أبسط القصص كانت أكبرها
التاريخ: 
27/05/2020
المؤلف: 
ملف خاص: 

كيلة

رافقتني في الزنزانة "كيلة" مصنوعة من النيروستا الممانع للصدأ. لم أكن أتوقع مثلها رفيقاً أو رفيقة. كانت الكيلة لصب الماء الساخن من طاقة البوابة، أمدّ يدي من الطاقة وأحمل بها الكيلة، ليصب السجان ماء ساخناً كما يرتئي إذ لا أستطيع رؤيته كي أوجهه، فلا متّسع في الطاقة ليدي الممدودة والكيلة والنظرات معاً. سلّمت أمري إلى كرم السجان أو لانتقامه لا أدري. وهكذا كنت أحصل على كوب من الشاي بالماء الفاتر.

بعد أن احتسيت الشاي غدت الكيلة تؤانسني، وبلحظة اكتشفت أنها تصلح لتكون آلة موسيقية تعيد الصدى ولها صوت يذكرني بصوت الجرس، وتطورت الأمور فكانت الشيء الوحيد الذي أحادثه ويحادثني إلى أن يطغى ضجيج البوابة والأقفال والسلاسل ليقتادوني إلى غرف التحقيق.

في اليوم الأخير قبل "الخلاص" من زنازين معتقل الجلمة، انتصرت على السجان وتعاملت معه على أنه هو السجين، بعد أن حان دور لعبة "الكلاحة"، أي قبول أمور غير منطقية للحفاظ على عزة النفس آنذاك. وقد جاء السجان ليسكب الطعام وعاد إلى السؤال نفسه بلهجته التي لا تشبه أياً من اللهجات العربية الفلسطينية: شاي ولاّ أكل؟

فأجبته بما لم يتوقعه: "أنا بدي البطاطا بالشاي".

أي أريد أن أحصل على فتة فلسطينية بالبطاطا. كان الطعم مقززاً، وخصوصاً أن البطاطا كانت سيئة الطعم نتاج سوء الجودة. لكن ابتسامتي كانت كما يُقال بالعامية "من الذان للذان"، وشعرت بالنشوة، وجعلتني النشوة أشعر وكأنني تذوقت بعض مناقيش إم صبري المشهورة في حي وادي النسناس في حيفا.

رمقني بعينيه الحاقدتين وبصوته الحانق وبلغته العبرية وببذاءة الكلام صرخ: " أنت (...) كبير"، ومضى بعيداً وأنا أضحك.

كان غيظه ذروة انتصاري الأول، ولم أكن أريد أكثر من ذلك.

 في الوصول إلى هناك

 يومان من التنقل بعد التمديد القضائي، عودة إلى معتقل الجلمة لكن إلى قسم الاعتقال لا التحقيق. وفي اليوم التالي انطلقت البوسطة (حافلة نقل الأسرى). بعد زنازين التحقيق التابعة للشاباك، شعرت بأن كل مكان هو واسع و"شرح" حتى في البوسطة. شعرت، وعلى الرغم من الإرهاق، وكأنني في جولة مدرسية في أحضان الطبيعة قبل ثماني سنوات وأنا في الصف الخامس الابتدائي. نعم، أنت في الطبيعة لكن لا يُسمح لك بالتسلق أو الركض بعيداً عن المجموعة، حفاظاً على سلامتك. وشتّان ما بين معلمتي وبين السجان الذي يرافقني في البوسطة.

لم أكن أعرف وجهة رحلة البوسطة، ولم أكترث، فالمهم هو أن تواصل الرحلة بعيداً عن زنزانة الشاباك. وصلنا إلى هناك، ولم أكن أعرف أين، المهم وصلنا، وبعد انتظار نزلت من البوسطة. وفيما بعد عرفت أنني في سجن جلبوع على أطراف مرج ابن عامر.

 في غرفة ضابط استخبارات السجن 

كان يرفع صوته تارة ويخفضه تارة، "يغزل ناعم". رأيت في ذلك امتحاناً لي ربما ليرى إن كان بإمكانه أن يوقع بي. أمّا أنا فكنت أتصرف وكأنني "أطرش بالزفة"، لكن أذناي كانتا تنصتان إلى أسئلته المتكررة عن التنظيم الخطر الذي جندني لعملية كتابة "ستاتوس"، وعيناي وذهني في مكان آخر.

"آخر مرة أعيد السؤال"، صرخ منفعلاً.

أجبته مبتسماً لانفعاله: "تنظيمي هو التجمع". وهو حزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي كنت أنتمي إليه وكبرت بين صفوف تنظيم الشبيبة التابع له.

قال لي ضاحكاً: "مفكغني أهبل؟" واليهود الأشكناز يدمجون في حديثهم بين حرفي الراء والغين. وتابع كلامه "إنت جبهة شعبية"، علماً بأني من أراضي فلسطين المحتلة سنة ١٩٤٨ ويحظر علينا قانونياً الانتماء إلى الفصائل الفلسطينية، وعقوبة ذلك هي السجن.

وزنك ؟

طولك؟

عندك أمراض؟

بيلزمك دواء؟

بعد التقرير المفصل، ننتقل إلى المحطة التالية: زنزانة انتظار إلى حين اقتيادنا إلى الأقسام حيث الأسرى.

هناك، كان يجلس ابن القدس والبلدة القديمة تحديداً. تعرفت عليه، لكنني لم أتمكن من رؤية ملامح وجهه، لأن الضرب المبرح والتعذيب في زنازين الشاباك كانا قد أخفيا جزءاً كبيراً من الملامح.

 في القسم رقم 4

بما أنني لم أكن تابعاً لفصيل، فقد جرت استضافتي في إحدى الغرف المصنّفة للأخوة في "فتح". مكثت هناك ثلاثة أيام. 

وبعد ثلاثة أيام بادر أحد الرفاق إلى مرافقتي وأنا أمشي في الساحة، شاركته في عدم الراحة بالنوم على فرشة سجون وضعوها على المصطبة نتيجة الاكتظاظ الكبير وفائض عدد الأسرى عن الأبراش المتوفرة. شرح لي الوضع الطارئ بعد أن استفسرت منه عن كيفية الحصول على " بُرش"، وهو السرير الحديدي ذو الطابقين. وبما أنني من صغار السن فإنني سأحصل على بُرش علوي.  جرى ذلك في غرف الرفاق من الجبهة الشعبية بعد أن حسمت أمري بشأن التظيم الذي سأنضوي تحت إطاره.

بلغني المسؤول التنظيمي في الساحة (الشاويش) بالانتقال إلى غرفة الرفاق. وفجأة وجدت نفسي مع أسرى ذوي تجارب طويلة العهد "أسرى ما قبل اوسلو". أحدهم رأيت فيه معلماً وطنياً اسمه إبراهيم أبو مخ، متمكن من عدة لغات، ويُلقب برجل المهمات الصعبة. أمّا رشدي أبو مخ (صالح)، فهو رجل ترى في عينيه كل شيء، اللعب والانتقام والعطاء وعدم الانسحاب.  لا أرى في مخيلتي إبراهيم من دون صالح. كلاهما أكبر ويمضي في السجن نحو ضعف عمري، وكلاهما أكبر جيلاً من أبي، ويمضيان العقد الرابع من الاعتقال وهما يحاربان السجّان والمرض واليأس.

لم يكن من السهل في البداية أن أتحدث عن نفسي وأعرّف الرفاق بقضيتي وهي كلها تدور حول دوري على صفحات الفيسبوك. حالفني "الحظ" بأن ابن بلدتي الأسير أنيس صفوري، وتجمعنا الصداقة العائلية، قد حفر اسمه على الحائط بملاصقة البرش الذي أنام عليه، وهذا منحني شعوراً بالأُنس.

عندما رأيت راندي عودة خفت. فهو شاب طويل أسمر أوحى لي وكأنه من لاعبي الـ: "أن بي إيه" الذين أتابعهم بتشوّق وإعجاب. لكن من معرفتي الأولى له، ومن رفقته وجدت فيه إنساناً يمتلك كل التواضع، وهو المتابع لأخبار العالم بعدما سُجن لدوره في الانتفاضة الثانية. ثم تعرفت على شادي الشرفا، المثقف الذي اعتقل خلال الانتفاضة الثانية أيضاً ومعروف بصلابته وتاريخه النضالي. رافقت شباباً من القدس، منهم "سنوكر" ابن شعفاط، صاحب النكتة والضحكة في كل الأوقات، وقد انصب كل جهده في الأسر على التثقيف الذاتي والجماعي، والرفيق محمد عليان ابن العيساوية المثابر. تبادلنا الحديث عن الحياة في شفاعمرو وفي حيفا والقدس وشعفاط، وعن تجربتي في الخارج على الرغم من صغر سني، وعن "الصياعة" والحفلات والفتيات الجميلات أيضاً.

 أن تعيش مع أحد أفضل الطهاة

 

فرن الكنافة في السجن، صورة وردت من أسرى في أحد سجون الاحتلال 
 
 في أحد الأيام ومع انتهاء الفورة، دخلنا إلى الغرف وكان شادي منهمكاً في إعداد الطعام فهو من أفضل الطباخين بين الأسرى في القسم. أدوات الطبخ ليست متكاملة وبعضها من صنع الرفاق. طلب مني شادي أن أخفي البلاطة الكهربائية الثانية لكي نستعملها سراً في ساعات الليل المتأخرة، علماً بأن هذا الأمر كان مخالفاً، لكن الأسير السياسي يعتبر هذا إنجازاً وتحدياً، سواء في استحداث الأدوات أو في إخفائها، مع العلم المسبق بأن أدوات المطبخ  سوف تصادر يوماً ما. 

بعد الانتهاء من الطعام، فاجأني شادي بقوله: "اليوم عازمك على فيلم بالسينما"، لم أفهم ما كان يقصد، لكني ابتسمت وقلت في نفسي المفاجآت تنتظرني داخل هذا العالم الصغير مساحة والكبير في الأذهان. 

طرق السجان باب الغرفة وطلب منّا تسليم "البلاطة" الكهربائية وهذا ما جرى كما في كل مساء لتبقى طوال الليل خارج الغرف.

بدأ شادي بتحضير صدر كنافة نابلسية للرفاق الأسرى في الغرفة. أدهشني الأمر، فلم أتخيّل الكنافة في السجن. كانت نقطة الانطلاق للعمل والبدء بتحضير الكنافة بعد أن أخذ السجان البلاطة الكهربائية واستقرّت القلوب.

بدأ العمل بتوزيع المهمات، سنوكر يجلس خلف البوابة ومهمته المراقبة كي لا يرانا السجان ويذهب توفير جبنة الشهر سدى،  محمد  يبرش الخبز الناشف والمكدّس منذ يومين لكي يكون الشبيه الأقرب لبديل عجينة الكنافة. أمّا أنا، فقد كانت مهمتي إخراج الماء من جبنة "الكوتج" من خلال عصرها وهي مجمعة في قطعة قماش مخصصة لهذا الغرض. وفي كل مرة كنت أقول لشادي أني انتهيت يقول لي "شد إيديك بعدهن مطفحات مي". أفهمني شادي بأنه يجب أن نفرغ كل الماء من جبنة "الكوتج" لكي نضعها على صدر الكنافة بالإضافة إلى الجبنة الصفراء المنقوعة بالماء الفاتر طوال ساعات كي تلائم الكنافة الأسيرة. كان التساؤل الذي راودني وأردت بفضول المستكشف معرفة جوابه: كيف يمكننا خبز هذا الكنز الذي صنعه الرفاق بتوجيهات شادي؟

 طلب مني شادي إحضار البلاطة، وضَعها في مكان يصعب على السجان رؤيته حين ينظر من فتحة الباب، وقد أتقن اختيار موقع البلاطة كي لا يفسد علينا تجربة الكنافة، وهي الأولى في حياتي. كانت مفاجأتي كبيرة حين اكتشفت أن شادي قد احتفظ ببلاطة أُخرى. وأصبح مجسم الفرن مكوّناً من بلاطة على أرضية الغرفة وعليها طنجرة ماء ساخن بلغ حد الغليان، وفوق الطنجرة سدر الكنافة، وفوق السدر جرى تعليق البلاطة الكهربائية المقلوبة لخبز الكنافة، وهي مربوطة "بشنكل" وخيط خاص من جدل الأسرى، وتبعد نحو عشرة سنتيمترات عن وجه الكنافة كي لا تحرقه.

 جرى خبز الكنافة على حرارة البخار لإذابة الجبنة قبل قلبها، وقد استغرق ذلك ما بين ساعة إلى ساعتين، وعيون شادي على الكنافة تنظر إليها وكأنه انتهى للتو من معركة مع المحتل، على الرغم من أن مجرد إعداد كنافة تطلّب مراحل تحضيرية وجب الإعداد لها على مدار أيام، من تجميع الجبنة إلى تهريب البلاطة ليلاً والتزوّد ببلاطة إضافية، وبرش الخبز، ومشاركة المهمات بعد توزيع الأدوار. 

 في ساعة متأخرة بعد منتصف الليل انتهت عملية الإعداد وجاء دور الالتهام بعد الانتظار والترقّب. لم أتذوق الكنافة في حياتي لكن كانت قيمة الكنافة في تلك الليلة عبارة عن تحدٍّ قد نراه نحن أهل السجن الخارجي بسيطًا، لكنه صعب ويتطلّب الإرادة وعدم الخوف وروح المجازفة، ولمجرد إعداد الكنافة يحتاج الأسير إلى كل الصفات التي لا تنسيه لِمَ هو داخل الجدران.

 لم، ولن أنسى تلك اللحظات التي علمتني معنى الحرية داخل سجون الاحتلال، فأبسط القصص كانت أكبرها. 

عن المؤلف: 

أنس الخطيب: أسير سابق، يعمل راوياً وفي مجال التصوير الفيديو. مكث في السجن عدة أسابيع. ولا تزال المحاكم، منذ أربع سنوات، تتداول قصة "ستاتوس" كتبه وهو في الثامنة عشرة من عمره.