ما أصعب عيشة المعتقل لولا "عمالقة الصبر"
التاريخ: 
24/06/2020
المؤلف: 
ملف خاص: 

شاءت الأقدار أن أخوض تجربة بطعم خاص، لا يعرف مذاقها إلاّ من مرّ بها. إنها تجربة من العذاب والمعاناة من الصعب تخيّلها، ومع كل هذه المعاناة كان لا بد من تسجيل أسمى آيات الإعجاب والتقدير للأسرى الفلسطينيين والعرب داخل المعتقلات الإسرائيلية. أجدني دائماً أعتبر التسمية "عمالقة الصبر" أقل ما يمكن وصفه لحالتهم وما يعانون في المعتقل كل يوم وكل ساعة من أيام اعتقالهم.

 

أسرى، ٢٠١٦، إبراهيم المزين.

 

عند وصول أي معتقل جديد تتم استضافته بصورة مميزة يعجز الوصف عنها، لحظة فارقة تنطبع في الوجدان والذاكرة، إذ يستطيع القادم الجديد أن ينسى ولو موقتاً المرحلة الصعبة التي خاضها من لحظة الاعتقال حتى لحظة الانتهاء من التحقيق.

يجري نقل المعتقل إلى السجن بعد أن يكون قد عاش أوضاعاً صعبة وعصيبة، من تحقيق ليلي ومنع النوم، وزنزانة سيئة، وبوسطات انفرادية فلا يُتاح لك بتاتاً الالتقاء بالأسرى والمعتقلين، وجلسات محاكمة على شكل مسرحية كنت أشعر خلالها بأنني في ساحة مزاد علني بين محامي الدفاع والنيابة العسكرية، إذ يكون المعتقل والقاضي لا دخل لهما في هذه المسرحية التي تم إعداد فصولها من جانب محققي الشاباك.

الحياة في السجن وداخل القسم هي حياة روتينية، وتعتمد كيفية قضائها على الأسير أو المعتقل نفسه، سواء تعامل معها بصورة إيجابية أو سلبية. ففي مثل حالتي كان على الأغلب أن يكون الاتجاه هو للانكفاء على النفس واعتزال الأسرى، وبالتالي الدخول في البيئة التي تدفعك نحو الأمراض النفسية والمزمنة كالسكري والضغط وخصوصاً حين يكون العمر فوق الخمسين عاماً.

لكن والحمد لله، وبتشجيع من المعتقلين "عمالقة الصبر" ذوي الأحكام العالية، اعتمدت التوجه الإيجابي والتأقلم بصورة إيجابية خلال فترة الاعتقال، التي جاوزت اثنين وعشرين شهراً وعشرين يوماً، ليصدر قرار الحكم في آخر يوم لي في المعتقل بعد التوصل إلى ما يسمى "صفقة ادعاء".

خلال تلك الفترة كانت الأمور ضبابية وبعيدة عن أن تكون واضحة المعالم. فقد عقدت المحكمة 60 جلسة انتهت بالتأجيل، وتحوّلت الجلسات الكثيرة إلى أكبر آلة استنزاف لطاقات المعتقل، اذ يتم نقله بالبوسطة إلى المحكمة في كل جلسة ويخضع في كل مرة للإجراءات المهينة والمرهقة من تفتيش جسدي، ووضع القيود على اليدين والرجلين، وساعات السفر، ثم بعدها ساعات الانتظار القاتلة في زنازين تقع في أقبية بناية المحكمة.

وباستثناء خمس أو ست جلسات لم تشهد قاعة المحكمة أية مرافعات أو مداولات بين المحامي والنيابة. وكانت الأمور كلها مبنية على المناورة سواء من خلال التأجيل أو التداول، فالمحامي الذي استلم ملف القضية كان متخصصاً بـ"الصفقات"، والصفقة هي أرحم الظلم، في حين جرت أغلبية المفاوضات خارج قاعة المحكمة ومن دون حضوري.  

كنت متوتراً طوال فترة الاعتقال، ولم يكن لديّ أيّ تصور إلى أين تتجه الأمور، وكذلك الأهل في أثناء الزيارات لم يكن لديهم معلومات من المحامي عن مسار القضية، الأمر الذي زاد في توترهم.

ومع مرور الوقت كان لا بد من التأقلم مع الوضع الجديد بالصبر والظهور بمعنويات عالية أمام زملائي في القسم والأقسام الأُخرى "عمالقة الصبر"، وخصوصاً ذوي الأحكام العالية، وبصورة خاصة منهم المحكومون مدى الحياة. كنت أتفاجأ من قدرتهم على الصبر وتحمّل هذه الأوضاع القاسية، وكانوا يمارسون حياتهم اليومية بشكل عادي دون أن يظهر عليهم أي انكسار أو ضعف. فقد قاموا بتحويل المعتقل والقسم من مقبرة كما أرادها السجان إلى خلية نحل تعج بالحياة والحيوية ومنارة للعلم والثقافة.

لقد بنوا نظاماً متكاملاً لإدارة الوقت والحياة الاعتقالية، وكان الالتزام ببرنامج الرياضة اليومية صبحاً وعصراً، وببرنامج أسبوعي ويومي لنظافة الزنازين والقسم بمشاركة الجميع، وبنظام يومي لوجبات الفطور والعشاء والتحضير لاستضافة القادمين الجدد على الموائد، أي استضافة كل أسير أو معتقل جديد يدخل القسم، سعياً وراء إكرامه ومنحه الشعور بالأمان والاندماج في حياة الأسرى.

كان الاستعداد الدائم للطوارئ جزءاً من النظام والرتابة، سواء حالات الطوارئ الناتجة من السجن مثل المداهمات والتنقيلات والإغلاقات، أو نتيجة أخبار طارئة تصل الأسير عن فقدان أحد أفراد الأسرة أو الأهل، لتتحول ساحة المعتقل إلى بيت عزاء ومواساة.

في المقابل كانت المشاركة الاحتفالية الجماعية للمعتقل والأسير في حالات النجاح بالدراسة أو زواج الأبناء والأقارب، وكانت المعايدات الجماعية احتفاء بالأعياد.

شكلت حياة الاعتقال نموذجاً للتعاون والتكافل والتضامن مع الأسرى والمعتقلين ذوي الحالات الخاصة من اكتئاب وأمراض مزمنة أو صعوبات تأقلم. كما تجلى سموّ العلاقات أيضاً في مساندة المعتقلين الذين يعاني أهاليهم ضيقاً ومشكلات مع الدفع للكنتينة، وحتى مع المدخنين منهم والذين يجري توزيع السجائر عليهم بكمية محدودة يومياً.

شكلت البرامج التوعوية والتثقيفية للمعتقلين حديثي التجربة وصغار السن، أطراً داعمة ومساندة تزرع روح التحدي والصمود فيهم، وتعوّضهم ما فاتهم من تثقيف سياسي قبل الاعتقال.

وقد لفت نظري بشكل كبير كيفية تنظيم العلاقة مع إدارة السجن في مجال الصحة والعيادة وجميع القضايا المتعلقة بالزيارات والبوسطات والمحاكم. كل شيء يخضع لنظام الأسرى الداخلي.

مشروع التعليم راية الحياة الاعتقالية

وإن أنسى فلا أنسى مشروع التعليم، سواء إعداد الأسرى الطلبة للتوجيهي أو التعليم الجامعي في إطار المشروع المشترك لجامعة القدس المفتوحة وهيئة شؤون الأسرى والمعتقلين. وإذ أشيد بالهيئتين، فإنني أشيد أيضاً بدور وزارة التربية والتعليم العالي في توفير هذا الأفق للأسرى.

لقد أنيطت بي مهمة الإشراف على التعليم الجامعي والتوجيهي في معتقل ريمون الصحراوي وبالذات القسم 6. ويعود الفضل في ذلك إلى الأسرى القدامى من ذوي الأحكام العالية وإلى جانبهم العديد من المعتقلين، والذين دأبوا على توفير التشجيع والدعم النفسي لي كي أقوم بهذا الدور.

لقد تسنى لي أن أكون مدرّساً في أغلبية المساقات اللازمة للحصول على درجة البكالوريس في مجال الاجتماعيات. لقد كانت إحدى لحظات التجلي بالسعادة بعد الإفراج عني، حين شاركت أهالي الأسرى في سلفيت فرحتهم في حفل تخريّج أبنائهم من جامعة القدس المفتوحة في سنة 2019، إذ بلغ عدد الخريجين ممن درّستهم 40 خريجاً ولا يزال عدد منهم في مرحلة الدراسة.

لقد وضعني هذا التحدي أمام مسؤولية كبرى، وهي أن أحمل الأمانة وأقدم أقصى ما أستطيع، وهو أقل ما يمكن تقديمه لهؤلاء العمالقة. كنت أقوم يومياً في ساعات الليل بالاستعداد والتحضير للمحاضرات وخلال النهار التالي يتم عقد جلسات كل يوم في خلية (تجنباً لاقتحام السجن من قبل إدارة السجون، ولتوزيع الأعباء على كل الأسرى في القسم). يذكر أن التعليم ممنوع بعد قيام سلطات الاحتلال بمنع الأسرى الأمنيين من الدراسة الجامعية منذ سنة 2011.

كان توفير المواد الدراسية من أصعب التحديات، فلا يوجد في مكتبة الأسرى في القسم سوى نسخة واحدة عن كتاب التدريس لكل مساق دراسي. ويقوم المدرس من بداية الفصل بإعطاء النسخة للطلاب لنسخها ومن ثم كل غرفة فيها طالب يعطيها إلى زميله، وخلال الفصل وقبل الامتحان النهائي تكون المادة الدراسية قد نسخت عند جميع طلاب المساق الدراسي وبعدها يتم عقد الامتحانات الفصلية والنهائية.

وكان التعليم الجامعي في القسم مقسم إلى ثلاث شعب، وهي: مبتدئ ومتوسط ومتقدم.

وكانت سعادتي كبيرة بمستوى المنافسة العالية بين الطلبة، على العلامات وفي أثناء الفورة والاستفسارات بمعنى أن الفصل الدراسي لم يكن محصوراً بوقت الحصة يومياً، بل أيضاً داخل الغرف وفي ساحة الفورة.

حاولت جهدي الابتعاد عن أسلوب التلقين واعتماد أسلوب المشاركة، وما زادني قناعة بما كنت أقوم به وافتخر بذلك، أن قسماً كبيراً من المعتقلين كان يستغل الزيارة من الأهل أو المحامين أو الأقسام الأُخرى لإحضار الكتب والمواد التعليمية لإنجاز الأبحاث. كما وقمنا بإعداد أبحاث لها شأن بالقضايا التي تهم الأسرى والحياة الاعتقالية، وذلك للحث على الاجتهاد واستخدام مناهج البحث المشارك للتعويض عن المراجع والمعلومات في ظل شحّ المواد المرجعية. وفي هذا السياق أجرى الطلاب الأسرى أبحاثاً في عدة موضوعات، منها إضرابات الحركة الأسيرة، وتوزيع المعتقلين والأقسام بحسب الانتماءات السياسية الفصائلية، وعن آثار التدخين في الحياة المشتركة داخل السجن، كما شملت الأبحاث موضوعات كالمواطنة وتعريف الدولة.

على الرغم من تجربتي الغزيرة في الحياة والعمل المؤسساتي الفلسطيني العام، فإني أعترف بأنني ما استطعت تجاوز هذه الفترة والعذاب خلال تلك الفترة القاسية، لولا الدعم والإسناد من "عمالقة الصبر" من ذوي الأحكام العالية والمؤبدات، ولهم الفضل الكبير.

ألف تحية لهم، وربنا يفكّ أسرهم.

 

عن المؤلف: 

جودة جمل: أسير محرر، من قيادات العمل الأهلي والمجتمع المدني الفلسطيني، ومن مؤسسي لجان الإغاثة الزراعية، ومدير عام شركة المطاحن الذهبية سابقاً. متخصص بالهندسة الزراعية وإدارة الأعمال.