من ذاكرة الأسر لشهر أيلول/ سبتمبر
التاريخ: 
10/06/2020
المؤلف: 
ملف خاص: 

دقوا جدران الخزان

في ظهر يوم الخميس الخامس من أيلول/ سبتمبر 2002 وفي تمام الساعة الحادية عشرة ظهراً، كنا أربعين أسيراً داخل سيارة البوسطة المقرر لها التحرك من سجن نفحة إلى سجن الرملة، وكان لا بد من المرور بكل الإجراءات الاعتيادية المرهقة معنوياً ونفسياً.

وفي اللحظة التي كان من المفترض أن تتحرك بنا سيارة البوسطة أخبرنا الضابط المسؤول أن التحرك سيتأخر ساعة لأن السجانين يتناولون الطعام، وهذا يعني معاناة إضافية وقاسية داخل هذا السجن الحديدي الذي يتسع في أقصى الأحوال لثلاثين أسيراً، وبدأت درجات الحرارة ترتفع بتسارع، والهواء أصبح ثقيلاً، والضوضاء محبوسة بين الجدران الحديدية.

 مقاعد حديدية صلبة، قيود الأيدي والأرجل تزيد القيد قيداً، ثقوب صغيرة عوضاً عن النوافذ، كنا ننتظر أن يتسرب منها الهواء مع تحرك البوسطة. كنت أختنق شيئاً فشيئاً وكأن الهواء قد خلا من الأوكسجين، ودوار شديد أخذ يضرب رأسي والعرق يتصبب، وكأن السماء أنزلت مطرها علينا في قلب الصحراء، وأصبحت رائحة الحديد تختلط برائحة الأجسام، وحركة الأجساد إلى جانبي وكأنها رسمت مشهداً ملحمياً لا يفارق ذاكرتي صوتاً وصورة ورائحة. ساعة من الألم المتصاعد وكأنها دهر بأكمله إلى أن تحركت البوسطة وأخذت طريقها شمالاً باتجاه سجن الرملة، والتقطنا أنفاسنا من خلال الهواء الخفيف الداخل عبر الثقوب الموجودة في جدار الخزان.

عتمة الليل

في مساء يوم الاثنين منتصف شهر أيلول 2014، وعند الساعة العاشرة مساءً داهمت قوة من السجانين غرفتنا في سجن نفحة في القسم رقم 3، وذلك لإجراء تفتيش. وحتى انتهاء التفتيش تمّ إخراجنا الى الساحة على غير العادة، إذ إنه من المعتاد وضع الأسرى خلال التفتيش في غرفة انتظار، وعلى غير العادة وجدت نفسي وتسعة من الرفاق في وسط ساحة مظلمة، وجدنا أنفسنا في عتمة الليل التي حُرمنا منها منذ سنوات. قلت بصوت مسموع: "يا شباب إنه الليل." إنها تلك العتمة التي داهمتنا فرحاً وسعادة، أشعلت نوراً في خلايا الذاكرة وأدخلتنا في زقاق التأمل والتفكير.

في لحظة صمت، صرخ أحد الرفاق كاسراً تلك السكينة قائلاً: "يا شباب نحن نعيش على هامش الحياة، فالحياة الطبيعية فيها الليل والنهار والفصول الأربعة، أمّا هنا فكل الأيام سواء. الليل يبدأ بالنسبة إلينا بعد عدد المساء وإطفاء الضوء، ونهارنا يبدأ بعد عدد الصباح وإشعال الضوء." ودار نقاش عميق حول هذه الفكرة على مدار عشرين دقيقة بين الفلسفة والفكر والتهكم والسخرية حتى انتهى التفتيش الذي تمنينا في هذه اللحظات أن يطول.

دخلنا الغرفة وأُقفل الباب علينا وتم وضع الأقفال الثلاثة. قمنا بترتيب الغرفة بعد التخريب الذي أحدثه السجانون في أثناء التفتيش، وأخذنا مواقعنا على الأبراج واستمر الحوار حتى منتصف الليل، أطفأ السجان ضوء الغرفة الذي يتحكّم به دوماً، وأعلمنا عن بدأ ساعات الليل ليحلّق كل منا بأفكاره وأحلامه في ظلمة السجن.

تلك العتمة الباهرة

 مرّ أحد أيام فصل الشتاء على الأسرى الفلسطينيين في سجن النقب الصحراوي بشكل اعتيادي، بين الإجراءات الأمنية مثل العدد لثلاث مرات، والفحص الأمني للغرف مرتين في اليوم، إضافة إلى برنامج الأسرى في الخروج إلى الساحة لتناول الطعام، وغيرها من الأمور التي تُمارس كل يوم على مدار الأسبوع، مر يوم الاثنين بشكل روتيني إلى أبعد الحدود.

 تم إغلاق القسم وعد الأسرى داخل الغرف ووضع الأقفال الحديدية على الأبواب، وهذا الإجراء يومي يقوم به السجانون، وعند الساعه التاسعة والنصف مساءً وبشكل مفاجئ انقطع التيار الكهربائي وحل الظلام، إذ إن انقطاع الكهرباء داخل السجن أمر نادر الحدوث وتحديداً في ساعات الليل، فعشرات الأضواء الضخمة تضيء ساحات القسم وكل مكان داخل جدران السجن، حتى غرف الأسرى يدخلها الضوء من النوافذ بشكل يؤدي إلى إضاءة الغرفة ليلاً، وبالتالي بات الظلام الذي يذكرنا بالليل لا مكان له داخل جدران الأسر، لذلك يشكل انقطاع الكهرباء حدثاً بارزاً.

 وعلى الفور ساد لثوانٍ جوّ من الهرج والمرج والفرح الكبير. وفجأة يخيم صمت رهيب دون أي تنسيق أو طلب من أحد، جاء الصمت احتراماً لعتمة الليل، جاء الصمت معبّراً عن حلم صغير جداً، حلم بأن نعيش الليل بظلامه وعتمته كسائر البشر.

إنه أمر بسيط جداً ويحياه كل إنسان بشكل اعتيادي، لكن إن توقفنا قليلاً متأملين عتمة الليل لوجدنا الأمر معقداً جداً، إذ تصل مرحلة يسقط فيها الليل بمعانيه الحقيقية من ذاكرة الأسير ليصبح ساعات الراحة والنوم لا أكثر ولا أقل، ومع تكرار الأمر خلال السنوات يفقد الأسير الشعور والمعنى الحقيقي لليل كما يشعره ويدركه سائر البشر، ليأتي حدث انقطاع الكهرباء بعثاً لحالة من الراحة والسعادة والفرح للأسير، وهكذا نعيش اللحظة ونستمتع بها مستغلين هذا الانقطاع لنأخذ فسحةً من عتمة الليل منتظرين انقطاعاً آخر، فصوت عتمة الليل أقوى من أي صوت، كنا جميعاً صامتين نستمع إلى صوت العتمة المفقودة.

 كنا غارقين في عالمنا خارج المكان والزمان محلقين في سماء ذاكرتنا، واضعين كل الجهد لنستذكر المعنى الحقيقي لليل، فتلك العتمة الباهرة فرصة لا تعوض، عتمتنا التي نفتقدها ونفرح لحضورها تبعث نوراً باهراً في عقولنا وأرواحنا لنستقبل الغد. وكما جاءت العتمة مباغتة، تفارقنا بالطريقة نفسها إلى حين الانقطاع القادم.

في اليوم التالي وعند اللقاء في الساحة كان انقطاع الكهرباء حديث الساعة، وكلًّ يروي تجربته ويصف مشاعره، وأحياناً تعلو الأصوات وتنخفض وفقاً للراوي ومدى تفاعل الأسير مع الحدث، وفي خضم هذا النقاش تذكرت رواية ("تلك العتمة الباهرة") للكاتب المغربي الطاهر بن جلون، أخذت نفساً عميقاً، ابتعدت عن زملائي، واستحضرت حجم الألم الجاثم في تلك الرواية، سمعت صوتاً يقول "إن الأمل يولد من رحم المعاناة،" ابتسمت، رفعت رأسي ونظرت حولي فلم أرَ الجدران والقضبان.

(ملاحظة: في أواسط سنة 2009 قررت الحكومة الإسرائيلية منع الأسرى من الدراسة في الجامعة المفتوحة، وذلك ضمن الإجراءات العقابية الانتقامية وما عُرف في حينه بقانون شاليط - جندي الاحتلال الذي كان أسيراً لدى "حماس").

 

الصورة: لوحة للفنان حسني رضوان.

عن المؤلف: 

بلال عودة: أسير محرر، أمضى في السجون الإسرائيلية 18 عاماً (2001-2019)، وهو حائز على شهادة الماجستير من الجامعة المفتوحة في موضوع الديمقراطية والعلاقات الدولية خلال دراسته في السجن.