التصفيق على النوافذ
التاريخ: 
03/05/2020
المؤلف: 

في مدينة آمنة ومستقرة، يصبح الخروج من البيت بين ليلة وضحاها مغامرة ومصدر توجّس وارتياب. والمشي في الشارع يستدعي كثيراً من الحرص والحذر، وعدم الاقتراب من أي شخص أو ملامسة أي شيء، إلى درجة الابتعاد عن الناس أكبر مسافة ممكنة في لحظات الالتقاء العابر بهم على الأرصفة. وبعض المشاة يستبقون الأمر فيتخذون طرف الرصيف من بعيد وقبل أن يقتربوا مني، تاركين مسافة بيننا صار احترامها ضرورة من ضرورات الحياة. كل هذا مفاجيء، وكان من الصعب تصوّره قبل أسابيع قليلة فقط، ويبدو كأنه أجواء حرب حدثت قديماً، ومن الصعب تخيّل حدوثها في هذا الزمن الذي نعيشه. فهو حجر منزلي شبه شامل، مسموح لنا أن نمضي ساعة واحدة كل يوم خارج المنزل، وداخل نطاق لا يتجاوز الكيلو متر الواحد بعيداً عن مكان السكن، وتعاقب الشرطة أي تجاوز لذلك بمخالفة مالية. لكني شخصياً أكتفي بالخروج مرتين فقط في الأسبوع، مرة للركض، ومرة أخرى للتسوّق. وأضطر أحياناً إلى القيام بعدد من الحركات الرياضية البلهاء داخل البيت، فعدم ممارسة مجهود عضلي لعدة أيام متواصلة يصيبني بالأرق والضيق، كأن الطاقة التي كان عليها أن تخرج تصبح عائقاً أمام راحة الجسد. القراءة لا تكفي لصرف هذه الطاقة ولا التفكير، ولا التأمل، لأعضائك حق حيواني عليك، تريدك أن تتحرك مثل أي كائن حيّ، ولا سيما أنها فترة الربيع الآن، والسماء صافية، والشمس لا تتوقف عن الذهاب والمجيء في السماء، عليكَ إذن أن تتحرك بأي شكل، كي تستطيع النوم في الليل.

ولم أتخيل يوماً أن تفرغ شوارع باريس الصاخبة من الناس المارين ومن السيّاح. هل يمكن أن تفرغ شوارع هذه المدينة الجذابة بهذه السرعة والبساطة. ذهبتُ خلال الساعة المسموح لي بها الخروج من البيت إلى حيّ مولان روج "الطاحونة الحمراء" القريب من مكان سكني، لإلقاء نظرة سريعة عليه من باب الفضول، والذي لا أزوره إلاّ قليلاً في العادة. كانت المحلات مغلقة بالطبع والشارع خاوٍ على عروشه، لا سيّاح أسيويون يشهرون كاميراتهم ويلتقطون السيلفي والصور الجماعية، ولا صخب ولا حركة. كنت نظريّاً أعرف أن المشهد سيكون كذلك، لكن هذا لم يجنبني الصدمة والاندهاش. وفي كل مرة أخرج من البيت يصيبني شعور غريب، فلم أشهد صمتاً كهذا منذ إقامتي بهذه المدينة قبل عدة سنوات، إنه ليس صمتاً عادياً. فسابقاً حين كان يصدف أن أجد نفسي في شارع هاديء وصامت في باريس، كنت أشعر دائماً بأن هناك حداً له، فيكون دائماً هناك صدى لأصوات بعيدة. أمّا الآن فأسمع صمتاً عميقاً مدويّاً ليس له حدود. حتى تكاد تشعر أن خطواتك تُحدث صدى في أرجاء المدينة كلها! بعض الشوارع لا تخلو من المارّة، فتجد بعض العابرين، وأمهات وآباء بصحبة أطفالهم الجائعين للحركة واللعب. الوحيدون الذين لم يتغيّر عليهم شيئ هنا هم المشرّدون، الذين ما زالوا يجلسون في أماكنهم المعتادة في زوايا الشارع، بزجاجة نبيذ في اليد، وابتسامات وشتائم ومونولوجات لا تتوقف، هم العنصر الوحيد الثابت في مشهد تغيّر رأساً على عقب. أوقفني أحدهم سائلاً بعض النقود، تحاشيته في ردّة فعل سريعة، شيء لا أفعله في الوضع الطبيعي، لكن بدافع الخوف كانت ردّة فعلي أسرع من أي شيء آخر. والناس هنا توقفوا عن مدّ أيديهم إلى جيوبهم لإعطاء المشردين قطعة نقد، فالكل يمشي متحاشياً أي تلامس معهم. أمّا النساء فتخلصن على ما يبدو من المضايقات والمعاكسات اليومية، ولم أعد أراهن بسماعات على الأذن، وبمشية سريعة متحفّزة، بل باسترخاء شيئاً ما، فكأنه وعلى الرغم من جو الخوف والريبة المحيط، هناك شعور من نوع آخر بهامش أمان غير معتاد. والناس الخارجون لفترة تنزّه قصيرة بصحبة كلابهم، التي يبدو أنها لا تفهم لماذا عليها أن تبقى مسجونة طوال النهار في البيت، أراهم بملابس أقل أناقة مما اعتدتُ أن أراه سابقاً، رجال ونساء يرتدون ثياباً بسيطة تشبه بيجامات بيتية، ويمشون دون أي اكتراث على ما يبدو.

مازلنا ضعفاء، يبدو أنها حقيقة كدنا أن ننساها، ضعفاء وعالمنا هشّ، أي خربشة تهدد منظومته العالمية بالانهيار. الآن، يتوقف كل شيء تقريباً، وإن جاء ذلك بالتدريج، فقد كان أسرع من توقعاتنا. وما يجري الآن على الرغم من أنه لن يكون بخطورة الطاعون الأسود في القرون الوسطى الذي ذهب ضحيته ثلث السكان في أوروبا وحدها، فإنه مع ذلك يفوق تصوراتنا. ولم يستمع أحد لمن حذروا من وقوع جائحات من هذا النوع، وتم تهميشهم والتعامل معهم كباحثين متشائمين أو أصحاب نظريات وأطروحات واهمة. لكن بعد وقوع هذا انتبهنا أن ما يحدث الآن كان من المنطقي حدوثه، ولا يستحق منّا الدهشة والاستغراب، إذا انتبهنا فقط إلى حقيقة أن العشرين سنة الماضية شهدت هجوم ثلاث فيروسات، إنفلونزا الطيور وجنون البقر، أمّا فيروس كورونا فقد كان لسوء حظنا أسرع انتشاراً من سابقيه وأكثر خطورة، لذا قلب علينا الطاولة رأساً على عقب. كيف غابت بديهيات حسابية بسيطة كهذه عن أذهاننا. دراسة احتمالات بسيطة يمكن أن يقوم بها أي شخص لم ينهِ حتى شهادته الثانوية تمكّنه من الوصول إلى حقيقة كهذه. فحتى الإيدز الذي انتشر في الثمانينيات كان منشؤه فيروساً جاءنا من قرد. يبدو أن الأمر في غاية الجلاء الآن، كل حيوان يرسل من عقد إلى آخر فيروساً في وجه البشر الذين وضعوا كل حيوان تقريباً على موائدهم، وحملوا الشوكة والسكين، ودمّروا البيئات الطبيعية لهذه الحيوانات الحاملة لفيروسات غير مضرّة لها، لكنها يمكن أن تضرنا، ووضعوها داخل أقفاص في أسواق شعبية كما في الصين وغيرها. ودون إدراك أن التصحر الحراري أيضاً سيعمل على ذوبان جليد الأراضي دائمة التجمد التي ستحرر فيروسات متجمدة منذ آلاف السنين، كما أشارت صحفية ليبراسيون الفرنسية في أحد مقالاتها، وستهددنا بفيروسات جديدة.  

وصعوبة الحجر المنزلي هنا تكمن في أن الشقق صغيرة الحجم، والبيوت غير مهيأة لحياة كهذه، كأنها شُيّدت لتكون فقط أماكن للراحة بعد العودة من العمل، وليس للإقامة الدائمة والمتواصلة لأسابيع وأسابيع داخلها. لا أعرف ما هو الأفضل أو الأكثر سوءاً، أن تعيش في بيت صغير وحدك، وتعاني الوحدة، أم أن تجد نفسك محشوراً فيه مع عائلة من ثلاثة أو أربعة أشخاص كما هي حال كثير من العائلات في هذه المدينة التي تتميز بصغر منازلها كعادة المدن الكبيرة. وأعتبر نفسي محظوظاً لأن الشمس تعبر نافذة بيتي بعد الظهيرة. أصبح هذا موعداً يومياً أتفرّغ له بشكل تام. أجلس على الأريكة حيث تسقط أشعة الشمس، وأتنفس الحرارة مغمض العينيين، لأروي مسامات جسد في حالة عطش شديدة إلى الضوء. فإنني أحرص على الحصول على متع يومية صغيرة في البيت، تعويضاً لما خسرته في الخارج، من ذهاب إلى مقهى أو إلى حفلة موسيقية أو غير ذلك. وألتجئ في هذا الحجر المنزلي  إلى مخزون التجربة التي اكتسبتها خلال أيام منع التجوال في فلسطين، فيكفيني ترديد عبارة "عشتُ هذا من قبل، ونجوتُ منه"، العبارة وحدها تمنحني سنداً نفسياً وقوة مع أن فاعليتها تتراوح بين صعود وهبوط خلال النهار. والتجأت أيضاً إلى التقنيات التي اكتسبتها من تجربة منع التجوال، أهمها عدم التعرّض الدائم للأخبار السيئة، التي تأتي من التلفاز دون توقف، لأنها سوداوية بالضرورة، وفي أسوأ حالاتها ستضُعف مناعة الجسد كعَرَض فزيولوجي للكآبة. لذا أكتفي فقط بنشرة الأخبار الرئيسية لأكون على معرفة بما يجري حولي، ولكي لا أشعر بأنني منقطع عن عالمي المحيط.

أقسّم نهاري كي لا تضيع ملامح اليوم، وكي لا يمر الوقت دون أن أشعر به. الطريف أنه كان من الصعب في البداية تقسيم النهار إلى فقرات وطقوس. فكنتُ أستيقظ وأشرب القهوة وأدخل في عملية سرحان لا نهائية، شاعراً بأن الوقت كله لي، لكني لم أكن أمتلك في الحقيقة لحظة واحدة منه ولا أتحكّم فيها. وبعد مضي بضعة أيام والتعوّد البطيء على هذا الواقع الجديد، استحدثتُ برنامجاً يومياً، وقسّمته إلى فقرات ومراحل، وأصبحت أجد متعة في استعادتها كل يوم والانخراط فيها، على الرغم من أنها وليدة سياق قاهر. أتفرّغ لكتابة الشعر صباحاً، ثم أتفرّغ لعملي عن بعد للجامعة الذي يتطلب ساعات قليلة كل يوم. وبعد أن أتناول الغداء أحياناً أشغل نفسي بالترتيب، وتنظيم الملفات وأسطوانات الموسيقى، وأرتب الفايلات في الكمبيوتر. كنت سعيداً بإيجاد الوقت الكافي لترتيب مكتبتي، فقد لاحظت وجود كتب لم أنتبه لها سابقاً، وقسّمتها إلى مجموعات شعريّة وضعتها في رفّ مستقل، ورفّ آخر للروايات والدراسات الاجتماعية، أمّا أنطولوجيات الأدب والفن فقد وضعتها معاً، وهكذا. الآن أعرف موضع كل كتاب تقريباً، أشعر بأن مكتبتي تتنفس وأنني جدّدت أواصر الصداقة بيننا، ولا غموض في العلاقة التي تربطنا.

أمّا المفاجأة الكبيرة فكانت حين وجدتُ مصادفة، وهي "لقية" ثمينة بلا شك، بعض الكمامات في صندوق الأدوية الذي كنت أقوم بتنظيفه، كانت مفاجأة كبيرة، حاولتُ أن أتذكر متى اشتريتها وفي أي مناسبة، لكني لم أنجح في التذكر وأصابني هذا باستغراب كبير. أتذكر أنني ذهبتُ إلى عدة صيدليات هنا منذ بداية انتشار الكورونا وتفشيه في إيطاليا، لكي أحتاط مسبقاً قبل وصوله إلى فرنسا، لكنني لم أستطع إيجاد كمامة واحدة في الصيدليات الأربع التي ذهبتُ إليها. أخبروني أنهم "يبيعونها للمصابين فقط ! كي لا يعدوا غيرهم". كان عليّ إذاً أن أنتظر الإصابة بالعدوى كي أستطيع الحصول على كمامة! خرجتُ البارحة ووضعتُ إحداها على وجهي، كنتُ سعيداً بذلك ومنحني إحساساً بالراحة والطمأنينة. وعندما وضعتُ الكمامة على أنفي وشممتُ رائحتها الخفيفة تذكرتُ فجأة متى اشتريتها. كان ذلك عند بداية وصولي إلى باريس قبل خمسة أعوام، حينها سكنت فترة قصيرة في بيت امرأة للتفرّغ للبحث عن شقة في باريس. بيت هذه المرأة كان نظيفاً، لكن رائحة المنظفات المنزلية من كلور وغيره، ممزوجاً برائحة طعام قطّها المدلل، كانت تنتج رائحة حادة كريهة، لم أفهم كيف كانت تحتملها، وخصوصاً أنها لا بد أن تكون مضرّة لمجرى التنفس. فقررت بعد عدة أيام شراء مجموعة من الكمامات لكي ألبسها حال دخولي إلى البيت متوجهاً على وجه السرعة إلى غرفتي. كم أنا الآن مدين لتلك المرأة ولرائحة بيتها الحادة التي ربما ستكون سبباً في إنقاذي الآن من فيروس متربص!

 أكرّس وقت نهاية النهار لفترة قصيرة من التواصل الاجتماعي، فأبعث الرسائل وأتصل بالأصدقاء، ونتشارك النكت الإلكترونية والفيديوهات المضحكة على الواتس أب. فالإنسان كائن اجتماعي كما قال ابن خلدون، وأحاول ألاّ أنسى ذلك خلال الحجر. اتصل بي صديق يسكن في ليون ليطمئن إلى أموري، يسكن مع زوجته وأطفالهما الثلاثة في شقة من غرفتين وصالة. قال لي أنه لا يستطيع البقاء طوال النهار في البيت، نتيجة صراخ الأطفال وحركتهم، وضوضاء مستمرة تأتي من أشغال تصليح يقوم بها جاره، فيضطر إلى الخروج مرتين من البيت صباحاً وبعد الظهيرة للهروب من هذا الضجيج المزدوج، مع أن المسموح به هنا هو الخروج مرة واحدة في اليوم فقط. بالإضافة إلى أنه من الأشخاص المعرّضين للإصابة بالفيروس لأنه يعاني مرض السكري، ويعي خطورة وحساسية وضعه الصحي. ومع كل هذا يضطر إلى العمل ساعة أو ساعتين في النهار لإعطاء دروس لطلابه عن بعد. سألته متى يجد الوقت لذلك، فقال أختار ساعة قيلولة الأطفال كي أنجز عملي. وهي فترة الراحة الوحيدة له خلال النهار. أتذكر كم كان سعيداً بشراء هذا البيت مع زوجته قبل عدة سنوات، فقد احتفلنا بذلك معاً يومها. يشعر الآن وكأنه في مأزق، فخّ طويل الأمد، فيبدو أن الحجر المنزلي سيطول، وما يقلقه هو قدرته على تحمّل هذا الوضع لفترة طويلة. ومع هذا فهو لا يتذمّر كثيراً، فيشعر بالرضى لأن معاشه يصله ولم ينقطع كما هي الحال لدى بعض المهنيين وأصحاب المهن والمحلات التجارية.

تقترب الساعة الآن من الثامنة مساءً، إنه الوقت الذي تُشرع فيه نوافذ المدينة، وتخرج الأيادي للتصفيق عرفاناً للممرضين. أصبح هذا عادة يومية منذ بدأ الحجر المنزلي. أقف كذلك على النافذة لأمارس حقي في شكر هؤلاء المُمرضين المساكين. وحين لا أكون جاهزاً بذراعي أمام النافذة عندما تحين الساعة الثامنة، فإنني أصفق في أي مكان أكون فيه داخل البيت في تلك اللحظة، فأحياناً أصفق وأنا في المطبخ، وأحياناً أُخرى أصفق على الأريكة عند مشاهدة الأخبار. أصفق وحيداً كمن فقد عقله، لا أحد يراني أو يسمعني، لكني سعيد بالقيام بذلك، فلا أستطيع سماع التصفيق في الخارج دون المشاركة. وينتابني إحساس بالغضب مثل كثير من الناس هنا لمعاناة الممرضين في المستشفيات، ونقص الأقنعة والمطهّر اليدوي، ونقص الأسرّة لاستقبال المرضى أيضاً. لم نصل إلى مرحلة الانتقاء بين المرضى والاختيار لمن يحصل على العلاج، لكنا لسنا بعيدين عن ذلك. طريقة إدارة هذه الحكومة للأزمة الصحية تثير كثيراً من عدم الرضى والانتقادات الشعبية. ومقارنة بألمانيا، تبدو فرنسا عاجزة عن السيطرة والتحكّم الكافي بانتشار هذا الفيروس، لذا سنبقى في بيوتنا، لفترة طويلة، حتى إنها ربما ستصبح أسلوب حياة علينا أن نهيىء أنفسنا للاعتياد عليه دون تذمّر.

عن المؤلف: 

أنس العيلة: شاعر وأكاديمي يعيش في باريس، أنهى أطروحة دكتوراه في الأدب، بعنوان "ظاهرة العودة في الأدب العربي: الحالة الفلسطينية نموذجاً".