دور الإعلام الغزي في ظل أزمة كورونا
التاريخ: 
15/06/2020
المؤلف: 

بعد ظهور فيروس كورونا بثلاثة أشهر في مدينة ووهان الصينية، بدأت منظمة الصحة العالمية تطلق على انتشاره في العالم مصطلح "جائحة كورونا"، ومع حلول شهر آذار/مارس بالتحديد بدأ الخوف يسري في كل الأوساط، وبات الخطر محدقاً مع سرعة انتشار المرض، ولذلك فقد كان عليّ كصحافية وناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، وككاتبة قصصية أيضاً ألاّ أقف مكتوفة الأيدي أمام هذا العدو المجهول المتربص بحياة الجميع.

ومن خلال متابعتي لوضع الإعلام في العالم تبين لي أن الإعلام العالمي قد بات يتعرض لبعض القيود، كما أن بلد المنشأ، أي الصين قد "لعب لعبته" في عدم ذكر الأرقام الحقيقية للإصابات بالفيروس، وهو ما أدى إلى توريط العالم كله من وجهة نظري، لأن تقزيم الصين لخطورة الجائحة أدى بدوره إلى تقليص حجم الاستعدادات للمواجهة، وكذلك تأخر الكثير من الدول في اتخاذ قرار العزل المنزلي وفرض قيود الحركة، فازداد عدد الوفيات والإصابات في دول مثل إيطاليا على سبيل المثال لا الحصر.

وفي مناطق أُخرى مثل قطاع غزة، وبعيداً عن السياسة، تكتشف أنه في هذه المنطقة المزدحمة يصبح من الصعب عليك ألاّ تستمع إلى الشائعات، كما أن الضجيج الذي يعج في هذه المناطق التي يتسم أهلها بالخوف والقلق يجعل صوت العقل يبدو منخفضاً أو مكتوماً، وبات على الحكومة في غزة أن تتبع الجمهور وتحرص على إرضاء الأغلبية من خلال تطوير خدماتها أو تحسينها أو حتى تغييرها لمواجهة جائحة كورونا.

خير مثال على ذلك حين وصلت أول دفعة من العائدين العالقين من معبر رفح، وكان على الحكومة استضافتهم في أماكن الحجر الصحي التي جُهزت على عجل، وبدأت النداءات تتعالى بضرورة تحسين الوضع المعيشي القصير المدى لهؤلاء وخصوصاً النساء، وقد وجدت النداءات استجابة من الحكومة بسبب تأثير وسائل الإعلام، التي كانت تعمل على مدار الساعة من ناحية، وتأثير السوشيال ميديا من ناحية ثانية. فالقطاع يقطنه أكثر من مليوني غزي يعانون جرّاء الحصار منذ أربعة عشر عاماً، وأصبح هذا العالم هو مكانهم الوحيد لإيصال صوتهم ونشر معاناتهم وتطلعاتهم، وهذه الإشكالية أظهرت أن هناك تكاملاً إيقاعياً بين الإعلام والجمهور والحكومة والمؤسسات الإنسانية التي تعنى بهذه القضايا التي تحولت إلى قضايا عالمية، وبالتالي فإن هذا التكامل أدى إلى نشوء سيمفونية لا يمكن أن يخرج منها النشاز لأن المايسترو  يتبع نظرية أصحاب الحق وأصحاب الواجب.

لاحظت أن كثيراً من الإعلاميين كانوا ينساقون خلف الشائعات على وسائل التواصل الاجتماعي التي سرعان ما كانت تخبو ويبدو أن هناك علاقة طردية ما بين شفافية الأخبار الحكومية في هذا الصدد وخبو الشائعات. وانسياق أي إعلامي خلف الشائعة لا يعني سوى أنه يسعى للشهرة ولفت الأنظار إليه، وربما جاء ذلك بنتيجة عكسية أمام المساءلة القانونية لأن الأمر ليس هيناً. ووجود شائعة في وضع صعب كهذا يعني أنك تضيف مزيداً من الوقود فوق نار مشتعلة من الأساس، وإن كانت الفيديوهات التي كانت تبث مثلاً، تبدو في بعض الأحيان أنها تحمل نصف الحقيقة. فالحقيقة أن الشعب في غزة يريد أن يعيش حتى لو كان فضاء وسائل التواصل الاجتماعي يمتلىء بمروجي الشائعات أو متتبعيها، ولأن الإمكانات معروفة لشعب محاصر، فأقصر الطرق لقتل أي شائعة هو السخرية منها، كما أن المواطن في غزة كان ينتظر التصريحات الصحافية أو الإيجاز الحكومي اليومي سواء في غزة أو رام الله لكي يشعر بالاطمئنان، وبأن مصدر المعلومة يأتيه من حكومة تبذل كل ما تستطيع لحمايته من هذا المرض الذي لم يجد له العلماء علاجاً حتى اللحظة.

وبدوري اكتشفت أن دور المواطن يرتبط ارتباطا قوياً ونوعياً بوعيه وضميره، وكما أن للإعلام دوره بضرورة إقناع المواطن بالبقاء في البيت من خلال الرسائل الموجهة إليه بشتى الطرق، وهذه الرسائل باتت مكثفة وفاعلة، فالمواطن بدوره بات خائفاً من عدو مجهول وهو الذي اعتاد مواجهة طائرات الاحتلال خلال الحروب على غزة، إضافة إلى سنوات الحصار العجاف، فأنت تأتي اليوم لتقنعه بأن يلتزم بتدابير احترازية صحية مثل التعقيم والتباعد الجسدي والامتناع عن الخروج من البيت إلاّ عند الضرورة، وهذا المواطن لن يقتنع إلاّ في حال شعر أنه قد أصبح في وضع المساءلة، وبأنه قد أصبح مسؤولا ًعن عائلته وأحبته قبل مسؤوليته عن نفسه.

يمكن القول إن الإعلام في غزة قد نجح في جزئية توصيل رسالة مهمة إلى المواطن، وهي أن المواطن وهو اللبنة الأولى في المجتمع، قد أصبح مسؤولاً عن هذا المجتمع، وأن عمل الصحافي أو الإعلامي أو الناشط من بيته قد أوصل رسالة مفادها أننا يمكن أن نعمل في أي وضع، وفي أصعب الأوضاع فحماية النفس أولاً ثم تأتي الأمور الأُخرى.

ربما كان على وسائل الإعلام أن توجه رسالة إلى الشباب، وكنت أتمنى أن يحدث ذلك، وإن كان قد حدث في حالات فردية وهو خروج التجمعات الشبابية إلى المناطق المهمشة لمساعدة سكانها للبقاء في بيوتهم بما يضمن كرامتهم وقوت يومهم، وتقديم الدعم لهم عن طريق مؤسسات فاعلة بتوزيع مواد التعقيم والتطهير والنشرات التوعوية المكتوبة والمصورة لمن لا يجيدون القراءة والكتابة، وهذه خطوة من خطوات إسناد الحكومة لمواجهة خطة الطوارىء المستمرة في مواجهة فيروس كورونا في فلسطين عموماً.

وكأيِّ شكل من أشكال الخطاب الملامس للجانب السوسيولوجي لدى الجماهير والأفراد، فليس في وسع الخطاب الإعلامي أن يتغاضى عن خصوصية الجهة المستهدَفة، والعوامل المؤثرة فيها فكرياً ونفسياً، بالتوازي مع الناحية الاقتصادية. وتقريباً، ليس هناك كالمجتمع الغزّي، فهو مجتمع يعيش حالة معقدة تمس جميع الجوانب، ولعل الأكثر هيمنة، جانبان: الفكري والاقتصادي، وهما يتضافران، لصنع حالة التلقّي للمواطن الغزي. ففي عمق الشخصية الغزّية، وهي ليست وحدها بالطبع، في هذه المنطقة، تختلط المعتقدات الغيبية بالتوجهات العملية السببية. فكثيراً ما يطغى الجانب الغيبي، ويطفو على السطح، على نحو يضعف في الفعل، الجانب العملي؛ اتكالاً على مقولات مسكوكة، سائرة، مسيطرة، قدرية، وغيبية، والأخطر حين لا يفصح المواطن عن تلك المقولات التي تنمّ عن اعتقادات ملتبسة، ويترك لها أن تفعل فعلها في سلوكه.

وهذه الحالة الفكرية تتطلب تكييفاً خاصاً للخطاب الإعلامي؛ تكييفاً يراعي الموانع المحتملة للاستجابة، فلا يقتصر دور الرسالة الإعلامية على القيام بالدور الوصفي، بل أيضاً المبادرة إلى نوع من الانخراط الواعي، والمحصَّن، بأدوات فكرية ونفسية، واجتماعية.

والجانب الثاني، وهو الاقتصادي، لا يمكن تجاهله، وهو يقتحم أية محاولة للتعاطي الرسمي المفترض به الاتساق مع التوجيهات الصحية العالمية، ولئن واجهت دول العالم وحكوماته أزمات عميقة في عملية الاستمرار في تنفيذ إجراءات الوقاية والحدّ من تفشي الوباء وخروجه عن السيطرة، فإن قطاع غزة لعله المكان الأقل قدرة على الصمود أمام أية إجراءات مقيّدة للنشاط الاقتصادي، وهذا يتطلب معالجة يتداخل فيها الإعلام مع المعالجات الحكومية المراعية لخصوصية الحالة الغزّية.

بقي أن أقول ومن وجهة نظر شخصية جداً، أنه حين تكون هناك أزمة أو كارثة فالخوف يسيطر على الدماغ مدة أربعة أسابيع بحسب علم النفس، ولذلك بعد هذه المدة تتوقف سيطرة الهلع ويشعر الإنسان بأن الخطر قد زال، لكن الحقيقة أن الخوف هو الذي تعطل عن العمل فقط، ولا زال كورونا موجوداً، ومن هذا المنطلق كنت أكتب من خلال صفحتي على فيس بوك عن الحالات حول العالم والمآسي، ثم تأقلمت بعد ذلك وبدأت الكتابة عن الأمل وعن الحياة العامة واليومية في ظل كورونا.

 

الصورة: من غزة، تصوير سما الحسن.

عن المؤلف: 

سما حسن: صحافية من غزة.