أبو علاء منصور (محمد يوسف). "رحلة لم تكتمل: محطات على طريق المقاومة" (بالعربية)
النص الكامل: 

 رحلة لم تكتمل: محطات على طريق المقاومة

أبو علاء منصور (محمد يوسف)

الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018. 358 صفحة.

لا يكتفي أبو علاء منصور (محمد يوسف) بسرد ذكرياته وتجربته الممتدة إلى أكثر من نصف قرن في هذا الكتاب، ولا يمارس دور الراوي العليم الذي يُفرغ ذاكرته على القرّاء، ويؤدي واجبه في التبليغ عن الماضي والكشف عن جانب مستور في التاريخ. الأدق، هو أن الكاتب يمارس البحث عن أجوبة لأسئلة ناقدة طرحها في مستهل كتابه، تتناول مجمل نتائج المسيرة النضالية للشعب الفلسطيني: "لماذا جاءت غلال بيدرهم شحيحة على هذا النحو حتى الآن؟ ما السبب؟ أين المشكلة؟" وهو بحث تنشط فيه الذاكرة حيناً وتضمر حيناً آخر، لتحل مكانها استطلاعات رأي واقتباسات وخلاصات نقاشات وندوات. وبالتالي، فإن الذاكرة في هذا الكتاب أقرب إلى أن تكون مدخلاً للتساؤل عن نظم العمل والمناخات والمآلات لمحطات في تاريخ الثورة. ولهذا، سعى الكاتب لإشراكنا في قراءة مذكرات أو ملاحظات أناس آخرين شاركوه مهمة التأريخ أو النقد والتقييم التي لا يخلو الكتاب منها، على الرغم من اعتذار الكاتب، في الختام، ممّن "يشعر بأن جرأة الكتابة مسّت كبريائه الثورية."

تنقلنا المحطة الأولى من الكتاب إلى زمن الدوريات العسكرية المنطلقة إلى الداخل الفلسطيني، وما تعانيه وتعنيه من نقص في الإمكانات، ومجازفة في الحركة، ومطاردة تنتهي غالباً باستشهاد المقاتلين. الوصف الدقيق لحركة هذه الدوريات، والاعتماد على إضافات شهود آخرين، هما ما يمكّنا القارىء من مشاهدة الوقائع كأنها تحدث الآن. لقد كانت الغاية الاستراتيجية من إدخال دوريات عسكرية إلى الداخل الفلسطيني، هي تأهيل مناضلي الداخل وتدريبهم عسكرياً من أجل الاستعداد لمواجهة الاحتلال بكفاءة وحرفية، لكنها غاية لم تتحقق في ظل التحديات القاسية التي واجهتها "لجنة التنظيم 77"، وهي اللجنة التي كان للكاتب نشاط قيادي فيها إلى جانب أبو حسن قاسم (محمد بحيص) وحمدي (محمد باسم سلطان التميمي). وهذه التحديات، مثلما يكشف الكاتب، لم تكن ناجمة عن صعوبة المهمة بقدر ما هي ناجمة عن سوء التنظيم الذي أدى إلى انقسام لجنة التنظيم إلى لجنتين على خلفية انتماءات وولاءات فكرية وسياسية متعددة، وبسبب الخلل في التنسيق مع قائد القطاع الغربي، أبو جهاد الوزير، الذي لم يكن مطّلعاً بما فيه الكفاية على عمل "لجنة التنظيم 77" وهي تحت إمرته، بل إنه كان يفاجأ بعملياتها أحياناً. وهذا الوضع يوضح صورة التشتت الذي أصاب حركة "فتح" في تلك الفترة، بسبب العمل وفق استراتيجيات وخطط متنوعة تزيد في معاناة المقاتلين وإحساسهم بالغبن. لكن، على الرغم من ذلك، فإن الكاتب لا يتوانى عن وضعنا وجهاً لوجه مع البطولة والعزيمة والتواضع التي تحلّى بها قادة لجنة التنظيم ومقاتلوه، والعقبات التي واجهتهم لإتمام مهماتهم، أو لمجرد الحياة والتنقل بين البلاد وتكوين عائلة، الأمر الذي سمح لنا بالدخول إلى "العالم اليومي" للمناضل، والانتقال من التاريخ العام للثورة إلى التاريخ الخاص للثائر.

في إبان الانتفاضة الأولى، وبعد انتقال حركة "فتح" إلى القيادة عن بعد لمجريات الانتفاضة، تسلّم أبو علاء منصور مهمة إدارة مكتب عباس زكي، ثم صار مسؤولاً عن لجنة الوسط (القدس؛ رام الله؛ أريحا) في قيادة القطاع الغربي التي ترأسها أبو الهول. ومنذ ذلك الحين توطدت علاقته بمروان البرغوثي، الرجل الذي سيستفيض الكاتب لاحقاً في توصيف جهوده في إدارة انتفاضة الأقصى وتقديرها. لكن، ما كانت مساهمة "فتح" في الانتفاضة الأولى؟ يستطيع القارىء أن يستنتج من ملاحظات الكاتب ونقده لمنطق القيادة عن بعد أو "من وراء البحار"، ولانقسامات الحركة وسوء معرفتها بتفصيلات ميدان الانتفاضة، أن الحركة استفادت من الانتفاضة الشعبية الأولى أكثر ممّا أفادتها. أمّا انتفاضة الأقصى التي يُفرد لها الكاتب فصلاً كاملاً، فيبدو أن نتائجها جاءت خاسرة لمصلحة حركة "فتح"، ويظهر أن أبو عمار كان يخوضها كمناورة خطرة خرجت من يده، ولم يعد في إمكانه السيطرة عليها، مع أن وقائع أُخرى ينقلها الكاتب تؤكد أن أبو عمار كان يقودها من الخلف. فعلى سبيل المثال، يُعلن أبو عمار استنكاره العمليات الاستشهادية التي نفذتها "كتائب شهداء الأقصى"، والعسكرة غير المحسوبة للانتفاضة، في الوقت الذي يكتم تأييده مشروع مروان البرغوثي وخياره التسلحي، فيهمس في أذن الأخير قائلاً: "توكل على الله يا خويا، تردّش عليهم، اللي ما أقدرش عليه أنا تساويه إنت."

بعد سرد الكاتب مجريات مطاردته وصديقيه مروان البرغوثي وزياد أبو عين، والقلق الذي كان يسيطر عليهم في أثناء تنقّلهم من مخبأ إلى آخر، ومجريات اعتقال مروان البرغوثي وبقائه مطارداً حتى انسحاب الإسرائيليين من غزة ومن أربع مستعمرات في جنين، وتعيينه عضواً في لجنة الإشراف على الفاعليات الشعبية المواكبة لعملية الانسحاب، يباشر الكاتب مهمة من نوع آخر؛ مهمة التقصي عن مجريات الهبّة الفلسطينية في سنة 2015. وهذه مهمة لا تُسعفه فيها الذاكرة وحدها، ولهذا يطلعنا الكاتب على عدة وجهات نظر، وعلى تحليلات لا تخلو من التناقض، وتعليقات لا ينقصها النقد الصريح لفشل السلطة. وقد جمعها أبو علاء من رفاق وأصدقاء صادفهم في مجالس التعزية بشهداء الهبّة، أو من كتّاب صحافيين وأكاديميين، أو من سجالات شبابية في أسباب الهبّة ومجرياتها، بل حتى من أطفال مجهولين، كأنه أراد لهذا الفصل أن يكون صوتاً لفلسطيني الداخل، ولهذا جاء الفصل على غير اتساق أو ترتيب، إذ يختلط فيه التقرير للأحداث بالمشاعر، والتحليل والتفسير بالرؤية.

لا شك في أن الكاتب لا يريد لكتابه السادس هذا، أن يكون ختاماً لبحثه في نضالات شعبه وتوثيقها، فهو، مثلما كتب: "يريد أن يمنح الكتاب فرصة للتنفس، فليس كل ما يُعرف يُقال." وهذا بالتحديد ما يجعلنا نتأمل بأن نقرأ في كتابه المقبل فصولاً من تجربته التي لم تنفد الحاجة إلى روايتها بعد.

السيرة الشخصية: 

محمد مهدي عيسى: كاتب من لبنان