فيروس
التاريخ: 
30/06/2020
المؤلف: 

عندما ذهبت إلى البلدة القديمة في مدينة القدس يوم الأربعاء الماضي، لفت انتباهي صوت موسيقى مرتفع لأغانٍ شعبية إسرائيلية، قادم من ثلاثة متاجر عربية مررت بها.. للحظة راجعت نفسي مؤكداً لذاتي أنني شخصياً ليس لدي أية مشكلة في ذلك؛ فأنا لست عنصرياً، وعندما يتعلق الأمر بالموسيقى والأدب والتاريخ والفن والفلسفة، أفكر دائماً بالشعوب المختلفة والأجناس المتعددة، والعادات والتقاليد والثقافة والمعرفة التي اختلطت جميعها بعضها ببعض عبر الأجيال والتاريخ، وتحولت إلى أشكال هجينة غنية بالجمال والتعقيد والتعددية.

 

 

 ومع ذلك، فإنني صادفت هذه الظاهرة أيضاً - إن كنت أستطيع تسميتها على هذا النحو – في أثناء مروري في الشارع العام في بيت حنينا. فقد سمعت أصوات الأغاني الشعبية ​​الإسرائيلية الصاخبة تنطلق من مسجلات السيارات التي يقودها شبان فلسطينيون، وهم يجوبون الحي. سمعت في كثير من الأحيان الموسيقى الشعبية ​​الإسرائيلية قادمة من أحياء غير يهودية في القدس. وفي ذات مرة سألت من أين تأتي هذه الموسيقى، ولماذا بهذا الصوت المرتفع؟ فقيل لي إنها آتية من حفل تخرّج فتاة في الحي.

 أود، لو كان في الإمكان، النظر إلى هذه الظاهرة من دون تحيز. وأبدأ ببعض ذكريات الماضي من سنوات مراهقتي، فقد كانت نشأتي في ظل بدايات الاحتلال الإسرائيلي بعد حرب 1967. وغني عن القول، إنه منذ بداية الاحتلال، كان هناك إبادة ثقافية منظمة للشعب الفلسطيني، ولا تزال مستمرة بلا هوادة حتى يومنا هذا. لكني لاحظت وقتها أن العديد من الأفكار والتيارات الثقافية الغربية تمكنت من إيجاد طريقها إلى داخل المجتمع الفلسطيني، وبرأيي المتواضع، كان لها تأثير في الفلسطينيين، وخصوصاً في القدس ولدى فئة الشباب بصورة خاصة. وأذكر جيداً تأثير فرقة البيتلز الموسيقية، وحركة الهبيز، والمخدرات، وفكرة الحرية الشخصية، والتمرد على نظام الأسرة والمجتمع ... وأعتقد أن هذا لم يكن ممكناً أو حتى متخيلاً لو بقيت القدس تحت الحكم الملكي الأردني!

 ومع ذلك، يحتاج المرء إلى التفكير في الصورة الأكبر، وتقييم الأشياء من منظور الحالة العامة والواقع، وما تمليه الأوضاع الحالية. أفكر وأتأمل في وضع جميع العمال الذين يحتاجون، لا بل وجب عليهم العمل في إسرائيل وفي المستعمرات البغيضة، لإطعام أسرهم ومواصلة العيش .. أفكر في والدتي والآف من أمثالها يعتمدون على الإعانات الاجتماعية الإسرائيلية والتأمين الصحي .. أسمح لنفسي أيضاً بالتفكير في المدارس في القدس الشرقية التي أصبحت الآن متورطة مع نظام التربية والتعليم الإسرائيلي، من دون أي إمكان لتجاوزه على الإطلاق، كما كانت الحال في فترة دراستي المدرسية. ففي الآونة الأخيرة تم توجيه المدارس التي تديرها المعارف الإسرائيلية في القدس للامتناع عن تدريس المنهاج الفلسطيني. وعلى الرغم من أن بعض المدارس لا تزال تدرسه وتحديداً الخاصة منها، فإنها تحصل على نسخ عن المناهج الفلسطينية التي حررها الرقيب الإسرائيلي وقد أُزيلت منها صفحات بأكملها. لكن ما يخيفني الآن عندما أحاول التفكير في المستقبل في ظل هذه الإبادة الثقافية المتعاظمة هي فكرة أن مثل هذه التدابير و/أو القيود قد تُفرض على المؤسسات الثقافية الفلسطينية في المدينة، وقد تتبعها تهديدات بإلغاء الترخيص وتجميد الحسابات المصرفية وإغلاق المؤسسات في حال عدم الامتثال.

 على أية حال، ماذا يعني كل هذا عندما أفكر في الشهيد إياد الحلاق، ابن 32 عاماً، ومن ذوي الحاجات الخاصة الذي اغتالته قوات الاحتلال الإسرائيلي من دون أي سبب عدا كونه فلسطينياً ومختلفاً عما تتوقعه إسرائيل منا – فلسطينيون خانعون ومنصاعون. أسأل لأن قضية إياد هي في صلب الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي لا نهاية له، كما هي قضية حقوق إنسان عالمية، وحقنا كشعب في الحرية والكرامة وتقرير المصير، وحقنا كبشر ذوي حاجات خاصة، حق كل منا كأفراد ومجتمع وحضارة. ومقارنة بتبعيات مقتل جورج فلويد في الولايات المتحدة، والتي أدت إلى تمكين المظلومين من التصميم على تغيير حقيقي وسريع في جهاز الشرطة وفي كبح العنصرية المتجذرة عند البيض، فوجئت بأن فلسطين جيشت ثوار مقاعد بذراعين، مسلحين بمنصات وسائل التواصل الاجتماعي ليشنوا هجماتهم على هذا الاحتلال الوحشي. أين هي أيام الانتفاضة الأولى والشعور بمجتمع منضبط، مسلح بالإيمان والإرادة لمحاربة الاحتلال بكل ما لديه من عزيمة وقدرة، حجارة وأناشيد، تظاهرات ومقاطعة وعصيان مدني؟؟ ... الآن، يمكن لكل واحد منا إنشاء حساب على Facebook  أو Twitter أوInstagram ، أو أفضل TikTok وإطلاق حملة لا تعرف الخوف ضد القتل المتعمد للشاب الجميل إياد الحلاق، وخصوصاً عندما يكون المرء بعيداً عن متناول الإسرائيليين وأجهزتهم. وفي اليوم التالي، تعود الحياة إلى روتينها الطبيعي. لم يتغير شيء ... ولن يتغير شيء!

 عندما يعمل المرء بجد لتحقيق نمط حياة متخيل وليصل إلى مستوى معين من الراحة والقدرة الشرائية – والتي يمكن الآن تحقيقها من خلال القروض المصرفية وزيادة سقف الائتمان – لن يخاطر بكل ذلك من أجل مواجهة مع قوات الأمن وعواقبها الكارثية، ولمن؟ ولماذا؟ وهل سيؤدي ذلك إلى أي اختلاف حقيقي أو تغيير ملموس؟ في الوقت الحاضر، يبدو أن الكثير من الناس أقل حماسة تجاه المواجهة المباشرة مع الاحتلال وبطشه، وهم راضون عن إيماءاتهم الصادقة بالغضب والاشمئزاز والتعاطف مع الضحايا عبر الإنترنت.

 أمّا بالنسبة إلى العاملين في إسرائيل، الذين يحاولون وبصعوبة كسب لقمة العيش والاعتناء بأسرهم وتربية أطفالهم، يصبح الأمر أكثر تعقيداً وخطورة. وبالتالي، ليس من المستغرب أن يرى الشباب، وخصوصاً في القدس، أن من مصلحتهم الاستراتيجية الاندماج قدر الإمكان داخل المجتمع والثقافة الإسرائيلية في مختلف مظاهرها، لتأمين فرص عمل طويلة الأجل، وعلاقات أكثر سلاسة بأصحاب العمل والزملاء والعملاء والزبائن. فإذا اضطررت، على سبيل المثال، إلى الاستماع إلى الموسيقى الشعبية ​​الإسرائيلية لمدة 8 ساعات على الأقل يومياً في متجر بيع أو مطعم أو أي مكان آخر كجزء من عملي، فلن استبعد إمكان أخذ هذه الموسيقى معي إلى البيت وإلى غرفة نومي أيضاً (ناهيك عن أشياء أُخرى!). ولن أرفض فكرة تشرب هذه الموسيقى، وتعلم كلماتها والغناء على طول اللازمة، من أجل إقناع فتاة جميلة مذهلة التقيت بها في العمل، بغض النظر عن دينها أو جنسيتها أو عرقها، بأنني أستطيع أن أندمج وأتحور وأصبح "شبهكم". كيف يمكنني السماح لأي شيء بأن يقف في طريق خيالي الجامح وسعادتي ومستقبلي، بغض النظر عن مدى الخطورة الكامنة لهذا الاندماج على مجتمعي وشعبي وحقوقي ووطني؟

 إن قتل إياد حلاق مثال للكراهية العميقة المتجذرة تجاه الفلسطينيين والعنصرية التي تفوق أي شيء عرفناه وشاهدناه. ومع ذلك، لم يحدث شيء هنا، بينما في الولايات المتحدة، يُعد جورج فلويد الآن بطلاً قومياً وقد يكون المخلص (بمحض الصدفة) لبلاده من أمراضها المتعفنة في حقوق الإنسان، وللعالم من امبرياليته الجامحة. تولّد الكراهية والعنصرية ذلك بالتحديد، وهي معدية مثل فيروس، ينتقل من إنسان إلى إنسان، ومن فرد إلى مجتمع، ومن أب إلى ابنه ...

عن المؤلف: 

جاك برسكيان: ولد ويعمل في القدس، وهو مؤسس ومدير مؤسسة المعمل للفن المعاصر وغاليري أناديل في القدس.