ج". وتشكل قرية قصرة الواقعة جنوبي شرق مدينة نابلس حالة دراسية لفهم ديناميات التفاعل اليومي بين المستعمِر والمستعمَر في الأطراف، من خلال تحليل آليات الصمود التي يمارسها أهالي القرية في وجه الاستيطان الصهيوني. وتجادل الورقة في أن تعرّض أهالي قرية مهمشة مثل قصرة لخطر جماعي يهدد وجودهم كاعتداءات المستوطنين، ساهم في إعادة إنتاج مفهوم الصمود بمعناه المرتبط بالبقاء على الأرض والنضال الجماعي على الصعيد اليومي وعدم تطبيع العنف الكولونيالي. كما يساهم تشابك علاقات القوة وغياب رؤية وطنية للتحرر، ولتفكيك البنية الاستعمارية، في بقاء التضحيات والممارسات اليومية المقاومة في التجمعات الفلسطينية المفككة أفعالاً موقتة وغير ممنهجة، تأتي في إطار ردات فعل لآليات السيطرة الاستعمارية. وهنا تأتي ضرورة الوقوف بشكل تحليلي على تفصيلات حياة آلاف الفلسطينيين اليومية في المناطق الريفية المهمشة، وتحديداَ الآليات التي يتبعها السكان في مواجهة المخططات الاستيطانية للسيطرة على الأرض وعنف المستوطنين.

لعل المطّلع على الأدبيات التي تتناول حياة الفلسطينيين اليومية عقب اتفاقية أوسلو(حمامي 2005؛ حمامي 2015؛ حمامي 2010؛ حنيطي 2013؛ تراكي (محرر) 2008)، يلاحظ أن قضايا رئيسية تسيطر على يوميات الفلسطينيين في أطراف الضفة الغربية كاعتداءات المستوطنين، تكاد تكون مغيبة عن التحليل المعمق والنقد الأكاديمي لانعكاسات هذا الواقع على شكل حياة الفلسطينيين، ولآليات المواجهة مع المستعمِر الصهيوني.كما لا تتطرق إلى ذلك أدبيات أُخرى تتناول واقع الحيز المكاني للضفة الغربية، بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، وتداعيات اتفاق أوسلو على التشرذم الجغرافي للمدن والقرى الفلسطينية، والانعكاسات السلبية لذلك على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للفلسطينيين (فيلدز 2010؛ فلاح 2005؛ وايزمان 2017؛ نابلسي 2017؛ بابه 2016؛ صوافطة 2015؛ الجعبة 2012). وبذلك، ستحاول الورقة سد الفجوة المتعلقة بالحديث عن فاعلية الفلسطينيين في أطراف الضفة الغربية من خلال الحديث عن أساليب مواجهتهم اليومية لآليات السيطرة الاستعمارية، ولأشكال فهمهم لقضايا الصمود والنضال الجماعي. وتعتمد الورقة منهج دراسة الحالة، بحيث تم جمع البيانات من خلال زيارات ميدانية لقرية قصرة وإجراء مقابلات رسمية وغير رسمية مع فئات متعددة من القرية. كما تعتمد الورقة على عدد من التقارير التلفزيونية والإخبارية التي تناولت مشاكل القرية وغيرها من تقارير المؤسسات الحقوقية. وتتكون من ثلاثة محاور رئيسية: الصمود كمفهوم متغير في حياة الفلسطينيين؛ قرية قصرة بين التهميش والاستيطان؛ النضال الجماعي وإحياء القيم التطوعية؛ المقاومة المكانية وإعادة الارتباط بالأرض.

الصمود كمفهوم متغير في حياة الفلسطينيين

يُعتبر مفهوم الصمود من المفاهيم غير المحددة وصعبة التعريف في السياق الفلسطيني، وذلك للدلالات المتعددة التي حملها المفهوم عبر الزمن، وهو ما جعل رسم مسار واضح لتطور المفهوم أمراً معقداً (ريجكي وتيفلين، 2014، ص 90). لذلك، يُعتبر الصمود فعلاً متعدد الأوجه والارتباطات التاريخية، فهو مظلة واسعة شملت على مدار التاريخ البقاء على الأرض، والفعل المقاوم بمختلف أشكاله، والممارسة اليومية في ظل استعمار استيطاني. وهو مفهوم بدأ، كما تشير ليلى فرسخ، منذ نهاية الثمانينيات من القرن العشرين، بالارتباط بخطاب بناء الدولة الفلسطينية الذي تبنته منظمة التحرير الفلسطينية (فرسخ، 2016، ص 59).ومنذ أوسلو، ارتبط المفهوم بالتصور الفلسطيني في الحياة اليومية للمستعمِر، إذ سادت حالة من تطبيع العنف الكولونيالي كجزء من الحياة اليومية الطبيعية للفلسطينيين (تماري، 2013). وهو ما تشير إليه ريما حمامي على أنه نتيجة تحوّل في مفهوم الصمود والصراع الجماعي،بحيث لم يعد مرتبطاً بالبقاء على الأرض بصورة أساسية، وإنما بالمضي في الحياة اليومية خلال الانتفاضة الثانية. فغدت الفضاءات العامة مساحة لفاعلية الفلسطيني من خلال تكتيكاته لمواجهة العنف الكولونيالي المُعاش يومياً. وهو ما تعزوه حمامي إلى الدور الذي يؤديه التعرض لعقاب جماعي في خلق"تجربة جماعية ونشاط ومعنىً"، تدفع معظم السكان إلى مواجهة الاحتلال كفرد من المجتمع، كما هي الحال على الحواجز العسكرية (حمامي 2005، ص 103).وهنا، الورقة تبني على افتراض مفاده أن الصمود فعل مقاوم يختلف باختلاف الأوضاع وآليات السيطرة الاستعمارية. ففي حالة كحالة أطراف الضفة الغربية التي بقيت الأرض المحور الرئيسي للصراع اليومي بين المستعمِر والمستعمَر، استمر ارتباط مفهوم الصمود بالبقاء على الأرض. ومن جهة أُخرى، أدى التعرض المستمر لاعتداءات المستوطنين إلى مزاوجة بين الجمود والحركة، ببروز أشكال متعددة من الصمود، تجمع بين البقاء على الأرض والتحرك اليومي لصد اعتداءات المستوطنين اليومية.وعلى الرغم من تراجع الارتباط الجماعي للفلسطينيين بالأرض على مدار عقود متلاحقة، إلّا إن أشكالاً من النضال الجماعي والمقاومةالمكانية[2]  ما زالت جزءاً من الحياة اليومية للفلسطينيين في الأطراف.

ويبقى استمرار وجود الشعب المستعمَر على الأرض، وإن ضعُف ارتباطه بها، وعدم تمكن المستعمِر من التخلص منه لهو دليل على عدم إحكامه سيطرته عليه بالكامل. وبذلك يتوسع مفهوم الصمود اليوم ليشمل ما تسميه نورهان أبو جدي "إنتاج معرفة مضادة انعكست في ممارسات تكيّف اجتماعي تهدف إلى المحافظة على البقاء"، بحيث تمكن الفلسطينيون من "التسلل عبر منظومة التحكم، بحسب نوع المنظومة التي يواجهها الفرد، سواء كانت حاجز تفتيش أو جدار الفصل العنصري أو أي نوع آخر." (أبو جدي، 2010، ص 254-255). لكن في الوقت نفسه، فإن بقاء آليات مقاومة السيطرة الاستعمارية بمختلف أشكالها ضمن إطار العمل الموقت والمشتت يزيد من قدرة المستعمِر على هزيمتها والسيطرة عليها من خلال تطوير آليات سيطرة جديدة (طبر والعزة، 2014، ص 13). ولفحص مفهوم الصمود وتداخله في مختلف علاقات القوة في الأطراف، تركز الورقة على تتبّع آليات الصمود اليوميالتي يتبعها الفلسطينيون في مناطق "ج" المهمشة والمستباحة من المستوطنين، على صعيدين، وهما: اعتداءات المستوطنين ومصادرة الأراضي.

قرية قصرة: بين التهميش والاستيطان

تُشابه قرية قصرة نظيراتها من القرى في ريف جنوبي نابلس الذي يعاني جرّاء تفشي الاستيطان والتهميش، فهي قرية يقع نصف أراضيها، بحسب اتفاق أوسلو، ضمن مناطق "ج"، في حين يقع النصف الآخر من القرية في مناطق "ب". و يشير تقرير مؤسسة بتسيلم الإسرائيلية بعنوان "إخلاء- بناء- استغلال: طرائق إسرائيل في السيطرة على الحيز القروي" إلى أن تقسيم الأراضي وفق اتفاق أوسلو إلى تصنيفات متعددة، أسس بنية تحتية إدارية لفصل الأغلبية العظمى من الأراضي الزراعية ومناطق الرعي التابعة للقرى الفلسطينية في محافظة نابلس عن المساحات المبنية داخل القرى نفسها (بتسيلم، 2016). هذه الحالة من الفصل ترافقت مع الاعتداءات المستمرة للمستوطنين على سكان القرى الفلسطينية وسبل عيشهم. وهو ما أدى إلى انهيار اقتصادي في المناطق الريفية المهمشة، وفرض تبعية اقتصادية للاحتلال الإسرائيلي عليها، وانعدام الأمن الاقتصادي والغذائي والاجتماعي (المرجع السابق).

وفي سياق متصل، أعلنت الهيئة الفلسطينية لمقاومة الاستيطان مؤخراً قرى جنوبي نابلس "مناطق منكوبة"، حيث ارتفع عدد المستوطنين هناك إلى أكثر من ثلاثين ألف مستوطن موزعين على أكثر من ثلاثين مستوطنة.[3]  وتواجه هذه القرى الفلسطينية تشابُك علاقات القوة وتشعبها، فبالإضافة إلى آليات السيطرة الاستعمارية على الحيز من خلال العنف الكولونيالي بمختلف أشكاله، تبرز حالة التهميش التي تعانيها هذه القرى نتيجة انفصالها عن المدن، حيث تركز السلطة الفلسطينية نشاطها وخدماتها منذ أوسلو. فقرية مثل قصرة يسكنها الآن ما يزيد عن 5000 فلسطيني، لم تحصل على شبكة مياه تغطي حاجاتها، إلّا في سنة 2014، أي بعد عشرين عاماً على قيام السلطة الفلسطينية. هذا بالإضافة إلى ضعف الخدمات الصحية وغيرها من مقومات الحياة الرئيسية التي تفتقر إليها القرية حتى يومنا هذا. بالإضافة إلى محاولات ضرب الاحتلال الصهيوني الخدمات الرئيسية كما حدث عندما تم هدم شبكة الكهرباء الرئيسية في القرية بحجة عدم الترخيص.وظلت قصرة كغيرها من مناطق "ج" تعاني جرّاء امتناع الاحتلال الصهيوني من منحها تراخيص للبناء والخدمات، إلّا بعد المصادقة على المخطط الهيكلي للقرية، وهو ما لم يتحقق إلّا في سنة 2018، إذ تمت المصادقة على المخطط الهيكلي للقرية الذي يشمل مساحة 3381 دونماً من مساحة القرية الكلية البالغة 8887 دونماً. في حين تشكل الأراضي الصالحة للزراعة نحو 5000 دونم من المساحة الكلية، والتي تقع أغلبيتها في مناطق "ج". وتشكل المناطق المصنفة "ج" 50% من أراضي القرية كلها، حيث تتركز فيها الأراضي الزراعية والأراضي المصادرة التي أُقيمت عليها مستوطنات صهيونية.[4]

وقد تمت مصادرة مساحة واسعة من أراضي القرية لإقامة مستوطنة مجداليم في الثمانينيات من القرن العشرين، بالإضافة إلى إقامة بؤرتين استيطانيتين لاحقا،ً يعتدي سكانهما على الفلسطينيين باستمرار، وهما إيش كودش وإحيا. علاوة على ذلك، يستمر التوسع الاستيطاني في مصادرة مزيد من الأراضي بهدف شق طرق التفافية لتسهيل حركة المستوطنين، وإقامة أبراج مراقبة وحواجز عسكرية على مدخل القرية منذ الانتفاضة الثانية (أريج، 2014). ويشير مركز المعلومات الوطني الفلسطيني إلى أن مستوطنة مجداليم (تعني بالعبرية الأبراج)، قد أُقيمت على أراضي قرى وبلدات: قصرة، وجوريش، ومجدل بني فاضل، حيث تولت مهمة إقامتها حركة "غوش إيمونيم"[5]  الصهيونية، من خلال الاستيلاء في البداية على 116 دونماً من أراضي القرى الثلاث. كما سيطرت المستوطنة منذ إقامتها على مداخل القرى الفلسطينية المجاورة، بالإضافة إلى سيطرتها على الشارع المؤدي من نابلس إلى الأغوار، وهو خط تجاري حيوي.وتبلغ المساحة الكلية للمستوطنة لغاية السياج الذي يحيط بها نحو 135 دونماً، بينما بلغت مساحة مسطح البناء فيها نحو 54 دونماً، ومساحة النفوذ الأمني للمستوطنة نحو 1062 دونماً لغاية سنة 2014. وتعمل المستوطنة باستمرار على التمدد بالتدريج؛ وتشير التقارير إلى أن عدد سكانها بلغ حتى نهاية سنة 2012 نحو 147 مستوطناً.[6]

أمّا بالنسبة إلى البؤر الاستيطانية الآخذة بالتوسع على أرض قرية قصرة، يشير عبد العظيم وادي[7]  إلى أنها تسللت إلى القرية من خلال قرية جالود المجاورة، عازياً ذلك إلى قلة عدد سكان هذه القرية في مقابل المساحة الواسعة من الأراضي غير المستغَلة، ويقول وادي:

"قرية جالود المجاورة لا يتجاوز عدد سكانها 600 نسمة ولكنها من أكبر قرى نابلس من حيث المساحة. فأصبح تنفيذ المستوطنين اعتداءات على أراضي جالود سهلاً جداً في ظل قلة عدد السكان وعدم قدرتهم على إثبات ملكية الأراضي. فقام المستوطنون بالاستيلاء على تلك المساحات وزراعتها بالعنب وسرقة المياه، كما تمت إقامة كرفانات خاصة بهم وحرق المحاصيل الزراعية للمزارعين الفلسطينيين في الأراضي المجاورة وقتل الأغنام والثروة الحيوانية."

ويشير السكان إلى أن البؤر الاستيطانية[8]  المقامة على أراضي القرية والقرى المجاورة لا يسكنها عدد كبير من المستوطنين، لكنهم يشكلون خطراً يومياً يؤرق سكان المنطقة. فعدد العائلات في بؤرة "إيش كودش" (التي تعني نار كودش، وهو أحد قتلى التفجيرات الفدائية في تل أبيب) لا يتعدى 22 عائلة، كذلك هي الحال في بؤرة "إحيا" التي يقدر عدد سكانها بـ20عائلة. في حين أن بؤرة " كيدا" هي من أكبر البؤر الاستيطانية في ريف نابلس، والتي تتوسع حالياً في اتجاه تحولّها إلى مستوطنة من حيث البناء وعدد السكان. وهو ما ترافق مع حملات دعائية كبيرة وبأسعار مغرية لتشجيع الإسرائيليين على الانتقال للسكن في مستوطنات الضفة الغربية.

ويشير إيال وايزمان في كتابه “أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي" إلى الحالة التي يعيشها الريف الفلسطيني منذ أوسلو، إذ تحولت أراضي الفلسطينيين في ريف الضفة الغربية إلى أهداف لجغرافيا متخيلة للمستوطنين، محاولين خلق صلة بين التضاريس والنص المقدس. فأصبحت تلال القرى الفلسطينية هدفاً يحقق المشهد التوراتي المتخيل من جهة، ويعزز السيطرة التي يريدها الجيش والدولة الإسرائيلية من جهة أُخرى (وايزمان، 2017، ص209)، وهو ما تزامن مع حالة من التشظي السياسي والاجتماعي في داخل المجتمع الفلسطيني (المرجع السابق، ص 243).

في المقابل، الوضع مختلف بالنسبة إلى الفلسطينيين الساكنين أسفل التلال، فالقرية باتت مكاناً يقل فيه الارتباط بالأرض محل الصراع. وذلك في ظل تغيرات بنيوية أصابت مجتمع القرية، عبر عقود متلاحقة. إذ بدأت جدياً الحقبة العثمانية وقوانين تسليع الأراضي، وما تبعها لاحقاً من تحويل الفلاحين إلى عمال في السوق الإسرائيلية، تحديداً بعد سنة 1967، وصولاً إلى تهميش القطاع الزراعي والمناطق الريفية في عهد السلطة الوطنية الفلسطينية (الرفاعي وياسر، 2016، ص 44-45). وعن ضعف ارتباط شباب قرية قصرة بالأرض، تقول السيدة أم يحيى التي هدم الاحتلال منزلها في سنة 1996 بحجة عدم الترخيص:

"إن الشباب باتوا يسمّون مستوطنات الأغوار ‹جامعة الغور المفتوحة› حيث تفتح أبوابها للشباب الصغير للعمل بدلاً من توجههم إلى الجامعات، العمل في الزراعة لم يعد مجدياً اليوم ومعظم أراضينا مصادَرة والوصول إليها مخاطرة يمكن أن تكلف الشخص حياته."[9]

وفي هذا السياق، أصبح الفلاح الذي جرى فصله تاريخياً عن أرضه في صراع على البقاء مع المستوطنات التي تتسع يوماً بعد يوم على أرضه، ويعتدي مستوطنوها عليه بهدف ترحيله. ويتزامن هذا مع  تبعية اقتصادية ونسبة عمالة عالية في المستوطنات[10]  وترهُّل الموقف السياسي الرسمي المتمثل في حالة الإفقار والنقص الحاد في الخدمات ومقومات الحياة الأساسية. وشكّل تدمير القطاع الزراعي أحد أبرز ملامح التهميش التي شهدها الريف الفلسطيني، والذي بدأ قبل أوسلو بفعل آليات السيطرة الاستعمارية على الأرض والموارد الطبيعية والاقتصاد الفلسطيني، وتكرّس لاحقاً من خلال ضعف ميزانيات القطاع الزراعي، سواء من جانب السلطة الفلسطينية أو المؤسسات الدولية (حمدان، 2011، ص 37).

وتساعدنا هذه الإطلالة على واقع قرية قصرة على محاولة فهم الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي لا يمكننا فصلها عن السياق الثقافي والسياسي وطبيعة العلاقة مع المستعمِر. فيمكن القول إن أوضاع التهميش، والتوسع المطّرد للمستوطنات، وعنف المستوطنين اليومي تجاه السكان، قد ساهم في إعادة فهم الفاعلية الفلسطينية لآليات الصمود والمواجهة مع المستعمِر. وستحاول المحاور التالية الوقوف بشكل تحليلي على ديناميات التفاعل اليومي بين المستعمِر والمستعمَر في قرية قصرة.

نضال جماعي وإحياء القيم التطوعية

تتشابك علاقات القوة داخل حدود القرية مع السياق الأوسع، المتمثل في تراتبيات مكانية واجتماعية خلّفتها أوسلو على المجتمع الفلسطيني برمته، ومع مستعمِر يواصل العمل على "إنهاك المستعمَر وتحطيمه" (فرانتز فانون، 2018، ص 20). لكن تبقى الأمكنة، كما تصفها ليزا تراكي، نتاج فاعلية الناس، وهي التي تصبغ هوية المكان، سواء من خلال الفعل الجماعي أو الممارسات الفردية والعائلية (تراكي، 2010، ص 19). وهو ما تبرره تراكي باحتمال اندثار الأماكن أو تشظيها بفعل الأحداث العاصفة كالحروب والاحتلال، محذرة من إعطاء التاريخ، على الرغم من أهميته، فاعلية مبالَغ فيها، "فلا وجود لمكان ‹صنعته› أو‹أنتجته› أحداث تاريخية." (المرجع السابق).

ويمكن القول إن ما يميز قرية صغيرة كقصرة من نظيراتها، هي تلك الفاعلية التي تتراوح بين ممارسات فردية وأُخرى جماعية. فقصرة من أوائل القرى التي بدأت بتشكيل لجان حراسة ليلية ضد هجمات المستوطنين المتزايدة منذ الانتفاضة الثانية. ولطالما، كما تشير تراكي، كان للمقاومة الجماعية دور مهم في بناء الأمكنة في فلسطين، مشيرة إلى رمزية مخيم جنين للاجئين، على سبيل المثال، كأيقونة للمقاومة في الانتفاضة الثانية (المرجع السابق، ص 20). فيمكن أن يكون لفعل مقاوم تم بصورة عفوية وجماهيرية، تمثل في احتجاز أهالي قصرة مجموعة مستوطنين اقتحموا القرية قبل أن يهب جيش الاحتلال لإنقاذهم، دور في ترسيخ صورة قصرة كمكان لتحدي المستوطنين في مخيلة القرى المحيطة. كذلك هو الأثر الذي قد يتركه خبر صحفي، تناقلته الشبكات الإخبارية المحلية ومواقع التواصل الاجتماعي بكثافة، بعنوان "قصرة تنتزع قراراً بإلغاء مصادرة إحدى أراضيها."[11]

وكما يقول فرانتز فانون "إن ‹الشيء› المستعمَر يصبح إنساناً بمقدار ما يحقق من عمل لتحرير ذاته" (فانون، 2018، ص 12). فتغدو فكرة شعبية لتشكيل لجان حراسة ليلية غير مسلحة، وبإمكانات محدودة، فاعلة في الحد من هجمات المستوطنين، وفي تحويل الفلسطيني من "كائن مستباح"[12]  مسلوب الإرادة والحقوق، إلى إنسان فاعل في سبيل تحرّره. ويفسر أحد المشاركين في هذه اللجان، أن انخراطه في مثل هذا العمل التطوعي جاء نتيجة خطر حقيقي كان يهدد أمن عائلته التي تسكن على تخوم بؤرة إيش كودش الاستيطانية. بالإضافة إلى حرق أشجار الزيتون وإعدام المواشي الخاصة به، وهو ما تم الحد منه عندما شعر المستوطنون بوجود رادع.[13]

هو إذاً الشعور بالتهديد الجماعي الذي ساهم في استنهاض الذاكرة الجماعية الفلسطينية المزدحمة بصور من النضال الجماعي، المتمثلة تحديداً في فكرة اللجان الشعبية التي كانت فاعلة في الانتفاضة الأولى.وهو ما يؤكد أن علاقات القوة المتشابكة التي خضع لها الفلسطينيون منذ اتفاقية أوسلو وما حملته من نشر لنمط حياة نيوليبرالي، لم تهيمن بالكامل على الوعي الفلسطيني في الأطراف. وهو ما يبدو جلياً في إعادة إحياء فكرة العمل التطوعي والنضال الجماعي في وجه المستعمِر، وإن غابت عنها الهياكل التنظيمية، كالأحزاب والنقابات، كما هي الحال في الانتفاضة الأولى. وهي الهيكليات التي تراها ليندا طبر ذات دور محوري في "تحويل المقاومة الجماعية العفوية إلى ممارسة ونضال يومي في سبيل التحرر" (طبر، 2013، ص 241). لكن مجرد بروزها على السطح من جديد في الحياة اليومية للفلسطينيين في المناطق المهمشة، قد يكون مؤشراً إلى أن مجتمع القرية المهمشة الذي يواجه خطراً جماعياً لم تتفتت أواصره بالكامل، وبقيت النزعة الجماعية جزءاً من الحياة اليومية. وهو ما انعكس ضمنياً على فهم معين لمفهوم الصمود على مستوى مجتمع القرية، يتعلق بالتصدي لعنف المستوطنين، كحدث يومي، ضمن إطار جماعي.

وعن الآلية التي تعمل وفقها هذه اللجان، يشير أحد النشطاء[14]  في القرية إلى أنها شُكلت عفوياً، وكانت فكرتها تقوم في البداية على انتشار شبان القرية في مواقع التماس لمراقبة تحركات المستوطنين، وخصوصاً في أثناء الليل. ثم تطورت بعد حادثة حجز أهالي القرية ستة عشر مستوطناً هاجموا القرية في سنة 2011، إلى شكل أكثر تنظيماً، فيتم التنسيق مع القرى المجاورة التي بدأت تُشكَّل فيها لجان مشابهة، حيث ازداد خوف السكان بعد هذه الحادثة من ازدياد الاعتداءات الانتقامية، فتم جمع الزيت المحروق والإطارات من القرى المجاورة، واختيار تلة عالية في القرية تتيح لمن يقف عليها حصر جميع التحركات في المنطقة واعتمادها كنقطة مراقبة. فيقوم الشبان المتطوعون بإشعال النيران لإشعار المستوطنين بوجودهم، وللتدفئة من البرد القارس، واعتمدت اللجان على الزاد الذي يوفره أهل القرية لهم. لاحقاً، تم إنشاء غرفة مجهزة في الموقع (بدعم من البلدية) شكلت فيما بعد مزاراً لكل الوفود التضامنية والمؤسسات التي ترغب في الاطلاع على واقع الاستيطان في المنطقة. واعتمدت اللجان على الهواتف الخلوية كوسيلة للتبليغ وحشد الناس، عند رؤيتها مجموعات المستوطنين تقترب من القرية، بالتوازي مع الحشد، من خلال ربط الغرفة بسماعات المسجد وشبكات التواصل الاجتماعي. وتؤدي سماعة المسجد دوراً مهماً في حشد الناس للتصدي للمستوطنين، وخصوصاً إذا كان الاعتداء خلال النهار.

ويعزو أهالي القرية نجاح فكرة اللجان الشعبية إلى أنها نبعت من حاجة الناس، وأنها كانت عفوية وتطوعية. إلّا إنه في ظل التهميش ونقص الدعم السياسي لمثل هذه الحراكات المقاوِمة، واجهت الفكرة معوقات كثيرة حاول أهل القرية التكيف معها. فالشباب المتطوعون في اللجان، هم في الأغلب موظفون وطلاب جامعات لا يمكنهم السهر باستمرار، أو الحضور خلال النهار، هذا بالإضافة إلى تعرّض بعضهم للاعتقال والتضييق من الاحتلال. وهو ما دفع أهالي القرية إلى تطوير الفكرة، بحيث تخفف العبء عن مجموعة معينة لتشمل مجتمع القرية بأكمله. فراعي الأغنام والمزارعون في أرضهم وأي فرد في القرية هو مراقِب، يقوم بالتبليغ عند رؤية خطر قادم في اتجاه القرية. وفي الليل بقيت لجان الحراسة تعمل، لكن بأقل كثافة وأكثر حذراً مما كانت عليه في بدايات الفكرة. وهو ما يمكن اعتباره نوعاً من محاولة التكيف مع واقع تبدو فيه فرص المقاومة المباشرة والعلنية معقدة. ففي النهاية هذه القرية إمكاناتها محدودة والمستوطنون مجهزون بأحدث الأسلحة، وتنتهي القضية بالنسبة إليهم، كالعادة، بإغلاقها في القضاء الإسرائيلي ضد مجهول، أمّا بالنسبة إلى ابن القرية، فقد تكلفه حياته.

المقاومة المكانية[15]  وإعادة الارتباط بالأرض

يقع الفلسطينيون الذين يملكون أراضي في النصف الآخر من القرية، وهي المناطق المصنفة "ج"، بين مطرقة القوانين الإسرائيلية المتغيرة باستمرار وعنف المستوطنين. إذ ازدادت في السنوات الأخيرة أوامر الهدم ومصادرة الأراضي في القرية، وبلغ مجموع القضايا التي تتم متابعتها في القضاء الإسرائيلي نحو 90 قضية.[16]  وهي من الآليات التي يستخدمهاالاحتلال الصهيوني لإحكام سيطرته على الحيز المكاني للضفة الغربية منذ أوسلو. وذلك من خلال تقسيمها الى "جيوب/جزر" تتمثل في المستوطنات الإسرائيلية المعزولة عن محيطها الذي لا تنتمي إليه، وإلى "معازل" تتمثل في المدن والقرى الفلسطينية المحاصَرة والمعزولة عن محيطها، على الرغم من انتمائها إليه (نورهان أبو جدي، 2010، ص 233). وبذلك تم تدعيم الوجود الإسرائيلي في قلب الحيز المكاني الفلسطيني، والذي أخذ بالتوسع ببطء وبقوة ضمن البيئة العمرانية الفلسطينية، وتعزز بواسطة إحاطته بشبكة من الطرق الالتفافية وشبكات عسكرية إسرائيلية للمراقبة والتحكم. فأفرزت هذه الحالة المكانية واقعاً جغرافياً جديداً تم فيه تحويل المجتمعات الفلسطينية في الأراضي المحتلة إلى " معازل عائمة" تبدو غريبة في محيطها الطبيعي (المرجع السابق، ص 234).

وفي مواجهة هذه المخططات الصهيونية التي يدعمها القانون الإسرائيلي، من خلال منع سكان القرية من الوصول إلى أراضيهم وحرمانهم من البناء فيها، برزت محاولات محلية متعددة لتحدّي هذه المنظومة، تهدف إلى حماية الأرض.وتتراوح المبادرات بين عمليات استصلاح أراض زراعية وبناء غرف زراعية في الأراضي المصنفة "ج" داخل حدود القرية، وبين ممارسات فردية وشعبية تتعلق بزراعة الأراضي البور وتسييجها. وهنا بقي قانون المستعمِر المتمثل في مؤسسته القضائية، أحد أبرز الوسائل التي يستخدمها المشروع الصهيوني لإضفاء صبغة شرعية وقانونية على استلابه المستمر للأرض. وكما يشير رازي نابلسي، فإن المساحة بين ما هو قانوني وغير قانوني بالنسبة إلى الإسرائيليين، هي مساحة ضبابية يتلاعب فيها الاستعمار الاستيطاني ليبرر تصرفاته أمام القانون الدولي ويفرض وقائع على الأرض. فالبؤرة التي تبدأ بصورة غير قانونية تتحول مع الوقت إلى مستوطنة شرعية (رازي نابلسي، 2017، ص 16)، وهو ما يدفع المستوطنين الإسرائيليين إلى اختيار الجبال القريبة من سكن الفلسطينيين، وذلك بهدف السيطرة على الجبال الواقعة بعدها ضمناً. وفي منطقة كقصرة تُعد شفاغورية يصبح الأمر مغرياً للمستعمِر الصهيوني لتضييق الحيز المتاح أمام الفلسطينيين.

وتبدي أم يحيى خيبة أملها بالمشاريع "التنموية" التي تستهدف البلد ولا تؤدي إلى تعزيز صمود حقيقي للمواطنين، إذ إن المشاريع محدودة وغير مستدامة.ومن جهة أُخرى، يرى وادي أن المشاريع التي استهدفت الأرض، على الرغم من محدوديتها، إلّا إنها جددت “الحياة في أطراف القرية"، حيث سهلت وصول المزارعين إلى أراضيهم، الأمر الذي شجعهم على الوجود فيها. وعن تلك المشاريع يقول وادي إن تنفيذها جاء من خلال محاولاتهم التشبيك مع مختلف المؤسسات المحلية والمجموعات التضامنية الدولية، في حين كان جزء بسيط منها بالشراكة مع وزارة الزراعة. ويضيف قائلاً:

"إن هذه المؤسسات تنبهت لموضوع الأرض واستلابها من المستوطنين متأخراً، إذ كان أول مشروع استصلاح أراض استطعنا الحصول عليه في سنة 2015. لكن على المستوى الشعبي، فإن المواطنين كانوا يذهبون إلى الأراضي في المناطق "ج" بالوسائل التقليدية، بحيث خضعت الأرض سنوات لمبدأ مَن يسبق يملك. فالأرض التي تُترك من دون عناية يضع الاحتلال يده عليها ويصادرها، في حين يصعب عليه ذلك في الأرض التي تشهد عمليات زراعة ووجود للفلسطينيين فيها. فأصبحنا نقوم بحملات تنظيف لأراض يهملها أصحابها في محاولة لمنع مصادرتها، فيأتي أصحابها يسألوننا ماذا نفعل في أرضهم، فنقول لهم هذه أرضكم جاهزة للزراعة الآن لا تتركوها للمستوطنين. فالأراضي البور يصورها الاحتلال من الجو سنوياً في شهر أيلول، عندما تكون الأرض خالية من المحاصيل. فالبقوليات تُزرع عادة في شهر نيسان وأيار، والمحصول الرئيسي كالقمح والشعير يتم حصاده في شهر حزيران، فمن الطبيعي أن تكون الأرض في شهر تموز وآب جرداء. هذا بالإضافة إلى أننا ندع الأرض ترتاح أحياناً، وهو ما يعرفه المحتل ويستغله. فيستمر هذا التتبع للأرض على مدار ثلاث سنوات، ثم يتم إعلانها أراضي دولة، فيحق حينها لأي مواطن إسرائيلي استئجارها من الدولة، وبذلك يفقد الفلسطيني ملكيتها."

ويبقى بعض القرارات الفردية لأشخاص معينين، كما أشرنا في السابق، قادراً على صناعة المكان وتفصيلاته وتاريخه، كما هي الحال مع الشهيد محمود عودة الذي استشهد على أرضه في قرية قصرة برصاص مستوطن في سنة 2017. وكما توضح التقارير الصحفية التي أُعدت عن الحادثة، فبالإضافة إلى ما رواه أهل القرية، كان قد اشترى مساحة واسعة من الأرض المطلة على غور الأردن وعمل على زراعتها والبقاء فيها باستمرار. لكن الأرض تقع في منطقة حساسة بين المستوطنات، وهو ما جعلها منطقة حيوية بالنسبة إلى المستوطنين، إذ تقع ضمن مشروع لربط مستوطنة مجداليم بمستوطنة شيلو. ولم تنتهِ الحكاية بقتله، إذ تواجه عائلته قرارات بمصادرة أجزاء من الأرض، وتخوض اليوم صراعاً على الأرض في أروقة المحاكم الإسرائيلية التي تنفي ملكية الشهيد لها.

الخاتمة

لقد حاولت هذه الورقة الإضاءة على واقع الحياة اليومية لآلاف الفلسطينيين في قرية قصرة كنموذج للمناطق المهمشة الواقعة ضمن مناطق "ج"، والتي غدت مستباحة من الاحتلال الصهيوني ومستوطنيه. وركزت الورقة على الممارسات اليومية للفلسطينيين في مواجهة اعتداءات المستوطنين ومصادرة الأراضي باعتبارها أفعالاً سياسية تعبّر عن فاعلية أصحابها، على الرغم من ضعف الهياكل التنظيمية الفاعلة منذ أوسلو وغياب رؤية شاملة للتحرر. ومن خلال عرض تشابك علاقات القوة التي تسيطر على تفصيلات حياة الفلسطينيين في أطراف الضفة الغربية، أولت الورقة الواقع الاستيطاني داخل حدود قرية قصرة وتزامنه مع حالة من التهميش ونقص الخدمات الرئيسية انتباهاً.كما سلطت الضوء على ضعف المشاريع التنموية التي تقدمها المؤسسات الدولية إلى المناطق "ج"، وتغافلها عن الخطر الاستيطاني الذي يهدد الوجود الفلسطيني برمته هناك.

وعلى الرغم من الوعي بهذا الواقع وأبعاده السلبية بشأن علاقة السكان بالأرض، إلّا إن الورقة حاولت التركيز على نماذج من الممارسات اليومية للفلسطينيين في قرية قصرة، الهادفة إلى إعادة الارتباط بالمكان باعتباره جوهر الصراع. هذا بالإضافة إلى الدعوة إلى إعادة التفكير في بعض الأحداث التي تتكرر على مسامعنا يومياً، كإحراق المستوطنين سيارة ومسجداً وبيتاَ ومزرعة في القرى الفلسطينية، بعيداً عن صورة الفلسطيني كضحية مسلوبة الإرادة. وبعيداً عن المنهجية الكمية والأحصائية التي تتعامل المؤسسات الرسمية وفقها مع اعتداءات المستوطنين، فتوثيق أصوات الفلسطينيين وتفصيلات فاعليتهم، بعيداً عن اعتبارهم مجرد ضحايا، قد يساعد في استعادة وعي مقاوم للبنية الاستعمارية التي تفرز عنف المستوطنين. كما يمكن لهذا التوثيق أن يساعدنا على فهم كيف يرى الفلسطينيون مفهوم الصمود بصورة مختلفة، بحسب آليات السيطرة التي يواجهونها. ويمكن الاستنتاج أن بُعد قرية قصرة عن مركز رأس المال والخدمات، وعجز السلطة الفلسطينية عن توفير أدنى حماية للسكان من اعتداءات المستوطنين، واستلاب الأرض المتواصل، ساعد في إعادة إنتاج مفهوم الصمود، بحيث يجمع بين التمسك بالأرض والتحرك الجماعي اليومي ضد عنف المستوطنين. فتشكلت لجان حراسة ليلية لصد هجمات المستوطنين بطريقة عفوية وتطوعية، وظهرت مجموعة من الممارسات المكانية الفردية والجماعية المدركة لأهمية البقاء في الأرض لحمايتها. فظهر بذلك تحولاً نسبياً في مفهوم الفلسطينيين لقضايا الصمود على المستوى الشعبي عمّا كان سائداً في الانتفاضة الثانية من تطبيع للعنف الكولونيالي. وتدعونا هذه القراءة لنماذج المقاومة الشعبية غير المنظمة في أطراف الضفة الغربية إلى التفكير في ضرورة إعادة الاعتبار إلى هذه النضالات حتى لا تبقى محاولات فردية ضعيفة الأثر. كما يفتح الباب لنقد الكثير من المشاريع والخطط التنموية التي تحمل شعار "تعزيز صمود الفلسطينيين"، وتعطي الأولوية لمناطق "ج"، وهي لا تواجه الخطر الأكبر، وهو الاستعمار الاستيطاني الذي يعمل على اقتلاع السكان من أرضهم. ويعيدنا إلى الحديث عن النضال الجماعي وإعادة الارتباط بالأرض كرافعة لأي مواجهة مع المستعمِر الذي بات الفلسطينيون في الريف المهمش يخوضون معه معركة بقاء. فالتشظيات التي حدثت على الهوية والمخيلة السياسية الفلسطينية، انعكست على مفهوم الفلسطينيين لقضايا الصمود والمقاومة. ففي الوقت الذي ارتبطت هذه المفاهيم في السابق بنموذج التحرر من الاستعمار، باتت فيه بعد قيام السلطة الفلسطينية مقاومات فردية أو محلية تبحث عن انتصارات صغيرة هنا وهناك. وانتقل الفلسطينيون من الحديث عن سبل التحرر من الاستعمار الصهيوني، إلى الحديث عن المقاومة اليومية ومواجهة صعوبات الحياة في ظل الاحتلال.

 

* قدمت الباحثة صيغة من هذه الورقة في مؤتمر مؤسسة الدراسات الفلسطينية السنوي تحت عنوان " واقع ومستقبل منطقة ج والأغوار"، والذي عُقد في جامعة بيرزيت وجمعية الشبان المسيحية في أريحا في 2 و 3 و 4 تشرين الثاني/نوفمبر، 2018.

 

قائمة المراجع

باللغة الإنكليزية

  • Braverman, Irus (2009). “Uprooting Identities: The Regulation of Olive Trees in the Occupied West Bank.” Political and Legal Anthropology Review, vol. 32, no. 2, pp. 237-264.http://www.jstor.org/stable/24497464 (Accessed July 2, 2018).
  • Bshara,Khaldoun (2015). “Rural Urbanization: the Commodification of Land in Post-Oslo Palestine.” In Reclaiming Space, Edited by Khaldoun Bshara & Souad Ramallah: Riwaq.
  • Byman, Daniel, Natan Sachs (2012). “The Rise of Settler Terrorism: The West Bank’s Other Violent Extremists.” Foreign Affairs, vol.91, no.5, pp. 73-86. http://www.jstor.org/stable/41720862  (Accessed June 29, 2018).
  • El- Rifai, Yasid, Yaser, Dima (2016). Urbanization & Exclusion as Tools of Transitional Rural Formation: the Cases of Anata & Birzeit. Birzeit: Center for Development Studies.
  • Falah, Ghazi-Walid (2005). “The Geopolitics of ‘Enclavisation’ and the Demise of a Two-State Solution to the Israeli- Palestinian Conflict.” Third World Quarterly, vol. 26, no.8, pp. 1341-1372. http://www.jstor.org/stable/4017718 (Accessed July 2, 2018).
  • Farsakh, Leila (2013). “Palestinian Economic Development: Paradigm Shifts since the First Intifada.” Journal of Palestine Studies, vol.xlv, no. 2, pp. 55-71.
  • Hamdan, Ayat (2011). Foreign Aid and the Molding of the Palestinian Space. Ramallah: Bisan Center for Research and Development.
  • Hammami, Rema (2015). “On (not) Suffering at the Checkpoint; Palestinian Narrative Strategies of Surviving Israel’s Carceral Geography.” Borderlands e-journal, vol. 14, no.1, pp. 1-17.
  • ------ (2010). “Qalandiya: Jerusalem’s Tora Bora and the Frontiers of Global Inequality.” Jerusalem Quarterly, vol. 41, pp. 29-51.
  • Ram, Moriel, Le Vine,Mark (2012).“The Village Against the Settlement: Two Generations of Conflict in the Nablus Region.” In Struggle and Survival in Palestine / Israel, Edited by Mark Levine and Gershon Berkely: University of California Press.
  • Rijke, Alexandra, Teeffelen, Toine Van (2014). “To Exist is to Resist: Sumud, Heroism, and the Everyday.” Jerusalem Quarterly pp. 86-99.
  • Tamari, Salim (2013). “Normalcy and Violence: the Yearning for the Ordinary in Discourse of the Palestinian – Israeli Conflict.” Journal of Palestine Studies, vol. 42, no.4, pp. 48-60. http://www.jstor.org/stable/10.1525/jps.2013.42.4.48 (Accessed July 10, 2018).

 

باللغة العربية

  • أبو جدي، نورهان (2010). "حالات الاستثناء في الفضاءات الفلسطينية وديناميات الصمود للتدمير الممنهج للمكان: نابلس كدراسة حالة".في: "حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي". ساري حنفي (تحرير). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 229-266.
  • أزولاي، أريئيلا،، أوفير، عدي (2012). "نظام العنف". في: "سلطة الإقصاء الشامل". ساري حنفي و آخرون (تحرير). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ص 123- 178.
  • أغامبين، جورجيو (2015). "حالة الاستثناء". ترجمة ناصر إسماعيل. القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر.
  • الجعبة، نظمي (2012). "الاستيطان الكولونيالي في الضفة الغربية والقدس: قراءة في أبعاد وأشكال السيطرة على الأرض"."مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 91، ص 59-83.
  • المالكي، مجدي، حسن لدادوة (2018). "تحولات المجتمع الفلسطيني منذ سنة 1984: جدلية الفقدان وتحديات البقاء". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
  • ----- (2016). "إخلاء – بناء – استغلال: طرائق إسرائيل في الاستيلاء على الحيّز القروي الفلسطيني". مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم). https://www.btselem.org/arabic/publications/summaries/201612_expel_and_exploit
  • تراكي، ليزا (2010). "رام الله – البيرة: مجتمعات وهويات". في: "أمكنة صغيرة وقضايا كبيرة". رلى أبو دحو و آخرون. بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ص 11-40.
  • ------ (2008)."الحياة تحت الاحتلال في الضفة والقطاع: الحراك الاجتماعي والكفاح من أجل البقاء". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
  • حمامي، ريما (2005). "حكاية حاجز تفتيش في زمن الاحتلال"."مجلة الدراسات الفلسطينية"، مجلد 16، العدد 63، ص 102-112.
  • ----- (2014). "دليل قرية قصرة". القدس: معهد الأبحاث التطبيقية (أريج).
  • ديميري، ندى (2010). "فن المقاومة اللاعنفية". في: "حالة الاستثناء والمقاومة في الوطن العربي". ساري حنفي(تحرير). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية. ص 267-294.
  • صوافطة (تحرير). "سياسات إسرائيل الاستيطانية وأثرها على اقتصاد الأغوار الشمالية". رسالة ماجستير. جامعة بيرزيت.
  • طبر، ليندا (2013). "الدروس المستفادة من الانتفاضة الأولى و قوة الشعب". في: "نحو اقتصاد سياسي للتحرر". ليندا طبر و آخرون. بيرزيت: مركز دراسات التنمية. ص 223- 257.
  • ------ العزة، علاء (2014). "المقاومة الشعبية الفلسطينية تحت الاحتلال: قراءة نقدية وتحليلية". بيروت : مؤسسة الدراسات

الفلسطينية.

  • فانون، فرانتز (2018). "معذبو الأرض". ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي. عمّان: الأهلية للنشر والتوزيع.
  • نابلسي، رازي (2017). "الصهيونية و الاستيطان: استراتيجيات السيطرة على الأرض و إنتاج المعازل". البيرة: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية (مسارات).
  • وايزمان، إيال (2017). "أرض جوفاء: الهندسة المعمارية للاحتلال الإسرائيلي". ترجمة باسل وطفة. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.

 

تقارير إخبارية مصورة وحلقات تلفزيونية

- "قصرة" ( 16/7/2012). شبكة نهاوند.

https://www.youtube.com/watch?v=wosS303QaQQ

- "قرية قصرة مشكلة المياه" (14/11/2016). فضائية القدس التعليمية.

https://www.youtube.com/watch?v=vrvct9yoUIA

- " الاعتداء على مسجد النورين في قرية قصرة" (6/9/2011). فضائية فلسطين اليوم.

https://www.youtube.com/watch?v=-w10HLMpuH8

- " فلسطينيون يطلقون سراح مستوطنين اسرائيليين بعد احتجازهم بالقرب من الضفة الغربية" (1/8/2014). شبكة يورو نيوز.

https://www.youtube.com/watch?v=M1mq5p5kWPw

- " قصة شهيد قرية قصرة" (24/9/2014). تلفزيون القدس.

https://www.youtube.com/watch?v=lf5SYYqLMNo

- " المستوطنون في قبضة أهالي قصرة" (1/7/2014). قناة القدس الفضائية.

https://www.youtube.com/watch?v=vbTxWnIUk5o

- "مواجهات في قرية قصرة جنوب نابلس" (16/9/2011). تلفزيون جاما.

https://www.youtube.com/watch?v=vNS5WjpUcjQ

- "إعلان قرى جنوب نابلس مناطق منكوبة" (13/3/2018). وكالة سكاي نيوز.

https://bit.ly/2HmpQfU

- "رأس النخل.. يرتقي الشهيد فتحيَا أرضه من بعده" (3/3/2018). الجزيرة.

https://bit.ly/2TON7Nf

 

[1]- بحسب بيانات مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA).

[2]- المقاومة المكانية مصطلح مقتبس من بحث للكاتب أحمد باركلي بعنوان "مقاومة التطهير المكاني"، والذي يعبّر عن مجموعة من الممارسات التي يقوم بها الفلسطينيون لإثبات وجودهم وملكيتهم للأرض.

[3]- https://bit.ly/2HmpQfU

 [4]- المعلومات والأرقام المتعلقة بالقرية بناء على البيانات التي حصلت عليها الباحثة من بلدية قصرة في آب/أغسطس 2018.

[5]- لمزيد من المعلومات عن حركة غوش إيمونيم الصهيونية يمكن الاطلاع على مقال حسيب شحادة من خلال الرابط التالي:  http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=78883

 [6]- مركز المعلومات الوطني الفلسطيني على الرابط: http://info.wafa.ps/aprint.aspx?id=4098

 [7]- ناشط سياسي ضد الاستيطان ورئيس بلدية قصرة سابقاً، أُجريت المقابلة بتاريخ 18/8/2018.

[8]- البؤر الاستيطانية، وهي عبارة عن نواة لمستوطنات جديدة عادة ما تبدأ بإقامة كرافانات متنقلة على الموقع الذي يستولي عليه المستوطنون، انظر: .http://info.wafa.ps/atemplate.aspx?id=4098

 [9]- مقابلة مع أم يحيى، وهي رئيسة جمعية نسوية في القرية، بتاريخ 18 آب/أغسطس 2018.

[10]- تكون العمالة في الغالب في مستوطنات الأغوار الزراعية أو مستوطنة مجداليم المقامة على أراضي القرية. أمّا البؤر الاستيطانية التي تخرج منها جماعات المستوطنين العنيفة، فلا تسمح بعمالة عربية.

[11]- انظر الرابط: https://www.qudsn.co/article/154092

 [12]- مصطلح استخدمه المفكر الإيطالي جورجيو أغامبين في كتابه "السلطة السيادية والحياة العارية"، إذ يعيش الإنسان حياة بيولوجية، لكن من دون أن يحمل وجوده أي مغزى سياسي، فيغدو مستباح الحقوق ومسلوب الإرادة.

[13]-  "لجان الحراسة... وحدات فلسطينية تقاوم المستوطنين"، قناة الجزيرة، 13/8/2015، انظر الرابط: https://bit.ly/2Tb7srI

 [14]- التزاماً بأخلاقيات البحث، تم إخفاء بعض الأسماء لحساسية الوضع وتجنّب إلحاق الأذى بالمبحوثين.

 [16]- عدد القضايا كما حصلت عليه الباحثة من بلدية قصرة في صيف 2018، وهي قضايا تتابعها مؤسسات حقوقية فلسطينية وإسرائيلية، مثل مركز القدس للمساعدة القانونية، وبتسيلم، وييش دين.

عن المؤلف: 

فيروز سالم: طالبة دكتوراه ومحاضِرة في جامعة بيرزيت.