الهوية والانتماء للاجئين الفلسطينيين في مخيم البقعة في الأردن
نبذة مختصرة: 

تهدف هذه المقالة إلى استقصاء مسائل الهوية في مخيم البقعة للاجئين الفلسطينيين في الأردن، وإلى تقصي العلاقة المحتملة بين هوية سكان المخيم وانتمائهم الاجتماعي. ويتم في المقالة تعريف "الهوية" بأبسط طريقة ممكنة على أنها "تعريف الذات"، وذلك لتجنب التورط في التعريفات النظرية الإشكالية للهوية.

النص الكامل: 

على الرغم من توفر كتابات نظرية وفيرة نسبياً بشأن المسائل العامة المتعلقة بالهوية الفلسطينية،[1] فإن الأبحاث الميدانية التي تركز على قضايا الهوية في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين تحديداً هي قليلة، وخصوصاً تلك المنشورة باللغة العربية، علماً بأن اللاجئين يشكلون أغلبية الشعب الفلسطيني (نحو سبعة ملايين نسمة، أي نحو 54٪ من إجمالي عدد الفلسطينيين)، كما أن مسألة اللاجئين تكمن في لبّ الصراع العربي - الصهيوني المتواصل منذ أكثر من قرن. ومن أبرز الأعمال في هذا المجال ما أنجزته روزماري صايغ ورندة فرح ونادية لطيف ولويغي أشيلي (Luigi Achilli) وهي مولفات تناولت قضايا الهوية الخاصة في بعض مخيمات اللاجئين الفلسطينيين.[2]

والجدير ذكره أن "نظرية الهوية" قُدّمت لأول مرة في اجتماعات جمعية العلوم الاجتماعية الأميركية في سنة 1966.[3] وقد ازداد الاهتمام بمفهوم الهوية أضعافاً مضاعفة منذ ذلك الحين في العلوم الإنسانية والاجتماعية، غير أن الأبحاث المتعلقة بالهوية الفلسطينية لم تبدأ بالظهور إلّا في وقت، في أواخر القرن العشرين.

تتكون هذه المقالة التي تتناول هوية اللاجئين في مخيم البقعة من جزأين، ومن خلاصة وملحق. ويتناول الجزء الأول المنهجية المتّبعة في البحث (القائمة على تجربة عيش الكاتب في المخيم، وعلى العمل الميداني المتمحور حول استبيانات الرأي)، كما يتناول نظرة عامة على مخيم البقعة، "عاصمة الشتات"، ولا سيما الخلفية الاجتماعية - الاقتصادية الخاصة بالمخيم. ويشتمل الجزء الثاني على شرح العمل الميداني الذي أجراه الكاتب بمشاركة عدد من أبناء المخيم، وعلى استبيان رئيسي للرأي بشأن الكيفية التي يعرّف بها الفتيان والفتيات من سكان المخيم هويتهم، وتحليل لنتائج هذا الاستبيان. أمّا الملحق فهو عبارة عن استبيان لرأي البالغين من سكان المخيم بشأن اختيارهم للهوية، بهدف مقارنة نتائجه قياساً بنتائج الاستبيان الرئيسي، وفي ضوء اختلاف أعمار المستجوَبين.

اختلاف المنهجيات

تعتمد منهجية صايغ وفرح ولطيف أساساً على المقابلات المفتوحة (أو الشهادات) مع عدد من سكان أحد مخيمات اللاجئين، بينما اعتمد أشيلي على مَن تعرّف إليهم خلال إقامته المحدودة في مخيم الوحدات في الأردن. غير أن أشيلي بدا في المخيم أشبه بـ "رحّالة / مستشرق"، فتارة نجده يستند في إطلاق تعميماته بشأن توجهات أهل مخيم الوحدات إلى قول "صديق" له أو آخر في المخيم، وطوراً يتحدث عن مدى الارتياب المرضي (البارانويا) بأي غريب من خارج المخيم على أنه عميل لمخابرات ما، كما يزعم أن الشأن السياسي بثّ "الخوف" و"الضجر" في حيوات مَن كان يستمد المعلومات منهم.[4]

وتجدر الإشارة إلى أن المنهجيات المذكورة، وإن اختلفت، إلّا إنها ليست متعارضة بالضرورة؛ بل ربما يدعم بعضها بعضاً، ويمكن أن تسفر معاً عن مخرجات متكاملة.

وفي المقابل، تعتمد منهجية هذه المقالة على مصدرين رئيسيين: تجربة الكاتب في العيش مع عائلته (التي تقيم في المخيم منذ سنة 1968) لفترات طويلة - ومتقطعة - في مخيم البقعة، والتي مكّنته من جمع ملاحظات من خلال انخراطه في الحياة العامة والمشاركة في العمل السياسي والاجتماعي فيه، وكذلك على المسح الميداني الذي أجراه في المخيم بمساعدة عدد من الأصدقاء والمعارف من سكانه، الأمر الذي أتاح له أن يصبح على دراية بالمخيم: نشأته؛ تطوره؛ أوضاعه المعيشية؛ مشكلاته المتعددة؛ الكيفية التي يرى أهله أنفسهم بها.

 

 صورة الكاتب أمام بيت عائلته في مخيم البقعة، في سنة 1986، حين كانت سقوف البيوت من "الزينكو"، والشوارع موحلة وغير معبّدة

 

عند أخذ هذه الملاحظات كنقطة انطلاق، كان الافتراض الرئيسي هو أن هوية مخيم البقعة للاجئين هي هوية مركّبة من الهويات المحلية البقعاوية والفلسطينية والأردنية والإسلامية والعربية، وأن بين هذه الهويات ثمة هوية رئيسية سائدة وعدد من الهويات الأُخرى الفرعية، وكذلك ثمة علاقة بين هذه الهوية والسياق العام للواقع المُعاش لسكان المخيم.

ولتفحّص هذه الفرضية، ومن أجل تحديد الهوية الرئيسية والأوزان النسبية للهويات الفرعية الثانوية، أجرى الكاتب دراسة ميدانية تتضمن استبيانَين عن الهوية.

مخيم لاجئي اللاجئين

مخيم البقعة هو أحد ستة مخيمات "طوارىء" أقيمت في سنة 1968 لاستيعاب اللاجئين والنازحين الفلسطينيين الذين أُجبروا على مغادرة الضفة الغربية وقطاع غزة جرّاء حرب 1967، ونتيجة القصف الإسرائيلي لمخيمات اللاجئين في غور الأردن بعد فترة وجيزة من الحرب. وهكذا، فإنه كان، منذ تأسيسه، مخيم "لاجئي اللاجئين"، أي أن سكانه الحاليين لجأوا إليه بعد لجوئهم أول مرة إلى مخيمات الضفة في سنة 1948، الأمر سرعان ما جعله من أكثر المخيمات فقراً وأكثرها تسيساً.

 

عمال يبنون مخيم البقعة في سنة 1968

 

عندما أُنشىء المخيم على أرض زراعية تسمى "حوض البقعة"، كان فعلاً، عبارة عن مخيم كبير يضم 5000 خيمة نُصبت لتستوعب نحو 26,000 لاجىء على مساحة 1,4 كيلومتر مربع. وبين سنتَي 1969 و1971، استبدلت وكالة الأونروا الخيام بـثمانية آلاف مأوى جاهز من الأترنيت، ومنذ ذلك الحين بنى سكان المخيم مساكن خرسانية ذات سقوف من "الزينكو"، وسُمح لهم في وقت لاحق ببناء سقوف أسمنتية، ثم ببناء مساكن من طبقتين.

يقع مخيم البقعة على بعد نحو 20 كم من العاصمة عمّان، ويتبع إدارياً لواء عين الباشا. والمخيم هو الأكبر في الأردن، بل لعله أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين من حيث عدد السكان داخل فلسطين وخارجها، الأمر الذي جعله يليق بتسمية "عاصمة الشتات الفلسطيني". كما اكتسب المخيم، لكثرة سكانه، ولبعده نسبياً عن المدن الرئيسية الأردنية في الوقت نفسه، ولدوره السياسي البارز، نوعاً من التفرد، وشعوراً بـ "الهوية" المحلية.

التعليم

تربوياً، تدير الأونروا 16 مدرسة أساسية ذات فترتين صباحية ومسائية (مقسمة بالتساوي بين الذكور والإناث) وتضم نحو 18,000 تلميذ، بينما تدير وزارة التربية والتعليم الأردنية أربع مدارس ثانوية أُخرى تضم نحو 2500 تلميذ، فيصبح بذلك مجموع عدد طلاب المدارس في مخيم البقعة 20,500 طالب تقريباً.

تعاني مدارس المخيم تدهوراً حاداً في جودة التعليم، بسبب البيئة المنزلية غير الداعمة، وازدحام الغرف الصفّية، ونقص المختبرات والمكتبات، إلخ. وقد أدى ارتفاع معدل التسرب المدرسي والبطالة الناتجة من ذلك، فضلاً عن شعور مرير بالتهميش والعزلة، إلى أشكال مختلفة من العنف الاجتماعي والسياسي. والجدير بالذكر أن تظاهرات التضامن مع الفلسطينيين عبر النهر كانت غالباً ما تتحول من طرف أقلية من المراهقين والشباب في المخيم إلى اشتباكات عنيفة مع أجهزة الأمن، وحتى مع مواطنين في "حي المضمار" المجاور، قبل أن يتحول الحي نفسه إلى واحدة من "ضواحي" المخيم.

علاوة على مدارس المخيم، توجد مدارس حكومية تابعة لوزارة التربية والتعليم الأردنية في لواء عين الباشا، يؤمّها مزيج من الطلاب اللاجئين الفلسطينيين المقيمين في المخيم وخارجه، والطلاب "الشرق أردنيين"غير اللاجئين، إذ لا يمكن- والحالة هذه- تمييز "أصل" الطالب في سجلات المدرسة. ومع ذلك، فإن هذه المدارس عادة ما تستقبل الطلاب اللاجئين من خارج المخيم، وبشكل أساسي من العائلات التي انتقلت بشكل دائم إلى مدينة عين الباشا المجاورة، والقرى المحيطة بها أو مساكن "التنمية الحضرية" الخاصة التي تم بناؤها حديثاً. ويشير العدد الكبير نسبياً من هذه الأُسر إلى العملية المستمرة للتحولات الاجتماعية / الطبقية التي جرت في مخيم البقعة في العقود القليلة الماضية.

تعداد السكان

وفقاً للأونروا، يوجد في مخيم البقعة 104,000 "لاجىء مسجل"، ومع ذلك، يجب التدقيق في هذا الرقم لمعرفة العدد الإضافي من اللاجئين الفلسطينيين الذين ينتمون إلى المخيم، إلّا إنهم انتقلوا إلى أماكن مجاورة. ولا تتوفر أي أرقام أو حتى تقديرات لعدد هؤلاء اللاجئين "من أصل فلسطيني" أو أبنائهم التلاميذ، ذلك بأنه، بصورة عامة، يتم تضمين مثل هذه البيانات بشكل لا ينفصم في البيانات عن الأردنيين.

ومع ذلك، فإن عِلْم الرياضيات يمكن أن يساعدنا في تقديم تقدير. فباستخدام واحدة من صيغ أسعار الفائدة المركبة، نجد أن ما نحتاج إليه لحساب العدد المتراكم من السكان هو تحديد العدد الأولي لسكان المخيم (78,000، وفقاً للأونروا)، ومعدل الزيادة / النمو السكاني الطبيعي السنوي (2,5٪، وفقاً لتقديرات دائرة الإحصاءات الأردنية)، والمدة بالأعوام (51 عاماً).

وهكذا، فإن العدد الحالي لمجموع لاجئي مخيم البقعة يساوي 177,450 نسمة. ومن هذا العدد الإجمالي للاجئين الفلسطينيين في حوض البقعة، يقطن المخيم حالياً نحو ثلثيّهم، أو ما يتراوح بين 104,000، و122,000، وذلك وفقاً لمصادر متنوعة. وبناء على ذلك، فإن نحو ثلث مجموع اللاجئين الفلسطينيين في حوض البقعة (نحو 64,000 فلسطيني) انتقل إلى العيش خارج المخيم. ويضاف إلى هذا العدد أعداد إضافية من اللاجئين الفلسطينيين الذين انتقلوا من مناطق أُخرى من الأردن للعيش في لواء عين الباشا الذي يضم المخيم.

لقد انتقل هذا العدد من سكان المخيم إلى مساكن أفضل، مستأجرة أو مملوكة، في أماكن مجاورة، كما لجأ بعضهم إلى تأجير منازله القديمة في المخيم للعائلات الأفقر، أو بيع هذه المنازل لتسديد الدفعة الأولى من ثمن أملاكه المكتسبة حديثاً (الأرض و / أو المنزل). وفي حالات غير قليلة، يكون العقار الجديد عبارة عن شقة / عمارة سكنية، وفي حالات نادرة يكون فيلا في الأحياء الفاخرة التي تم إنشاؤها حديثاً في العاصمة عمّان. والجدير بالذكر أن اغتراب أبناء المخيم، ولا سيما في دول الخليج النفطية، أدى دوراً ملحوظاً في هذا التطور الديموغرافي.

الخلفية الاجتماعية والاقتصادية

بعد أكثر من خمسين عاماً على إنشائه، لا يزال مخيم البقعة أحد "جيوب الفقر" البائسة في الأردن، شأنه في ذلك شأن سائر المناطق الطرفية المهمشة "الأقل حظاً" في الأرياف والأغوار، وفي الأحياء الشعبية من مدينتَي عمّان العاصمة والزرقاء (تنفاوت تقديرات نسبة الفقر في الأردن عامة تفاوتاً كبيراً، إذ تتراوح ما بين نحو 16% بحسب المصادر الرسمية، و56% بحسب بعض الخبراء). ووفقاً للأونروا، فإن الفقر والبطالة المرتفعة يمثلان تحديات كبيرة تواجه سكان المخيم، وبحسب مصدر أردني رسمي، فإن أكثر من 3600 عائلة من عائلات المخيم (أو أكثر من 13٪) تتلقى المعونات من مختلف الجمعيات الخيرية للحفاظ على مستوى المعيشة المتدني. ويؤكد تقرير مؤسسة فافو FaFo Foundation)) في سنة 2013،[5] أن 32% من سكان المخيم دخلوا تحت خط الفقر الوطني البالغ 814 ديناراً شهرياً للأسرة الواحدة.

ينتمي سكان مخيم البقعة بشكل أساسي إلى الفئات الشعبية العاملة والبرجوازية الصغيرة، وهم من العمال غير المهرة والحرفيين والموظفين ذوي الأجور المنخفضة وأصحاب الدكاكين والبسطات والعاطلين عن العمل. ويشكل المخيم مستودعاً للعمالة الرخيصة غير الماهرة لورش العمل الكثيرة، وللمصانع الـ 26 القائمة حول المخيم، وكذلك للمؤسسات العامة والخاصة في العاصمة عمّان المجاورة. ويمكن لمس ذلك من خلال رؤية الاكتظاظ الشديد لآلاف العمال والموظفين في محطة الحافلات وهم متجهون إلى عملهم في العاصمة وضواحيها. علاوة على ذلك، يعتمد الآلاف من سكان المخيم على كسب عيشهم في الدكاكين والبسطات المنتشرة في المخيم، والتي تتركز في "السوق" الرئيسية. ومع ذلك، فإن القسط الأكبر من المتاجر المتوسطة أو الكبيرة نسبياً في هذه السوق (المحلات التجارية والمطاعم وصاغة الذهب والصيدليات والعيادات والمختبرات الطبية ومكاتب المحاماة وفروع البنوك التجارية ومؤسسات التمويل وغير ذلك) مملوك لأشخاص (أو مؤسسات) من خارج المخيم، معظمهم من الفلسطينيين.

أمّا فئة الأشخاص الأفضل حالاً في المخيم فهم من العمال المهرة، أو أشخاص يملكون ورشات أو أعمالاً صغيرة، أو موظفون بأجر متوسط في القطاعَين العام والخاص وفي وكالة الأونروا. ومع ذلك، فإن هذه الفئة الأخيرة محدودة الحجم، وعادة ما تجد نفسها عند مفرق طرق: إمّا أن تنتقل إلى السكن خارج المخيم، وإمّا أن تتدهور إلى وضع فقراء العاملين. وتجدر الإشارة إلى أن فرص العمل في القطاع العام (وخصوصاً الأجهزة الأمنية) - وهو أكبر رب عمل في الأردن - محدودة للغاية أمام "الأردنيين الفلسطينيين"، ليس في القانون الذي يكفل مساواة كاملة بين جميع الأردنيين "من مختلف المنابت والأصول"، وإنما من خلال نظام تمييز ضمني متأصل في النظام الريعي، ويتجسد في الشبكات العشائرية والمحسوبية والواسطة والفساد الإداري.

تقترن الظروف الاجتماعية والاقتصادية البائسة لسكان مخيم البقعة، كغيره من المخيمات في الأردن - وإن ربما بدرجات متفاوتة - بالاغتراب المتأصل عن السياسة الداخلية في الأردن، وذلك سياسة "الأردنة" في سبعينيات القرن الماضي وقرار "فك الارتباط" في سنة 1988. ففي حين أن سكان المخيم عادة ما يكونون غير مبالين تجاه حركات الاحتجاج الاجتماعي في البلد، إلّا إنهم ينشطون في التضامن مع أشقائهم الفلسطينيين غربي نهر الأردن. وإلى ذلك، فإنهم يسجلون نسبة إقبال منخفضة بالنسبة إلى متوسط الإقبال العام على الانتخابات البرلمانية وانتخابات مجالس المحافظات. كما أنهم يتعرضون للتمييز بموجب القانون الانتخابي. فعلى سبيل المثال، تتمثل دائرة عين الباشا الانتخابية، التي تضم دائرتها الانتخابية نحو 96,000 ناخب، معظمهم من اللاجئين الفلسطينيين من داخل المخيم وخارجه، في ممثل واحد فقط في البرلمان. وفي المقابل، وعلى سبيل المثال، تتمتع دائرة بدو الجنوب بتمثيلها بثلاثة نواب، مع أنها لا تضم سوى نحو 40,000 ناخب.

وتفاقم هذا الاغتراب السياسي بسبب اتفاقَي أوسلو (1993) ووادي عربة (1994) اللذين أجّلا حل مسألة اللاجئين ومسائل حيوية أُخرى إلى مفاوضات الوضع النهائي. ومع الوقت، بدا هذا التأجيل في نظر اللاجئين كأنه مجرد تسويف، بل ثمة نُذُر بتأجيلها إلى أجل غير مسمى. وهكذا تُرك اللاجئون في مخيم البقعة، كما في غيره من المخيمات، في مواجهة مستقبل مجهول، إلى جانب واقع مُعاش صعب. وبالتالي، فإننا نجد فصائل منظمة التحرير الفلسطينية والأحزاب الأردنية المشكّلة حديثاً والتي تتضمن عضويتها لاجئين فلسطينيين، أخذت تفقد مزيداً من العضوية والتأثير لمصلحة الجمعيات المدنية (وخصوصاً الدينية) والروابط القروية والعشائرية من جهة، والوجهاء التقليديين ورجال الأعمال الصاعدين حديثاً من ناحية أُخرى.

ومع ذلك، فإن توق سكان المخيم إلى العودة لم يتدنَّ، وهو يأخذ العديد من التعبيرات والرموز المتنوعة: "ميدان العودة" و"مفتاح العودة" في وسط المخيم؛ كتابات على جدران الشوارع؛ الأغاني الوطنية الجماعية في احتفالات الزفاف؛ الاحتفالات في المناسبات الوطنية، وخصوصاً ذكرى "النكبة"؛ تشكيل "لجان العودة"؛ إلخ.

لكن ذلك ترافق مع ما شهده المخيم، منذ تأسيسه في سنة 1968، ولا سيما منذ تسعينيات القرن العشرين، من عملية تطور مستمرة وتمايز طبقي متزامن مع هذا التطور.

ومع أن هذه المقالة تهتم بالهوية والانتماء الاجتماعي لسكان مخيم البقعة تحديداً، فإن من الضروري التوقف قليلاً أمام عملية التطور والتمايز المذكورة، وخصوصاً فيما عنى فئة "رجال الأعمال" الحديثة النشوء.

من الواضح حتى الآن أن الفئة "الحضرية" نفسها من لاجئي البقعة، والتي تمايزت عن سكان المخيم، تجتاز ذاتها عملية تفاوت اجتماعية بين مكوناتها، فهي تضم مروحة واسعة من مستويات الدخل والثروة والمهن: عمال مهرة؛ أصحاب مهن يعملون لحسابهم الخاص؛ موظفون في القطاع العام أو الخاص من ذوي الأجور المتوسطة أو المرتفعة؛ متقاعدون؛ تجار؛ مغتربون سابقون؛ وخصوصاً رجال أعمال جدداً. ولأول وهلة، يبدو أن مصطلح "الطبقة الوسطى" ملائم لوصف هذه الفئة، غير أن استعمال هذا المصطلح في وصف واقعها الملموس البالغ التعقيد سيكون مضللاً على الأرجح؛ ويمكن القول إنها تنتمي بالأحرى إلى شرائح متفاوتة ممّا يسمى الطبقة الوسطى: دنيا ومتوسطة وعليا. وأحد أبرز الدلائل على ذلك أن قسطاً ملحوظاً من المنتمين إلى الشريحتين الدنيا والمتوسطة من فئة لاجئي المخيم "الحضريين"، مثلما هي حال الأردنيين عامة، يقع تحت وطأة الديون الثقيلة الناتجة من الإسراف في الاقتراض من البنوك وشركات التمويل، واستشراء النزعة الاستهلاكية الاستعراضية، كالاقتراض حتى من أجل إقامة حفلة عرس مكلفة في إحدى صالات الأفراح المتكاثرة في محيط المخيم (تبلغ نسبة الأُسر الأردنية المقترضة من البنوك نحو 46% من مجموع الأُسر، بحسب مدير الإحصاءات العامة).

وتكتسب فئة "رجال الأعمال" الجدد من اللاجئين الفلسطينيين مزيداً من التأثير الاجتماعي والسياسي داخل مخيم البقعة، سواء على حساب الوجهاء التقليديين (السياسيين)، أو على حساب الناشطين السياسيين المحليين السابقين في الفصائل الفلسطينية، أو عن طريق احتواء هؤلاء الوجهاء والناشطين من خلال الشراكات التي لدى فئة رجال الأعمال اليد العليا فيها. وتستخدم هذه الفئة في توطيد نفوذها مجموعة متنوعة من الوسائل: المنظمات الخيرية والجمعيات المدنية (التي يبلغ عددها نحو 60)؛ العلاقات الوثيقة مع مسؤولي الحكومة والأونروا؛ توظف "المال السياسي" بصورة خاصة. ويستعمل أعضاء هذه الفئة الأدوات المذكورة في خوض معاركهم الانتخابية البرلمانية والمحلية. ويبرز هذا الاستخدام بصورة جلية في انتخابات نادي البقعة العريق، الذي شكّل مركز استقطاب النشاط الشبابي / السياسي خلال سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، في إبان حظر نشاط الفصائل الفلسطينية. وقد بلغت عضوية النادي حالياً أكثر من 1600 عضو، لكنه تحول إلى أداة نفوذ سياسي للنخب الجديدة، وإلى منشأة أعمال تجارية كبيرة تمتلك عدداً كبيراً من المحلات التجارية المؤجرة، بل إنه يملك مسبحاً في المبنى السابق لنادي موظفي أحد البنوك الذي تملّكه منذ بضعة أعوام خارج حدود المخيم.

 

مخيم البقعة الآن

 

العمل الميداني والاستبيان الرئيسي

ثمة عرقلة تبدو مقصودة لإنجاز أي بحث ميداني في البقعة. فوكالة الأونروا تتلكأ في إجراء بحث ميداني في مدارسها ومؤسساتها الأُخرى، بحجج عديدة أبرزها "الحيادية"، والمسؤولون الحكوميون في المخيم، وخصوصاً في أجهزة الأمن، ينظرون بعين الريبة إلى أي نشاط بحثي أو سواه، ويقيدونه بصرامة، كما أن بعض المعايير الاجتماعية يقيّد بدوره البحث الميداني، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بالإناث. وبالتالي، كان على المجموعة التي ساعدت في إجراء استبياننا أن تلجأ إلى وسائل "ملتوية" تكاد تكون سرية، لتوزيع الاستبيان وتعبئته واسترداده.

تتكون العينة الاستبيانية التي أنجزناها من 157 تلميذاً، منهم 120 ذكراً و37 أنثى، هم أحفاد الفلاحين والبدو من اللاجئين الأوائل، وينتمون إلى الجيل الثالث في مخيم البقعة، وإلى فئة العمر التي غادرت الطفولة لتوّها، وتقف على عتبة سنّ الشباب. وقد طُلب من المستجيبين تفضيل اختيار واحد بين عشرة اختيارات للهوية. وحرصنا على إعطاء هؤلاء التلاميذ أقصى درجة ممكنة من حرية الاختيار، وخصوصاً عدم تأثرهم بآراء الكاتب أو أفراد فريق العمل في موضوع الهوية، إذ لم يكن للكاتب أي اتصال مباشر بالمستجوَبين، ولم يكن لديه معرفة بآراء فريق العمل الذي لم يكن أفراده ذوي رأي واحد بشأن تفضيل هوية.

جرى تصميم الاستبيان بهدف تحديد الهوية لفئة محددة (تلاميذ بين صفوف السادس والثامن والتاسع والعاشر الأساسي)، في مكان محدد (مخيم البقعة)، وفي وقت محدد (ربيع سنة 2019). ونُظر في متغير واحد فقط هو الجنس، بينما تم تجاهل المتغيرات الأُخرى (العمر؛ الوضع الطبقي؛ مستوى التعليم؛ المهنة؛ الدين / الطائفة) عن عمد، كونها غير ذات صلة في حالة المخيم هنا. فالمستجوبون كلهم ينتمون إلى الفئة العمرية نفسها، إذ تتراوح أعمارهم بين 12 عاماً و16 عاماً، كما أنهم ينتمون إجمالاً إلى الطبقة الاجتماعية ومستوى التعليم والدين / الطائفة نفسها. وهم جميعاً بطبيعة الحال بلا مهنة، خلافاً لأترابهم ممن تسرّبوا باكراً من المدرسة إلى سوق عمالة الأطفال.

بعد إجراء الاستبيان وجمع البيانات وفرزها، جاءت إجابات المستجوَبين ملخصة على نحو ما يظهر في الجدول الرئيسي التالي.

 

الجدول رقم 1

اختيار الهوية، بحسب الجنس والعمر*

*في هذا الجدول وما يليه من جداول، لا يبلغ مجموع النسب 100% بالضبط، بسبب التقريب.

 

تحليل نتائج الاستبيان

قبل النظر في نتائج المسح الذي أجريناه، يجب تقديم توضيح بشأن هوية "البقعاوي". إنها هوية فريدة بسكان مخيم البقعة، ولا نجد مثلها في سائر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وهي هوية يمكن أن يكون لها دلالات مختلفة تماماً: سلبية تعني في نظر "الخارج" لاجئاً رثاً، وقحاً وعنيفاً يخرج من مكان موحل قذر هو موئل للمكاره والموبقات وسوق للبضائع المهربة؛ أو إيجابية يشير فيها "ابن المخيم" إلى فخره بأنه فلسطيني أصيل، يعيش صامداً في مخيم أنجب آلاف المناضلين والشهداء، ويُعتبر في وقت واحد رمزاً للمأساة والكفاح من أجل التحرير والعودة. وفضلاً عن ذلك، فإن المخيم هو السوق التي يقصدها الناس من سكان المنطقة، بل ومن سكان العاصمة أيضاً، بسبب اعتدال أسعارها. ومع ذلك، وفي جميع الحالات، لا تزال "البقعاوية" هوية محلية / فرعية يجب أخذها في الاعتبار فيما يتعلق بسكان مخيم البقعة.

لدينا في الجدول رقم 1 نوعان من الهويات، هما: الهويات "البسيطة" (البقعاوية؛ الفلسطينية؛ الأردنية؛ العربية؛ الإسلامية)، والهويات "المركّبة" (الفلسطينية الأردنية؛ العربية الفلسطينية؛ الفلسطينية الإسلامية؛ الفلسطينية الأردنية العربية؛ الفلسطينية الأردنية الإسلامية).

وبين الهويات البسيطة، احتلت الهوية "الفلسطينية" المرتبة الأولى (21%)، تليها "البقعاوية" (13٪)، وجاءت الهوية "الإسلامية" في المرتبة الثالثة، ربما بشكل غير متوقع (8%)، بينما احتلت الهوية "الأردنية" المرتبة الرابعة (3%)، وجاءت الهوية "العربية" في المرتبة الأخيرة بنسبة 1% فقط. وإذا أُضيفت الهوية "البقعاوية" المحلية الفرعية إلى الهوية "الفلسطينية" العامة، فإن هذه الأخيرة سترتفع إلى 34٪.

أمّا بالنسبة إلى الهويات المركبة، فقد احتلت هوية "الفلسطيني العربي المسلم" المرتبة الأولى (31٪)، تليها "المسلم الفلسطيني" (17٪). وجاءت الهويات المركبة الأُخرى أدنى من ذلك كثيراً، وهي كما يلي: "الفلسطيني الأردني العربي" (4%)، و"الفلسطيني العربي" (2 %)، وأخيراً "الفلسطيني الأردني" التي جاءت بنسبة 1% فقط.

تشير النتائج المشتركة لكل من الهويات البسيطة والمركبة إلى أن المستجوَبين، في أغلبيتهم، يعرّفون عن أنفسهم كفلسطينيين، وأن هذه الهوية الرئيسية تتراكب بدرجة أو بأُخرى مع عدد من الهويات الفرعية، بالترتيب التالي: البقعاوية المحلية، والإسلامية، والأردنية، ثم العربية. والنتيجة، وفقاً لهذا المسح، هي هوية مركّبة، محورها الهوية الفلسطينية.

يمكن تلخيص الظروف الخاصة بالمخيم، والتي أفضت إلى نتيجة كهذه، بالبعد الجغرافي النسبي للمخيم مع المدن الكبرى، والذكريات المريرة عن القمع الذي لحق بالمخيم، كسائر المخيمات، في أعقاب "أيلول الأسود" في سنة 1970، ولجوء ناشطي المخيمات إلى العمل السري، وتهميشهم اقتصادياً، واغترابهم عن الحياة السياسية الداخلية. وقد أقصت هذه العوامل كلها مجتمعة، سكان المخيم عن المجال العام في الأردن، الأمر الذي عزز الهوية الفلسطينية ومكونها الفرعي: هوية "البقعاوي" المحلية.

علاوة على ذلك، عمل بعض التطورات على جمع سكان مخيم البقعة مع سائر أشقائهم الفلسطينيين في الوطن والشتات في مسألة تعزيز الهوية الوطنية. وجاء على رأس هذه التطورات الانتفاضة الأولى، ثم الانتفاضة الثانية المسلحة التي تكللت بطرد الاحتلال الإسرائيلي من قطاع غزة، وما تلا ذلك من مواجهات بين فصائل المقاومة في غزة وجيش العدوان الإسرائيلي منذ سنة 2008 حتى الآن. وكان للانتفاضة الأولى بالذات أثر ملحوظ وسريع في تنشيط العمل السياسي وإيقاظ الوعي الوطني في مخيم البقعة (كسائر مخيمات الأردن)، وخصوصاً في أعقاب "هبّة نيسان" الأردنية في سنة 1989 والانفتاح السياسي النسبي الذي تلاها، إذ تشكلت لجنة شعبية لدعم الانتفاضة، ضمت القوى السياسية والشخصيات المستقلة في المخيم وحوض البقعة، كما شهد المخيم تظاهرات حاشدة وأشكال تضامن أُخرى مع الانتفاضة (ومع العراق في مواجهة العدوان الأميركي خلال الفترة 1990 - 1991)، وكذلك توسعت عضوية "نادي البقعة" ونشاطه الاجتماعي والثقافي والسياسي بصورة ملحوظة، وبرزت أشكال تنظيمية جديدة، مثل "اللجان الشعبية" و"لجان العمل التطوعي" للشباب وللمرأة ، وذلك بتأثير من الأشكال التنظيمية التي أنتجتها الانتفاضة. وهكذا، أخذت الهوية الفلسطينية مرة أُخرى، تجد لها تعبيرات علنية، بعد عقدين من "أيلول الأسود" والسواد السياسي والعمل التنظيمي السري.

 

غرافيتي على حائط في المخيم: "البقعة إلنا وعمّان للكل"، 2019، الصورة للكاتب

 

اللافت في نتائج الاستبيان ليس النسبة المئوية المرتفعة لاختيار هوية "الفلسطيني" ولا النسبة المئوية المنخفضة للهوية "الأردنية"، بل النسبة المئوية المنخفضة بشكل ملحوظ لاختيار هوية "فلسطيني أردني" (مع أن وصف "فلسطيني أردني" شائع في الأردن للإشارة إلى الأردنيين من أصل فلسطيني)، واللافت بدرجة أقل هو نسبة اختيار هوية "العربي". ومع ذلك، يمكن تفسير هذه النتائج بشكل كافٍ بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، المذكورة سابقاً، في مخيم البقعة.

لكن أساساً، ربما يكون العامل البنيوي الذي يفسر بروز الهوية الفلسطينية في مخيم البقعة وسائر مخيمات الأردن (وبروز الهوية الفرعية البقعاوية كذلك)، هو بنية النظام الاقتصاد الأردني. وما قد يبدو مفارقة هو أن هذا العامل بالذات يجعل من الكلام على "انقسام، وربما صدام أردني - فلسطيني" - وكذلك الكلام على "اندماج" كامل للاجئين الفلسطينيين في الأردن - أموراً بعيدة الإمكان، سواء في رهان الأحلام الصهيونية، أو في مخاوف الأوهام لدى "العنصريين الشرق الأردنيين". ففي واقع الحال، يمكن القول إن هذا النظام الاقتصادي يتكون من ثلاثة قطاعات متباينة، وإن تداخلت، ويقابله نظام اجتماعي تتوزع الطبقات الشعبية فيه على هذه القطاعات: قطاع "شرق أردني" يتركز في القطاع العام المدني والعسكري بالدرجة الأولى وفي أملاك الأراضي؛ قطاع "فلسطيني" يتركز في القطاع الخاص - الوكالات التجارية وتحويلات المغتربين والعمالة الماهرة وشبه الماهرة؛ قطاع مختلط يشمل الشركات المالية و"رجال الأعمال الجدد". ومن هنا، يكون لدينا اقتصاد رأسمالي ريعي تابع، بقيادة طبقة برجوازية من ثلاث شرائح: كومبرادور / تجاري وسيط (فلسطيني)؛ بيروقراطية - عقارية (شرق أردنية)؛ رأسمالية مالية مختلطة. ويترتب على هذا القول جملة من الأمور منها ما يتصل بـ "العلاقة الأردنية الفلسطينية"، وبتعزيز الهوية الفلسطينية لدى سكان المخيمات الفلسطينية في الأردن، وفي مخيم البقعة بالذات.

على الرغم من ذلك كله، فإننا لا نلمس، في العقود الأخيرة، مظاهر صراع مجتمعي أردني - فلسطيني، في حين أننا نجد بعض مظاهر هذا الصراع في القطاع "الشرق الأردني": "العنف الاجتماعي" في الجامعات والمستشفيات؛ حراكات المحافظات؛ الصراع على أراضي "الواجهات العشائرية" بين الدولة والقبائل الكبيرة؛ احتجاجات العاطلين عن العمل؛ الحراكات بشأن قانون الضرائب؛ إلخ. وهكذا نجد أنفسنا، في نهاية المطاف، أمام تعزيز لهوية فلسطينية تتمحور حول مسألة التحرر الوطني، إلى جانب هوية أردنية تتمحور حول مسألة التغيير الاجتماعي (يجب الإشارة هنا إلى أنه في حين أن مثل هذا "الانفصام"، مثلما هو بطبيعته، يقف حائلاً دون الصدام أو الاندماج، فإنه يكشف عن وجه أساسي لمعضلة "التغيير" في الأردن: "استعصاء" حل أي من المسألتين الوطنية والاجتماعية بعزل أي منهما عن الأُخرى - لكن التفصيل في هذا الشأن يُخرجنا عن نطاق هذا البحث).

أمّا المكون الديني في الهوية الفلسطينية، فكان حاضراً على الدوام، منذ الانتداب / الاحتلال البريطاني حتى اليوم، لكنه لم يتجسد في "سلفية جهادية" على غرار ما حدث في المنطقة العربية في الآونة الأخيرة، وإنما اندمج في الهوية الوطنية الفلسطينية، وأسفر عن نشوء "جهادية وطنية"، متوجهة أساساً ضد الاستعمار الاستيطاني الصهيوني.[6]

لقد شكّل الفلسطينيون في الأردن الذي ضم الضفة الغربية إليه منذ سنة 1950، العمود الفقري للحركات السلفية، ممثلة أساساً في جماعة الإخوان المسلمين، وفي حزب التحرير الإسلامي. غير أن التحاق الجماعة بالنظام، منذ ذلك الحين وأقلّه حتى سنة 1990، فضلاً عن انخراط الفلسطينيين في الحركات القومية واليسارية المعارضة للنظام وفي فصائل المقاومة الفلسطينية، ربما كانا العامل الأساسي في إضعاف المكون الديني السلفي لمصلحة "جهادية وطنية" اتسعت لها حركة "فتح"، كبرى تلك الفصائل. وهذا الضعف يفسر النتيجة أعلاه التي كشف عنها الاستبيان بشأن احتلال الهوية الإسلامية المرتبة الثالثة، بعد الهوية البقعاوية الفرعية والهوية الفلسطينية.

علاوة على ذلك، يبدو أن تأثير النخب الفلسطينية المقيمة خارج مخيم البقعة (رجال الأعمال الجدد والوجهاء القدامى) في تشكيل هوية المخيم، لا تزال محدودة حتى الآن. ففي الوقت الذي تُظهر هذه النخب ميلاً ملحوظاً إلى التماهي مع النظام والاندماج فيه، فإن سكان المخيم هم، على ما يبدو، محصنون إزاء هذا الميل، وينزعون إلى تأكيد هويتهم الفلسطينية.

أمّا بالنسبة إلى الهوية العربية الفرعية، فتجدر الإشارة إلى أن هذه الهوية كانت تاريخياً مكوناً رئيسياً في الوعي الوطني الفلسطيني، ولا سيما في إبان صعود حركة القومية العربية بزعامة جمال عبد الناصر، في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. وكان الفلسطينيون يشكلون مركز الثقل في الحركة الوطنية الأردنية المعارضة للنظام، وخصوصاً في حركة القوميين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي، وكذلك في الحزب الشيوعي الأردني.

لكن، في وقت لاحق، تراجع هذا المكون القومي العربي، نتيجة تضافر عدد من العوامل: تراجع القومية الناصرية؛ حملة "أيلول الأسود" في سنة 1970 وما رافقها من سقوط رهان الفصائل الفلسطينية على دعم وحدات الجيش العراقي المرابط في الأردن في مواجهتها مع النظام؛ صعود الساداتية في مصر بتوجهات اجتماعية و"قُطرية" جديدة تضمنت، عملياً، التخلي عن القضية الفلسطينية؛ "الصمت العربي" في إبان الحصار الإسرائيلي للفصائل الفلسطينية الطويل في بيروت وإخراجها منها في حرب صيف سنة 1982 (التي تميَّز أهالي مخيم البقعة بالانخراط فيها دعماً وتطوعاً للقتال). وقد استثمرت القيادة الفلسطينية الرسمية ما نجم عن مثل هذه التطورات من مشاعر لدى الفلسطينيين بخذلان "العرب" وخيبة أمل منهم، فطورت خطاباً متمحوراً حول الهوية القُطرية الفلسطينية تحت صرخة: "يا وحدنا!"، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى انخفاض ملحوظ في مكون الهوية العربي بين صفوف الفلسطينيين - وربما على رأسهم - سكان مخيم البقعة.

*****

من أجل مزيد من تفحّص نتائج الاستبيان، نتفحص فيما يلي العلاقة بين الهوية من ناحية والجنس من ناحية أُخرى، مثلما هو مبيّن في الجدول التالي (الجدول رقم 2):

 

الجدول رقم 2

اختيار الهوية لدى فتيان وفتيات مخيم البقعة، بحسب الجنس

 

مرة أُخرى، ومثلما فعلنا في تحليل الجدول العام رقم 1، نبدأ بالنظر في نتائج الهوية "البسيطة". لقد كان الاختيار الأول سواء للإناث أو للذكور هو هوية "الفلسطيني"، منفصلة أو مجتمعة مع هوية "البقعاوي" المحلية، ومع ذلك، هناك بعض الاختلافات بين الحالتين يجب الإشارة إليه، فاختيار الهوية الفلسطينية هنا هو أعلى كثيراً لدى الإناث ممّا هو لدى الذكور، غير أن اختيارات الإناث البسيطة الأُخرى (أردنية وإسلامية وعربية) كانت دائماً أعلى مقارنة بالذكور. وبالتوازي مع ذلك، فإن تفضيل الإناث للهويات المركبة الفلسطينية العربية والفلسطينية الإسلامية والفلسطينية الأردنية الإسلامية هو أقل ممّا لدى الذكور، لكنه أعلى بالنسبة إلى الهويتين الفلسطينية الأردنية والفلسطينية الأردنية العربية.

نتائج هذا الجدول تشير إلى وجود اتفاق بيّن على تفضيل الهوية الفلسطينية، وإن كان ثمة اختلافات متباينة في اختيار الهويات الفرعية. ويحتاج تأكيد هذه النتيجة الأخيرة المتعلقة بهذه الاختلافات إلى مسح إضافي لعيّنة من الإناث أكبر من العيّنة الحالية المحدودة.

في التحليل الأخير، تؤكد نتائج الاستبيان الاستنتاجَ الذي سبق أن أشرنا إليه لدى تحليل النتائج العامة في الجدول الرئيسي رقم 1 أعلاه: إن المستجوبين في مخيم البقعة، في أغلبيتهم، يعرّفون أنفسهم على أنهم فلسطينيين، وإن هذه الهوية الرئيسية تتراكب بدرجة أو بأُخرى مع عدد من الهويات الفرعية، الإسلامية والأردنية والعربية.

ويجب الإشارة هنا إلى أن هذا الاستنتاج يتعارض مع ما توصل إليه بعض الكتابات بشأن اندماج الفلسطينيين وتشكّل "هوية فلسطينية - أردنية". فقد ذهب أشيلي مثلاً إلى أن اللاجئين الفلسطينيين في الأردن "شكّلوا هويتهم بصفتها أردنية وفلسطينية في آن واحد"،[7] ويتوصل في آخر جملة من كتابه، إلى الاستنتاج التالي:

نجح اللاجئون في تدمير محاولات الدولة الأردنية فرض السيطرة الكاملة عليهم، بتشكيل أنفسهم على أنهم أردنيين وفلسطينيين في آن واحد، وفعلوا ذلك من خلال سعيهم للاندماج بشكل نشط. وبذلك، فإن سكان المخيمات لم يلمسوا سيطرة الدولة وقدرتها على تعيين الهوية فحسب، بل برهنوا أيضاً على أن هذه القدرة بالذات يمكن أن تتمظهر بطرق متعددة.[8]

تشكو منهجية أشيلي وأضرابه من مكامن خلل أشرنا إليه آنفاً (ولا يتسع المجال هنا لنقد كتاب أشيلي بمنهجيته وبالعورات التي حاقت بملاحظاته واستنتاجاته)، كما أن العوامل التي تقف دون إمكان وقوع انقسام / صدام أو حتى احتكاك "أردني فلسطيني" هي نفسها التي تحول دون "اندماج" اللاجئين الفلسطينيين الكامل في المجال العام في الأردن. ويأتي على رأس هذه العوامل ما تطرقنا إليه أعلاه بشأن طبيعة النظام الاقتصادي الأردني، بتشكيله "فك ارتباط" يحول دون الاندماج الكامل أو التنافس المؤدي إلى احتكاك فتصادم فصراع؛ أي وجود نظام اقتصادي يؤدي إلى ما يمكن تسميته "حالة لا تصادم ولا اندماج".

ربما يكون مآل الاندماج الكامل من نصيب "النخب" البرجوازية الفلسطينية المدينية المنشأ، التي تقيم، بصورة خاصة، في العاصمة عمّان حتى ما قبل حرب 1967، أو من نصيب أفراد خرجوا من مخيمات اللاجئين - بما فيها مخيم البقعة - واستقروا في الضواحي الجديدة من عمّان وغيرها من المدن. وبالتالي، فإن أعضاء هذه الأقلية من النخب، وهؤلاء الأفراد، ربما يعرّفون عن أنفسهم بتعابير الهوية الفلسطينية الأردنية. لكن نتائج بحثنا تشير إلى نقيض ذلك، وهي بالتالي تعزز الأبحاث التي عالجت هوية سكان المخيمات، وتوصلت إلى تأكيد بروز الهوية الوطنية الفلسطينية. أمّا ما يذهب إليه أشيلي على امتداد كتابه (من عزوف اللاجئين الفلسطينيين في مخيم الوحدات عن السياسة، وضجر شباب المخيم و"التسكع" في شوارعه، وانصراف سكانه إلى "العادي" والحياة اليومية، وتشكيلهم لهوية فلسطينية - أردنية)، فيتجاهل سياقات القمع والتهميش الاقتصادي والاغتراب السياسي، ومشاعر "الخيبة" و"الخذلان" - الأصيل منها والمصطنع - التي كثيراً ما أطّرت حيوات سكان المخيمات، وعملت على تعزيز الشعور بالانتماء الفلسطيني، وإضعاف المكونات الأُخرى للهوية الفلسطينية.

خلاصة

إن الغرض من هذه البحث هو تفحّص هوية اللاجئين الفلسطينيين في مخيم البقعة، ولهذا، أجرينا استبياناً في المخيم، "عاصمة الشتات الفلسطيني"، وطلبنا من أفراد عيّنة مكونة من 157 فتاة وفتى اختيار واحد من عشرة اختيارات هوية محتملة كأول تفضيل لهم. وقد أشار تحليل نتائج الاستبيان إلى أن "الفلسطيني" كان الخيار "البسيط" الأول لأغلبية المستجيبين، مقارنة بالبدائل الأربعة "البسيطة" الأُخرى: البقعاوي والأردني والإسلامي والعربي. وتعززت هذه النتيجة من خلال ما توصل إليه التحليل من أن المكون "الفلسطيني" هو الغالب في الهويات "المركّبة": الفلسطينية الأردنية، والفلسطينية العربية، والفلسطينية الإسلامية، والفلسطينية الأردنية الإسلامية، والفلسطينية الأردنية العربية. وإلى جانب المكون الفلسطيني الغالب في الهوية الفلسطينية المركبة، تأتي المكونات الفرعية بحسب الترتيب التالي: الإسلامي فالأردني فالعربي.

وقد شرحنا مختلف الأسباب الكامنة وراء هذه النتائج، بما فيها النتائج اللافتة للانتباه أو غير المتوقعة، ولا سيما ما يتعلق بانخفاض المكون الديني وضعف المكون الأردني وهشاشة المكون القومي العربي. فاللاجئون في مخيم البقعة - في مواجهتهم التهميش الاقتصادي والاغتراب السياسي من جهة، وبفعل الانتعاش بنسائم الحرية التي تبثّها من الوطن الانتفاضات المتكررة وصمود المقاومة من جهة أُخرى - يذهبون إلى الاعتماد على الذات والتشبث بهويتهم "الأصلية"، الهوية الفلسطينية، بما لها من تضمينات ثقافية واجتماعية وسياسية.

لقد أبرز البحث الارتباطَ الوثيق بين تعريف سكان مخيم البقعة لهويتهم، بما هي فلسطينية أساساً، وانتمائهم الاجتماعي إلى الطبقات الشعبية التي تشكّل قوام المخيم ولا تزال تحلم بالعودة. ويحيلنا هذا الارتباط إلى ضرورة أن يعطي الباحثون في مسألة الهوية وسائر مسائل القضية الفلسطينية والصراع العربي – الصهيوني، أهمية خاصة لمسار التمايز الطبقي الجاري في صفوف اللاجئين الفلسطينيين منذ تهجيرهم في سنة 1948، بل في لحظة "الهجرة" نفسها. فمن الـ 750,000 فلسطيني الذين تم تهجيرهم آنذاك، كان هناك الآلاف ممّن ينتمون إلى النخب البرجوازية الفلسطينية، الذين كانت رحلتهم من الوطن وإقامتهم في العواصم العربية المجاورة أشبه ما تكون بتغيير في مكان السكن بالدرجة الأولى ("نكبة" خمس نجوم!). وحتى في مخيمات البؤس، مرّ اللاجئون (الفلاحون والبدو شبه المستقرين بأكثريتهم) بعملية متواصلة من التمايز الطبقي، بفعل عوامل عديدة كالتعليم والتدريب المهني والوظائف الحكومية والاغتراب في دول الخليج الغنية بالنفط. وقد أرخت هذه التطورات ظلالها على وعي الهوية الفلسطينية، وعلى تركيب الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة وأدائها، وهو أمر لا يزال بحاجة إلى أبحاث منفصلة مستفيضة.

 

الجدول رقم 3

اختيار الهوية لدى البالغين في مخيم البقعة، بحسب الجنس

 

تجدر الإشارة إلى أن نتائج بحثنا هنا تقتصر على سكان مخيم البقعة بالذات، وتحديداً الفتيان منهم. وقد جرى إضافة ملحق (الجدول رقم 3: "اختيار الهوية لدى البالغين") بهدف الاختبار الأولي لنتائج بحثنا، و"تذوّق" مدى صدقية تعميم هذه النتائج على سكان المخيم كافة. وأكدت إجابات هذه العيّنة المحدودة من البالغين النتائج التي توصل إليها تحليل عيّنتنا الخاصة بالفتيان والفتيات في مخيم البقعة بشأن اختيار الهوية الفلسطينية.

وإلى ذلك، فإن الهدف البعيد المدى لبحثنا هو المساهمة في الأبحاث الجارية بشأن الهوية الفلسطينية إجمالاً. ونحن قد نجازف هنا بتقديم فرضية أولية تقول إن من المرجح أن النتائج المستخلصة من مخيم البقعة تنطبق على سواه من مخيمات اللاجئين الفلسطينيين وتجمعات الفلسطينيين الأُخرى، وإن بدرجات متفاوتة، تبعاً للواقع العياني المُعاش لكل منها. ذلك بأن خصوصية مخيم البقعة، كخصوصية أي مخيم آخر، ليس من شأنها أن تنتهك السياق العام الذي يؤطر بروز الهوية العامة الجامعة، كما أن التحقق من صحة هذه الفرضية يستلزم إجراء مزيد من المسوحات المماثلة في مخيمات اللاجئين الأُخرى في الأردن وفي أماكن أُخرى، كالمجتمعات الفلسطينية داخل فلسطين المحتلة وخارجها.

 

المصادر

[1] انظر على سبيل المثال:

Rashid Khalidi, Palestinian Identity: The Construction of Modern National Consciousness (New York: Columbia University Press, 1997); Joyce Hamade, Palestinian Identity: The Construction of Palestinian Identity, Hamas and Islamic Fundamentalism (Quebec-Montreal: McGill University Libraries, 2002); Jamil Hilal, ed., Palestinian Youth: Studies on Identity, Space and Community Participation (The Centre for Development Studies/CDS, Birzeit University and American Friends Service Committee, 2016).

وانظر أيضاً:

ماهر الشريف، "البحث عن كيان" (قبرص: مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي، 1995)؛ محمد علي الخالدي (محرر)، "تجليات الهوية: الواقع المعاش للاجئين الفلسطينيين في لبنان" (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، 2010)؛ جميل هلال (محرر)، "الشباب الفلسطيني: دراسات عن الهوية والمكان والمشاركة المجتمعية" (بيرزيت: مركز دراسات التنمية - جامعة بير زيت، وهيئة خدمات الأصدقاء الأميركية / الكويكرز)، 2017).

[2] انظر:

 Rosemary Sayigh, “The Palestinian Identity among Camp Residents", Journal for Palestinian Studies, vol. VI, no. III (Spring 1977), pp. 3-22; Randa Farah, "Crossing Boundaries: Reconstruction of Palestinian Identities in Al-Baq'a refugee Camp", in: Palestine, Palestiniens, Territoire national, espaces communautaires, edited by Riccardo Bocco, Blandine Destremau and Jean Hannoyer (Beyrouth: Centre d'études et de recherché sur le Moyen-Orient contemporain, 1997); Nadia Latif, "Space, Power and Identity in a Palestinian Refugee Camp", Revue Asylon(s), no. 5 (septembre 2008), http://www.reseau-terra.eu/article800.html; Luigi Achilli, Palestinian Refugees and Identity: Nationalism, Politics and the Everyday (London & New York: I. B. Tauris, 2015).

وانظر أيضاً:

حمد سعيد الموعد، "خمسون عاماً من اللجوء: المخيم الفلسطيني والهوية"، "صامد الاقتصادي"، المجلد 25 (1998)، ص 180 - 195؛ روز ماري صايغ، "تجسيدات الهوية لمخيمات اللاجئين الفلسطينيين: رؤية جديدة لـ 'المحلي' و'الوطني' " (بيت لحم: بديل / المركز الفلسطيني لمصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2009).

[3] بشأن نظرية الهوية، انظر:

 Sheldon Stryker and Peter J. Burke, "The Past, Present and Future of an Identity Theory", Social Psychology Quarterly, vol. 63, no. 4 (December 2000), pp. 284-297. A summary can be seen online.

[4] Achilli, op.cit., p. 193.

[5] انظر: "مخيم البقعه للاجئين الفلسطينيين"، موقع الأونروا الإلكتروني، في الرابط التالي.

[6] بشأن الهوية، انظر: خالد عايد، "الجهادية الوطنية في الإسلام السياسي الفلسطيني"، موقع مجلة "الآداب"، في الرابط الإلكتروني التالي.

[7] Achilli, op.cit., p. 14.

[8] ibid., p. 201.

السيرة الشخصية: 

خالد عايد:  كاتب فلسطيني