التجمعات البدوية والرعوية في الأغوار ومشاريع الضم الإسرائيلية: مأزق الخطاب الإنساني والوطني
التاريخ: 
19/06/2020
المؤلف: 

لطالما شكلت قضية الأغوار بعداً جيوسياسياً مركزياً في المخططات الاستيطانية الإسرائيلية، ومخططات الضم الأخيرة للمنطقة هي حلقة أخيرة من سلسلة طويلة من المشاريع الاستيطانية التي بدأتها إسرائيل منذ احتلال الضفة الغربية سنة 1967، ولا تزال متواصلة إلى يومنا هذا. وتنتشر التجمعات الرعوية والبدوية في منطقة الأغوار بشكل واسع، إذ إن الأغلبية العظمى من سكانها هم لاجئون يعانون التهجير القسري والتطهير العرقي المستمر منذ سنة 1948، ولا توجد إحصاءات دقيقة لعدد سكانها الحالي. ويشكل التخلص من هذه التجمعات هدفاً استراتيجياً للمخططات الإسرائيلية، إذ إن انتشارهم على مساحات واسعة ومتفرقة يعيق مشاريع ضم المزيد من المناطق (التي تُصنف في معظمها مناطق "ج" بحسب اتفاق أوسلو)، وربط المستعمرات ببعضها وتوسيعها. وتضم منطقة الأغوار، وفق تقرير نشرته مؤسسة الحق سنة 2018، نحو 37 مستعمرة وبؤرة استيطانية يسكنها قرابة 10.000 مستوطن إسرائيلي.

 وقد انتهجت الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة سياسات متشابهة نوعاً ما فيما يتعلق بالتجمعات الرعوية والبدوية، والقائمة على استخدام جميع الوسائل لتهجيرهم؛ ويشمل ذلك العنف المباشر من الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، وهدم المنازل ومصادرة الممتلكات، والحرمان من البنى التحتية والخدمات الأساسية، بالإضافة إلى التضييق على المراعي. ومن جهة أُخرى، عملت إسرائيل إلى جانب العنف المباشر المرئي، على استخدام وسائل تهجير قسري بطيء وطويل المدى تؤدي إلى تضييق سبل العيش على السكان والسيطرة على المياه والموارد الطبيعية. ويشمل ذلك حرمانهم من مقومات الحياة الأساسية المتمثلة في توفير عيادات صحية وشبكات كهرباء ومؤسسات تعليمية لائقة، ومنع تعبيد طرق المواصلات المؤدية إلى معظم التجمعات البدوية والرعوية، وهو ما يدفع السكان إلى سلوك طرق وعرة للوصول إلى الخدمات الرئيسية في القرى الفلسطينية المجاورة. ويعمل بذلك الاستعمار الاستيطاني على جعل معاناة السكان اليومية غير مرئية ولا مسموعة، على عكس أعمال العنف المباشر التي قد تحظى بتضامن شعبي، ويستنزف طاقاتهم في عمليات بيروقراطية طويلة ومعقدة لنيل بعض مقومات الحياة الأساسية.

ومع فشل المشاريع الإسرائيلية المستمرة في تهجير هذه التجمعات على الرغم من واقعها المعيشي الصعب، سعت إسرائيل لإيجاد حلول لقضية التجمعات البدوية والرعوية من خلال إعداد مخططات لتدمير التجمعات البدوية في منطقة الأغوار، وتجميعها في تجمع مركزي وتوزيع التجمعات الرعوية غير البدوية على القرى المجاورة، وهو ما يعارضه السكان باعتباره تهجيراً جديداً، فبعضهم يسكن في التجمعات الحالية من عشرات السنين، بالإضافة إلى الآثار الاجتماعية والاقتصادية لمثل هذه المخططات التي لا تراعي نمط حياتهم اجتماعياً وثقافياً، وسبل عيشهم الاقتصادية المعتمدة على توفر مساحات واسعة للرعي.   

وفي هذا السياق، تزايد الاهتمام بشكل كبير على مدار السنوات الأخيرة بقضية التجمعات الرعوية والبدوية من جانب السلطة الفلسطينية والمؤسسات الدولية الإنسانية الفاعلة في الأراضي الفلسطينية. وتركز اهتمام مختلف الأطراف على البعد الإنساني والحقوقي لوضع هذه التجمعات، من دون السعي لإيجاد حلول سياسية تنطلق من مبدأ السيادة على الأرض بدلاً من السعي لإيجاد حلول إغاثية موقتة لكارثة إنسانية لا تنتهي إلاّ بحل سياسي. وتركزت السياسات والتدخلات الإنسانية والحقوقية، التي انتهجتها السلطة الفلسطينية والمؤسسات الدولية لدعم التجمعات البدوية والرعوية في الأغوار، في مجال الدعم القانوني أمام القضاء الإسرائيلي، وتقديم المساعدات الإغاثية وبعض التدخلات الخدماتية والتنموية محدودة الأثر، بالإضافة إلى الحملات التضامنية الموقتة. وتدور جميع السياسات والتدخلات سابقة الذكر في حلقة مفرغة من البناء والهدم وكسب الوقت للمراوغة والتفاوض، إذ تعمل إسرائيل باستمرار على إعادة تدمير وتقويض كل المساعدات والبنى التحتية التي تحاول المؤسسات الوطنية والدولية توفيرها لدعم السكان في التجمعات المهددة بالتهجير. ويتزايد ضعف تأثير هذه التدخلات الإنسانية المتعددة مع غياب استراتيجيا ورؤية وطنية موحدة للتعامل مع قضية التجمعات البدوية والرعوية انطلاقاً من منطق "السيادة" لا "الحماية".

وتكمن إشكالية النهج الإنساني في التعامل مع قضية التجمعات البدوية والرعوية بأنه يعزز بقاء الوضع على ما هو عليه، ويستسلم للواقع الاستيطاني الذي تفرضه السلطات الإسرائيلية، فهو يعمل على إيجاد سبل للتكيف بدلاً من التغيير. كما أنه يعمل على عدم تسييس القضية بعدم ربطها بالسياق الاستعماري الاستيطاني العام في جميع الأراضي الفلسطينية عبر التاريخ، وبمشاريع التهويد ومخططات الضم الإسرائيلية التي تستهدف الأغوار بشكل ممنهج لتوسيع المستعمرات وإحداث تفوق ديموغرافي لمصلحة الإسرائيليين، والسيطرة على مساحات أكبر من الضفة الغربية، وهو ما يعني ضمناً، غياب أفق حل الدولتين، إذ تشكل مناطق الأغوار نحو ربع مساحة الضفة الغربية، التي تضم الأراضي الخصبة ومصادر المياه والمناطق الحدودية التي لا يمكن لأية دولة فلسطينية مستقبلية الاستغناء عنها. وعلاوة على ذلك، فإن هذا النهج يحوّل الفلسطينيين إلى متلقين للمساعدات وغير فاعلين سياسياً، ومفتقرين إلى حقهم في تقرير المصير، كما يعمل على إقصاء سكان مناطق "ج" وتهميشهم سياسياً وجغرافياَ بصورة عامة.

وضمن هذه المعطيات، فإن مشاريع الضم الجديدة لمنطقة الأغوار في حال تنفيذها، ستمنح إسرائيل الضوء الأخضر لتنفيذ مخططاتها السابقة الرامية إلى إفراغ المنطقة من أهلها، وإحكام السيطرة على الأرض والموارد الطبيعية. وبذلك، ستكون التجمعات البدوية والرعوية الأكثر عرضة وهشاشة للتهجير القسري والمستقبل المجهول. وتعتمد إسرائيل أساساً على قابلية البدو للتنقل بحكم ثقافتهم القائمة على الترحال من جهة، ومن جهة ثانية على عدم امتلاكهم أوراقاً رسمية وثبوتية للأراضي التي يقيمون عليها في كثير من الأحيان، وهي في الغالب أراضٍ تصنفها إسرائيل أراضي دولة ومناطق عسكرية. ومن الجدير ذكره، أن استهداف هذه التجمعات التي تعتمد اقتصادياً بشكل كبير على قطاع الثروة الحيوانية المعتمد على وجود المراعي، سيؤدي بعشرات العائلات المقيمة بهذه التجمعات إلى البطالة والعمل المأجور وارتفاع معدلات الفقر، وسيحرم الاقتصاد الفلسطيني من فرص الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بالإنتاج الحيواني، وهو أمر يجعل قضية التجمعات البدوية والرعوية سياسية بامتياز، فآثار عمليات تهجيرهم المستمرة لا تتعلق فقط بمجموعة من التجمعات الصغيرة مترامية الأطراف، بل أيضاً بمخططات استيطانية تعمل على إعادة ترسيم الحدود بعيدة المدى. وبذلك، تبقى ممارسات الصمود اليومية على الأرض التي يبديها سكان الأغوار بصورة عامة، والتجمعات البدوية والرعوية بصورة خاصة، عائقاً أمام المخططات الإسرائيلية لمحو سكان المنطقة، إلاّ إنها لن تستطيع الصمود طويلاً مع تغيرات المواقف الدولية والإقليمية تجاه إسرائيل التي قد تشرعن الممارسات الاستيطانية في ظل غياب رؤى واستراتيجيات سياسية واضحة للمواجهة. 

 

الصورة: تجمع أبو نوّار - شرق العيزرية، تصوير أحمد حنيطي.

 

قائمة المراجع

أحمد، عائشة. "السياسات الإسرائيلية في المناطق المصنفة 'ج' معيقات التنمية فيها وتدخلات الحكومة الفلسطينية في مواجهتها: خطط وتحديات". الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان- ديوان المظالم، 2016.

الحروب، محمد. "السياسات الإسرائيلية تجاه التجمعات البدوية وسبل مواجهتها.. الخان الأحمر نموذجاً". البيرة: المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الاستراتيجية –مسارات، 2018.

حنيطي، أحمد. "التجمعات البدوية في وسط الضفة الغربية كحالة دراسية". بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 2018.

سلامة، عبد الغني سلامة. "الاستيطان، والتهجير القسري لسكان الأغوار والسفوح الشرقية". "مجلة قضايا إسرائيلية"، العدد 68 (2018)، ص 62-71.

ميلون، مرسيدس. "الاستيطان في منطقة 'ج': غور الأردن مثالاً". ترجمة ياسين السيد. رام الله: مؤسسة الحق، 2018.

نحاس، فادي. "إسرائيل والأغوار: بين المفهوم الأمني واستراتيجيات الضم". رام الله: المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، مدار، 2011.

 

عن المؤلف: 

فيروز سالم: طالبة دكتوراه ومحاضرة في جامعة بيرزيت.