من يومياتي: عن البرد والزيارة والعيد في سجن نفحة الصحراوي
التاريخ: 
17/06/2020
المؤلف: 
ملف خاص: 

الأربعاء 26/12/2018

شاهدت سوية مع شركائي في الغرفة احتفالات عيد الميلاد في بيت لحم وكنيسة المهد في بث مباشر من فضائية فلسطين، كان لمتابعة هذه الاحتفالات الدينية والشعبية مع أسرى بيت لحم طعم خاص، فهم يتحلقون حولي ويرون مدينتهم معتزين بها معي، وتكون قمة الإثارة والانفعال عندما تتنقل الكاميرا لتنقل المشاهد من الساحة الخارجية لكنيسة المهد وكذلك للحارات المجاورة. كان الأسرى يتسابقون للشرح أي حارة هذه وإلى أين تؤدي تلك الطريق، وبيت فلان دربه من هنا أو هناك، وأنا أتفاعل معهم أيضاً ببساطة وسعادة. إنهم محرومون من رائحة المكان وبعضهم منذ سنوات طويلة جداً. عيد الميلاد مثل عيدَي الفطر والأضحى في السجن يمر من دون بهجة، ليقتصر الاحتفال على ضيافة بسيطة وتبادل التهنئة بالعيد، وينتهي الموضوع ويعود اليوم إلى روتينه المعهود.

 

لوحة للفنان سليمان منصور بعنوان "غرفة التحقيق"، ١٩٨٢، زيت على قماش.

 

زارني أمس للتهنئة بالعيد، حمودة، وهو حلاق القسم وقد بدا عليه الحزن والبؤس، وما إن سألته عن الموضوع حتى تأثر وترقرقت الدموع في عينيه، فبالأمس ودّع أخاه الذي تحرر من السجن بعد اعتقال دام خمسة أشهر، وكان أخوه في الخامسة عندما دخل حمودة السجن ليقضي حكماً بالسجن المؤبد وها هو في العشرين يقرر بأية طريقة تتسبب في اعتقاله حتى يتعرف على أخيه ويقضي وقتاً معه في السجن، وهكذا كان فقد عاشا سوية خمسة أشهر في غرفة واحدة. يقول حمودة إنه بقدر سعادته بالتعرف على أخيه وبالعيش معه، إلاّ إن وطأة الوداع جعلت هذا اليوم أصعب يوم في حياته.

السبت 5/1/2019

عام مضى وينقضي معه أول أسبوع في السنة الجديدة، غداً الأحد زيارة أسرى بيت لحم والقسم كله يجهز نفسه للزيارة. الجميع قلق من حالة الطقس التي أنذرت نشرات الأخبار بأنها ستكون عاصفة.

أوضاع سجن نفحة فيما يتعلق بزيارة أهالي الأسرى هي الأسوأ بين السجون التي كنت فيها حتى الآن. ففي حال كانت حالة الطقس سيئة فهذا يعني أن الأهالي سيعانون الأمرّين في الانتظار ساعات حتى يحين موعد دخولهم للقاء أسراهم، فلا قاعة انتظار مناسبة، ولا أية وسائل راحة وكثير من الزائرين هم من المسنين والعجزة، وحتى قاعة الزيارات نفسها لا تستحق اسم قاعة، إنما هي فسحة على شكل مستطيل مقسومة بحاجز باطوني، بارتفاع أكثر من متر بقليل يعلوه حاجز زجاجي ومقاعد من البطون من الجهتين، ولا شيئ يفصلها عن بعضها، فكأن الجميع يقابل الجميع من دون أدنى حد من الخصوصية، والمكان كله ضيق وصغير يتسع فقط لزيارة 11 أسيراً في الوقت نفسه.

أجهزة الهاتف المستعملة قديمة وتشوش الصوت في معظم الوقت، وفي حال كان الطقس بارداً وتم تشغيل المكيف للتدفئة فهو أيضاً قديم ومزعج، إلى درجة أن الأسرى يفضلون تحمّل البرد على أن يشغّل ويشكل ضجة إضافية تصعّب أكثر المحادثة المشوشة والمقطعة مع الأهل بسبب الهواتف القديمة.

ويساورني القلق بأن زيارتنا نحن أسرى القدس والداخل سوف تكون يوم الأربعاء المقبل، وأتمنى أن تتحسن أحوال الطقس حتى ذلك الحين.

أول أمس شاهدنا برنامج "عمالقة الصبر" الذي تبثه فضائية فلسطين مساء كل خميس، وقد خصص جزء من الحلقة للقاء مع أهل ناصر صلاح أبو القاسم من غرفتي، والأسير محمد الخطيب ابن خاله، وهو من الأسرى القدامى والقياديين في التنظيم القيادي لحركة "فتح". وقد شاهدنا البرنامج سوية مع أبو القاسم، وظهر في اللقاء أبو مريم، أخو أبو القاسم وهو من الجهاد الإسلامي، وكان أسيراً أمضى في السجن عشر سنوات وقد أقام مع أبي القاسم في الغرفة نفسها حتى قبل أشهر قليلة.

كما تحدثت الحاجة الوالدة، ودائماً تكون قمة التأثر والتفاعل عندما تتحدث الأم. وكان أكثر ما ينتظره أبو القاسم هو رؤية أبناء وبنات أشقائه وشقيقاته المحرومين من الزيارة، وبعضهم لم يرهم في حياته، أو يعرفهم أطفالاً صغاراً وهم الآن شباب وصبايا.

كانت لحظات مؤثرة سالت فيها دموع أبي القاسم لسماع هؤلاء ومشاهدتهم، وهم يعرّفونه على أنفسهم ويبلّغونه السلام فرداً فرداً، وبلغت الذروة عندما غنّت له أمه "المهاهة" الفلسطينية الشعبية المعروفة.

شاهدت هذا البرنامج في السجن مرات عديدة، لكن هذه أول مرة أشاهده مع أسير يكون هو عنوان الحلقة، وأراقبه وهو يستمع إلى أهله وذويه. بعد هذه التجربة أدركت أهمية البرنامج في رفع معنويات الأسرى وكسر حاجز العزل التي تفرضه إسرائيل على عائلاتهم من أقارب الدرجة الثانية من دون أي اعتبار إنساني أو مسوغ قانوني، وهذا أمر في غاية الأهمية أن "يزور" الأسير أقاربه عبر الشاشة لتعزيز صموده والحفاظ على إنسانيته في وجه آلة القمع والعزل الإسرائيلية.

 الثلاثاء 8/1/2019

بالأمس كان عيد الميلاد بحسب التقويم الشرقي، وتبين لي وجود أسيرين في القسم من الجبهة الشعبية يعيّدان بحسب هذا التقويم من بينهما صديقي أبو مسعد. ذهبت برفقة أبو القاسم وعدد من الشباب لتهنئتهما بالعيد خلال الوقت المحدد لزيارة الغرف (هنا في نفحة لا يستطيع الأسير السير والتجول في القسم والدخول إلى غرفة أُخرى متى يشاء، فهناك نظام الزيارات الذي يحدد وقتاً لزيارتين: واحدة في الصباح وأُخرى بعد الظهر، ومدة كل زيارة ساعة واحدة)، رحب بنا أبو مسعد ضاحكاً وقدموا لنا "ضيافة" العيد. وأبو مسعد العلماني ضالع في أمور الدين ويحفظ عن ظهر قلب آيات قرآنية وأحاديث نبوية وهذا ما يثير إعجاب أبو القاسم وهو المهتم أيضاً بشؤون الدين، فهو الخطيب في صلاة الجمعة كل أسبوع.

 موجة الصقيع والبرد وخصوصاً في الليل، مستمرة وهو ما دفعنا إلى إغلاق الشباك الذي اعتاد الأسرى تركه مفتوحاً. ومع ذلك يجد الهواء البارد طريقه إلى أجسادنا حتى تحت الأغطية السميكة عبر الفتحات في المراحيض، ومن حواشي الشباك التي لم تُغلق كما يجب في أثناء البناء. ألبس ليلاً طبقتين من الملابس الداخلية المقاومة للبرد، وثلاث بطانيات سميكة ومع ذلك أشعر بالبرد القارس ينخر في جسمي. غداً زيارة الأهل، وبحسب نشرة الأحوال الجوية لن يكون الجو ممطراً، لكن البرد القارس والريح يجعلاني قلقاً جداً، وأتمنى في داخلي ولو لمرة واحدة ألاّ تأتي العائلة لزيارتي.    

 الخميس 10/1/2019

بعد أيام من الصقيع والبرد الصحراوي القارس (لم نر نقطة مطر واحدة طيلة هذه الفترة)، ارتفعت درجات الحرارة قليلاً، وظهرت الشمس لسويعات قليلة تجرأت فيها على الخروج للفورة، فجلست ساعة كاملة في نقطة استراتيجية أمام الشمس مباشرة وتركتها تداعب جسدي بدفئها الساحر. ولهذا الأمر البسيط متعة خاصة داخل السجن وفي ظل الشتاء القارس هذا، وقلما يعثر الأسير على متع حقيقية تنعش قلبه بسعادة تغمر روحه وتداعب خياله في داخل هذا القفص الذي ينحبس فيه ويطبق على صدره ليلاً نهاراً. ومما لا شك فيه أن هذه الساعة، حين أدخلت أشعة الشمس الشتائية الدفء إلى قلبي وروحي، كانت أفضل متعة حصلت عليها منذ وصلت إلى نفحة.

الاثنين 14/1/2019

عاد البرد الشديد الذي لا يشبه أي برد أو صقيع تعرضت له في السابق، الريح الصحراوية التي تجد طريقها إلى أنحاء غرفتنا وكأن الشباك مفتوح، بعد أن زمجرت في كل أنحاء القسم، تزيد من البرودة أو الإحساس بها بعدة درجات. في المرحاض والحمام نافذتان هما عبارة عن فتحتين مستطيلتين عليهما قضبان حديدية لكن من دون إطار لزجاج، ولهذا فهما مفتوحتان بشكل مطلق ليلاً نهاراً، وصيفاً شتاء. وفي أيام الصقيع هذه لا نعود نحتمل الوضع فنقص الكارتون إذا توفر من صناديق فارغة من الكانتينا، أو نجمع أوراق الجرائد ونطويها لكي تتلاءم مع قياسات الفتحتين ونخترع الطرق لسدّهما وللتخفيف من حدة دخول البرد إلى الغرفة، ونعيد الكرّة كل يوم تقريباً.

لكن يمكن القول بكل صراحة إن معركتنا مع الصقيع الصحراوي كانت خاسرة، ولم يبق أمامنا سوى اللجوء إلى الملابس الأكثر دفئاً، والتكور في البرش تحت عدة طبقات من الحرامات الصوفية السميكة. وبحسب نشرات الأخبار سيستمر هذا المنخفض حتى يوم الخميس، أي لا يزال أمامنا ثلاثة أيام زمهريرية ملعونة. أحاول الخروج إلى الفورة للتنفس وتغيير الجو، لكني أهرب بعد نصف ساعة عائداً إلى غرفتي، ازداد عدد الأسرى في القسم مؤخراً وعاد الاكتظاظ إلى سابق عهده، وهذا الطقس الذي يمنع منا الخروج لساعات إلى الفورة والبقاء ليلاً ونهاراً في الغرفة، أصبح ثقيلاً وشديد الوطأة.

الخميس 17/1/2019

أمس وأول أمس غطت المنطقة سحابة كثيفة من الرمل والغبار لم أشهد مثلها في حياتي، فقد غطت كل شيء، وأصبح مجال الرؤية معدوماً. والأنكى أن الرمل والغبار يغزوان كل مكان حتى داخل الغرف. لم ننته من هذه الحالة الشنيعة إلاّ بهطول زخات من المطر مصحوبة برياح شديدة البرودة. يومان كاملان انزوينا في غرفنا، في البداية هرباً من الغبار والرمل، ثم هرباً من البرد القارس والرياح التي لا ترحم، اليوم خرجت إلى الفورة لنصف ساعة ثم عدت بسرعة إلى غرفتي أبحث عن قرنة دافئة أختبئ فيها من البرد.

 

عن المؤلف: 

باسل غطاس: أسير محرّر وعضو كنيست سابق.