دير الأسد تقاوم كورونا
النص الكامل: 

عندما شبت نار كورونا في إسرائيل في شباط / فبراير الماضي كانت البلدات العربية آمنة ونظيفة. لكن سرعان ما تحققت التحذيرات بأن العدوى قادمة إذا لم يلتزم الجميع بالتعليمات الصادرة عن جهات طبية فيما يتعلق بالتباعد الاجتماعي، وارتداء الكمامات الواقية، والمكوث داخل المنازل وفي محيطها.

عند كتابة هذا التقرير في أوائل أيار / مايو 2020 بلغ عدد المصابين بـجائحة كورونا في إسرائيل نحو 17,000 مصاب، منهم نحو 1100 مصاب من المواطنين العرب الذين يشكلون 18% من مجمل السكان، الأمر الذي يعني أن نسبة الإصابة حتى الآن لدى فلسطينيي الداخل هي أقل من النسبة العامة في البلد. وربما يرتبط ذلك بحجم السفر إلى خارج البلد، وبطبيعة المبنى السكني في القرى العربية، إذ إن أغلبية المنازل هي منازل أرضية.

وفي هذا الصدد أشار المدير العام لجمعية "الجليل"، أحمد الشيخ محمد، إلى أن القضية مركبة، فهي تشمل أيضاً سوق العمل حيث نسبة العاملين العرب أقل من اليهود، وخصوصاً النساء منهم، مشيراً إلى أن موارد العمل لدى هذه الأخيرات موجودة أساساً داخل البلدات العربية بعيداً عن المدن الكبرى حيث تفشى كورونا. كما أنه شدد على الناحية الديموغرافية، فالعرب يشكلون مجتمعاً فتياً أكثر وبالتالي مناعته أكبر، وإن كان على ما يبدو أن هناك شرائح عربية أصيبت وحملت الفايروس، لكن من دون عوارض. وتابع الشيخ محمد بشأن الوفيات القليلة عند العرب بعكس اليهود بالقول "إن نسبة المسنين فوق جيل 65 عاماً لدى اليهود هي 12%، ولدى العرب 5%، وعدد المسنين فوق 75 عاماً لدى اليهود هو 400,000 نسمة، بينما يبلغ عدد نظرائهم العرب 28,000 نسمة فقط."

 توظيف كورونا في الأسرلة

استغلت السلطات الإسرائيلية كورونا من أجل تعميق أسرلة فلسطينيي الداخل من ناحية الهوية، لا من ناحية المساواة في الحقوق كـمواطنين إسرائيليين. وقد لوحظ نشاط محموم لقوات الجيش التابعة لـ "الجبهة الداخلية" داخل البلدات العربية، وهناك مَن اعتبرها محاولة ماكرة للتأثير في الوعي بطريقة غير مباشرة تهدف إلى تعميم الشعور بأننا "كلنا إسرائيليون".

ومع أن الطواقم الطبية العربية داخل المستشفيات الإسرائيلية أدت دوراً ريادياً في مواجهة الكورونا، الأمر الذي دفع مدير مستشفى تل هشومير إلى أن يقول إن إسرائيل لم تكن قادرة على مواجهة العدوى من دون الأطباء والممرضين العرب، إلّا إن السلطات الإسرائيلية خصصت 2% فقط من الميزانيات والمساعدات للوسط العربي.

يقول أستاذ العلوم السياسية سعيد زيداني إن حدود التمييز تنتهي إذا أضرت بالأغلبية اليهودية (وهو ما يفسر المعاملة المتساوية في الفحوصات والإجراءات، وغير المتساوية في مجال الدعم المالي). وعن بروز دور الحكم المحلي يقول زيداني إن هذا الحكم هو الذي يعطي الهيئات القيادية العربية سلطة القرار الجماعي بالنسبة إلى فلسطينيي 48.

 

متطوعون في مواجهة الجائحة.

 

جنود مجهولون

يرى الخبير النفسي الأستاذ مروان دويري أن كورونا يسمح برصد طبيعة العلاقة الإشكالية بين المواطنين العرب والدولة، فمن جهة، المواطنون العرب مضطرون إلى التعامل مع الدولة ومؤسساتها وقوانينها، بما في ذلك الشرطة، ومن جهة أُخرى، تمارَس عليهم حالة التمييز مقارنة بالمواطنين اليهود. ويتفق دويري مع زيداني في الإشارة إلى أن الطواقم الطبية العربية عملت بجهد كبير لكنها لم تحظَ بالتقدير الملائم، وخصوصاً في الإعلام، فبقي الأطباء العرب جنوداً من وراء الكواليس. ويؤكد دويري الذي تطوع لخدمة المحتاجين إلى مساعدات نفسية في فترة كورونا، أن "علاقات جديدة من التعاون والتكافل داخل المجتمع العربي، نشأت بين المؤسسات والأحزاب والقيادات، كما تجنّد كثير من المهنيين النفسيين والاجتماعيين لتقديم المحاضرات والتوجيهات والدعم النفسي الهاتفي لحالات الضغط والقلق النفسي."

 دير الأسد تعالج كورونا بابتسامة

تألقت قرية دير الأسد في الجليل، والتي اجتاحها كورونا، بالنشاط التطوعي في مواجهة الجائحة، إذ تجنّد مئات من شبابها في لجنة شعبية محلية تولت جميع مهمات الدفاع عن الأهالي بعدما نالت منهم هذه العدوى التي جعلت بلدتهم تتصدر لائحة البلدات المصابة في البلد كافة. وما شهدته هذه القرية المتكئة على سفوح جبل شاهق مليء بالمغاور العملاقة كان غير مسبوق وصادماً ومثيراً للخوف الهستيري من المجهول، ويذكّر بمشاهد مثيرة للرعب في رواية "العمى" للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو.

فبعدما كانت هذه القرية قرية وادعة في قلب الجليل، داهمتها العدوى فجأة، منتشرة كالنار في الهشيم، بحيث أصيب بضع مئات فيها بكورونا وفق تقديرات وزارة الصحة الإسرائيلية. وتبيّن لاحقاً أن مصدر هذه العدوى هو مسلخ ومصنع للحوم يُعرف بـ "مسلخ دبّاح"، وذلك بعدما أخفى عامل يهودي حقيقة إصابته بالعدوى، فنقلها إلى عمال آخرين نقلوها بدورهم إلى أهاليهم بسرعة، وذلك بسبب عدم اتخاذ تدابير السلامة والحذر من طرف إدارة المسلخ، ومن قسم من الأهالي. وتفاقمت حالة الخوف لدى الناس بعدما تدهورت الحالة الصحية لسيدة حامل في الشهر الثامن من البلدة، فاضطر الأطباء إلى توليدها بعملية قيصرية بعدما وصلت إلى مرحلة الخطر، ثم أدخلوها إلى نظام التنفس الاصطناعي. وقد أصيبت السيدة بصدمة كبيرة، وهي حتى اليوم تفضل حجب هويتها مثلما يؤكد الدكتور صالح صلاح طه، ابن دير الأسد وعضو طاقم مكافحة عدوى كورونا في مستشفى "الجليل" في مدينة نهاريا.

أصيب الدكتور صالح صلاح طه خلال عمله، فدخل في الحجر لمدة ثمانية أيام، وما لبث أن استأنف عمله بعدها لمواجهة الجائحة، مع كثير من الطواقم الطبية العربية. ورداً على سؤال يقول طه عن تجربته وتجربة مرضى آخرين، إن المعاناة الحقيقية جرّاء الفايروس هي نفسية في الأساس، ويضيف: "تلقيت محادثات هاتفية من مصابين محجورين في مرافق خاصة للحجر في دير الأسد ألحوا بالسؤال كل يوم: متى نخرج من هنا؟ لقد فاض بنا وملّينا، ولماذا أنا لوحدي؟ وماذا عن أسرتي؟"

 

 دير الأسد محجورة.

 

وتستذكر الكاتبة والأديبة ميسون أسدي أجواء الرعب والخوف في البدايات بصورة خاصة، فتقول إن كثيرين تلقوا إنذارات من وزارة الصحة تبلّغهم أن عليهم الدخول في حجر لاقترابهم من مصابين بالعدوى، وتكمل قائلة: "تخيل أن شقيقتي وزوجها ذهبا إلى مرآب لتصليح سيارة، وما لبثا أن تلقيا مكالمة تدعوهما إلى دخول الحجر لأسبوعين." وتضيف: "إن عناوين الصحف عن دير الأسد أرخت بثقلها على كاهل أهاليها الذين حُرموا من بركات ولقاءات رمضان."

وتوضح أن صدمة دير الأسد زادت عندما خطفت العدوى الشيخ أحمد نعمة الأسدي (90 عاماً)، وهو أول رئيس مجلس محلي في القرية، والمتميز بخفة ظله وروحه الشبابية وفكاهته. وقد جاء رحيله ضربة معنوية موجعة، ولا سيما أن الأهالي حُرموا من المشاركة في تشييع جثمانه، واكتفوا بالخروج إلى شرفات البيوت وتوديعه عن بُعد، وإلقاء الورود على نعشه خلال الدوران بجثمانه المحمول على سيارة في شوارع البلدة تتقدمها فرقة كشافة تحمل الطبول والصنوج والأعلام والمعروفة بـ "العدة" وسط ترتيل يُنشد خلف الميت، وهذه عادة يتوارثها أبناء عائلة أسدي احتراماً للولي الأسدي في القرية. وزاد الوجع في دير الأسد عندما رحل ثلاثة أشخاص في القرية جرّاء أمراض أُخرى في فترة الحجر وحظر التجول العام، إذ لم يتمكن الأهالي من المشاركة في تشييع الجثامين.

 

المرحوم الحاج أحمد نعمة الأسدي.

 

ومع أن كورونا أصاب أهالي دير الأسد بالصدمة، واستبد الخوف بكثيرين منهم بعدما تبيّن حجم انتشاره ووتيرته، إلّا إنهم ما لبثوا أن استعادوا أنفاسهم وواجهوا الجائحة باحترام كبير لتعليمات الحجر والتباعد الاجتماعي وغيرها، والأهم أنهم وظفوا روحهم الفكاهية في تخفيف وطأتها والتغلب عليها، حتى باتت البلدة في مرحلة متقدمة من التعافي، فعدد حالات الشفاء في ازدياد، وعدد المصابين نحو مئة. وقد أصابت العدوى أيضاً جارتها قرية البعنة، لكن بحجم أقل كثيراً، إذ بلغ عدد المصابين فيها اليوم نحو 30 شخصاً فقط.

وتعبّر ميسون أسدي، ابنة دير الأسد عن نظرة أهالي القرية إلى العدوى وكيفية معالجتهم لها بالابتسامة والأمل والتفاؤل على الرغم من خطورتها، فتقول إن كورونا أصاب أهالي بلدتها بالصدمة والخوف الشديد في البداية، ولا سيما أنهم محبّون جداً لحياة الرفاه، ويقبلون على الحياة بحب وشغف، ويمارسون حياتهم في وطنهم بسعادة، وهم غير معتادين على محنة بهذا المذاق المرّ. وتلفت إلى أن كورونا وثّق العلاقات الاجتماعية بين الناس.

 أم المواهب

تمتاز بلدة دير الأسد بموهبة الشعر والغناء لدى الرجال والنساء، وهناك مَن يعتبر أن تضاريس الدير الجبلية تؤدي دوراً في تنمية هذه المواهب، كما أن هذه القرية تشتهر بمقام الشيخ محمد الأسدي في مركز القرية. وكانت البلدة في الماضي تتبع قرية البعنة المجاورة، وتُعرف بـ "دير البعنة" قبل أن تصبح دير الأسد، نسبة إلى المقام الذي يزوره الأهالي تبركاً.

 

مشهد عام لدير الأسد.

 

ويقول بعض شيوخ دير الأسد إن تضاريس القرية ساهمت في تفتّح موهبة محمود درويش الذي أقام فيها خلال طفولته بعد عودته وعائلته من لبنان الذي لجأت العائلة إليه خلال نكبة 1948.

وينتمي إلى هذه القرية أيضاً شاعر القصيدة العامية البارز سعود الأسدي، المقيم في الناصرة، والذي ورث موهبة القصيد من والده وعمه الحدّاءَين الشعبيين الشهيرين أبو سعود وأبو غازي. وهي أيضاً مسقط رأس الفنان رفعت الأسدي الذي تجند هو الآخر لمواجهة الجائحة عاملاً على رفع معنويات الناس في محنتهم من خلال فنه وشعره الشعبي. وفي واحدة من هذه القصائد الشعبية قال الأسدي في شريط مسجل بثته الإذاعات ومنتديات التواصل الاجتماعي:

 تعيش دير الأسد يا قلعة البلدان...أسال إله السماء الرب يحميها

والبعنة يا جارتي يا خيرة الجيران... وأرض الجليل العريقة سيفنا الرنان

وأرض المثلث بدمّاتي أرويها... والنقب عزّ الكرامة مثلها ما كان

أوف أوف... من حمى دير الأسد.. من قلعة الجيلان أحلى معاني بهالساعة معانيها

 باب الشمس

وربما تجلت النظرة إلى الحياة بالابتسامة والتفاؤل لدى أهالي دير الأسد، مثلما تقول ميسون أسدي، بقصة الراحل سعيد صالح عبد الهادي الأسدي اللاجىء من القرية في لبنان بعد نكبة 1948، والذي كان يتسلل عبر الجنوب اللبناني إلى دير الأسد فيلتقي زوجته التي أنجب منها عشرة أبناء، وأحفادهما يُعدّون بالعشرات. وقد شكلت هذه الملحمة الإنسانية واحدة من مصادر إلهام الأديب الياس خوري في روايته الرائعة "باب الشمس".

 

سعيد صالح عبد الهادي الأسدي.

 

وتتجلى هذه الروح المتفائلة المتشبثة بالحياة بما كتبته ميسون أسدي نفسها من أبيات شعرية بعضها مغناة تسخر من هذه الجائحة وتخفف من وطأتها، وإحدى هذه القصائد بعنوان "أهل البلد عموم" وفيها تدمج بين العتب والحب والتأمل، لكن بلغة تميل إلى السخرية وختامها أمل:

 أهلا وسهلا فيك يا كورونا في البلد

دخلتْ خِلسة ولم يُدركك أحد

ضحكوا عليك الناس واستخفّوا فيك

وما عرفوا معنى ظهور نيوب الأسد

رفعت كرباجك علشان تروّض فيه الناس

إحنا كغصن اللوز على الشجرة رفيع

بكرا راح نزهّـر لما ييجي الربيع

فترة وتمر يا جماعة إذا انتبهنا

والحكي يا سامعين للجميع

السيرة الشخصية: 

وديع عواودة: صحافي فلسطيني.