العودة إلى يافا مجازاً ولوناً ومكاناً
النص الكامل: 

أتذكر المرة الأولى التي وطأت فيها قدماي "أرض الحكاية"؛ يافا، مدينتي، في سنة 2013، وأنا ابن الجيل الثاني للمنفى الفلسطيني في الـ "هناك". أتذكر تماماً ما أصابني حينها: أمواج من الألوان تجتاحني؛ تخترق مساماتي بعنف، لتقول لي بفظاظة إن فلسطين ملونة، وليست كما ترسّب في الحكاية الممتدة من جسدي، باللونين الأبيض والأسود؛ الثقيلين، الضدّين. أتذكر ذلك الإحساس تماماً: ألوان عنيفة؛ اجتياح يشبه متلازمة ستاندال،[1] اخترق مسامي كأوشام لألف معنى ونص. تساءلت حينها عن وجودي قبل وبعد الانكشاف على هذه الحقيقة العنيفة: الألوان، وعن هذا الخروج غير المُحكم الحبكة من ثنائية اللونين الأبيض والأسود، وأين هي العودة، وما إذا كان انهيار اللونين مجرد مجاز يعيد رسم هويتي، أم ماذا يحدث؟

أنا الصاعد من سؤال الهوية والحق في المكان والوجود بكثافة الثورات العربية وميادين تحريرها الضاجة بالحلم، بمجازاتها الخارجة عن سلطان المعنى / الأب / الرئيس الأوحد. أتيت إلى يافا، وأنا الذي - ككثيرين ممّن كانوا في ميدان التحرير - أحاور هوية قلقة بدأت تمارس شكلاً من أشكال العودة إلى التاريخ، وهي الآن تبحث عن عودة إلى مكان ما، كي تنتزع حقها في حكاية لم تنتهِ.

بدأت فكرة العودة آنذاك تتحلل من تراثها المجازي لتواجه ألوانها؛ اللون شكل من أشكال الحياة والتأويل، وانتقال المكان بين ألوان الطيف؛ انتقال في الزمن والمعنى. لم تعد تلك العبارات الثقيلة الرنانة من قبيل: "العودة حق كالشمس"، طافية على سطح المكان، وإنما أثقلتها الألوان، وبات لزاماً على العودة أن تسائل نفسها: إلى أين ومن أين؟ وهل علينا أن نغير المجاز، أم أن نحاور اللون وتأويله؟

العودة هي سؤال اللحظة التي يتبخر فيها دخان النصوص المضادة (أنا – هو)، والتي كُتبت لتتحدى الآخر. هالني هذا القول، على ثقله وبداهته المتهافتة أمام زخم الألوان في يافا، أتراها عودة إلى الآخر بعد أن تعدد في اللون؟ ألم تكن نكبتنا به حادة بين نقيضين: أبيض وأسود، فأُخرجنا وهُجّرنا من كليهما إليهما معاً؟

لم تعد يافا مثلما كانت في الحكاية، وهذه الألوان شكل من أشكال الإدراك والتخيل. هي مجازاتنا في الزمن، فالأبيض والأسود لم يكونا يوماً لون بيارات يافا، وإنما هما لون حكاياتنا عنها، وإدراكنا لها. هما لون حضور الأشياء في ذاكراتنا، فإذا تغير هذا الحضور، تغيرت ذاكرتنا، ولا عودة لمَن لا ذاكرة له، ولا عودة كذلك لمَن سجنته ذاكرته. هنا الأزمة بدت واضحة، هل نغير اللون أم نغير الشيء؟!

اللونان الأبيض والأسود هما وعيي المزدوج بالشتات كفلسطيني، أوDouble Consciousness مثلما يقول هومي بابا (أتأملني من خلال آخر لي في اللون، أيضاً!)، والذي يتأسس على انقسام للعالم إلى ثقافتين متعاديتين أو متناقضتين أنتجتا حالة سمّاها بابا Unhomeliness، من "الوجود على حافة ثقافات أجنبية، على التخوم، في الغيتوات والمقاهي ومراكز المدن، تجمع في نصف حياة الألسنة الأجنبية ونصف نورها، أو في الطلاقة الغريبة التي تميز لغة الآخر، تجمع علامات الموافقة والقبول والخطابات والضوابط، تجمع ذكريات التخلف، ذكريات عوالم أُخرى تُعاش تذكّراً واستعادة، تجمع الماضي في شعيرة من شعائر النجاة والبقاء على قيد الحياة."[2] أوضحت لي هذه المقولة الترابط بين الحكاية واللون، وكيف أن الألفة مع اللون اشتُقت من الألفة مع المكان، والمكان مجازنا. تذكرت مقولة لنيتشه: "التاريخ البشري ما هو إلّا جيش من الاستعارات والكنايات"،[3] فهل بتُّ في حاجة إلى مجاز آخر يمنحني مزيداً من الألوان؟ هل أنا في حاجة إلى نزوح آخر عن فلسطين / المجاز، لأعود إليها؟ بعد هذه الأعوام كلها والعمل السياسي، والكتابة عن / من / في فلسطين، هل بتنا نعاني نقصاً في المجاز والاستعارات والكلام، أفلتت منه فلسطين بجميع ألوانها، وبقيت لدينا بأبيضها وأسودها فقط؟ أم إنها كانت كذلك طوال الوقت (70 عاماً، وأكثر)، لكن لم يتسنَّ لنا أن نحكي عنها بالاستعارات الملائمة؟ أم إن فلسطين ببساطة تبدو أجمل من خارجها، كمجاز؟ لهذا أقول ما أحوجنا إلى الأدب لا السياسة، ما أحوجنا إلى الالتباس في التأويل لا الحسم في السياسة!

في يافا، أمام جامعها الكبير (جامع المحمودية) المطل على البحر، طغت عليّ زرقته التي ما عادت من الغياب محايدة، بعد أن طفت على السطح زرقة عَلَمِهم. لم يحكِ لي أبي أو جدي عن زرقة بحر يافا، فأغلب الحكايات كانت عن يافا نفسها وبياراتها، كأن النكبة لم تسرق يافا فحسب، بل حولتها إلى مدينة بلا بحر (والبحر هو التأويل الأجمل للمدن)، كتلك التي نُفي إليها جدي ووالدي؛ عمّان. لم أستطع العودة إلى زرقة البحر، بتلك العفوية التي كثيراً ما تهيأت لها، وقرأت عنها. زرقة بحر يافا الآن باتت غريبة عني كسائر ألوانها، أو أن ثمة مسافة بينها وبين بحر الحكاية. زرقة بحر يافا دبقة كلون العلم الأزرق، أو أنها زرقة قديمة في الزمن، أضحت اليوم تابعة لبحر تل أبيب، مثلما أن يافا باتت الحي القديم لتل أبيب. حتى الزرقة تشيخ! هل سيكفيها – أعني يافا - أن ننزع عنها هذا العلم الأزرق، لنعيد إلينا وإليها لونها؟!

أقول لنفسي على عتبات اللون: تقنيات التدوين اللوني للمأساة الفلسطينية ليست ثابتة، بل متغيرة ومتحولة، لكنها في جسد هذا النظام الاستعماري لا تتّبع إلّا شكلاً واحداً فقط، هو الشكل الاستعماري الصهيوني. أخافني الأمر كثيراً؛ أيعقل أن تكون النكبة أيضاً لونية / بصرية؟ وإلى أين نعود إذا فقدنا قدرتنا على اللون؟ بل أكثر من ذلك، وهو المخيف في الأمر، أن إعادة إنتاج النكبة / فقدان اللون كمركز هووي[4] هما العامل الأساسي لتعريف الذات الفلسطينية، في سعيها اللحوح للعودة إلى ما قبل النكبة؛ إلى اللونين الأبيض والأسود! هل فقدنا اللون في كل مرة بنينا فيها وجودنا على النكبة والفقد، وهل سنحمل منافينا إلى اللون؟

لكن كي يفقد الفلسطيني شيئاً ما، فإن عليه أن يمتلكه في الأساس قبل لحظة فقدانه. صحيح أن الاحتلال هدم كل ما ملكه الفلسطينيون، وأخرجهم من خارج التاريخ، "عراة"، بلا لون، غير قادرين على الكتابة والقراءة والتلوين، إلّا إن العودة هي بشكل ما امتلاك الحق في اللون / التأويل، وعليه فإن فقدان اللون ليس إلّا أثراً للاحتلال، والعودة كفيلة باستعادته / استعادة الحق فيه. الاحتلال عدو للون / التأويل / المجاز، في خيال الفلسطيني وإدراكه وحتى بلاغته.

استعدت في زخم هذه العودة اللونية ما أمكنني من أعمال الفن التشكيلي الفلسطيني، لأبحث عن امتداداتي كفلسطيني في اللون، بما يمنح عودتي المشتهاة شكلاً من أشكال الاستمرارية المكانية للون في الزمن (قبل النكبة حتى سنة 1948 / أبي وجدي؛ النكبة حتى سنة 2018 / أنا). ازدادت مخاوفي وطأة، فمن صوفي حلبي إلى داود زلاطيمو، ومن نيقولا صايغ إلى إسماعيل شموط، وأسامة سعيد وزهدي قادري وغيرهم، وغدا الإشكال أثقل، وتيقّنت بأن أزمة اللون / العودة لديّ من أزمة المجاز، فقد كتب الفلسطينيون كثيراً عن النكبة والشتات والمنفى والخروج، بما هي أشكال للفقدان، ثم جاءت السياسة والساسة والاتفاقيات والقبلات، لتؤبّد هذا الفقدان اللوني، بحيث تصبح لحظة العودة بلا لون / تأويل / شكل.

سياسات الاحتلال اللونية هي أساساً سياسة أطلال، أي أنها سياسة إدارة المعنى / التأويل المكاني في الزمن الفلسطيني. بدا الأمر وقحاً في نصوص الأمكنة ليس في يافا وحدها، بل في حيفا أيضاً، وتحديداً حي النسناس، وشارع جادة الكرمل، في حي الألمانية، والذي سُمّي شارع بن - غوريون بعد ذلك (لا بد من أن للتسمية لوناً، فللغة لون)، وعكا على الشاطىء أيضاً، فضلاً عن حالة القرى والبلدات العربية، وإن كانت أقل سوءاً من المدن الكبيرة (المسماة في مجاز احتلالي / لوني "مختلطة"، وهو مجاز لا يمكن أن يصف اختلاطاً فعلياً ندّيّاً للون، بقدر ما يصف واقعاً إقصائياً له).

بكلمات أُخرى، إن آليات إنتاج اللون ومعناه هي استحواذ سلطوي حصري للاحتلال باعتباره (الاحتلال) منظومة السيطرة والهيمنة على المعنى والمكان والزمن. ولعل هذا ما يفسر التباين في اللون بين يافا وتل أبيب كامتدادين زمنيين للمكان قبل سنة 1948 وبعدها (وهو لا يختلف من حيث البنية عن سياسات اللون فيما يتعلق بالمخيمات الفلسطينية في المدن العربية).

عاد السؤال ملقياً بظله الثقيل عليّ في المكان؛ إلى أين العودة؟ إلى أي لون / ألوان ستكون؟! ولو كان لي أن ألجأ في عودتي إلى قريتي العباسية (قضاء يافا)، وهذه أيضا آلية مقارنة اختزالية، أورثتنا إياها أدبيات "العودة الفلسطينية" إلى بؤرة الفقد، وهي القرية المهجرة (في مقابل المدينة الصهيونية) المحصورة في زمنية نكبة 1948، كأننا سنعود إلى لحظة 1948 وليس 2019! وحتى مع هذا، لن أتمكن من هذه العودة، نظراً إلى أن العباسيّة هُجّرت بالكامل، ومُحيت جميع آثارها، وأقيمت على أنقاضها مستعمرة صهيونية (يهودا)، فعليّ إذاً أن أبحث عن أطلال تمنحني مدى صغيراً من التنوع البصري للعودة، وقد وجدت أطلالاً، أو ما تبقّى من أطلال مئذنة جامع القرية، وهكذا بدّلت الأبيض والأسود، بالأطلال والمدينة.

لعل ابن الهيثم كان أديباً قبل أن يكون بصرياً، إذ قال: "من دون الضوء واللون، لا يدرَك منظور بواسطة البصر وحده." على ضوء هذه العبارة أتأمل دلالات اللون في وجه طفل تبسّم لي بين هذه الوجوه السائرة حولي في ميدان الساعة في يافا بين الألوان والأضواء، وأنا المنهمك في التربص لها جميعاً بحثاً عن منفذ لعودتي. باغتني بابتسامته الصافية الغضّة، والتي هبت ريح داخلي لردّها بابتسامة أُخرى، لكن سرعان ما هاجمني هاجس ثقيل الأطراف كبقعة زيت على سطح الماء، سوداء اللون، يمنعني وينهرني: "لا تبتسم لمحتل!" مجاز آخر يضيق بي، فلا يتسع لنا معاً. كان عليّ أن أعي أن جمالية هذا البلد عنيفة، حتى على هذا الطفل (فهو على صغر سنه محتل!). عنف لا تحتويه متلازمة ستاندال وحدها، عنف سنرثه بعودتنا إلى أرض الحكاية، إلى نقطة الأبيض والأسود، لكني لم أعلم – حينها - أن مجازه هو أيضاً سيضيق عليه، وسينتزع منه ألوانه التي سرقتها مني دولته؛ فمنذ فترة قريبة أقرّت الحكومة الإسرائيلية قانون القومية، فأدخلت نفسها في أزمة مجاز هي الأُخرى، ستحولها إلى بلد من لون واحد، فيما يُعدّ أزمة وجودية لن تحاصرني كفلسطيني فحسب، بل ستحاصر هذا الطفل الصغير أيضاً، وتدفع به إلى فقدان اللون رويداً رويداً، بعد أن كانت دولته مستحوذة عليه.

أزمة النظام الاستعماري اللونية تلك ستدفع بي كفلسطيني إلى البحث عن أشكال مجازية للعودة تعيد إليّ حقي في اللون، فكان أن وُلدت ابنتي "يافا" في فلسطين في سنة 2017، منتزعة حقها في الوجود واللون والمجاز، ومانحة إياي ونفسها وفلسطين شكلاً آخر من أشكال المقاومة / المعنى بالوجود في المكان والزمان واللون الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، لتكسر سطوة القومية اليهودية المدّعاة، باعتبارها آلية قمعية لإنتاج اللون والمعنى الأحاديين. "يافا" أعادت إليّ الحق في مدينتي وبحري وعودتي ولوني، بالخيال والتأويل.

 

[1] يرد في الموسوعة الإلكترونية "ويكيبيديا" تعريف متلازمة ستاندال، بأنه مرض نفسي يصاب به بعض الأشخاص، ويتسبب بتسارع ضربات القلب، وبالدوار والارتباك والإغماء، وأيضاً بالهلوسة، عندما يشاهد الشخص صورة جمالية فنية راقية، وخصوصاً إذا كان هذا الفن يتسم بقدر عالٍ من البراعة والجمال، وموجوداً في مكان أو موضع واحد. غير أنه لم يتم إدراجه كحالة معترف بها ضمن الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية.

[2] انظر: هومي بابا، "موقع الثقافة"، ترجمة ثائر ديب (بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006).

[3] إدوارد سعيد، "الأنسنية والنقد الديموقراطي"، ترجمة فواز طرابلسي (بيروت: دار الآداب، ط 1، 2005).

[4] مشتقة من كلمة "هوية".

 

* قبل عام ونصف عام، صدر العدد 116 من "مجلة الدراسات الفلسطينية"، الخاص بملف "العودة المتخيلة"، والذي شارك في نصوصه عدد كبير من الكتّاب والفنانين الفلسطينيين. وقد لاقى هذا الملف استجابة واسعة من الكتّاب العرب، وتواصل الاهتمام به طوال تلك المدة، حتى إنه بعد صدور العدد، وصل مزيد من المساهمات التي نشرناها تباعاً، وآخرها نص جديد من الكاتب والباحث الفلسطيني عبد الله البياري، ننشره في عدد المجلة الحالي.

السيرة الشخصية: 

عبد الله البياري: كاتب وباحث من فلسطين.