الأغوار الفلسطينية: الزراعة والديموغرافيا والضم
التاريخ: 
19/06/2020
المؤلف: 

أساس السياسة الإسرائيلية في الأغوار، كما في باقي فلسطين، يتركز حول الأرض، فالمنطق الصهيوني "أرض أكثر وعرب أقل"، ويشكل هذا المدخل فهما دقيقاً لكل أشكال السياسات والممارسات الاستيطانية الإسرائيلية في الأغوار، ويقول بولوك إن السياسة الإسرائيلية لتنمية الأغوار صممت لتضمن هدفين، الأول هو منع المنتوجات الزراعية الفلسطينية من منافسة المنتوجات الزراعية الإسرائيلية، والثاني يرتبط ببرنامج التوسع الكولونيالي الصهيوني. وفي هذه الورقة سيتم التركيز على العلاقة الجدلية بين أنماط الزراعة في الأغوار والمسألة الديموغرافية والضم.

سعت إسرائيل لإحداث تغييرات كبيرة في أنماط الإنتاج الزراعي في الأغوار بعد سيطرتها على الضفة الغربية في إثر نكسة 1967، فعملت على تقليص المساحات المزروعة بالحمضيات لمصلحة زراعة الخضروات، ذلك بأن زراعة الحمضيات تتطلب كميات كبيرة من المياه ولا سيما في فصل الصيف. كما جاء السماح بتطوير الزراعة الفلسطينية عبر استخدام نظام الري بالتنقيط ليخدم الهدف نفسه، إذ أدى إلى تقليل كميات المياه المستهلكة كون كمية الفاقد من المياه قليلة جداً باستخدام النظام الجديد، وهذا سمح لإسرائيل بالسيطرة على كميات كبيرة من المياه لتخدم الأهداف الاستيطانية في الأغوار بدلاً من استخدام فائض المياه في توسع المساحات الزراعية الفلسطينية.

وكون الأرض محور الصراع، فقد سعت إسرائيل ليس فقط للسيطرة عليها، بل أيضاً لتهويدها. ووفقاً لإبراهيم الدقاق فإن التطور الزراعي في الأغوار وجّه للتصدير عبر سياسات الجسور المفتوحة، وأُفرغت الأراضي الفلسطينية من المنتوجات الزراعية لمصلحة غزو المنتوجات الإسرائيلية كون الأخيرة لا تستطيع الدخول إلى الأسواق العربية عدا مصر، وبهذا لم يواكب تطور الزراعة في غور الأردن أي تطور في الصناعات الزراعية، بل أدى ذلك إلى تعزيز التبعية الزراعية الفلسطينية للاقتصاد الإسرائيلي، إذ تعتمد الزراعة الفلسطينية على المدخلات الإنتاجية الإسرائيلية مثل أنابيب الري والأسمدة والمبيدات والأدوية والبذور المحسنة، كما تعتمد على إسرئيل لتصريف المخرجات الإنتاجية كون التصدير يتطلب موافقة إسرائيلية، وقد أطلق بولوك على ذلك عبارة "اقتصاد التصدير المحاصر". تتحكم إسرائيل بالمدخلات الزراعية ومخرجاتها، وهو ما يعني تحكمها بمجمل العملية الزراعية، أي التحكم بالأصناف الزراعية وكمياتها، وقد استخدمت لتعزيز تحكمها، فرض التصاريح على زراعة أصناف معينة من المحاصيل الزراعية.

أدى توجيه الزراعة في الأغوار نحو التركيز على زراعة الخضروات إلى تكثيف استخدام الأيدي العاملة الزراعية، كون هذه الزراعة تتطلب أعداداً كبيرة من الأيدي العاملة، ولا سيما خلال مرحلتي الزراعة وقطف المحصول، وهذا ما شجع الكثير من العائلات في القرى والبلدات المطلة على الأغوار على النزول والسكن في الأغوار للعمل في الإنتاج الزراعي، ولا سيما أن أغلب الزراعة في وادي الأردن تعتمد على الأيدي العاملة التي توفرها الأسرة: "زراعة أسرية". وبهذا ارتفع عدد سكان الأغوار في كثير من القرى والبلدات التي أصبحت منطقة استقطاب للأيدي العاملة الفلسطينية، وقد تحول العديد من العزب لبعض القرى إلى قرى قائمة بذاتها كما هي حال قرى فروش بيت دجن وقرى بردلة وكردلة وعين البيضا.

وفي مقابل الزيادة السكانية الفلسطينية الطبيعية في منطقة الأغوار لم يكن هناك توسع موازٍ في الأراضي الزراعية في كثير من القرى والبلدات، بل عمل السماح بإدخال التطور الزراعي المستمر إلى التوجه نحو التوسع الرأسي في الزراعة بدلاً من التوسع الأفقي. أي أن استخدام التكنولوجيا الزراعية أدى إلى زيادة حجم إنتاج الدونم الواحد إلى خمسة أضعاف عند بداية استخدام نظام الري بالتنقيط، ومع التقدم المستمر باستخدام التكنولوجيا الزراعية يتضاعف إنتاج الدونم ليتوافق مع الزيادة السكانية، كما أن استخدام البيوت البلاستيكية أدى إلى تسارع في زيادة إنتاج الدونم الواحد، إذ تعتمد البيوت البلاستيكية على تعزيز التوسع الرأسي كون نمو النبتة يتجه إلى الأعلى، وهو ما سمح بزيادة أعداد الشتول في الدونم الواحد، وقد تم تطوير معظم أصناف الخضروات لتتلاءم مع هذا التوجه.

وخلال السنوات العشر الأخيرة، تم توجيه الزراعة في منطقة الأغوار لتخدم هدفين أساسيين، الأول هو تقليل استخدام العمالة الزراعية، والثاني تعزيز استخدام أصناف زراعية للتعويض عن زيادة نقص المياه وتدني كفاءتها، وهو التوجه نحو زراعة النخيل.

تسارعت زيادة المساحات المزروعة بالنخيل في منطقة الأغوار، وزيادة هذه المساحات لم يكن إلى جانب المساحات المزروعة بالخضروات، بل قام العديد من المزارعين الفلسطينيين باستبدال المساحات التي تزرع بالخضروات بالنخيل، إذ يتحمل النخيل تدني جودة المياه التي تخرجها الآبار الارتوازية المملوكة للفلسطينيين، وبالتالي قام السكان، بدلاً من الانتفاض على قلة المياه، بالتأقلم مع هذا الوضع عبر زراعة أصناف تتكيف مع قلة المياه وتدني كفاءتها. ففي العام الزراعي 2009/2010 بلغت مساحة الأراضي التي تزرع بأشجار البستنة في قرية الجفتلك، بما فيها النخيل، نحو 1.289.70 دونماً، بينما بلغت مساحة الأراضي المزروعة بالنخيل لوحدة في العام 2015/2016 نحو 3650 دونماً، وارتفعت في العام الزراعي 2018/2019 إلى نحو 5187 دونماً.

  أحدثت زراعة النخيل تغيّراً في البنيتين الاقتصادية والاجتماعية في الأغوار، فبالنسبة إلى البنية الاقتصادية، أدت زراعة النخيل إلى تدهور في الأوضاع الاقتصادية لأسر المزارعين، إذ احتكر بعض الشركات تسويق إنتاج التمور في الأغوار، وفرضت هذه الشركات على المزارعين أسعاراً متدنية، وقد أفاد العديد من المزارعين الذين جرت مقابلتهم بأن الأسعار المنخفضة للتمور أدت إلى تراجع مدخولاتهم، ونتيجة ذلك يحاول العديد من المزارعين التخلص من أشجار النخيل للعودة إلى زراعة الخضروات.

في جانب آخر، يقتصر العمل الزراعي في النخيل على العمالة الذكورية خلال السنة، وتشغل مصانع التعبئة النساء لفرز أصناف التمر، وقد أدى اقتصار العمل في النخيل خلال السنة على الذكور إلى تراجع الأيدي العاملة الزراعية النسوية، وأضف إلى ذلك، أن العمل في النخيل لا يحتاج إلى كثافة الأيدي العاملة كما هي الحال في زراعة الخضروات، وبالتالي أدى اتساع المساحات المزروعة في النخيل إلى تراجع عدد الأيدي العاملة في الزراعة، كما أن العديد من ملاّك الأراضي المزروعة بالنخيل يفضلون استخدام عمال بأجر يومي بدلاً من شراكات زراعية مع الأسر، وبالتالي تراجعت أعداد الأسر المقيمة بالأغوار، وهو ما أدى إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل الزراعي ولا سيما بين النساء.

اتخذ المنحى الزراعي توجهين رئيسيين: الأول، هو عودة العديد من الأسر التي قدمت إلى الأغوار للعمل في الزراعة إلى قراها الأصلية، والمنحى الثاني، هو توجه فائض العمالة الزراعية إلى العمل في المستعمرات الإسرائيلية، وبالتالي نلحظ في السنوات الأخيرة زيادة عدد  الفلسطينيين المقيمين بالأغوار والذين يعملون في المستعمرات، وأصبح توجه النساء من القرى المشرفة على الأغوار إلى العمل في المستعمرات أمراً طبيعياً.

إن التحسن النسبي للأوضاع الاقتصادية للعديد من الأسر في منطقة الأغوار يأتي كون الأسرة تعمل في الزراعة، وبالتالي يصبح جميع أفرادها، أطفالاً وكباراً، ذكوراً وإناثاً، منتجين زراعيين. لكن العمل في المستعمرات يقتصر على الذكور الذين يتجاوزون سن السادسة عشرة، وقد أدى الاعتماد على جزء من أفراد الأسرة كمعيل إلى تدهور الأوضاع المعيشية وسبل العيش لدى سكان الأغوار.

 وفي قراءة سريعة للوضع الديموغرافي في منطقة الأغوار، نجد أن زيادة عدد سكان التجمعات الفلسطينية التي تقع ضمن الخريطة التي عرضها نتنياهو، أي التجمعات التي صنفها "A" مثل أريحا والمخيمات والعوجا، وكذلك جميع التجمعات التي صنفت "B"، والتجمعات التي سيتم فرض السيادة الإسرائيلية عليها، قد بلغت خلال الفترة 1997-2007 نحو 34.07%، بينما بلغت خلال الفترة 2007-2017 نحو 13.9%، أي تراجعت بنسبة 20.2%. لكن بعد استثناء مدينة أريحا ومخيمي عقبة جبر وعين السلطان، فإن الزيادة السكانية بلغت خلال الفترة 1997-2007 أي نحو 28.3%، بينما بلغت خلال العشر سنوات اللاحقة 2007-2017 نحو 5.1%، أي تراجعت نحو 23.2%.

تدل هذه الأرقام الإحصائية على تراجع الزيادة السكانية في منطقة الأغوار، وهذا التراجع ليس فقط نتيجة انخفاض حجم الأسرة، إذ تؤدي الهجرة من المنطقة دوراً حيوياً ومركزياً في انخفاض عدد السكان الفلسطينيين في الأغوار، فمثلاً، زادت قرية عين البيضا خلال الفترة 1997-2007 نحو 47%، بينما انخفض عدد سكانها خلال العشر سنوات اللاحقة نحو 2.2%. كذلك قرية الجفتلك، فقد بلغت الزيادة السكانية فيها خلال الفترة 1997-2007 نحو 17%، بينما انخفض عدد السكان في العشر سنوات اللاحقة 17%. لكن الزيادة في قرية فصايل على سبيل المثال كانت مثيرة، فقد زاد عدد السكان خلال الفترة 1997-2007 نحو 66%، بينما زاد خلال العشر سنوات اللاحقة 52%، إذ يعمل نحو 76.8% من الأيدي العاملة من سكان قرية فصائل في المستعمرات، بينما بلغت النسبة في الجفتلك نحو 9.8%، وهو ما يعني أن التوجه إلى العمل في المستعمرات أخذ يحل مكان العمل الزراعي الفلسطيني في تشجيع الزيادة السكانية في الأغوار.

خلاصة القول، إن خضوع العملية الإنتاجية الزراعية الفلسطينية في الأغوار لإسرائيل جعلها تتحكم بسيرورة القرى الفلسطينية في المجالات كافة، وتمكنت من إخضاعها وتوجيهها وفقاً لخطط مدروسة لتخدم الأهداف الاستيطانية الصهيونية، وبالتالي فإن قرار ضم الأغوار إلى السيادة الإسرائيلية لم يكن مفاجئاً، وإنما مهدت السياسة والإجراءات الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية في الأغوار لذلك منذ عشرات السنين من دون أن يكون للجانب الفلسطيني الرسمي إجراءات وسياسات مقاومة بحجم المخاطر. وهذا لا يعني إغفال الصمود والمقاومة الفلسطينية السلمية لسكان الأغوار التي مكنت الجزء الأكبر منهم من البقاء ضمن إمكانات العيش المتدنية.

 

الصورة: زراعة النخيل والخضار في قريتي مرج الغزال والزبيدات، تصوير أحمد حنيطي

 

المراجع

بولوك، أليكس. "المجتمع والتغيير في وادي الأردن الشمالي"، في: “الاقتصاد الفلسطيني: تحديات التنمية في ظل احتلال مديد.” تحرير: جورج العبد. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية ومؤسسة التعاون الفلسطينية، 1989.

الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2012 . التعداد الزراعي 2010 ، محافظة أريحا والأغوار.

حنيطي، أحمد. "قرية الجفتلك: المجتمع والاقتصاد تحت الاستعمار الاستيطاني". مجلة الدراسات الفلسطينية. مجلد 30، العدد 117، بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2019.

ـــــــــــــ. "التعداد السكاني الفلسطيني 2017: قراءة في سياق استعمار استيطاني". مجلة "المستقبل العربي". العدد 476. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2018.

ـــــــــــــ. :التغير الاجتماعي-الثقافي لدى السكان الفلسطينيين في الأغوار: دراسة إثنوغرافية لقرية في الأغوار الشمالية". رسالة ماجستير غير منشورة، بيرزيت: جامعة بيرزيت، 2013.

الدقاق، إبراهيم. "نحو برنامج تنموي من أجل الصمود في المناطق المحتلة". مجلة "شؤون فلسطينية"، العدد 136، أيار/ مايو 1982.

صوالحة، فراس. "زراعة وإنتاج الخضروات في الضفة الغربية". نابلس: مركز الدراسات الريفية في جامعة النجاح الوطنية، 1984.

عورتاني، هشام وشاكر جودة، "الزراعة المروية في المناطق الفلسطينية المحتلة". نابلس: مركز الدراسات الريفية في جامعة النجاح الوطنية، 1991.

Tamari Salim. “The Dislocation and Re-Constitution of a Peasantry: The Social Economy of Agrarian Palestine in the Central Highlands and the Jordan Valley 1960-1980.”

أطروحة قدمت سنة 1983 لنيل شهادة الدكتوراه في الفلسفة في جامعة مانشستر، كلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية.