التمويل في فلسطين، ومحاولات الإخضاع
التاريخ: 
06/07/2020
المؤلف: 

مع تأسيس السلطة الفلسطينية، ومضي منظمة التحرير الفلسطينية في مسار العملية السلمية، بدأت الدول الغربية تقديم مساعدات مالية لمعظم القطاعات الفلسطينية، والتي جاءت في ذلك الوقت كدعم لـ"عملية السلام".

لكن الدعم الدولي للسلطة والمنظمات غير الحكومية منذ توقيع اتفاق أوسلو، جاء في سياق استعماري مع اختلاف القواعد السياسية، كما يشير صبيح صبيح في دراسة أعدها عن المؤسسات الداعمة للحقل الثقافي. فقد كرست عملية التمويل حالة من التبعية أولاً، والهيمنة الناعمة باسم التضامن ثانياً تظهر على شكل توافق بين الداعم والمدعوم، شكلها الظاهري هو تحقيق أهداف التنمية والبناء والديمقراطية، لكنها تقوم في جوهرها على تحييد موضوع الاستعمار والاحتلال.

من الناحية العملية، بدأت المؤسسات الدولية بضخ كميات من الأموال بشكل يحدد الأولويات ضمن رؤيتها "التنموية" النابعة من نظرة استعلائية استعمارية، لتصنع فارق وشرط الرفاهية، عبر تمكين طبقة اجتماعية معينة من تعزيز سلطتها الاقتصادية وبالتالي السياسية، والحرص على تحييد مواقفها وتوثيق علاقاتها بالأجهزة الأمنية الفلسطينية، وربط وجودها وحصولها على امتيازات بوجود وضع أمني "مستقر".

وقد صرفت النسبة الأكبر من الأموال على رواتب الموظفين الأجانب، أو الموردين الذين هم غالباً من بلد المؤسسة الممولة. وبرر الممول آليات العمل هذه بحجة توزيع الموارد على أكبر عدد ممكن من المستفيدين، ضمن رؤية أفقية للتمويل لا عمودية – تراكمية.

هذا من جانب عملي على الأرض؛ لكن في اتجاه آخر، ففلسطينياً، تطلب العمل مع هذه المؤسسات سواء في التوظيف أو التنفيذ أو التوريد، التقيد بمجموعة من الشروط أهمها الشرط الأمني، وهو التأكد من خلو الجهة من سوابق إرهابية، سواء أكانوا أفراداً أم مؤسسات، وتُسمى هذه العملية لدى هذه المؤسسات اصطلاحاً “Vetting” . والإرهاب هنا، هو بحسب تعريف الولايات المتحدة بعد أحداث 11\9، وقد شمل كل أشكال العمل التنظيمي الفلسطيني للفصائل كافة.

وإجراءات الـ Vetting هذه تعني جمع معلومات استخبارية، أي البحث عن العلاقة بين الجهة الفلسطينية التي ترغب في تلقي الدعم من هذه المؤسسات الدولية، وجهات تم وضعها على قائمة الإرهاب سواء من خلال النشاطات أو الآراء والأفكار السياسية. وقد شكلت هذه العملية الإجرائية رادعاً ذاتياً فلسطينياً حتى للذين كان لديهم تاريخ نضالي عملي، في ظل الانهيار الاقتصادي وسعي العديد من الفلسطينيين لتوفير لقمة العيش.

أمّا على صعيد الوعي، فقد وضعت هذه الإجراءات لتنفيذ سياسات الاستعمار وتكريسها لإعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بالتدريج بهدف تحييد الوطني والسياسي لمصلحة الاقتصادي بنظرة تتعارض مع ما هو محلي وذاتي. وقد أعادت هذه الإجراءات تحديد حاجات الشعب الفلسطيني الفردية، وتفتيت قوته الجمعية وتدجينها، ورفع شعار أسطورة الرجل العصامي على حساب الوجود الجمعي الفلسطيني، كما هدفت في الأساس إلى إيجاد مجتمع فلسطيني جديد، يتبع اقتصادياً وأمنياً للاحتلال، ويرتبط بنيوياً بالمؤسسات المانحة، بحيث يكون هذا المجتمع عاجزاً تماماً عن أي مواجهة مستقبلية. 

وبالاستناد إلى ما سبق، فقد أصبحت المؤسسات الثقافية والفنية الفلسطينية طرفاً مستهدفاً في هذا التحول المطلوب، انطلاقاً من فهم دورها السياسي التاريخي قبل مرحلة أوسلو، ومهماتها العضوية في مسألة الوعي السياسي وتعزيز الهوية الوطنية.

 الثقافة وسياسة الريع

ومع دخول مرحلة أوسلو، بدأت مهمات الفنان، تأخذ منحى مختلفاً، وعلى الرغم من أنها لم تخضع بشكل مباشر لجميع المتغيرات، فإنها أعادت قولبة المعاني والمضامين الفنية لتقديم خطاب يكون أكثر انسجاماً مع المتغيرات السياسية على الأرض وأكثر توافقاً مع سياسات الممول، التي وبطبيعة الحال أفرزت مواقف مختلفة ومتعددة بين مؤيدي توقيع الشروط الأمنية للممول ومعارضيه. وجاء بعد ذلك دور تعزيزي آخر للفنانين المصاحبين للسلطة الجديدة من امتيازات وجوائز دولة وتمثيل خارجي.

وقد جاء هذا التحول ضمن تحولات أكبر على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، إذ ينتمي هؤلاء الفنانون إلى الطبقة الوسطى المتعلمة والتي كانت منخرطة في العمل السياسي والتنظيمي والنقابي في إبان الانتفاضة الأولى، والذين سرعان ما تحول اهتمامهم نحو تعزيز مواردهم المالية ضمن مشروع بناء "الدولة" الجديد.

ومع الانفتاح الفلسطيني نحو العالم، بدا القطاع الثقافي عموماً أكثر عرضة للتغير المفاهيمي، وانتقل دور الفنان بالتدريج من الفن من أجل القضية إلى الفن من أجل الفنان، وانقضت الفترة التي كانت فيها مهمة الفن ودوره في عملية التحرر الجماعية مركزية، وظهرت أزمة الفنان الشخصية وسؤاله الوجودي الدائم كأساس للعملية المستمرة من الإنتاج الإبداعي، أي الانقطاع والانفصال عن الواقع، عبر تلقي المنح المالية والمشاركة في مشاريع التبادل الثقافي والفني والإقامات الفنية والمعارض.

وبالإضافة إلى تبدل المفاهيم، جرى أيضاً تحول على مستوى أشكال العمل، ففتحت المشاريع الممولة باب "الاحتراف"، وتوفير دخل مالي "كبير نسبياً" للعمل كفنان أو كمؤسسة تحت عنوان الحوكمة والمأسسة، والتي دفعت بعض الفنانين والمؤسسات مسافات أبعد عن الناس والشارع، وأوجدت علاقة تشاركية مع أهداف الممول ذاتها للتغير الثقافي في بعض الأحيان، الأمر الذي سمح بالتدريج "بتورط" كامل في سياسات التمويل، والاقتصار في الخطاب على نقد التجربة النضالية عموماً، أو التأمل فيها من منطلق الحنين إلى الماضي، من دون وجود دور تفاعلي مع الجماهير.

ما حدث مع القطاع الثقافي الفلسطيني عموماً كان صراعاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وانتقالاً حاداً بين موقعين متناقضين، إذ كانت حركة المؤسسات الأهلية والأفراد مرتبطة ارتباطاً عضوياً بالحركة الثورية منذ نشأتها حتى الانتفاضة الأولى. ولضمان حصولها على التمويل كان لا بد لها من تبني خطاب تحديثي جديد ينتقد الثقافة التقليدية باعتبارها متخلفة، لمصلحة ثقافة جديدة – أكثر نخبوية وحداثية، وبالتالي برز اختلاف في الدور الوظيفي لهذه المؤسسات من السعي للتحرر وتحفيز الجماهير لتعزيز الهيكلية السلطوية القائمة، بمعنى نقد خطاب المقاومة واعتباره مشروعاً فاشلاً، لمصلحة مشروع الدولة والسلام.

وفي نظرة شمولية نرى الدور في الزمن الماضي وخلال مرحلة الاشتباك ( الانتفاضة الأولى مثلاً) متناقضاً تماماً مع هذا الدور الجديد، فقد كانت الثقافة ثورية تدفع بالتحرر عبر الانخراط والعمل مع الجماهير في مواجهة الاحتلال، بينما تحول دور هذه المؤسسات وكذلك الأفراد إلى ما يشبه إدانة ضمنية للذات، على الأقل حينما انتقلت من دور المحرض إلى الدور الرعوي، بل والتحريض ضد مفاهيم سابقة باعتبارها تقليدية عفى عليها الزمن.

وقد استمر هذا التحول باختلاف كبير بين المؤسسات والأفراد، فهناك من انخرط بشكل كامل، وآخر بشكل جزئي وهناك من رفض هذه السياسة. وتُصنّف مؤسسات التمويل الدولية أيضاً ضمن ثلاثة مستويات: الأول المؤسسات التي وضعت شروط سياسية متشددة؛ الثاني، المؤسسات التي ربطت شروطها بعدم التحفيز على "العنف" أو الدعوة له؛ الثالث، المؤسسات التي لم تتبنَّ وجهة نظر في هذا السياق ولم تضع شروطاً بقدر ما دعمت الثقافة والفن بهدف "التضامن الإنساني". إلاّ إن جميع المؤسسات الدولية قدمت دعمها على أساس واحد، وهو حل الدولتين، غير المجمع عليه فلسطينياً.

ومع التحولات السياسية الراهنة، يأتي دور الاتحاد الأوروبي وبعض المؤسسات الدولية والتي كانت أقل تطرفاً في الماضي، لتضع شروطاً جديدة، من شأنها أن تدين العمل الوطني الفلسطيني بل وتجرمه، وهو ما يعني وضع الشهداء والأسرى والجرحى وكل أشكال العمل النضالي في خانة الإدانة والإرهاب.

وكالعادة ثمة وجهات نظر عديدة ونقاشات حادة بين مؤسسات المجتمع المدني، التي رأت في ذلك خطوة استفزازية للمجتمع الفلسطيني جاءت بضغط من دولة الاحتلال. وقد شُكلت حملة شعبية من مجموع المؤسسات في القطاعين الثقافي والحقوقي لتكوين جبهة موحدة في مواجهة قرارات الاتحاد الأوروبي الجديدة، وانصبت الجهود نحو رفض توقيع الشروط الأمنية الجديدة وإزالة البنود المتعلقة، من دون الحديث عن بنيوية الموضوع.

وفي فحص سريع لمجريات الأحداث، جرى نقاش بين المؤسسات وممثلي الاتحاد الأوروبي مراراً بشكل رسمي وغير رسمي، حتى تمت إضافة ملحق إلى الاتفاقيات من دون إزالة بنود "نبذ الإرهاب" بحيث يوضح هذا الملحق حقوق الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير، وقد قامت بعض المؤسسات بالتوقيع لاحقاً وحصلت على التمويل.

وعلى الرغم مما قام به الاتحاد الأوروبي مؤخراً عبر بيان رسمي بإضافة عبارة "حق تقرير المصير" للتخفيف من حدة النقاشات، بالتزامن مع مسألة الضم وموقفه الرافض لها، فإنه أيضاً أرسل رسالة إلى مؤسسة بديل في بيت لحم التي رفضت توقيع الوثيقة الجديدة، تفيد بسحب تمويل المشروع.

 هل ثمة لحظة تاريخية؟

لا شك في أن ثمة لحظة وفرصة في ظل التوتر الحاد في هذه الأوضاع، إذ لم يتبقّ سوى القطاع الثقافي وبعض المؤسسات عموماً التي ترفض الشروط المفروضة من الاتحاد الأوروبي بشكل مباشر أو من مؤسسات دولية أُخرى. ويتمثل هذا الرفض بشكل خاص، بشبكة الفنون الأدائية الفلسطينية التي تضم خمس عشرة مؤسسة فنية فلسطينية في الضفة الغربية وغزة وشبكة فنون القدس (شفق)، والحملة الشعبية بشكلها العام.

هذا الرفض قد يسبب إغلاق بعض المؤسسات وبالتالي إنهاء عمل العديد من الأشخاص وإنهاء بعض النشاطات الثقافية الفنية تماماً. وعلى الرغم من أن المؤسسات ذاتها تتحمل هذه النتيجة منذ أن وافقت على الحصول على التمويل الخارجي في المقام الأول، وحملت موازناتها أكبر مما تستطيع حمله، فإن ذلك ليس موضع نقاش الآن، فلا يوجد الكثير من الخيارات أمام القطاع الثقافي – الرافض في معظمه التوقيع – كون القطاع الخاص الفلسطيني لا يستطيع تمويل التكاليف ولا توفير الموارد التي تغطيها المؤسسات الدولية.

 وفي نقاش عقد في سرية رام الله الأولى مؤخراً جمع عدداً من المؤسسات والفنانين، وتناول تحديات الوضع الراهن، أهمها الوباء والتمويل، بدا النقاش كأنه يدور في دائرة مفرغة، من دون أن يتم الاتفاق على نقاط جوهرية، حاله من حال الوضع العام في فلسطين، من تشتت وضياع للبوصلة ومحاصرة الفعل المقاوم، وتردٍّ اقتصادي يطال طبقة مسحوقة على حساب طبقة مسيطرة ومستفيدة من الوضع الراهن، وغياب بنى سياسية اقتصادية اجتماعية قادرة على التجديد والتطوير وإن كانت لا تنجو في المقام الأول من الاعتقالات والملاحقة، إلا إنها مُفرّغة من قرار المواجهة في الأساس. هذا الفراغ – الذي لن ينتظر طويلاً حتى يتم ملؤه  – قد يكون أيضاً سبباً في تحولات جديدة.

أمّا البنى الثقافية التي تقف الآن على الحافة، فإمّا أن تنزلق هي الأُخرى أو ربما، وأقول ربما فقط، تشكل نواة لتيار معاكس لهذا الواقع، يتعرض للتهديد والتخويف والمحاصرة في البداية، إلاّ إنه في النهاية قد يشكل بيئة وأرضية لنشوء حركة شعبية تستطيع قلب الأمور وتغييرها، تحديداً مع تناقض السلوك الشعبي مع الخطاب السياسي، وما تستطيع إرادة الناس تحقيقه في حال ثقة الجماهير في القيادة.

عن المؤلف: 

أنس أبو عون: صحافي وكاتب مستقل، يعمل في فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية.