فلسطينيو لبنان وصفقة ترامب: العودة أو الهجرة لكن لا للتوطين
التاريخ: 
11/02/2020
المؤلف: 

وأخيراً، أُعلنت "صفقة القرن" في احتفالية حضرها إلى جانب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وزعيم حزب “أزرق أبيض" بني غانتس، وليس اكتشافاً بحد ذاته أن الصفقة لا تركز كثيراً على قضية اللاجئين الفلسطينيين، إلّا من منطق أن لا حق لهم في بالعودة، وأن الحل يكون بتوطينهم حيث هم مع حوافز مالية للدول المضيفة، أو بإعادة توزيعهم في دول منظمة المؤتمر الإسلامي. كما أن ردات فعل سياسيين لبنانيين لم تكن مفاجئة بدورها. وعلى ما جرت عليه الحال، فإن اللازمة هي، "نعم لفلسطين ولا للفلسطينيين"، وبالتالي انتقاد ورفض لصفقة ترامب، لكن بموازاة رفع فزاعة التوطين، وهذا أمر لا غضاضة فيه، لولا أنه يأتي على خلفية اتهام الفلسطينيين بتفضيلهم التوطين، أو عبر التقليل من شأن رأيهم الرافض أساساً للتوطين.

إن الصفحات الـ 181 للصفقة بشأن اللاجئين، كانت قد بيّنت جانبَها الاقتصادي ورشةُ البحرين (التي عُقدت في 25 و26 حزيران/يونيو 2019)، وخصوصاً تصريحات جاريد كوشنر صهر ترامب ورأس الحربة في "صفقة القرن"، وهي بمثابة رشوة مالية رخيصة للدول الأساسية المضيفة للاجئين، كون إدارة ترامب تدير المسائل السياسية بأسلوب المضارب العقاري، أو رجل الأعمال الذي يحيل كل شيء إلى الربح والخسارة المالية.

أمّا عدم الاهتمام الكافي والمفصل في مسألة اللاجئين في "صفقة القرن"، بخلاف ما جرى بشأن خريطة توزع الفلسطينيين الديموغرافي والجغرافي ضمن حدود فلسطين المُفترضة، فلا يعود إلى عدم أهمية هذه القضية، بل لأن الأنظمة العربية والفصائل الفلسطينية، كثيراً ما تعاملت مع قضية اللاجئين كقضية ملحقة في المسألة الكبرى (كل بحسب وجهة نظره من المسألة الكبرى)، وليس كمسألة تأسيسية، في الأصل، لصراع سببه الاستيلاء على الأرض في سنة 1948 وطرد السكان، ولمخاوف ديموغرافية طائفية مثلما هو الوضع في لبنان. فليس خافياً أن "صفقة القرن" تنطلق مما هو قائم على الأرض، وأنها بالتالي تعتبر أن اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، هم حُكماً مواطنون في الدولة المفترضة التي هي أشبه شكلاً بـ "الغربال"؛ ففي الأردن هم مواطنون درجة أولى كون نحو 60% - 63% هم من أصول فلسطينية،[1] وهم مواطنون أردنيون بكل ما يعنيه مفهوم المواطنة، ما عدا فئة عددها محدود من لاجئي سنة 1967؛ وفي مصر يُقدّر عددهم بما يتراوح ما بين 50,000 و100,000؛[2] وفي العراق كان عددهم نحو 35,000 لاج فلسطيني في سنة 2003، لكنهم الآن لا يتجاوزون الـ 7000 فرد يقيمون في بغداد ومن دون حقوق، وذلك بعدما بعثرتهم حكومات ما بعد الاحتلال الأميركي.[3]

عملياً، إن تمركز اللاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين التاريخية، يقع بين سورية ولبنان، إذ لجأ إلى لبنان بعد نكبة 1948 نحو 110,000 فلسطيني[4] بلغ عدد المسجلين منهم في سجلات الأونروا قرابة 475,075 شخصاً.[5] وبينما يصعب الوصول إلى رقم محدد لعدد اللاجئين الفلسطينيين المسجلين في قيود المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين، فإن تقريراً موجوداً في موقع مجلس النواب اللبناني، يشير إلى أن عددهم في سنة 2010 كان نحو 490,000،[6] بينما لجأ إلى سورية 85,000 تقريباً،[7] وفي سنة 2011، وقبل اندلاع الأزمة السورية، قارب عددهم 600,000. غير أن عدد اللاجئين الفلسطينيين في لبنان بعد 71 عاماً من النكبة، هو 174,422 فرداً، وفق تعداد السكان والمساكن للاجئين الفلسطينيين في لبنان، والذي صدرت نتائجه في نهاية سنة 2017،[8] وأقل من خمس عددهم موجود في سورية، جرّاء لجوء ونزوح العدد الأكبر من اللاجئين الفلسطينيين بسبب الاقتتال وتدمير بعض المخيمات ("تسببت الحرب بنزوح ما يقارب 280 ألف فلسطيني من أماكن إقامتهم الأصلية في سورية، بالإضافة إلى حوالي 120 ألف لاجىء إلى خارجها").[9]

وفقاً لتفكير أصحاب "صفقة القرن"، فإن هذا المتغير الديموغرافي يجعل هدف تصفية قضية اللاجئين مسألة سهلة لا تتعدى رشوة مالية للبنان والأردن المأزومَين اقتصادياً، وتدبيراً ما لهم في سورية.

إن مطلقي لازمة التوطين في لبنان، يتجاهلون حقيقة رفض اللاجئين الفلسطينيين مشاريع التوطين منذ بدء طرحها في مطلع خمسينيات القرن الماضي، ولا يطرحون على أنفسهم سؤال لماذا انخفض عدد هؤلاء، ولماذا هاجروا، أو هُجّروا؟

يمكن الإجابة عن السؤال عبر مقارنة بين ثلاثة أماكن سكنها الفلسطينيون بعد نكبة 1948: فعدد اللاجئين الفلسطينيين في سورية ازداد من 85,000 شخص في سنة 1948 إلى نحو 600,000 في سنة 2011، بينما بقي في فلسطين في سنة 1948 نحو 154,000، وفي سنة 2017 بلغ عددهم 1,560,000 تقريباً،[10] وكان عدد مَن وصل من فلسطين إلى لبنان في سنة 1948 110,000 شخص تقريباً، وأصبح عددهم 174,422 لاجئاً في نهاية سنة 2017!!

فإذا افترضنا أن النمو السكاني للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1948 هو نمو "مقاوم"، بمعنى مواجهة الاستيطان اليهودي بخصوبة فلسطينية عالية، فإنه يمكن اعتماد النمو السكاني للاجئين الفلسطينيين في سورية، كمجتمعات مستقرة، مقياساً، الأمر الذي يُظهر أن النمو السكاني في لبنان سلبي.

وتناول التوطين كتهمة بوجه اللاجئين الفلسطينيين، يصبح بلا مضمون عندما نعود إلى العقد الأول بعد النكبة، حين عمدت السلطات اللبنانية إلى تجنيس الأغلبية العظمى من المتمولين والمبدعين الفلسطينيين، وخصوصاً في أيام الرئیس الراحل كمیل شمعون.

ولم يتوقف أمر التجنيس عند المتمولين والمبدعين الفلسطينيين، مسيحيين ومسلمين، وإنما طاول أيضاً معظم المسيحيين الفلسطينيين، وخصوصاً في خمسينيات القرن الماضي وستينياته. وفي هذا السياق يُنقل عن نجل الرئيس الراحل كميل شمعون، أنه تم في عهد والده تجنيس نحو 35,000 فلسطيني، كما تُنقل معلومة عن الأديب الراحل سعيد عقل، الذي ناصب الفلسطينيين عداء واضحاً، أنه اصطحب المبدع الفلسطيني صبري الشريف في زيارة للرئيس شارل الحلو، وخاطب الرئيس قائلاً: "هل تريد أن يموت هذا العبقري فلسطينياً؟" وهكذا حاز صبري الشريف الجنسية اللبنانية.[11]

إن الاستمرار في إبراز مسؤولين لبنانيين مسألة توطين اللاجئين الفلسطينيين وتجنيسهم، إنما بسبب عدم التعمق، أو لأهداف داخلية، وخصوصاً التخويف من زيادة عدد المسلمين السنّة، لأن الفلسطينيين في معظمهم، من المسلمين السنّة، وبالتالي تتحول هذه الحقيقة، بإرادة أو بعدم إرادة، إلى عملية تحريض على الفلسطينيين بما يعرّض حياتهم للخطر.

وكثيراً ما ترافقت تصريحات المسؤولين مع تحريض إعلامي يطاول اللاجئين الفلسطينيين، لكن ما هو أخطر من التحريض الإعلامي، تجهيل اللاجئين الفلسطينيين في القوانين، ومحاصرتهم بالإجراءات العملية، فضلاً عن تدمير بنيتهم الاجتماعية عبر تدمير بعض المخيمات، وحصار ما تبقّى منها، الأمر الذي جعلهم يشعرون بعدم الأمان، وبرغبة المجتمع المضيف في إبعادهم، وفتح المجال واسعاً أمام هجرة منظمة، لكن مستترة.

عبر تاريخ وجود الفلسطينيين في لبنان، جرى تدمير 3 مخيمات بشكل كلي هي مخيمات النبطية (1974)، ومخيما تل الزعتر وجسر الباشا (1976)، ولم يُعَد بناؤها، وواحد أُخلي جزئياً من سكانه (ضبية 1976)، فضلاً عن مخيم نهر البارد الذي دُمّر عن بكرة أبيه في سنة 2007 بسبب الحرب بين الجيش اللبناني وتنظيم "فتح الإسلام" الإرهابي، وقد دار سجال وجدال واسعان ابتُدعت فيهما أسباب لتأخير بنائه. وعندما فشل المعرقلون، بدأت عملية إعادة البناء متأخرة، لكن بعد مرور 13 عاماً على مأساة المخيم، غير أن العمل المفترض أن ينتهي في غضون عامين لم يتم إنجازه بعد. علاوة على ذلك، عملت المجازر والحروب فعلها: بدءاً بمجزرة مخيم شاتيلا في سنة 1982، وليس انتهاء بحرب المخيمات (1985 – 1987) التي دمرت هذا المخيم المنكوب ومعه مخيم برج البراجنة، والتي جرى خلالها حصار مخيمات منطقة صور في الجنوب اللبناني، واستباحتها.

فضلاً عن ذلك، فإن مخيمات الجنوب بات دخولها والخروج منها مقيّدين جداً، وخصوصاً مخيم عين الحلوة الذي أحيط بجدار عزل، ونُصبت بوابات على مداخله، تُفتح وتُغلق وفق "الضرورات الأمنية"، وتحيط بها إجراءات أمن مشددة تعرقل حركة انتقال السكان من المخيم وإليه، علاوة على منع و/ أو تقنين إدخال مواد البناء إلى تلك المخيمات.

لقد دفعت تلك الحروب على المخيمات آلاف الفلسطينيين إلى الهجرة، وخصوصاً إلى أوروبا الغربية، بين منتصف سبعينيات القرن الماضي وتسعينياته، ولم تتوقف حتى اليوم، وإنما زادت وتيرتها، متخذة شكل هجرة منظمة ومستترة.

ولم يعُد معروضاً على اللاجئين الفلسطينيين في لبنان الذين قاوموا مشاريع التهجير والتجنيس طويلاً، سوى الرضوخ بعدما سُدت في وجوههم سبل العيش الكريم، وطرق باب الهجرة. وكان اللافت تشكيل مجموعة تنادي بـ "حق الهجرة"، جمعت حولها مئات الشابات والشبان الفلسطينيين، وكانت شرارة انطلاقة الحملة الداعية إلى "حق الهجرة" تعليق في موقع فايس بوك لشاب فلسطيني تناقله عدد كبير من الشبان والشابات، وأعقبه تنظيم تظاهرات أمام بعض السفارات، واعتصامات داخل المخيمات.

إن مخاطر التهميش والإقصاء والاستغلال/الاستقطاب، والمخطط الأميركي/الإسرائيلي الهادف إلى إلغاء الأونروا التي يراها كثيرون تخلياً دولياً عن المسؤوليات تجاه اللاجئين الفلسطينيين، هي كلها عوامل تدفع اللاجئين الفلسطينيين إلى اليأس، ومن اليأس تأتي محاولات الهجرة الخطرة منها والمنظمة، مثل تلك التي نفذها مكتب جمال غلاييني المشهور، والذي كان يستوفي مبالغ تتراوح بين 8000 و12,000 دولار أميركي عن كل فرد يودّ الهجرة، وهي مبالغ عالية جداً دفعت بآلاف الفلسطينيين إلى بيع ما يملكون لتأمينها والسفر إلى أوروبا الغربية.

 

رسم بياني يوضح المبالغ المخصصة لدول مضيفة للاجين

المصدر: النص الرسمي الموزع لخطة ترامب

 

وبناء على هذا الواقع، ليس مستغرباً، أن يُعرض على لبنان مبلغ 6,325 مليارات دولار على شكل قروض ميسرة وهبات ومشاريع بنية تحتية، في مقابل توطين اللاجئين الفلسطينيين، وهو أمر جاءت الردود عليه رافضة لمنطق التوطين برمّته من أصله إلى فصله، من جانب المسؤولين اللبنانيين، وخصوصاً من طرف اللاجئين الفلسطينيين الذين أعلنوا عبر تجمعات واعتصامات وتظاهرات، في شتى المخيمات، رفضهم صفقة ترامب، ورفضهم تماماً فكرة التوطين.

 

[1] عريب رنتاوي، "الفلسطينيون في الأردن وأسئلة 'المواطنة' و'الوطنية' "، "السفير" – "ملحق فلسطين" (بيروت)، نيسان / أبريل 2011.

[2] لمزيد عن اللاجئين الفلسطينيين في مصر، انظر: حسن شاهين، "مصر: فلسطينيون في قبضة النسيان"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 99 (صيف 2014)، ص 157 – 164.

[3] زهير هواري، "فلسطين الشتات... انقراض لاجئي 1948 في العراق (الحلقة 6)"، "العربي الجديد" (لندن)، 20 / 5 / 2018.

[4] عدد اللاجئين إلى لبنان في سنة 1948 مستقى من موقع "رحلات فلسطينية – المسرد الزمني"، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/yy2on5ek

[5] الرقم مقتبس من موقع الأونروا، في 31 / 1 / 2020، في الرابط الإلكتروني التالي:

https://www.unrwa.org/ar/where-we-work/%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86

[6] انظر موقع مجلس النواب اللبناني، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/y6eswxp8

[7] عدد اللاجئين إلى سورية سنة 1948 مستقى من موقع "رحلات فلسطينية – المسرد الزمني"، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/yyo7st4s

[8] "التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان: النتائج الرئيسية 2017"، الجمهورية اللبنانية – رئاسة مجلس الوزراء – لجنة الحوار اللبناني الفلسطيني، ص 18.

[9] "المهجرون الفلسطينيون في الشمال السوري"، موقع "مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية"، في الرابط الإلكتروني التالي: https://tinyurl.com/y3397la4

[10] انظر تقرير "الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني" في الرابط الإلكتروني التالي:

http://www.pcbs.gov.ps/postar.aspx?lang=ar&ItemID=3136

[11] هذه المعلومة نقلها صقر أبو فخر جاء خلال مقابلة مع كاتب هذه المقالة في سنة 2018، في سياق الإعداد لسلسلة وثائقية عن التجربة الفلسطينية في لبنان.